دماغ عربي مشترك

كنتُ أستطيع أن أجعل العُنوان «عقل عربي مشترك»، أو «فِكر عربي مشترك»، أو ما يُشبه هذا؛ لأضمنَ به لفظًا مألوفًا، لكني تعمدتُ الإشارة إلى «الدماغ»؛ لأنَّه هو العضوُ الذي يجيء العقلُ أو الفكرُ وظيفةً له، كما تكون العين عضوًا والبصر وظيفته، والأذن عضوًا والسمع وظيفته، وهَلُمَّ جرًّا، والجانب المفقود في حياتنا الثقافية العربية — فيما أرى — ليس هو الوظيفةَ بقدرِ ما هو العامل الذي يُعَضْوِنُها في كيان؛ إذ قد نجد قطراتٍ من «الفكر» مبعثرةً هنا وهناك، في الكتب والصحف، لكنها تفتقرُ إلى «العضو» الذي يجمع أشتاتَها في تيارٍ واحد متجانسِ الطبيعة والهدف، برغم ما قد يكون فيه من كثرةٍ وتباين، ولو كانت حياتُنا الثقافية مكتملةَ النَّماء لجاءها توحيدُ الأجزاء من أعصابها وشرايينها، ولكنَّها ليست كذلك، فأصبح حتمًا أن نصطنع لها جهازًا يوحِّدها حتى تستردَّ العافية.

وإننا إذ نبحث لأشلائنا الفكرية عن شريانٍ يجعل منها كائنًا حيًّا حساسًا لما حوله، مستجيبًا له على النحو الذي يكفُل له البقاءَ والقوة، فإنَّما نُساير عصرنا في صفةٍ لعلها أبرزُ ما يُميزه من صفات، فبينما غلَبَت على العصور السابقةِ نزعةٌ فُسَيْفِسائيَّة في بناءاتها الفكرية، ترى عصرَنا أمْيلَ إلى دمج الأجزاء المنفصلة في تيارٍ متَّصل، وهذا هو نفسُه الفرقُ بين طريقتين في التفسير: التفسير بنظرةٍ آلية تُجاور بين الأجزاء ولا تَسكُبها في تيَّار، والتفسير بنظرةٍ حيوية عُضوية تسيل الأجزاء في خطٍّ موصول، النظرة الأولى سُكونية في أساسها، والثانية حركية، فلو أمعنتَ النظر في الفكر الأوروبيِّ خلال القرنين السابعَ عشر والثامن عشر (ولتذكر جيدًا أنَّ أوروبا هي القابضةُ على زِمام الحضارة خلال الخمسة القرون الأخيرة، أحببنا نحن ذلك أم كَرِهناه، ثم أضيفَت إليها الولايات المتحدة أخيرًا)، أقول: إنَّك لو أمعنتَ النظر في الفكر الأوروبيِّ خلال الفترة التي سبقَت عصرنا، وجدتَه نابعًا من أساسٍ مشترك، هو تحليلُ الكل إلى أجزائه؛ بحيث لا يجعلون من الكائن — أيًّا ما كان — أكثرَ من حاصلِ جميع أجزائه؛ «فالعقل» مثلًا هو مركَّبٌ قِوامه مجموعةُ انطباعاتٍ حسِّية، تظل تتجمع داخلَ رءوسنا وتتشكَّل في طرائق تركيبها، فينشأ منها «الأفكار» من أدناها إلى أعلاها (راجع فلسفة هيوم)، و«المكان» مجموعةُ نقاط، و«الزمان» مجموعةُ لحظات، و«العالم» كلُّه مجموعة عناصر أوَّلية، و«الإنسان» نفسُه — كأيِّ كائن حيٍّ — مجموعةُ أعضاء تعمل معًا كما تعمل أجزاء المكنة، وعلى أساس هذه النظرة التحليليةِ ظنَّ رجالُ الفكر عندئذٍ أنَّ عناصر الوجود كله أو مكوناته الأساسية قد يتَّصل بعضُها ببعض، أو ينفصل بعضُها عن بعض، فيتكوَّن باتصالها أو بانفصالها تلك الظواهر الطبيعية المعيَّنة، أو ذلك الكائن المعيَّن من الكائنات، أمَّا الكون في مجموعِه فهو دائمًا ذو حاصلٍ واحد، لا يَزيد جزءًا ولا ينقص جزءًا، وإذا جاز لي أن أُشبِّه الموقف الفكريَّ عندئذٍ بتشبيهٍ يُقرِّب الصورةَ إلى الأذهان، قُلت إنَّ الأمر كان كما لو كان عندك ورقةٌ نقدية بعشَرة دنانير، هي كلُّ ما لديك من مال، تستطيع أن «تفكَّها» — أي تُحلِّلها — إلى آحادٍ أو إلى قروش، أو إلى قطعٍ من ذوات العشرة القروش، على ألَّا يزيد المجموعُ النهائي دائمًا عن عشرة، مهما تنوعَت الصورةُ التي تضعها فيها من صنوف النقد المُتاحة.

