في قلب العاصفة

في تلك الأمسية وضَح أن عاصفة قوية تتجمَّع في الأفق، ولكن ذلك لم يمنع «تختخ» من أن يقوم بمراقبة الكوخ المجاور … وهو يفكر في طريقة لدخوله … على أمل أن يحضر الرجل الثالث الغامض.

وبعد أن هبط الظلام، لاحظ «تختخ» السيجارة المشتعلة في الكوخ فأدرك أن الزائر الغامض قد حضر … فاستدعى «تختخ» الأصدقاء كلهم قائلًا: علينا أن نتبع هذا الرجل الليلة، ونعرف من أين يأتي … إنَّ عندي من الملاحظات والأدلة ما يُؤكِّد أن شيئًا غير عادي يحدث بين هؤلاء الرجال الثلاثة، وبخاصة بعد أن علمت من الضابط «صفوت» حقيقة الخراطيش الكبيرة التي وجدناها في «اللبدة». وعلينا جميعًا أن نراقب الرجل ثم نتبعه إلى حيث يذهب.

محب: إنك لن تتبعه وحدك يا «تختخ»، بل سنَتبعه جميعًا؛ فقد استطاع الهرب منِّي في المرة السابقة …

تختخ: إذن استعدُّوا جميعًا، وسأعطيكم إشارة.

عاطف: أقترح أن يقف بعضُنا قرب شاطئ البحيرة، وأن نستعدَّ بقارب، ما دام الرجل قد استعمل القارب قبل الآن في الاختفاء عن الأنظار.

وفعلًا أسرع «عاطف» و«نوسة» إلى شاطئ البحيرة، على حين استعدَّ «محب» و«تختخ» و«لوزة» و«زنجر» لمتابعة الرجل بمجرَّد خروجه. لكن كانت مفاجأة لهم جميعًا أن الرجل لم يخرج وحده هذه المرة، بل خرج الرجال الثلاثة معًا، وكانوا يحملون معهم بعض الحقائب، ثم اتجهوا إلى البحيرة … وعندما رآهم «عاطف» و«نوسة» اختفَيا خلف السور … حتى لا يروهما.

ركب الرجال الثلاثة القارب … فأسرع الأصدقاء إلى قاربهم ومعهم «زنجر» وسرعان ما بدأ القاربان رحلة مثيرة في الظلام … وفي العاصفة التي كانت قد بدأت تشتد.

قالت «نوسة»: لسوء الحظ أن السماء مظلمة تمامًا وقد يختفي منَّا القارب ولا نراه …

تختخ: ولكن الظلام له ميزة؛ إنه سيُخفي مطاردتنا لهم …

عاطف: وكيف نتبعهم في الظلام؟

تختخ: سنَعتمد على ضوء السجائر التي يُدخِّنها الرجل الغامض، إنه يُدخِّن كثيرًا، وسيضطر إلى إشعال أعواد كثيرة من الكبريت، أو إشعال الولاعة … وهذا على كل حال ما نستطيعه.

كانت فكرة «تختخ» صحيحة … فبرغم الظلام والريح كان في استطاعتهم بين فترة وأخرى أن يروا السيجارة المشتعلة، أو أعواد الكبريت … وعن هذا الطريق استطاعوا أن يتبعوا القارب فترة من الوقت … وبعد أن قطعوا نصف عرض البحيرة قال «محب»: من الواضح أنهم متَّجهون إلى الجانب الآخر من البحيرة؛ حيث الصحراء الغربية.

واستمرت المطاردة فترةً أخرى، وفجأةً اشتدَّت العاصفة، وارتفعت الأمواج حتى أصبحت كالجبال … وأخذ قاربهم الصغير يترنَّح تحت ضربات الريح، وفوق قمم الأمواج. وكان «محب» و«عاطف» … يقومان بالتجديف، في حين يمسك «تختخ» بالدفة … ولكن لم يعد في الإمكان السيطرة على القارب … لقد أصبح لعبة صغيرة في يد الرياح والأمواج … ولم يعد في إمكانهم أن يروا شيئًا أو يسمع أحدهم الآخر. وصاح «تختخ» بكل ما يملك من قوة: أَمسكُوا بالقارب جيدًا … حذار أن يقع أحدكم في الماء، فلن نستطيع رؤيته أو إنقاذه … ابحث يا «محب» عن حبل في القارب!

