الفصل السابع عشر

أزواج النبي

(زينب بنت خزيمة وأم سلمة – قصة زينب بنت جحش وكلام المستشرقين فيها – وقائعها كما يرويها التاريخ الصحيح)

***

في الفترة التي وقعت فيها حوادث الفصلين السابقين تزوج محمد زينب بنت خزيمة، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، ثم تزوج زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة، وزيد هذا هو الذي تبناه محمد وأعتقه منذ اشتراه يسار لخديجة. ها هنا يصيح المستشرقون ويصيح المبشرون: انظروا! لقد انقلب محمد الذي كان بمكة داعية قناعة وزهد وتوحيد ورغبة عن شهوات هذه الحياة الدنيا، رجل شهوة يُسيل منظر المرأة لعابه، ولا يكفيه ثلاث نسوة في بيته، بل يتزوج أولئك الثلاث اللائي ذكرنا، ويتزوج من بعدهن ثلاثًا أخريات غير ريحانة.

وهو لا يكفيه أن يتزوج ممن لا بعولة لهن؛ بل هو يشغف حبًّا بزينب بنت جحش وهي تحت زيد بن حارثة مولاه؛ لغير شيء إلا أنه مر ببيت زيد وهو غائب فاستقبلته زينب، وكانت في ثياب تبدي محاسنها، فوقع منها في قلبه شيء لجمالها، فقال: سبحان مقلب القلوب! ثم كرَّر هذه العبارة ساعة انصرافه، فسمعتها زينب ورأت في عينيه وهج الحب، فأعجبت بنفسها وأبلغت زيدًا ما سمعت فذهب من فوره إلى النبي يذكر له استعداده لتسريحها؛ فقال له: أمسك عليك زوج واتق الله. لكن زينب لم تُحسن من بعد عشرته فطلقها؛ وأمسك محمد عن زواجها وقلبه في شغل بها حتى نزل قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا١ إذ ذاك تزوجها فأطفأ بزواجها لاذع حبه ومتوهج غرامه. فأي نبي هذا؟! وكيف يبيح لنفسه ما حرمه على غيره؟! وكيف لا يخضع للقانون الذي يقول إن الله أنزله عليه؟! وكيف يخلق هذا «الحريم» الذي يثير في النفس ذكر الملوك المترفين بدل أن يثير فيها ذكر الأنبياء الصالحين المصلحين؟! ثم كيف يبلغ منه الخضوع لسلطان الحب في شأن زينب حتى يصل بمولاه زيد إلى تطليقها ثم يتزوجها من بعده؟! وكان ذلك محرمًا في الجاهلية، فأباحه نبي المسلمين إرضاءً لهواه، واستجابة لداعي حبه.

ويطلق المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان حين يتحدثون من تاريخ محمد في هذا الموضوع، حتى ليصوِّر بعضهم زينب ساعة رآها النبي وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها الناطق بما يكنُّه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب وكانت ممددة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه وإن لم يطق الصبر على ذلك طويلًا!

وأمثال هذه الصورة التي أبدعها الخيال كثيرٌ، تراه في موير وفي درمنجم وفي واشنطن إرفنج وفي لامنس وغيرهم من المستشرقين والمبشرين. ومما يدعو إلى أشد الأسف أن هؤلاء جميعًا اعتمدوا في روايتهم على ما ورد في بعض كتب السيرة والكثير من الحديث، ثم أقاموا على ما صوَّروا قصورًا من الخيال في شأن محمد وصلته بالمرأة، واستدلوا على ذلك بكثرة أزواجه حتى بلغن تسعًا في القول الراجح، وحتى بلغن أكثر من ذلك في بعض الروايات.

كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعًا بقولنا: فلتكن صحيحة؛ فماذا فيها مما يطعن على عظمة محمد أو على نبوَّته ورسالته؟! إن القوانين التي تجري على الناس لا سلطان لها على العظماء، فأولى ألا يكون لها سلطان على المرسلين والأنبياء. ألم ير موسى — عليه السلام — خلافًا بين رجلين هذا من شيعته وهذا من عدوه، فوكز الذي من عدوه فقضى عليه، وهذا قتلٌ محرَّم في غير حرب ولا شبه حرب، وهذا مخالف للقانون. مع ذلك لم يخضع موسى للقانون ولم يطعن ذلك في نبوَّته ولا في رسالته، ولم يطعن في عظمته. وشأن عيسى في مخالفة القانون أكبر من شأن موسى ومن شأن محمد ومن شأن الأنبياء والمرسلين جميعًا. فليس يقف أمره عند بسطة في القوة أو الرغبة، بل خرج بمولده وبحياته على قوانين الطبيعة وسننها جميعًا. تمثَّل لأمه مريم روح الرحمن بشرًا سويًّا، ليهب لها غلامًا زكيًّا، فعجبت وقالت: أنَّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيًّا؟! قال الرسول: إن الله يريد أن يجعله آية للناس، فلما جاءها المخاض قالت: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا. فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًّا. وأتت به قومها تحمله، فقالوا: لقد جئت شيئًا فريًّا. فحدثهم عيسى في مهده قال: إني عبد الله … إلى آخر ما قال.

ومهما يكن من إنكار اليهود لهذا كله، ومن نسبتهم عيسى إلى يوسف النجار نسبة لا يزال بعض العلماء من أمثال رينان يأخذون اليوم بها. فقد كانت عظمة عيسى ونبوته ورسالته دليل معجزة الله فيه وخرقه لنواميس الكون وسنن الطبيعة وقوانين الخلق من أجله. فمن عجب أن يدعو المسيحيون المبشرون إلى الإيمان بهذا الخروج على سنة الكون في أمر عيسى، وأن يأخذوا محمدًا بما هو دونه، وما لا يزيد على أنه سموٌّ من الخضوع لقانون المجتمع يُسمح به لكل عظيم، ويسمح به للملوك ورؤساء الدول الذين تقدسهم الدساتير وتجعل ذواتهم مصونة لا تمس.

كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعًا بهذا الرد، وكان فيه من غير شك ما يُسقط حجة المبشرين ومن ينهجون نهجهم من المستشرقين. لكنا في هذا كنا نجني على التاريخ ونجني على عظمة محمد وجلال رسالته. فهو لم يكن، كما صوَّر هؤلاء وأولئك، رجلًا يأخذ بعقله الهوى، وهو لم يتزوج من تزوج من نسائه بدافع من شهوة أو غرام. وإذا كان بعض الكتَّاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أن يقولوا هذا القول، وأن يُقدموا لخصوم الإسلام عن حسن نية هذه الحجة، فذلك لأنهم انحدر بهم التقليد إلى المادية، فأرادوا أن يصوِّروا محمدًا عظيمًا في كل شيء، عظيمًا حتى في شهوات الدنيا. وهذا تصوير خاطئ ينكره تاريخ محمد أشد إنكار، وتأبى حياته كلها أن تقره.

فهو قد تزوج خديجة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو في شرخ الصبا وريعان الفتوة ووسامة الطلعة وجمال القسمات وكمال الرجولية. مع ذلك ظلت خديجة وحدها زوجه ثمانيًا وعشرين سنة حتى تخطى الخمسين، هذا على حين كان تعدد الزوجات أمرًا شائعًا بين العرب في ذلك العهد. وعلى حين كان لمحمد مندوحة في التزوج على خديجة، أن لم يعش له منها ذكر، في وقت كانت توأد فيه البنات، وكان الذكور وحدهم هم الذين يعتبرون خلفًا. وقد ظل محمد مع خديجة سبع عشرة سنة قبل بعثه وإحدى عشرة سنة بعده وهو لا يفكر قط في أن يُشرك معها غيرها في فراشه. ولم يعرف عنه في حياة خديجة ولم يعرف عنه قبل زواجه منها أنه كان ممن تغريهم مفاتن النساء في وقت لم يكن فيه على النساء حجاب، بل كانت النساء يتبرجن فيه ويبدين من زينتهن ما حرم الإسلام من بعدُ …

فمن غير الطبيعي أن تراه وقد تخطى الخمسين ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي يجعله ما يكاد يرى بنت جحش، وعنده نساء خمس غيرها من بينهنَّ عائشة التي أحب وظل يحب طوال حياته، حتى يُفتن بها وحتى تستغرق تفكيره ليله ونهاره. وليس من الطبيعي أن تراه، وقد تخطى الخمسين، يجمع في خمس سنوات أكثر من سبع زوجات، وفي سبع سنوات تسع زوجات، وذلك كله بدافع من الرغبة في النساء، رغبةً صورها بعض كتاب المسلمين، وحذا الإفرنج حذوهم، تصويرًا لا يليق في ضعته برجل مادي بَلْه عظيمًا استطاعت رسالته أن تنقل العالم وأن تغيِّر مجرى التاريخ، وما تزال على استعداد لأن تنقل العالم مرة أخرى وتغير مجرى التاريخ طورًا جديدًا.