ذلك ما قد كان عليه تصوُّرُ الناس لطبيعة الكون ولطبيعة الإنسان ولطبيعة الفكر والفن، فجاء عصرُنا ليُغيِّر هذا التصوُّرَ من أساسه، وذلك بأنْ أحلَّ محلَّ الكلِّ الثابتِ الذي لا ينقص ولا يزيد، صورةً أخرى للكون وللطبيعة ولعالَم الأحياء — ومنه الإنسان — تجعل الكلَّ ناميًا أبدًا، متطورًا أبدًا، فهو أبدًا يزدادُ اتساعًا ويزداد غزارةً وحصيلة، ولقد اقتضَت هذه الصورةُ الجديدة عدةَ نتائج، منها أنَّ الشريحتين المتعاقبتَين من الزمن، وإن تساوَتا رياضيًّا فلن تتساوَيا في كثافة الخبرة وغَزارتها؛ لأنَّ الشريحة التالية في الترتيب لا بدَّ بالضرورة أن ترثَ حصيلة الشريحة السابقة، ثم تُضيفَ إليها ما قد استحدثَتْه هي بفعلِ النموِّ والتطور، ومن النتائج كذلك — وهو ما يُهمنا هنا في سياقِ حديثنا الراهن — أن تكون الأجزاءُ في أي كيان تختاره للنظر، متلاحمةً بعضُها في بعض ليتكوَّن منها سيالٌ واحد، فإذا أنت فكَكْتَ هذا التيَّار الدافق إلى قطراته، كما تنثر حبَّات العِقْد، بطَلَ أن يكون كائنًا حيًّا ناميًا، وبالتالي فاتت عليه فرصةُ النمو والتطور وبلوغ النضج والإثمار.

وعلى هذا الضوء المبدئي العام، نعود فننظرُ إلى موضوع حديثنا هذا الخاص، وهو حالة العقل العربي اليوم، فنقول إنَّه إذا ثبَت صِدق ما أزعمُه له، وهو أنَّه حتى على فرضِ أنَّ هنالك جملةَ أفكار تنبتُ على أرضنا هنا وهناك فهي أفكارٌ مفرَّقة مجزَّأة، مرصوصٌ بعضُها إلى جوار بعض — على أحسن الفروض — لكنها غيرُ مترابطة معًا في كِيانٍ عُضوي واحد، وإذن فلا أملَ لها — إذا بقيَت على هذه الحال — في أن تُسعِفَها عوامل النمو والنضج والإثمار، ما لم ينشأ لها ما يُقابل «الدماغ» من الجهاز العضوي في الفرد الواحد.

إنَّ لأصحاب التفسير البيولوجي للتاريخ في عصرنا، وأظن أنَّ في مقدمتهم جميعًا المفكِّرَ الفرنسيَّ المعاصر «تيار دي شردان» Teilhard de Cardin؛ رؤيةً للحقيقة — حقيقة الكون وحقيقة الإنسان — يَصِلون إليها عن طريق نظريتهم الخاصة في تفسير التطور، أحسبُها مُعِينة لنا أنفعَ العون فيما نحن الآن بصددِ الحديث فيه، حتى وإن كانت لنا اعتراضاتٌ على تفسيرهم للتطور بصفةٍ عامة، وأساس تلك الرؤية التي أشرنا إليها، هو أوَّلًا: أن ننظر إلى التطوُّر فيما قبل ظهور الإنسان نظرةً تختلف عنه فيما بعدَ ظهور الإنسان، وبالنسبة للإنسان وحدَه دون سائر الكائنات، فأمَّا قبل ظهوره فقد كانت القوةُ الباطنية الدافعة قوةً طاردة، بمعنى أنَّه كلما ظهر جنسٌ حيواني معيَّن إلى الوجود، فهو لا يلبثُ أن يتفرَّق في أنواع مختلفة، يتميز كلٌّ منها بخصائصه، برغم اشتراكِ الأنواع كلِّها في أَرُومة واحدة، وأمَّا بالنسبة إلى الإنسان، فالقوةُ الباطنية الدافعة هي قوةٌ ضامَّة أو جاذبة، تدأبُ على تجميع الأطراف نحو مركزٍ واحد، حتى لا تتفرقَ أنواعًا كما حدَث في دنيا الحيوان والنبات؛ ولذلك لبث الإنسان بين سائر الكائنات الحية جميعًا، وحيدًا في كونه نوعًا واحدًا، ولم يتكاثر أنواعًا متباينة، كما نرى مثلًا في عالم الحشرات التي تَزيد أنواعُها على نصف المليون، وفي عالم الطير الذي تقربُ أنواعه من تسعة آلاف، لكن الإنسان — وإن صمَد على مجرى الزمان نوعًا إنسانيًّا واحدًا — فقد استعاض عن التنوُّع البيولوجي تنوعًا آخَر، هو التنوعُ في الثقافات. ومع ذلك فحتى هذا التشتُّت الثقافي، سرعان ما يجد له دائمًا مراكزَ حضاريةً كبرى، تجمع خيوطَه في قبضتها الواحدة، فيظهر العصر وكأنَّه متميزٌ بطابَعٍ فكري واحد.

