الفصل التاسع

بيعتا العقبة

(رد القبائل لمحمد ردًّا غير جميل – بشائر الفوز من ناحية يثرب – صلاة اليهود بالأوس والخزرج – إسلام بعض اليثربيين – وقعة بعاث – بيعة العقبة الصغرى – مصعب بن عمير – عودة مع الحاج إلى مكة بعد عام – المسلمون من يثرب – بيعة العقبة الكبرى – أنباؤها عند قريش – ائتمار قريش بمحمد كي تقتله – إذن محمد لمسلمي مكة في الهجرة إلى يثرب)

***

لم تدرك قريش معنى الإسراء، ولم يدرك كثير ممن أسلموا معناه الذي قدَّمنا؛ لذلك انصرف جماعة من هؤلاء عن متابعة محمد بعد أن اتبعوه زمنًا طويلًا. ولذلك ازدادت مساءات قريش لمحمد وللمسلمين حتى ضاقوا بها ذرعًا. ولم يبق لمحمد رجاء في نصرة القبائل إياه بعد إذ ردته ثقيف من الطائف بشرِّ جواب، وبعد إذ ردته كندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة لما عرض نفسه عليهم في موسم الحج. وشعر محمد بعد ذلك كله بأنه لم يبق له مطمع في أن يهدي إلى الحق من قريش أحدًا. ورأت غير قريش — من القبائل التي تجاور مكة والتي تجيء من مختلف أنحاء بلاد العرب حاجة إليها — ما صار إليه من عزلة، وما أحاطته به قريش من عداوة تجعل كل نصير له عدوًّا لها وعونًا عليها، فازدادت إعراضًا عنه. ومع اعتزاز محمد بحمزة وعمر، ومع طمأنينته إلى أن قريشًا لن تنال منه أكثر مما نالت لمنعته بقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب، لقد رأى رسالة ربه تقف في دائرة من اتبعه إلى يومئذ ممن يوشكون لقلتهم ولضعفهم أن يبيدوا أو أن يُفتنوا عن دينهم إذا لم يأتهم نصر الله والفتح. وتطاولت الأيام بمحمد وهو يزداد بين قومه عزلة وقريش تزداد عليه حقدًا. فهل ضعضعت هذه العزلة من نفسه أو أوهنت له عزمًا؟!

كلا! بل زاده الإيمان بالحق الذي جاءه من ربه سموًّا على هذه الاعتبارات التي تفت في عضد ذوي النفوس العادية، ولا تزيد أصحاب النفوس الممتازة إلا سموًّا وإيمانًا. وظل محمد، وأصحابه من حوله، أشد ما يكون في عزلته ثقةً بنصر الله له وإعلاء دينه على الدين كله. لم تزعزع منه أعاصير الحقد، بل جعل يقيم بمكة طوال عامه لا يعنيه أن ذهب مال خديجة وماله، ولا يضعضع من نفسه ضيق ذات يده، ولا يتطلع بروحه إلى شيء غير هذا النصر الذي لا ريب عنده في أن الله مؤتيه إياه. فإذا جاء موسم الحج واجتمع الناس من أنحاء شبه الجزيرة بمكة، بادأ القبائل فدعاها إلى الحق الذي جاء به، غير آبه أن تُبدي هذه القبائل الرغبة عن دعوته والإعراض عنه، أو ترده ردًّا غير جميل. ويتحرش به بعض سفهاء قريش حين إبلاغه الناس رسالة ربه وينالونه بالسوء، فلا تغير مساءاتهم رضا نفسه وطمأنينتها إلى غده. إن الله ذا الجلال قد بعثه بالحق، فهو لا ريب ناصر هذا الحق ومؤيده. وهو قد أوحي إليه أن يجادل الناس بالتي هي أحسن، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ،١ وأن يقول لهم قولًا لينًا لعلهم يذكرون أو يخشون. فليصبر على أذاهم، إن الله مع الصابرين.

ولم يطل بمحمد الانتظار أكثر من بضع سنين حتى بدت له في الأفق تباشير الفوز آتية طلائعها من ناحية يثرب. ولمحمد بيثرب علاقة غير علاقة التجارة؛ له بها علاقة قُربى، وله فيها قبر كانت أمه تحج إليه قبل موتها في كل عام مرة، أما ذوو قرباه فأولئك بنو النجار أخوال جده عبد المطلب. وأما ذلك القبر فقبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب. إلى هذا القبر كانت تحج آمنة الزوج الوفية، وكان يحج عبد المطلب الأب الذي فقد ابنه وهو في شرخ شبابه وريعان قوته. وقد صحب محمد أمه إلى يثرب في السادسة من عمره، فزار معها قبر أبيه ثم قفلا عائدين، فمرضت آمنة في الطريق وماتت ودُفنت بالأبواء في منتصف الطريق بين يثرب ومكة. فلا عجب أن تبدأ تباشير الفوز لمحمد من ناحية بلد له به هذه الصلة وإلى ناحيته كان يتجه حين يصلي جاعلًا قبلته المسجد الأقصى ببيت المقدس، مقام سلفيه موسى وعيسى، ولا عجب أن تهيئ المقادير ليثرب هذا الحظ ليتم لمحمد بها النصر، وللإسلام بها الفوز والانتشار.