وإذا كان هذا عجيبًا وكان غير طبيعي، فمن العجيب كذلك أن نرى محمدًا تلد له خديجة ما ولدت من بنيه وبناته إلى ما قبل الخمسين، وأن نرى مارية تلد له إبراهيم وهو في الستين، وألا تلد غير هاتين من نسائه، وكلهن بين شابة في مقتبل العمر لا يمنع من ناحيتها ولا من ناحيته أن تحمل وأن تلد، وبين امرأة كملت لها أنوثتها فتخطت الثلاثين أو تخطت الأربعين وكان لها ولد من قبل. فكيف تفسر هذه الظاهرة العجيبة من ظاهرات حياة النبي، هذه الظاهرة التي لا تخضع للقوانين الطبيعية في تسع نسوة جميعًا؟! هذا وقد كانت نفس محمد، باعتبار أنه إنسان، تميل من غير ريب إلى أن يكون له ولد، وإن كان مقام النبوة والرسالة قد جعله من الناحية الروحية أبًا للمسلمين جميعًا.

ثم إن التاريخ ومنطق حوادثه أصدق شاهد بكذب رواية المبشرين والمستشرقين في شأن تعدد زواج النبي. فهو كما قدمنا، لم يشرك مع خديجة أحدًا مدى ثمان وعشرين سنة. فلما قبضها الله إليه تزوج سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس. ولم يَرْوِ راوٍ أن سودة كانت من الجمال أو من الثروة أو المكانة بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرًا في زواجه منها. إنما كانت سودة زوجًا لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين احتملوا في سبيله الأذى والذين هاجروا إلى الحبشة بعد أن أمرهم النبي بالهجرة وراء البحر إليها. وقد أسلمت سودة وهاجرت معه، وعانت من المشاق ما عانى، ولقيت من الأذى ما لقي. فإذا تزوجها محمد بعد ذلك ليعولها وليرتفع بمكانتها إلى أمومة المؤمنين، فذلك أمر يستحق من أجله أسمى التقدير وأجلَّ الحمد.

أما عائشة وحفصة فكانتا ابنتي وزيريه أبي بكر وعمر. وهذا الاعتبار هو الذي دعا محمدًا أن يرتبط وإياهما برابطة المصاهرة بالتزوج من ابنتيهما، كما دعاه أن يرتبط بعثمان وبعلي برابطة المصاهرة بتزويجه ابنتيه منهما. وإذا صح القول في عائشة وفي حبه إياها، فإنما ذلك حب نشأ بعد الزواج لا حينه، فهو قد خطبها إلى أبيها وما تزال في التاسعة من عمرها، وقد بقيت سنتين قبل أن يبني بها. فليس مما يرضاه المنطق أن يكون قد أحبها وهي في هذه السن الصغيرة. يؤيد ذلك زواجه من حفصة بنت عمر في غير حب بشهادة أبيها نفسه. قال عمر: «والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا وما تكلفك في أمره أريده! فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجع أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟! قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها … وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك ولولا أنا لطلقك.» أفرأيت إذن أنَّ محمدًا لم يتزوج من عائشة ولم يتزوج من حفصة لحب أو لرغبة، وإنما تزوج منهما ليمتِّن أواصر هذه الجماعة الإسلامية الناشئة في شخصي وزيريه، كما تزوج من سودة ليعلم المجاهدين من المسلمين أنهم إذا استشهدوا في سبيل الله فلن يتركوا وراءهم نسوةً وذرية ضعافًا يخافون عليهم عيلة.