وثانيًا: تتميز رؤية الحقيقة من وجهة نظر التفسير البيولوجي للتاريخ بمبدأ هامٍّ، وهو أنَّ البناء العُضوي صفةٌ لا تقتصر على الكائن الفرد، بل تتَّسع لتشمل مجموعاتِ الأفراد؛ فما يصدق على الفرد الواحد من حيث الترابطُ والتعاون بين أعضائه الكثيرة المتنوعة، بحيث يصبح برغم كثرة أجزائه كائنًا واحدًا ذا هدفٍ واحدٍ ووجهةِ نظر واحدة؛ يصدُق أيضًا على «المجموعة» إذا تعَضْونَتْ بحيث تُصبح هي الأخرى — برغم كثرة أفرادها — وكأنَّها فردٌ واحد في اتجاهه وغاياته ووجهة نظره، وذلك بما يكون عندئذٍ بين هؤلاء الأفراد من ترابطٍ وتعاون؛ شريطةَ أن يكون لهذه المجموعة من الخصائص العضوية الموحَّدة ما للفرد، وأهم تلك الخصائص أن يكون لها «دماغ» يتولَّى التوجيه والتوحيد، ولقد حرَصتُ على ألَّا أقول هنا كلمة «رأس»؛ لأنَّها كلمةٌ سرعان ما تتحول في أوهامنا إلى «رئيس»، ثم تتوالى بعد ذلك النتائج، التي لا بدَّ لها — في مُناخِنا الثقافي الذي تغلغلَ في كياننا حتى العظام — أن تجعل بين الرئيس والأعضاء حاكمًا ومحكومًا، ومستبدًّا وخاضعًا، وآمرًا ومطيعًا، وهو ما لا يطوفُ لي ببالٍ حين أريد الانتفاعَ بفكرة «الدماغ» في عملية التوحيد العضوي.

هي رؤية تنفعنا نفعًا عظيمًا في إيجاد الوحدة الفكرية الحية النامية التي تبلغ النضج في حينِه وتُعطي الثمر في إبَّانه؛ ففي ضوئها نفهم لإحياء تراثنا العربي معنًى وقيمة؛ إذ لو سألني سائلٌ (وقد وقعتُ على السؤال مطروحًا في بعض مجلاتنا العربية التي تشتعلُ على صفحاتها أَلْسنةٌ من لهيب الثورة الفكرية الجامحة عند طائفةٍ من شبابنا)، أقول إنَّه لو سألني سائلٌ: فِيمَ العنايةُ بتراثنا الفكري وعصرُنا قد اختلف كلَّ هذا الاختلاف عن عصور آبائنا؟ لأجبتُه — على ضوء الفكرة العضوية التي أسلَفنا ذِكرها — أنَّنا نحن مع هؤلاء الآباء تيارٌ حيوي واحد، إذا بترتَ جزءًا منه؛ فَنِيَ هذا الجزءُ بالذبول والضمور، فالموت. وليس هذا القول من قَبيل التشبيهات البلاغية الجوفاء، لكنَّه تصويرٌ دقيق لما يقع ويحدث؛ لأننا قد نسأل بدورنا: إذا نحن أهمَلْنا تراثَ الآباء الفكري إهمالًا تامًّا، فماذا تقترحون لحياتنا الفكرية عندئذٍ؟ أتقولون مثلًا: نقتصر على نِتاج أوروبا وأمريكا الآن؟ لكننا لو فعلنا ذلك، ألَا يكون فيه «فَناؤنا» الفعلي بأن جعلنا أنفسَنا خلايا في جسمٍ آخر، هو جسم أوروبا أو أمريكا أو كلتيهما، لو كانا متَّحدَين في كيانٍ واحد؟ وبالفعل هذا ما قد حدث لطائفةٍ من رجال الفكر فينا، مَلَئوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودُهم بيننا وجودًا جغرافيًّا وجوارًا مكانيًّا فقط، وأمَّا أن يُشاركونا في الوجود «الزماني»، أي الوجود الذي يمتدُّ ليصل أمْسَنا بيومِنا، ثم ليصلَ هذين معًا بالغدِ، فذلك ما يستحيل عليهم؛ ومِن ثَمَّ فهم لا يدخلون حلقاتٍ من تاريخنا الفكري، ومع ذلك كلِّه، فلا بدَّ لي من التحذير بأن يؤخذ كلامي هذا على أنَّه دعوةٌ لقَبول الثقافة الموروثة بقضِّها وقضِيضِها، بغثِّها وسمينها؛ فذلك ما لستُ أعنيه ولا أريده؛ لأنَّه لو حدث، كان هو الآخَرُ موقفًا يَنِدُّ عن وجهة النظر العضوية التي ننظر منها؛ لأنَّها نظرةٌ تُحتم علينا شيئين في آنٍ معًا: أن يكون الحاضرُ موصولًا بالماضي في شريان واحد، وأن يكون الحاضر أغزرَ من الماضي وأضخم وأغنى، بما يستحدثه ويُضيفه خَلقًا جديدًا.

