الخرطوش العجيب

ذهب «تختخ» ومعه «محب»، و«لوزة»، وانطلق بالقارب في اتجاه بقية الصيادين، وعندما اقترب من «اللبدة» الأولى سمع الثلاثة صوت طلقات الخرطوش، فقالت «لوزة»: إنهم ما زالوا يَصطادون برغم أن وقت الصيد قد انتهى.

وسمع الأصدقاء صوت طائرة رش المبيدات التي حلقت فوقهم، ثم انطلقت مُبتعدة.

فقال «تختخ»: إن هذا الطيار يقوم بواجبه تمامًا، فهو يستيقظ مبكرًا كأنه صياد.

واقترب الثلاثة من «اللبدة» وكان بها صيادان، فأخذ «تختخ» يجدف ببطء مقتربًا منهما، وعندما أصبح القارب قريبًا منهما جدًّا سمع الأصدقاء أحد الرجلين يصيح في غضب طالبًا منهم الابتعاد عن منطقة الصيد.

وانحرف «تختخ» مبتعدًا … لكنه لم يَبتعد كثيرًا، فقد اختار مكانًا من الشاطئ ترتفع فيه الأعشاب وأوقف القارب، وأخذ يراقب الصيادَين من بعيد … ومضت فترة وهم جالسون في أماكنهم بلا حراك، فقالت «لوزة»: ماذا تنتظر يا «تختخ» … هل تشتبه في شيء؟

تختخ: أبدًا في رأسي بعض الخواطر والأفكار … وعلى كل حالٍ سنُراقبهما، لنرى كيف يَصطادان، وهل هما ماهران مثل «عوض» أو أكثر مهارة …

وظل الأصدقاء ينتظرون فترة دون أن يطلق الصيادان طلقة واحدة، ثم لاحظوا أنهما استقلا قاربهما واتجها إلى القرية، فقالت «لوزة»: إنهما لن يصطادا بعد الآن …

قال «تختخ»: لنذهب مكانهما ونعرف بأي نوع من الخراطيش يصطادان.

محب: وما الفائدة؟

تختخ: لا شيء … إنني أحبُّ جمْع الخراطيش الفارغة.

واتجهوا بالقارب إلى مكان «اللبدة» التي كان يشغلها الصيادان، وكانت الخراطيش الفارغة تتناثر هنا هناك من كل الألوان … وأخذ «تختخ» يجمع عينات منها … ثم انحنى فجأةً على خرطوش. وقال في لهجة مُنتصِرة: هذا نوع نادر من الخرطوش … إنه ضخم وأكبر من الحجم المعتاد ثلاث مرات.

وشاهد «محب» و«لوزة» الخرطوش في يد «تختخ». وفعلًا كان حجمه كبيرًا. وقال «تختخ»: سأبحث عن خراطيش أخرى من النوع نفسه … إنه نوعٌ نادرٌ يسرُّني أن أضمه إلى مجموعتي.

أخذ الأصدقاء الثلاثة يبحثون هنا وهناك، واستطاعوا العثور على خرطوش آخر فقط من النوع نفسه … ثم قال «تختخ»: هيا نعود، لنتناول الإفطار؛ فالاستيقاظ مبكرًا وهذه الرحلة قد فتحا شهيتي للأكل …

وأمسك «تختخ» مجدافًا، وأمسك «محب» بالآخر، وأخذا يجدفان بسرعة، والقارب يشق المياه في اتجاه القرية … و«لوزة» مُستمتعة بالجو … والقارب … ونشاط الصديقَين … وعندما وصلوا إلى قرب القصر وجدوا بقية الأصدقاء في انتظارهم على الشاطئ، واتَّجه الجميع إلى القصر حيث كان في انتظارهم فطور شهيٌّ من البيض الطازج وعسل النحل واللبن الساخن …

وقدَّم «تختخ» الخرطوش إلى «عوض» قائلًا: ما رأيك في هذا النوع من الخراطيش؟ هل شاهدت مثله من قبل؟

أمسك «عوض» بالخرطوش مُندهشًا ثم سأل: إنه غريب حقًّا … فلم أرَ في حياتي مثله.

تختخ: لا بدَّ أن الرجلَين يَصطادان دائمًا كميات ضخمة من الطيور بهذه الخراطيش الكبيرة.

عوض: ولكن أيُّ نوع من البنادق يُطلق هذا الخرطوش؟! إنه كبير للغاية … ولا تتَّسع له إلا بندقية في حجم المدفع.

تدخل «عاطف» في الحديث قائلًا: ولكن إذا كانا يَستعملان هذا النوع من الخرطوش في الصيد، فهل من المعقول أن يُطلقا اثنين فقط طوال فترة الصيد.