يقطع في ذلك زواجه من زينب بنت خزيمة ومن أم سلمة. فقد كانت زينب زوجًا لعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي استشهد يوم بدر، ولم تكن ذات جمال، وإنما عرفت بطيبتها وإحسانها حتى لقبت أم المساكين؛ وكانت قد تخطت الشباب، فلم يك إلا سنة أو سنتان ثم قبضها الله؛ فكانت بعد خديجة الوحيدة من أزواج النبي التي تُوفيت قبله. أما أم سلمة فكانت زوجًا لأبي سلمة وكان لها منه أبناء عدة، وقد سبق القول: إن أبا سلمة جُرح في أحُد ثم برأ جرحه، فعقد له النبي لحرب بني أسد فشتتهم وعاد إلى المدينة بما غنم؛ ثم نغر عليه جرح أُحد وما زال به حتى قضى عليه. وقد حضره النبي وهو على فراش موته، وظل إلى جانبه يدعو له بخير حتى مات فأسبل عينيه. وبعد أربعة أشهر من وفاته خطب محمد أم سلمة إلى نفسها؛ فاعتذرت بكثرة العيال وبأنها تخطت الشباب، فما زال بها حتى تزوج منها وحتى أخذ نفسه بالعناية بتنشئة أبنائها. أبعد ذلك يزعم المبشرون والمستشرقون أن أم سلمة كانت ذات جمال هو الذي دعا محمدًا إلى التزوُّج منها؟!

إن يكن ذلك فقد كانت غيرها، من بنات المهاجرين والأنصار، من تفوقها جمالًا وشبابًا وثروةً ونضرة ومن لا يبهظه عبء عيالها. لكنه إنما تزوج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوج زينب بنت خُزيمة، والذي زاد المسلمين به تعلقًا وجعلهم يرون فيه نبيَّ الله ورسوله، ويرون فيه إلى جانب ذلك أبًا لهم جميعًا: أبًا لكل مسكين ومحروم وضعيف وبائس وعاجز، أبًا لكل من فقد أباه شهيدًا في سبيل الله.

ماذا يستنبط التمحيص التاريخي النزيه مما تقدم؟ يستنبط أن محمدًا نصح بالزوجة الواحدة في الحياة العادية. هو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضربه في حياة خديجة، وبه نزل القرآن في قوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ،٢وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة.٣ ولقد نزلت هذه الآية في أخريات السنة الثامنة للهجرة بعد أن كان قد بنى بأزواجه جميعًا. ونزلت لتحدد عدد الزوجات بأربع وقد كان إلى حين نزولها لا حد له، مما يسقط قول القائلين بأن محمدًا أباح لنفسه ما حرَّم على الناس. ثم نزلت لتشيد بفضل الزوجة الواحدة وتأمر بها لمجرد الخوف من عدم العدل، ومع التأكيد بأن العدل غير مستطاع. على أنه رأى في ظروف حياة الجماعة الاستثنائية إمكان الحاجة للتعدد إلى أربع على شرط العدل. وهو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضرب أيام غزوات المسلمين واستشهاد من استشهد منهم.

ولعمرك هل تستطيع أن تقطع بأن الاقتصار على الزوجة الواحدة، حين تحصد الحروب أو الأوبئة أو الثورات ألوف الرجال وملايينها، خير من هذا التعدد الذي أبيح على طريق الاستثناء؟! وهل يستطيع أهل أوروبا، في هذا العصر الذي عقب الحروب الكبرى، أن يقولوا بأن نظام الزوجة الواحدة نظام نافذ بالفعل إن استطاعوا أن يقولوا إنه نافذ بالقانون؟ أوَلا يعود سبب الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي عقب الحرب إلى عدم التعاون المشروع بين الجنسين بالزواج تعاونًا قد كان من شأنه أن يعيد إلى الحال الاقتصادية شيئًا غير قليل من التوازن؟! إنني لا أريد أن أقطع بالحكم لكني أترك الأمر لتفكير المفكر وتدبير المدبر، مع القول دائمًا بأنه متى عادت الحياة العادية فخير ما يكفل سعادة الأسرة وسعادة الأمة اقتصار الرجل على زوجة واحدة.

أما زينب بنت جحش، وما أضفى بعض الرواة وأضفى المستشرقون والمبشرون عليها من أستار الخيال حتى جعلوها قصة غرام ووله؛ فالتاريخ الصحيح يحكم بأنها من مفاخر محمد، وأنه — وهو المثل الكامل للإيمان — قد طبق فيها حديثه الذين معناه: لا يكمل إيمان المرء حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه؛ وقد جعل نفسه أول من يضرب المثل لما يضع من تشريع يمحو به تقاليد الجاهلية وعاداتها، ويقر به النظام الجديد الذي أنزل الله هدى ورحمة للعالمين.