الوراثة في عالم النبات والحيوان مقصورةٌ على ما تنقله الناسلاتُ من الوالد إلى الولد، وأمَّا في دنيا الإنسان فيُضاف إلى هذا الجانب الجسمانيِّ وراثةٌ أخرى، هي الوراثة الثقافية، فلا مندوحةَ لي — إذا أردتُ لنفسي «حياة» فكريةً صحيحة — عن تَشرُّب العقل العربي كما تجلَّى في تاريخنا الفكري، لا لأقف عنده خاشعًا عابدًا، بل لأتصرف فيه تصرف الأحرار فيما بين أيديهم من أدواتٍ نافعة؛ فلئن أخذتُ قِوامي وقامتي وبشَرتي وسِماتي عن طريق الناسلات العضوية، فلا بدَّ أن يُضاف إلى ذلك كلِّه أن أُسقى شرابَ الأقدَمين من آبائي، شريطةَ أن يسريَ ذلك الشرابُ سرَيان العُصارة الحية، وذلك هو على وجه الدقة جانبُ «التربية» الذي ينضاف إلى جانب التعليم والتدريب المهني؛ ليكون لنا من ذلك «المواطن العربي» إلى جانب الكائن البشري متمثلًا في — أو مصبوبًا في — «الفرد» البيولوجي، الذي هو واحدٌ من آحادٍ تُعد بالملايينِ من سكان الأرض، لا فرقَ بين واحدٍ منهم وواحد.

نظرتُنا إلى الجهاز الإدراكي كله عند الإنسان، إذا نحن أخذنا بمبدأ التفسير البيولوجي الذي أسلَفْناه، تعلو به درجةً عن مستوى الإدراك الفردي؛ فإذا كان المخُّ عند الفرد الواحد مؤلَّفًا من خلايا كثيرةٍ تعَضْونَت لتعمل معًا؛ فالدماغ الجماعي المشترك خلاياه الكثيرة هم الأفرادُ من أصحاب الفكر العِلمي، أو الخلق الفني، أو ما شئنا من مجالات النشاط العقلي، وإن تضامن المنتجين في كل مَيدان بعضِهم مع بعض، من شأنه أن يصعدَ بالوعي إلى درجةٍ أعلى من درجته وهو عند الفرد الواحد، ولستُ أقصد بهذا ذلك الضربَ من العقل الجَمْعي الذي قال به علماء الاجتماع في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، بل أقصد إلى نوع من المشاركة يَزيد فاعلية الأفراد، وإذا شئتَ توضيحًا فقارِنْ لنفسك بين حالتَين: الأولى أن يُخرِج كاتبٌ من كُتَّابنا كتابًا يبسط فيه فكرة معينة، فإذا به يجد الصَّدى بعد حينٍ آتيًا إلى مَسامعه من سائر أجزاء الوطن العربي، فهو — مثلًا — يُخرِج كتابه في القاهرة، فإذا هو محورٌ للمناقشة والردِّ والتعديل والرفض عند حلقات المفكِّرين في لبنان أو الكويت أو العراق. والثانية أن يُخرِج الكاتب كتابه فإذا الذي يلقاه من الناس صمتٌ أعمقُ من صمت القبور؛ في الحالة الأولى تكوَّن عقلٌ مشترك بدرجةٍ ما، وفي الحالة الثانية بقي الفرد عند حدود فرديته.