رفع «تختخ» حاجبَيه في دهشة وقال: معك حق … إنه سؤال يستحقُّ الإجابة … ولكن كيف الإجابة؟! ولم يردَّ أحد!

وقضى الأصدقاء بقية اليوم يجرُون هنا وهناك … وأقاموا سباقًا على ظهور الحمير. أما «تختخ» فكان يحمل الخرطوشين الفارغَين في يده … وقد غاص في تفكيرٍ عميقٍ وهو جالس على شاطئ البحيرة يفكر … وكان الجميع قد تناوَلوا غداءً شهيًّا من البط الذي اصطادَه «عوض».

وفي ذلك المساء … جلس «تختخ» في شُرفة القصر … يرقب الكوخ القريب حيث يسكن الصيادان وقد عرف من «عوض» أن اسمَيهما «موسى» و«عثمان» … وكان «تختخ» يأمل أن يأتي الرجل الثالث؟ ولماذا لا يأتي إلا ليلًا؟ وهل هو من الصيادين الأربعة الذين يَسكُنون بعيدًا؟

كان «تختخ» يريد الحصول على إجابات عن هذه الأسئلة كلها … وكان الحل الوحيد أن يتبع الرجل في رحلته الليلية ليعرف من أين يأتي.

وفي الظلام ظهر «موسى» و«عثمان» كشبحَين … وأخذا يتحدَّثان … وأخذ «تختخ» يُحاول الإصغاء إلى الكلمات … وفي الوقت نفسه يأمل أن يصل الرجل الثالث … ولكن الوقت مضى دون أن يظهر … ودخل الرجلان كوخَهما. ومضَت الساعات … وجاء وقت النوم، فذهب الجميع إلى أسرتهم، وبقيَ «تختخ» وحده في الظلام.

قرب مُنتصَف الليل أحسَّ «تختخ» بالنعاس يُهاجمه … وكانت عاصفة باردة قد هبَّت على البحيرة، فارتفع صوت الأمواج، وزمجرت الرياح بين الأشجار، فأسرع «تختخ» إلى فراشه … وبينما هو يُسلم نفسَه للنوم اللذيذ خُيِّل إليه أنه يسمع صوت طائرة … صوتًا يُشبه صوت طائرة رشِّ المبيدات الحشرية التي رآها يوم حضوره … ورآها في الصباح … ولكن لماذا تطير في الليل … هل يمكن أن يتمَّ رش المبيدات ليلًا … إن هذا مستحيل … فلن يرى الطيار المساحات التي يرشها … ولا سيما أن الليلة مُظلمة … والريح عاصفة تحمل المبيدات بعيدًا عن الأرض المخصَّصة لها …

استسلم «تختخ» للنوم وهو يفكر في صوت الطائرة … وهل هي طائرة فعلًا أو أنه خُيِّل إليه ذلك … بين الأصوات الكثيرة التي أحدثتها العاصفة في الأشجار والبحيرة …

عندما حضر الأصدقاء في الصباح الباكر لإيقاظ «تختخ» وجدوه ما زال نائمًا … فقد سهر كثيرًا أمس … وبين اليقظة والمنام قال لهم إنه لن يخرج هذا اليوم. ثم عاد إلى النوم …

أسرع الأصدقاء إلى القارب مع «عوض» ليشتركوا في رحلة الصيد … في حين استمر «تختخ» نائمًا فلم يستيقظ إلا في الساعة التاسعة صباحًا … وبعد أن تناول فطوره وقف في شرفة القصر يستمتع بالشمس الدافئة، وكم كانت دهشتُه عندما وجد «موسى» و«عثمان» في كوخهما لم يُغادراه … وفكر «تختخ» بسرعة … وقرَّر أن يذهب للتعرف عليهما … وكانت عنده وسيلة طيبة لفتح الحديث … هي هذا النوع من الخراطيش الضخمة الذي يستعملانه.

وأخذ «تختخ» خرطوشًا فارغًا، ثم تقدم حيث كان الرجلان يجلسان في الشمس، وقد انهمكا في تنظيف بنادقهما. ألقى «تختخ» عليهما تحية الصباح. فردَّا التحية، ودون أن ينتظر دعوة منهما، تقدم وجلس بجوارهما، وأخذ يتحدث معهما عن الصيد والبنادق والطيور … وعندما اندمجوا جميعًا في الحديث، أخرج «تختخ» الخرطوش الكبير وسأل «موسى» قائلًا: هذه أول مرة أرى فيها هذا النوع من الخراطيش … إنه طبعًا لا يُطلق من بندقية عادية …

أمسك «موسى» بالخرطوش في يده ثم قال: هذا نوع غريب من الخرطوش … لا أظن أنه يُستعمل في الصيد.

تختخ: وفيم يستخدم إذن؟

موسى: لا أدري؛ فهذه أول مرة أشاهده فيها.

