الطيور المهاجرة

تقدم الأصدقاء يُرحِّبون بالمفتش الذي سلَّم عليهم قائلًا: أيُّ ريح ألقت بكم إلى هذا المكان؟ من غير المعقول أن تكونوا قد شممتُم رائحة المغامرة فجئتم خلفها!

قال «تختخ» مبتسمًا: لقد جئنا للحياة في الريف قليلًا بدعوة من صديقنا «عواد» وفي الوقت نفسه لمشاهدة طريقة صيد الطيور المهاجرة إلى بلادنا.

المفتش: إنني أيضًا أطارد طيرًا مُهاجِرًا من بعيد، جاء إلى بلادنا هاربًا من أوروبا.

محب: طير مُهاجر؟! هل أنت أيضًا يا سيادة المفتش من هُواة صيد الطيور؟

عاطف: طبعًا … لكنها ليست طيورًا من النوع الذي يستعمل جناحيه، لا بد أنه من النوع الذي يستعمل عقله.

المفتش: تمامًا … إنه مُهربٌ دوليٌّ استطاع أن يُدوِّخ شرطة أوروبا كلها، وجاء إلى بلادنا وخلفه عدد من رجال «الإنتربول»؛ أي البوليس الدولي يُحاولون القبض عليه … ونحن نساعدهم لأن مصر عضو في «الإنتربول».

تختخ: لقد قلت إن هذه الإجراءات المشددة لا تُتَّخذ من أجل مُجرِم عادي!

المفتش: تمامًا إنه مُجرِم خطير … يُجيد عدة لغات من بينها العربية. وهو عضو في عصابة عالمية لتهريب الذهب والماس وكل شيء يُمكن تهريبه، وقد دخل بلادنا باسم «جون كنت» منذ أسبوع؛ ثم جاءتنا إشارة من البوليس الدولي بطلب القبض عليه، وجاء بعد الإشارة عدد من رجال البوليس الدولي لمشاركتنا في مطاردته.

نوسة: وهل وصل إلى الفيوم أيضًا؟

المفتش: لقد استطعنا معرفة مكانه في القاهرة، وعندما هاجمنا الشقة المفروشة التي يقيم فيها استطاع الفرار من النافذة، ثم شُوهد في سيارة تقطع شارع الهرم في طريقه إما إلى الإسكندرية أو الفيوم، ‏فوضعنا له كمينًا عند نفق الجيزة حتى لا يعود إلى القاهرة، ووضعنا له كمينًا في مدخل الطريق الصحراوي عند الإسكندرية، وهذا الكمين عند مدخل الفيوم؛ فهو الآن مُحاصَر من ثلاث جهات.

تختخ: وهل هناك معلومات عن سب حضور «كنت» إلى بلادنا؟

المفتش: نعم … وإن كانت معلومات غير مؤكَّدة، لقد اختفت منذ فترة مجموعة من التماثيل الفرعونية الثمينة من مكانها، وقد تمَّت سرقتها بطريقة فنية نادِرة، ولم نستطع الاهتداء إليها أو إلى سارقيها حتى الآن، وإن كنَّا نؤكِّد أنها لم تخرج من مصر، لأننا فرضنا حراسة جيدة وتفتيشًا دقيقًا على المسافرين خارج البلاد … لهذا نشكُّ أن «كنت» قد حضر لتهريب هذه التماثيل خارج البلاد.

ساد الصمت بين الجميع لحظات، وسمعوا صوت طائرة صغيرة تَطير على ارتفاع مُنخفِض، وتخرج منها سحابة من الدخان ‏ فقالت «نوسة»: ما هذا؟

رد «المفتش»: إنها طائرة لرش المبيدات الحشرية، وهي أفضل طريقة لقتْل الحشرات الضارة بالمزروعات في مساحات واسعة وبسرعة.

واقتربت الطائرة منهم‏، ثم تجاوزتْهم مُسرعة، وعادوا إلى الحديث عن المهرِّب.