إنني لا أفهمُ لإحياء التراث ودراسته معنًى إلا أن ننظرَ إليه نظرةً بيولوجية؛ بمعنى أنَّه يُتيح لنا أن نجعل من «العربي» إنسانًا واحدًا امتدَّت حياتُه مئاتِ السنين أو آلافَها، بحسَب العدد الذي نستطيع ربْطَ بعضه مع بعض من حلقات الزمن ليتكوَّن منها تيارٌ واحد متصل، فإذا كان هذا هكذا بالنسبة إلى الماضين مع الحاضرين، فأَوْلى به أن يكون أيضًا بالنسبة للحاضرين بعضِهم مع بعض، وإلا فهُم حفنةٌ من أفراد لا يتكوَّن منهم جماعةٌ عضوية واحدة، ومن باب أولى ألا يُمكن ربطُهم بماضيهم الموروث؛ وإني لَأزعُم أنَّ رجال الفكر العربيِّ المعاصر — مهما تكن قيمتُهم الثقافية — مُبعثَرون على نحوٍ يستحيل معه أن تلتقيَ روافدُهم في نهرٍ عظيمٍ واحدٍ، حتى لقد أمكنَ لهم — بحُكم هذا التفكُّك — ألَّا ينتموا إلى عصرٍ واحد من الناحية الفكرية، فمِنهم من عاد بالتاريخ القَهقرى ليعيشَ مع الأسلاف، ومنهم من عبَر الحدودَ بعقله وخياله ليعيشَ مع أبناء هذا العصر من أصحاب الفكر في أوروبا وأمريكا، ومنهم من يتخبَّط في أعاصير الزمن فلا يدري هو نفسُه في أيِّ عصر يعيش.

كان من أهمِّ ما يَلفت النظرَ في الحياة الفكرية لآبائنا العرب الأقدَمين تواصُل قوي وثيقٌ بين رجالها، حتى لتحسبُهم في كل شريحةٍ زمنية أسرةً واحدة اجتمعَت تحت سقفٍ واحد، فها هنا كتابٌ يصدر في موضوعٍ معيَّن، فلا يلبث أن يردَّ عليه ناقدٌ هناك بكتابٍ آخر، بل كان هؤلاء الرجالُ بالفعل يتنقَّلون ليلتقيَ أحدُهم بأحدِهم لقاءً حيًّا، فيتبادَلون الرأي، وكأنَّ جميعَهم أساتذةٌ يعملون في جامعةٍ واحدة، ثم لا يقتصرُ هذا التواصل على أبناء العصر الواحد، بل إنَّه لَيُجاوز هذه الحدودَ فيقوم النقاشُ بين لاحقٍ وسابق، فكان لنا من ذلك كلِّه نتاجٌ فكري أمكنَ تسميتُه ووصفُه باعتباره شجرةً واحدة، وإن تنوَّعَت فروعها وتباعدَت، وهكذا الأمر في كل ثقافةٍ قومية حية، وإلَّا لَما استطعنا أن نُفرق مثلًا بين مجموعة الفكر في فرنسا ومجموعتِه في إنجلترا ومجموعته في أمريكا … وهَلُمَّ جرًّا، لكنَّنا نستطيع التفرِقةَ بما تتميزُ به كلُّ مجموعة من طابَع أصيل، نشأ بسبب ما يربط رجالها من روابط المتابعة الممزوجة بالنقد والتمحيص، لماذا تشيع الفلسفةُ التحليلية في إنجلترا، والفلسفة الوجودية في فرنسا، والفلسفة البرجماتية في أمريكا، والمادية الجدَلية في الروسيا، إلا أن تكون هنالك الصِّلاتُ القوية التي تجمع عددًا من الرجال في فريق.

الحق أنَّه لولا هذا الدورانُ حول محورٍ يجمع أشتاتَ المجموعة الواحدة فيما يُشبه الوحدة برغم تنوُّع الأفراد، لما أمكن لأيِّ ثقافة أن تكتسبَ طابَعها القوميَّ المميز، وكذلك لولا ما يجمعُ المتفرقاتِ من الثقافات القومية في فترةٍ معيَّنة من الزمن، لما أمكن للمؤرِّخ أن يُميز عصرًا من عصر، بل لانتفَتْ فكرةُ التاريخ ذاتُها؛ لأنَّ التاريخ — بأي مِنظار نظرتَ إليه — هو التماسٌ لروابط الوصل التي تُحيل الحوادثَ المفكَّكة في ظاهرها، حياةً جارية موصولةَ الأجزاء.