ويكفي لهدم كل القصة التي قرأت عنها من أساسها أن زينب بنت جحش هذه هي ابنة أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله عليه السلام، وأنها ربيت بعينه وعنايته، وأنها كانت لذلك منه بمقام البنت أو الأخت الصغرى، وأنه كان يعرفها ويعرف أهي ذات مفاتن أم ليست كذلك قبل أن تتزوج زيدًا، وأنه شهدها في نموها تحبو من الطفولة إلى الصبا وإلى الشباب، وأنه هو الذي خطبها على زيد مولاه — إذا عرفت ذلك تداعت أمام نظرك كل تلك الخيالات والأقاصيص من أنه مرَّ ببيت زيد ولم يكن فيه، فرأى زينب فبهره حسنها وقال: سبحان مقلب القلوب! أو أنه لما فتح باب زيد عبث الهواء بالستار الذي على غرفة زينب، فألفاها في قميصها ممددة وكأنها «مدام رِكامييه!» فانقلب قلبه فجأة ونسي سودة وعائشة وحفصة وزينب بنت خزيمة وأم سلمة، ونسي كذلك ذكر خديجة التي كانت عائشة تقول: إنها لم تجد في نفسها غيرة من أحد من نساء النبي ما وجدت من ذكر خديجة، ولو أن شيئًا من حبها علِق بقلبه لخطبها إلى أهلها على نفسه بدل أن يخطبها على زيد. وهذه الصلة بين زينب ومحمد، وهذا التصوير الذي صوَّرناها به، لا يدعان بعدهما لتلك القصة الخيالية التي يروون أي أساس من الحق أو أي حظ في البقاء.

وماذا يُثبت التاريخ أيضًا؟ يثبت أن محمدًا خطب ابنة عمته زينب على مولاه زيد؛ فأبى أخوها عبد الله بن جحش أن تكون أخته وهي قرشية هاشمية وهي فوق ذلك ابنة عمة الرسول، تحت عبد رِق اشترته خديجة ثم أعتقه محمد، ورأى في ذلك على زينب عارًا كبيرًا. وكان ذلك عارًا حقًّا عند العرب كبيرًا. فلم تكن بنات الأشراف الشريفات ليتزوجن من موال وإن أعتقوا. لكن محمدًا يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبية وحدها، وأن يُدرك الناس جميعًا أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.٤ وهو لا يرى أن يستكره لذلك امرأة من غير أهله. فلتكن زينب بنت جحش بنت عمته هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب، وهذا الهدم لعاداتها، معرضة في ذلك عما يقول الناس عنها مما تخشى سماعه. وليكن زيد مولاه الذي تبنَّى، والذي أصبح بحكم عادات العرب وتقاليدها صاحب حق في أن يرثه كسائر أبنائه سواء، هو الذي يتزوجها فيكون مستعدًّا للتضحية التي أعد الشارع الحكيم للأدعياء الذين اتُّخذوا أبناءً. وليُبْدِ محمد إصراره على أن تقبل زينب ويقبل أخوها عبد الله بن جحش زيدًا زوجًا لها؛ ولينزل في ذلك قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا.٥

لم يبق أمام عبد الله وأخته زينب بعد نزول هذه الآية إلا الإذعان؛ فقالا: رضينا يا رسول الله، وبنى زيد بزينب بعد أن ساق النبيُّ إليها عنه مهرها. فلما سارت زينب إلى زوجها لم يسلس له قيادها ولا لان إباؤها، بل جعلت تؤذي زيدًا وتفخر عليه بنسبها وبأنها لم يجر عليها رق. واشتكى زيد إلى النبي غير مرة من سوء معاملتها إياه، واستأذنه غير مرة في تطليقها، فكان النبي يجيبه: «أمسك عليك زوجك واتق الله.» لكن زيدًا لم يطق معاشرة زينب وإباءها عليه طويلًا فطلقها.