ترك «محب» المجداف الذي يمسكه، وسار في وسط القارب مترنحًا، يسقط مرة ويقف مرة … ثم نزل إلى كابينة القارب يبحث عن قطعة حبل، ولحسن الحظ وجدها، فصعد مرة أخرى … ولكن العاصفة كانت قد جنَّ جُنونها وأخذت المياه تتدفَّق داخل القارب … وصرخت لوزة ونبح «زنجر» نباحًا حزينًا … وأخدت المياه تجرف القارب بسرعة دون أن يعرفوا إلى أين يتَّجه … وفي وسط هذا الفزع كان كل ما يفكر فيه «تختخ» هو «لوزة» و«نوسة»؛ فقد خشى أن تجرفهما المياه إلى البحيرة وتغرقا … وكان «محب» قد ناوله قطعة الحبل، فأسرع إلى «نوسة» و«لوزة» وربطهما، ثم ربط طرف الحبل في وسطه … حتى إذا جذبت المياه إحداهما استطاع أن يُعيدها بواسطة الحبل … ولم تمضِ دقيقة حتى تحقَّق ما كان يخشاه؛ فقد جرف التيار «لوزة» إلى البحيرة، وسمع صوت صراخها … وأحسَّ بها تجذب الحبل … فمال على جانب القارب، وأخذ يَجذبُ الحبل بكل ما يملك من قوة … وهو يخشى في كل لحظة أن ينقطع الحبل وتضيع «لوزة» في الظلام والعاصفة. ولكنه لحسن الحظ استطاع أن يستعيدها بسرعة، ثم احتضنها، وأخذ يُهدِّئ من روعها … ويبعث فيها الثقة … لكن «لوزة» كانت تَرتجِف بردًا وخوفًا … وأخذت تبكي وتختلط دموعها بالمياه الساقطة من شعرها.

وكان «محب» و«عاطف» يجلسان بجوار «نوسة» مُمسكَين بخشب القارب بشدة.

استمرت العاصفة، وظل القارب طافيًا فترة، ولكن المياه التي كانت تسقط فيه بدأت تُثقِل حركته، وتأكَّد «تختخ» أنَّ القارب سيغرق سريعًا. وأخذ يُحاول التفكير في طريقة لإنقاذهم، ولكن كيف؟!

وبدأ القارب يغوص في المياه تدريجيًّا … وفجأةً جاءت موجة كبيرة حملت القارب إلى فوق … ثم نزل بسرعة هائلة وارتطم بالأرض! لقد حملته الموجة إلى الشاطئ الرملي ثم قذفتْه … وتحطَّم وتحوَّل إلى قطع متناثرة.

طار الأصدقاء في الهواء … ثم سقطوا على رمال الشاطئ. واستطاع «تختخ» و«محب» أن يقفا بسرعة … ثم يتجها في الظلام للبحث عن بقية الأصدقاء … وكان من السهل العثور عليهم فوق الرمال البيضاء بواسطة الأنين الذي كان يَصدُر منهم …

حمل «تختخ» «نوسة»، وحمل «محب» «لوزة». وسار خلفهم «عاطف» و«زنجر» محاولين الابتعاد عن المياه حتى لا تأتيَ موجة أخرى وتجرَّهم إلى الماء مرةً أخرى.

استطاع الأصدقاء أن يصلوا إلى بر الأمان … ولكن في حالة يرثي لها من البلل والإعياء والبرد … وتجمَّعوا معًا … وتذكر «تختخ» فمد يده في جيبه وأخرج بطاريته المُغطَّاة بالمطاط. وأخذ يتحسَّس مفتاحها حتى وجده، ثم ضغط عليه وهو لا يتوقع أن تضيء … لكن حمدًا لله، لقد أضاءت، فأدار شريط الضوء حوله … وأخذ ينظر إلى الأصدقاء … كانوا جميعًا قد بللتهم المياه … وأخذوا يرتجفون من البرد … ولاحظ «تختخ» جرحًا داميًا في رأس «عاطف» … فأخرج منديله وربط الجرح …

أخذ «تختخ» يتحدث إلى الأصدقاء … وبرغم العاصفة كان صوته يصلُ إليهم قائلًا: لقد أُنقذنا من العاصفة … وذلك في حد ذاته حظ حسن … أرجو أن تكونوا على ثقة من أننا سنَجتاز هذه المحنة كما اجتزنا من قبل مِحَنًا مُماثِلة … وكل ما أرجوه أن نجد مكانًا نقضي فيه ليلتنا حتى لا يقتلَنا البرد …

ساد الصمت … ولم يعد الأصدقاء يسمعون إلا دويَّ الريح … ثم قام «تختخ» وقال: سأفتش حولنا وأعود إليكم … لعلَّني أجد مأوًى، أو أعرف أين نحن؟ وسار «تختخ» وقد أضاء مصباحه … وسار فترة على الشاطئ … ثم صعد التلال الرملية، فوجد في مقابله في الظلام مُرتفعات حجرية ضخمة … واستطاع على ضوء البطارية أن يجد بعض فتحات … كأنها أبواب لكهوف قديمة … وفكر لحظات ثم تقدم إلى أحد الكهوف … ودخل … وأخذ يدير مصباحه هنا وهناك … كان الكهف حجريًّا مرتفع السقف … ولم يكن هناك أثر للحياة فيه … وسار «تختخ» قليلًا في الكهف … ثم قرَّر الاكتفاء بما شاهَدَه والعودة لإحضار الأصدقاء من البرد والعاصفة.

بعد دقائق. كان الجميع قد دخلوا الكهف … واتقوا بهذا الرياح الباردة العنيفة … فقال «تختخ»: لن نستطيع أن نجد شيئًا نتدفَّأ به أو شيئًا نأكله، فلنتجمَّع بعضنا بجوار بعض، ونُحاول النوم حتى الصباح.

استندوا جميعًا على جدران الكهف، وتلاصقوا فأحسُّوا ببعض الدفء … وكانت العاصفة الباردة لا تزال تدوي في الخارج … ولكن التعب أنساهم كل شيء وسرعان ما ناموا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