على أنَّ وسائل الربط في عالم الفكر قد اختلفَت من عصرٍ إلى عصر، ومن أمةٍ إلى أخرى؛ فربما كانت مجالسُ الخلفاء والأمراء والوزراء في الحياة العربية القديمة وسيلةً مهمة لذلك؛ ففي تلك المجالس كان يُذكر الشاعرُ أو اللُّغويُّ أو الفقيه أو الفيلسوف مقرونًا بما أذاعه في الناس من أدبٍ وفكر، ليكون ذلك موضوعًا لحديث الحاضرين، وموضعًا للمعارضة أو التأييد، وبهذا الحوار المستمرِّ خُلق الجوُّ المشترك للعصر الواحد، ثم للفكر العربي كلِّه بصفة عامة؛ فأحسبُ أنَّا لو أرَّخْنا لِقَصرٍ واحد، كقصر الرشيد، أو قصر المأمون، أو قصر سيف الدولة الحَمْداني؛ لأرَّخنا لحركةٍ فكرية أدبية بأسْرِها، وكذلك لو أرَّختَ لجامع واحد من الجوامع التي كانت ملتقى الفقهاء والمفكرين — والجامع بهذا المعنى كان هو الجامعةَ — لتعقَّبتَ مدرسةً فكرية كيف نشأتْ وعلى أي وجهٍ تشعَّبَت فروعها، وهكذا كان لنشاطهم الفكري مراكزُ تجمعه وتُهيئ له طريقَ السير، ولا عجب أن أخذ أعلامُ الفكر في كل عصر يَذْرَعون أرضَ العروبة من مشرقها إلى مغربها، ومن مغربها إلى مشرقها، كلٌّ يقصد إلى هذه المراكز يَؤمُّها، ليأخذَ ويُعطي، فتندمج الروافدُ الكثيرة في نهر واحد عظيم.

وفي عصرنا هذا، في البلدان الرائدة، ربما كانت الملاحقُ الأدبية لِكُبريات الصحف هي التي تُهيئ للناس مكانَ الالتقاء الفكري، الذي مِن شأنه أن ينسجَ — أسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر — مُنَاخًا ثقافيًّا مشتركًا يطبع البلدَ الواحد، ثم يطبع العصر كلَّه بما يُميزه، وربما قامت الجامعاتُ والمنتديات والمؤتمرات وغيرُ ذلك من صنوف اللقاء المدبَّر المرسوم، بشيءٍ من هذا التجميع؛ إنَّك لو سألتَني — في مجال الدراسة الفلسفية — أين أجد الفلسفة الإنجليزية اليوم؟ لأجَبتُك جوابًا يُحقق كثيرًا من الصواب: في مجلة mind، وفي الندوات الدورية التي تُنظمها «الجمعية الأرسطية» هناك؛ لكن افرض ألَّا مجلةَ ولا جمعية تُنظم ندوات الحوار حول الموضوع الواحد، فهل كان يسهل على الرأي المبعثَر أن يتبلورَ فيما يُسمى «فلسفة إنجليزية معاصرة»؟

وقد أتخيل قارئًا «علميًّا» في تخصُّصه الدراسي يبتسمُ في شيءٍ من تعجُّب الزِّراية — وكثيرًا ما يفعلون — فيقول: لكن حديثك هذا كله هو عن الأدب والدراسة الأدبية، فما بالُك وعصرنا عصرُ التكنولوجيا؟ والجواب عندي أيسرُ تناولًا؛ لأنَّ نظرةً واحدة تكفيك لِتَعلم أنَّ دنيا العلم التكنولوجيِّ بأسرها، من غربها إلى شرقها، تسير وكأنَّها عقلٌ واحد وصدرٌ واحد؛ فكيف كان ذلك ليتحقَّق لولا الاتصالُ الوثيق بين المشتغلين في كلِّ ميدانٍ علمي، حتى لَكأنَّهم يتجاوَرون في معمل واحد ومركزٍ واحد للبحوث والتجارِب؛ وفي سياقِ حديثٍ كهذا قرأتُ يومًا لكاتب أوروبيٍّ لفتةً عجيبة، تأخذها منه أولَ الأمر وكأنَّها شطحاتُ المتصوفة، ثم تُمعن فيها النظرَ فإذا هي الحقُّ أو ما يقرب منه؛ وذلك أنَّه كتب ليقول: إنَّ الأجهزة العِلمية اليوم تكون عالَمًا متصلًا بعضُه ببعض، يكاد ينفصل وحدَه ليتولَّى تطويرَ نفسِه بنفسه، لِيَخلق مرحلةً رابعة من مراحل التطور الكوني: فمِن المرحلة اللاعضوية، إلى المرحلة العضوية، إلى المرحلة العقلية في الإنسان، وأخيرًا إلى مرحلةٍ تتخلَّقُ فيها دنيا التقنيات؛ إن الأجهزة التقنية اليوم تتواصلُ أرجاؤها بحيث يستحيلُ أن تنموَ هنا وتتخلَّف هناك، ولو أحكَمْنا تصورَ هذه الصورة التطورية الجديدة، أفزعَتنا نتيجتُها؛ لأنَّها لو صدَقَت كانت الجماعاتُ البشرية التي تنفضُ أيديَها من المشاركة في العلوم التقنية خَلْقًا وإبداعًا — اكتفاءً بشراء أجهزةٍ يصنعها الآخرون — قد أوشكَت أن تُصبح «نوعًا» بشريًّا تطوَّر بعده «نوع» بشريٌّ آخر.