فقال «تختخ»: إن «كنت» طبعًا لا يعمل وحده فما دام هناك لصوص قد سرقوا التماثيل، وجاء هو لتهريبها، فهذا يعني أن هناك أعوانًا له في بلادنا …

قال «المفتش»: طبعًا، ونحن مُتأكِّدون أنها عصابة قوية؛ ‏لأنها تتعامل في مئات الألوف من الجنيهات …

وانضمَّت «لوزة» إلى المجموعة ومعها «كريم» الصغير وخروفه، ‏ وسلمت على المفتش في حرارة، وروى لها «تختخ» قصة المهرب بسرعة، ثم أحضر «عواد» بعض الكراسي، وجلس الجميع تحت شجرة توت كبيرة، وأخذوا يتحدثون عن المهرب وأوصافه وطرق تنكُّره البارعة، التي لا يستطيع أحد اكتشافها،‏ وابتكاره لأساليب التهريب الغريبة التي تُحيِّر رجال الشرطة.

لوزة: كم أتمنَّى أن أقبض أنا على هذا المهرب … فسوف أصبح في هذه الحالة أبرع من جميع مُخبري العالم!

ضحك «المفتش» قائلًا: فعلًا وسيُكتَب اسمك ف «الإنتربول» … وتُنشَر صورتك واسمك في المجلات والصحف العالمية.

صاحت «نوسة»: بل أنا التي سأقبض عليه.

قال «المفتش» وهو يقف مُستعدًّا للرحيل: سأعطي من يقبض عليه هدية قيمة، ولكن لماذا تفكرون أنه سيصل إلى هنا؟! إننا نفتش كل سيارة تصل إلى محافظة الفيوم تفتيشًا دقيقًا، ولا يمكن أن يصل إلى هنا إلا إذا جاء طائرًا.

ودَّع «المفتش» الأصدقاء، ثم ركب سيارته، وانطلق مسرعًا، في حين انصرف الأصدقاء إلى الجناح الذي أُعدَّ لهم في القصر القديم، فأخذ كلٌّ من «نوسة» وشقيقها «محب» غرفة، و«لوزة» وشقيقها «عاطف» غرفة، وأخذ «تختخ» غرفةً وحده.

اغتسل الأصدقاء، ثم نزلوا من غرفِهم، وساروا يتعرَّفون على المكان الذي سيقضون فيه إجازتهم. كانت عزبة «عواد» بجوار قرية «شكشوك»، وبعدَها فندق «البافيون دي شيس» الذي يُشبه كوخًا إنجليزيًّا بسقفِه الأحمر المُنحدِر، وبعده حديقة واسعة، ثم قسم سواحل ومصايد «قارون» المكوَّن من مبنًى رئيسيٍّ كبير تمتد على جانبيه مساكن شرطة المصايد، وبعد القسم استراحة للري مكوَّنة من كشك خشبي كبير، أمامه مرسى للقوارب مُنحنٍ داخل المياه … وبعد ذلك على امتداد البصر تمتد الأرض المزروعة حتى الأفق.

كان مكانًا رائعًا لقضاء الإجازة … فهناك البحيرة الهادئة، والحدائق المُثمِرة، والأراضي المزروعة … وكان الجو رائعًا يَميل قليلًا إلى البرودة المنعشة.

أخذ الأصدقاء يجرُون هنا وهناك، وقد شعروا بالنشاط والحيوية، ومعهم صديقهم «عواد» وشقيقه الصغير «كريم» وخروفه الأبيض يَجري منطلقًا بين المزارع‏.

قال «تختخ» ﻟ «عوض»: أين صيَّادو الطيور؟

رد «عوض»: إنك لا تراهم الآن؛ فالصيد يتم عادة في الفجر، حيث يختبئ كل صياد في «لبدةٍ» أو في قارب، ويفاجئ الطيور النائمة على المياه.

نوسة: ما معنى … «لبدة»؟

عوض: إنها عشة من البوص والأعشاب وسعف النخيل، تسمَح للصائد بالاختباء فيها، ومشاهدة الطيور عن قرب حتى يتمكَّن من الصيد.

عاطف: وما هي أنواع الطيور المهاجِرة يا «عوض»؟

عوض: كثيرة؛ وأشهرها «الغر»، وهو طيرٌ أسود قاتم يميزه منقاره الأبيض، و«الحمراي» و«الشرشير» و«البلبول»، وهي طيور ملونة حجمها في حجم البط. وهي فعلًا أجداد البط المستأنَس حاليًّا.

محب: وهل كلُّ الصيادين من هنا؟

عوض: لا … إنهم يَحضُرون من جميع الجمهورية في موسم الصيد، بل يحضر بعض الأجانب من الهواة أيضًا …

تختخ: أجانب؟! تقصد من خارج مصر؟

عوض: طبعًا … وفي العام الماضي كان هنا عشرة صيادين بعضُهم من فرنسا، وبعضهم من إيطاليا وغيرهما من البلاد.