دهش «تختخ» جدًّا لهذا الرد وقال: لم تُشاهِدْه مطلقًا؟

موسى: مطلقًا؟

تختخ: ولكني وجدته في اللبدة التي تصطادان فيها.

نظر «موسى» إلى «عثمان» ثم قال: إننا لا نَستخدم هذا الخرطوش مُطلقًا. ولعلَّ أشخاصًا غيرنا كانوا يَصطادون في اللبدة قبلنا … أو أنه من مخلَّفات السنة الماضية.

كان حديث «موسى» قاطعًا … ولم يجد «تختخ» شيئًا يقوله … فقام بعد أن أخذ الخرطوش معه، وقد ملأت رأسه الخواطر … ولما ابتعد عن الرجلين وضع الخرطوش قرب أنفه وشمَّه … وكانت رائحة البارود ما زالت واضحة فيه، مما يدلُّ على أنه أطلق حديثًا.

قال «تختخ» في نفسه: لماذا ينكر الرجلان أنهما استعملا الخرطوش؟! وإذا لم يكونا هما فهل يكون شخصٌ آخر … الرجل الثالث الغامض مثلًا؟!

مزيد من الأسئلة دون رد … وسار «تختخ» لا يدري أين يذهب. وقادته قدماه إلى قسم سواحل ومصايد «قارون» وكان أحد الضباط يَجلس وحيدًا في الشمس … فاقترب منه «تختخ» وحيَّاه، وقد خطرت في رأسه فكرة طيبة؛ أن يسأل الضابط عن هذا الخرطوش ونوعه … وفي أي شيءٍ يُستخدَم، ونوع البندقية التي تُطلقه.

حيا «تختخ» الضابط، وعرَّفه بنفسه، ثم وقف بجواره فطلب الضابط له كرسيًّا، وطلب منه الجلوس، ثم طلب له كوبًا من الشاي … وفي هذا الجو المشجِّع … أخرج «تختخ» الخرطوش من جيبه ثم قدَّمه للضابط قائلًا: هل رأيت مثل هذا النوع من الخرطوش من قبل؟

أمسك الضابط بالخرطوش ثم قال ببساطة: طبعًا إنه خرطوش من نوعٍ خاصٍّ يُستخدَم في الإضاءة ليلًا؟

قال «تختخ» باندهاش: الإضاءة؟! أية إضاءة؟

الضابط: إنه يُطلَق في الظلام لإنارة الهدف … فهو يُحدث شعلة مضيئة كبيرة تضيء على ارتفاع كبير، ثم تهبط وتظلُّ مشتعلة، فتُضيئ ما حولها وما تحتها من أرض … وعادة ما يُستخدَم في الحرب لإضاءة هدفٍ مُختفٍ في الظلام من أجل المدفعية أو الطائرات.

تختخ: شيء مُدهش! … وهل يُمكن إطلاقه من بندقية صيد؟

ضحك الضابط قائلًا: لا، طبعًا … إنه يُطلَق من نوع خاص من المسدسات كبيرة الفوهة … وهو لا يوجد إلا في وحدات الجيوش … ونادرًا ما يكون مع أفراد …

قضى «تختخ» مع الضابط «صفوت» وقتًا طويلًا يتحدثان، وتوثقت العلاقة بينهما … وعندما غادَر «تختخ» المكان عائدًا إلى القصر … كانت الإجابات التي حصل عليها عن الخرطوش الكبير تشغل باله … خراطيش مُضيئة! لماذا؟ ومن استخدمها إذا كان «عثمان» و«موسى» يُنكِران؟ وكيف السبيل إلى معرفة مَن أطلَقَها؟! إنَّ الحل الوحيد هو محاولة دخول كوخ الرجلين والبحث عن المسدس الكبير الذي يُطلِق الخراطيش …

ولكن … كان هناك أهم سؤال … هل لهذا كله صلة بالمهرب الدولي «جون كنت» … أو أنه موضوع آخر؟! عندما وصل «تختخ» إلى القصر كان الأصدقاء قد عادوا من رحلتهم، وتقدمت منه «لوزة» قائلة: لقد انتهزتُ الفرصة اليوم وذهبت للبحث بين الأعشاب عن أعقاب السجائر، وقد وجدت ثلاثة … بل إنني أيضًا وجدت علبةً فارغة، وهي مِن نوع … «كنت» الأمريكي.

قال «عاطف» ضاحكًا: ماركة «كنت» … لا بدَّ أن الذي يُدخِّنها هو «جون كنت» المهرب الدولي!

هزَّ «تختخ» رأسه قائلًا: مَن يدري؟ … لعله هو! واستطاع أن يمرَّ من كمائن الشرطة وهو مُتخفٍّ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