وكأن الشارع الحكيم قد أراد أن يُبطل ما كانت تدين به العرب من التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، ومن إعطاء الدعيِّ جميع حقوق الابن، ومن إجرائهم عليه أحكامه حتى في الميراث وحرمة النسب، ولا يجعل للمتبنِّي واللصق إلا حق المولى والأخ في الدين. فنزله قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.٦ ومعنى هذا أنه يجوز للمدعي أن يتزوج ممن كان زوجًا لمن ادَّعاه، ويجوز للمتبنِّي أن يتزوج ممن كانت زوجًا لمتبنَّاه. ولكن كيف السبيل إلى تنفيذ هذا؟ ومَنْ مِنَ العرب يستطيعه وينقض به تقاليد الأجيال السالفة جميعًا؟ إن محمدًا نفسه، على قوة عزيمته وعميق إدراكه لحكمة الله في أمره، قد وجد على نفسه الغضاضة في تنفيذ هذا الحكم بأن يتزوج زينب بعد تطليق زيد إياها، ودار بخاطره ما يمكن أن يقول الناس في خرقه هذه العادة القديمة المتأصِّلة في نفوس العرب؛ وذلك ما يريده تعالى في قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ.٧
لكن محمدًا كان القدوة في كل ما أمر الله به وما ألقى عليه أن يبلغه للناس؛ فلا يخشى ما يقول الناس في تزوجه من زوج زيد مولاه، فخشية الناس ليست شيئًا إلى جانب خشية الله بتنفيذ أمره، وليتزوج من زينب ليكون قدوة فيما أبطل الشارع الحكيم من الحقوق المقررة للتبني، والادِّعاء. وفي ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا.٨

هذه رواية التاريخ الصحيح في أمر زينب بنت جحش وزواج محمد منها. فهي ابنة عمته يراها ويعرف مبلغ جمالها قبل أن تتزوج زيدًا، وهو الذي خطبها على زيد، وهو كان يراها بعد أن تزوجت زيدًا أن لم يكن الحجاب معروفًا يومئذ. على أنه كان من شأنها، بحكم صلة القرابة من ناحية، وأنها زوج دعيِّه زيد من ناحية أخرى، أن تتصل به لمصالحها ولتكرار شكوى زيد منها.

وقد نزلت هذه الأحكام جميعًا، فأيدها ما حصل من زواج زيد لزينب وتطليقه إياها وزواج محمد منها بعد ذلك؛ هذه الأحكام التي ترفع المعتق إلى مكانة الحر الشريف، والتي تُبطل حقوق الأدعياء وتقضي عليها بصورة عملية لا محل للبس ولا لتأويل بعدها. أفيبقى بعد ذلك أثر لهذه الأقاصيص التي يكرِّرها المستشرقون والمبشرون، ويرددها موير وإرفنج وسبرنجر وفيل ودرمنجم ولامنس وغيرهم ممن تناولوا كتابة حياة محمد؟! ألا إنها شهوة التبشير المكشوف تارةً والتبشير باسم العلم أخرى، والخصومة القديمة للإسلام خصومةً تأصلت في النفوس منذ الحروب الصليبية، هي التي تملي على هؤلاء جميعًا ما يكتبون وتجعلهم في أمر أزواج النبي، وفي أمر زواجه من زينب بنت جحش خاصةً، يتجنون على التاريخ، ويتلمسون أضعف الروايات فيه مما دُسَّ عليه ونُسب إليه.

ولو أن ما ذكروا كان صحيحًا، لكان في مقدورنا أن نجبهه بأن العظمة لا تخضع لقانون، وبأن موسى وعيسى ويونس من قبلُ، قد سموا فوق نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع، بعضهم بمولده، وبعضهم في حياته، فلم يطعن ذلك في عظمتهم. لكن محمدًا كان يضع سنن الاجتماع بوحي ربه، وكان ينفِّذها بأمر ربه، وكان بذلك المثل الأسمى، والأسوة الحسنة، في تنفيذ ما أمر ربه. أفكان أولئك المبشرون يريدونه على أن يطلِّق أزواجه فلا يزيد على الأربع كما شرع للمسلمين من بعد زواجه منهن جميعًا؟ وهل كانوا يومئذ يعفونه من نقدهم؟! على أن معاملة محمد لأزواجه معاملة بلغت من السمو ما رأيت شيئًا منه في حديث عمر بن الخطاب الذي سقنا، وسترى كثيرًا منه خلال فصول هذا الكتاب، ستكون المثل الناطق على أنه لم يحترم المرأة أحد ما احترمها محمد، ولم يسمُ بها إلى المكان اللائق بها ما سما محمد.

١  سورة الأحزاب آية ٣٧.
٢  سورة النساء آية ٣.
٣  سورة النساء آية ١٢٩.
٤  سورة الحجرات آية ١٣.
٥  سورة الأحزاب آية ٣٦.
٦  سورة الأحزاب آية ٤.
٧  سورة الأحزاب آية ٣٧.
٨  سورة الأحزاب آية ٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