تختخ: وهذا العام؟

عوض: لم يَحضُر أحد هذا العام … كلهم مصريُّون وعددهم ستة.

قال «تختخ» موجهًا الحديث ﻟ «عوض»: هل تَعرف هؤلاء الستة؟

عوض: أعرف اثنين منهم فقط يُقيمان في كوخ مجاور للقصر، وهناك اثنان يقيمان قرب مبنى أوبرج الفيوم البافيون دي شيس بجوارنا هنا.

قضى الأصدقاء الوقت في الجري هنا وهناك، في مرح يستمتعون بالخلاء … والهواء … والماء … حتى كان موعد الغداء، فعادوا إلى القصر جميعًا حيت تناولوا غداءً فلاحيًّا من الفطير المشلتت والعسل.

في المساء سهر الأصدقاء مع الفلاحين على ضوء النيران وشربوا الشاي ثم تفرقوا.

وقف «تختخ» في الشرفة يُحدِّق في الظلام إلى الكوخ المجاور للقصر … كان يريد أن يتبين ماذا حدث هناك لعله يتمكَّن من معرفة شيء يقود المغامرين الخمسة إلى طريق «جون كنت».

سمع «تختخ» صوت سعال في شرفة الكوخ المُجاور فعرف أن ثمة شخصًا يقف في الظلام، وأخذت الريح التي كانت تهبُّ من البحيرة وتَعبُر بالكوخ ثم بالقصر تحمل إليه حديثًا لم يستطع أن يتبيَّن منه شيئًا … وعرف أنهما شخصان.

وبعد فترة لاحظ أن ثمة سيجارة مُشتعلة في الشرفة، ثم سمع صوتًا ثالثًا ينضمُّ إلى الصوتين الأولين، فأدرك أن شخصًا آخر قد انضم إلى الشخصين الواقفين في شرفة الكوخ وبدأت أعصابه تتحفز للمغامرة … من يكون الرجل الثالث الذي انضم إلى الاثنين ويُحدِّثهما في لهجة غاضبة؟ …

في هذه اللحظة سمع «تختخ» صوتًا خلفه، ثم سمع الأصدقاء جميعًا يدخلون عليه في صخبٍ … فانسحب من الشرفة وعاد إلى الغرفة.

قالت «نوسة» في مرح: لماذا تحبس نفسك في الغرفة؟! إنَّ الهواء على الشاطئ البحيرة منعش …

قالت «لوزة»: لا بد أن شيئًا يشغله في الشرفة … هل هناك شيء في الظلام؟

تختخ: هناك أشياء في الظلام … إنَّ علينا أن ننتبه لما حولنا لعلنا نعثر على شيءٍ يساعد المفتش «سامي» في بحثه عن المهرب.

محب: هل لاحظتَ شيئًا له أهمية؟

تختخ: ليس بعد، ولكن يجب أن نفتح آذاننا جيدًا، وعيوننا أيضًا.

عاطف: أعتقد أن علينا التعرف إلى الشخصين اللذَين هنا؛ فإنني أشك أن يكون هناك علاقة بينهم وبين «جون كنت».

محب: ولكنَّ هذَين الشخصين مصريان، و«كنت» أجنبي.

تختخ: لا تنسَ أنه يجيد اللغة العربية ويُجيد التنكُّر أيضًا.

اتجه «تختخ» و«محب» إلى الشرفة فقال «تختخ»: اسمع معي … ألا تسمع أصوات حديث دائر يأتي من ناحية الكوخ؟

استمع «محب» لحظات ثم قال: نعم … إنها أصوات ثلاثة رجال في الأغلب يتحدثون …

تختخ: دقِّق النظر في الظلام جيدًا … فسترى سيجارة مشتعلة، أليس كذلك؟

محب: فعلًا.

تختخ: إنني أريد أن أعرف هذا الثالث؛ فكما قال «عوض» … ليس في الكوخ سوى شخصين فقط.

محب: كيف يُمكننا معرفته؟

تختخ: إنك خفيف الحركة أكثر منِّي، لهذا أريدك أن تقبع في الظلام قرب الكوخ فإذا غادره الرجل عليك أن تتبعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