ونعود إلى رجال الفكر العربي في عصرنا الراهن هذا لِنلحَظ عليهم ما قد أسلفناه، وهو أنَّ أوصالهم مفكَّكة، يكاد لا يدري أحدٌ منهم عن أحد إلَّا أسماءً وعناوينَ، فلا مشاركةَ ولا حوار، إنه ليس بالشيء المستبعَد في حياتنا الفكرية أن تنبت فكرةٌ هناك فلا نسمع بها هنا، فضلًا عن أن تجد من يُناقشها لِيُحيِيَها؛ وأَقتَلُ ما يقتل التفكيرَ مقابَلتُه بالصمت؛ لأنَّ المعارضة والموافقة كِلتَيهما زادٌ للنماء، في الوطن العربي «أفكار» مبعثرة، لكنَّها «هوامل» لا تجد «الشوامل» التي تجمعُها وتصهرها (والإشارة هنا إلى كتاب التوحيدي «الهوامل والشوامل»)، والأمر يحتاجُ إلى تحليلٍ وتوضيح، لم يُفلح في صَهرِها كلُّ ما نُقيمه من مؤتمراتٍ ومهرجانات ولمحات نقدية نتقاذفها حينًا بعد حين؛ إنني لأكادُ أعجز عن الجواب إذا سألني سائل: ما أهمُّ القضايا الفكرية التي تَشغَلُ رجال الثقافة العربية؟ فلكلٍّ منهم قضية، ثم لا لقاء!

سَلْ: ما التيار الفلسفي الأغلبُ بين المثقفين العرب؟ ولن تجدَ الجواب؛ فكل صوتٍ مسموع في دنيا الفلسفة في أوروبا وأمريكا له بيننا صَداه، ففينا المثاليُّون والتجريبيون والواقعيون والوجوديون والبرجماتيون والماديُّون الجدَليون والشخصانيون.

سَلْ: ما الاتجاهُ الأغلب بين المثقَّفين العرب في ميدان النقد الأدبي؟ ولنلحَظ هنا أنَّ الإجابة عن هذا السؤال لو وجدناها؛ لأشارَت إلى طريقتنا المقبولةِ في الأداء الأدبي، ولكنك لن تجدَ الجواب؛ فكلُّ مذهب في النقد مما يتردَّد في أوروبا وأمريكا، له عندنا مُناصرون، فهنالك مَن يقيمون النقدَ على أساس بحثِهم في القطعة الأدبية عن «نفسية» الكاتب، ومَن يُقيمونه على أساسِ بحثهم عن «الظروف الاجتماعية» كما انعكسَت في الثمرة الأدبية المنقودة، ومَن يقيمونه على أساسِ بحثهم عن «الهدف المذهبي (الأيديولوجيا)»، هل وجد تعبيرًا عنه أو لم يجد؟ وهكذا وهكذا؛ هنالك مَن يأخذون عن ت. س. إليوت، ومن يأخذون عن أ. أ. ريتشاردز، ومن يأخذون عن جان بول سارتر، ومن يأخذون عمَّن لستُ أدري مَن في روسيا أو غيرها … عندنا من البضاعة الفكرية ألفُ صنفٍ وصنف! أتقول إنَّها فاعلية وحيوية هذا التوثُّب لالتقاط الشاردة والواردة؟ قُل ما شئت، لكني أقول إنَّها كالميازيب تصبُّ ماءها دون أن تجد المجرى الأصيل الذي يوحِّد الماءَ في تيار؛ ليس في عقولنا الإطارُ القومي المُعَدُّ لتشكيل المادة الوافدةِ في شكلٍ يحمل الطابَع العربيَّ برغم اختلاف الأفراد، قل هذا نفسَه في كل شيء؛ قُله في الفنون على اختلافها، لقد كان للفنِّ العربي طابَعٌ مميز تعرفه من أصغرِ قطعة فيه إلى أضخم مسجدٍ أو قصر، ولم تمنع وحدانيةُ الطابَع هذه أن تكون لكلِّ قطعة فرديتُها ومميزاتها، ولكن ها هي ذي متاحفُ رجال الفن عندنا تفتح أبوابَها هنا وهناك كلَّ يوم، فزُرْ منها ما شئت، ثم أنبِئْني عن الطابَع الذي يغلب عليها.

كلا، ليس لنا مُنَاخ فكريٌّ نعيش فيه؛ فتنوَّعنا أفرادًا وامتنعَت روحُ الفريق؛ لو كان الفيلسوف «ليبنتز» يُبعث فينا اليومَ حيًّا لما وجَد خيرًا منَّا مثالًا يضربُه لمذهبه الفلسفي الذي جعل كلَّ فرد برجًا مغلقًا على نفسه بغير نافذةٍ يُطل منها على الآخرين؛ كل فرد منَّا هو روبنسن كروسو وحيدًا في جزيرته، يشتقُّ من رأسه ما يقوله وما يصنعه؛ لو كتب ابنُ طُفيلٍ كتابه «حي بن يقظان» وهو بيننا، لما مَسَّت به حاجةٌ إلى أن يخلق بخياله جزيرةً لبطله ينفردُ فيها بتحصيل العلم كلِّه مستقلًّا عن سواه؛ لأنَّ في كل رجل منَّا عُزلةً تُحقق لابنِ طفيل ما أراد.

اختَرْ حفنةً من المفكرين العرب، اخترها كما اتفَق، تجدْها قد مثَّلَت كلَّ عصور الفكر منذ فجرِ تاريخنا إلى اليوم، فيها القديم الذي لا يعرف عن الجديد حرفًا، وفيها الجديدُ الذي لا يعرف عن القديم حرفًا؛ فيها المستكين وفيها الثائر، فيها الداعية إلى غربٍ والداعية إلى شرق، فيها من كل صنفٍ مما عرَفت ومما لم تعرف … أفنُخطئ لو طالبنا لهذا الشَّتيتِ المبعثَر ﺑ «دماغ» مشترك يُعَضْوِنه ويوحِّده؟

وهنا يأتي السؤال: وما الذي، أو مَن ذا الذي تريد له أن يكون المهيمنَ على توجيهِ هذه الطائفة الفكرية السائبة؟ وأول ما أؤكِّده وأحرص عليه أشدَّ الحرص هو ألَّا يقوم فينا من يُملي علينا ما نصنعُه وما لا نصنعه؛ وإنَّما نريد مَن يخلق لنا وسيلةَ اللقاء الفكري بصورةٍ فعَّالة جادَّة، نريد مَن يهيئ المناخ الملائم الذي يَدْعونا من تِلْقاء نفسِه إلى ضربٍ من التجمُّع العقلي، حتى إن لم يجمعنا مكانٌ واحد؛ نريد للفكرة تصدُرُ في هذا الطرَف فتجد الآذانَ لِسَمعها في ذلك الطرف؛ القطرات الفكرية موجودةٌ تظهر آنًا بعد آنٍ، ونريد مَن يجعل منها نهرًا، اللمعات الفُرادى متناثرةٌ بين الصحف، ونريد مَن يصنع منها سراجًا.

ترى هل نتوقَّع شيئًا كهذا من منظمة اليونسكو العربية مثلًا؟ هل نسعى لإيجاد التعاون الصحفيِّ (وهو قائمٌ في بعض البلاد الأخرى) الذي من شأنه ألَّا يكون الاتصالُ مباشرًا بين الكاتب والصحيفة، بل تتولَّى هذه الصِّلةَ نقابةٌ أو ما يُشبهها، فتأخذ من الكاتب مقالتَه لتنشرها في يوم واحد في عدة أقطار دفعةً واحدة، فتُنشر في الرباط والقاهرة وبغداد — مثلًا — في يوم واحد، وعندئذٍ لا يكون الكاتبُ مغربيًّا أو عراقيًّا، وإنَّما يكون كاتبًا عربيًّا.

لستُ أدَّعي معرفةَ الوسيلة، ولكني موقنٌ بأنَّه لو تحقَّق لنا شيءٌ من هذا اللقاء الفكريِّ الحيِّ الفعَّال فلن نلبثَ طويلًا قبل أن تشهد الأمةُ العربية حركةً فكرية يمكن وصفها وتقنينها، فيمكن لها — بالتالي — أن تُدخِل في تاريخ الفكر المعاصر فصلًا من فصوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