هيأت المقادير ليثرب هذا الحظ بما لم تهيئه لبلد آخر. فقد كان الأوس والخزرج من عباد الأوثان بيثرب يجاورون يهودها جوارًا كثيرًا ما شابته البغضاء وما تعدى البغضاء إلى القتال. وإن التاريخ ليروي أن المسيحيين في الشام، ممن كانوا يتبعون الدولة الرومانية الشرقية، وكان يمقتون اليهود أشد المقت لاعتقادهم أنهم هم الذين صلبوا المسيح ونكلوا به، قد أغاروا على يثرب ليقتلوا يهودها. فلما لم يظفروا بهم استعانوا بالأوس والخزرج على استدراجهم، ثم قتلوا عددًا منهم غير قليل. وأنزل ذلك اليهود عن مكان السيادة الذي كان لهم، ورفع عرب الأوس والخزرج إلى مكانة غير مكانة العمال التي كانوا مقصورين من قبل عليها. وقد حاول العرب بعد ذلك أن يُوقعوا باليهود مرة أخرى ليزدادوا في المدينة العامرة بالزراعة والماء سلطانًا، فنجحوا في كيدهم بعض النجاح، ثم فطن اليهود لوقيعتهم بهم. بذلك تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس يهود يثرب لأوسها وخزرجها، وفي نفوس الأوس والخزرج لليهود. ورأى أتباع موسى أن مقابلة القتال بالقتال قد تهوي بهم إلى الفناء إذا وجد الأوس والخزرج حلفًا من بني دينهم العرب على أهل الكتاب هؤلاء، فسلكوا في سياستهم خطة غير خطة الغلب في المعارك. لجئوا إلى سياسة الوقيعة والتفريق، بأن دسوا بين الأوس والخزرج وأغروا بينهم بالعداوة والبغضاء حتى جعلوا كل فريق على أهبة مستمرة للقتل والقتال. بذلك أمن اليهود عدوانهم، وجعلوا يزيدون في تجارتهم وفي ثروتهم ويستعيدون ما فقدوا من سيادة ويستردون ما أضاعوا من دار ومن عقار.

كان لجوار اليهود والعرب بيثرب — فيما خلا هذا النزاع على السيادة والسلطان — أثر آخر أعمق عند الأوس والخزرج مما كان عند سائر أهل جزيرة العرب؛ ذلك هو الأثر الروحي. فقد كان اليهود — وهم أهل كتاب ودعاة وحدانية — يعيبون على جيرانهم الوثنيين اتخاذهم الأوثان زلفى إلى الله، وينذرونهم بعث نبي يقضي عليهم ويشايع اليهود. ولم تصل هذه الدعوة إلى تهويد العرب لسببين: أحدهما أن ما كان بين النصرانية واليهودية من حرب جعل يهود يثرب لا يطمعون في أكثر من السلامة التي تهيئ لهم سعة التجارة. والآخر أن اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار. ولا يرضون أن تكون لشعب غيرهم هذه المكانة، وهم لذلك لا يدعون لدينهم ولا يرضونه يخرج من بني إسرائيل. وعلى الرغم من قيام هذين السببين هيأ اتصال الجوار والتجارة، بين اليهود والعرب أوس يثرب وخزرجها ليكونوا أكثر استماعًا للحديث في الشئون الروحية وفي سائر شئون الدين من غيرهم من العرب. يدلك على ذلك أن العرب لم تستجب لدعوة محمد الروحية مثلما استجاب أهل يثرب.

كان سُويد بن الصامت من كبار أشراف يثرب، حتى كان قومه يسمونه الكامل، لجَلَدِه وشِعْرِه وشرفه ونسبه. وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها قدم سويد مكة حاجًّا، فتصدى له محمد فدعاه إلى الله وإلى الإسلام. فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي! قال محمد: وما الذي معك؟ قال: حكمة لقمان. فطلب إليه محمد أن يعرضها عليه فعرضها؛ فقال له محمد: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل؛ هو قرآن أنزله الله عليَّ هدًى ونورًا. وتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام. فطاب سويد نفسًا بما سمع وقال: هذا حسن. وانصرف يفكر فيه. وإنَّ قومًا ليقولون حين قتلته الخزرج: إنه مات مسلمًا.

وليس سويد بن الصامت هو المثل الوحيد الذي يدل على أثر تجاور اليهود والعرب بيثرب من الناحية الروحية. فقد كان بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثَّ اليهودُ ما علمت، وكان كل منهم يلتمس الحلف من قبائل العرب ليقاتل الآخر. وكان من ذلك أن قدِم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج. وسمع بهم محمد، فأتاهم فجلس إليهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدثًا: أي قوم! هذا والله خير مما جئتم فيه. وعاد القوم إلى يثرب لم يُسلم منهم غير إياس؛ لأنهم كانوا في شغل بالتماس الحلف استعدادًا لوقعة بُعاث التي اصطلى الأوس والخزرج جميعًا بنارها بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى مكة. لكن كلام محمد ترك في نفوسهم بعد هذه الوقعة من الأثر ما دعا الأوس والخزرج جميعًا ليلتمسوا في محمد نبيًّا ورسولًا وحليفًا وإمامًا.

كانت وقعة بعاث بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى يثرب، واقتتل فيها الأوس والخزرج قتالًا شديدًا أملته عداوة متأصلة، حتى لكان كل قوم يتساءلون إذا هم انتصروا: أيبقون على أصحابهم، أم يستأصلونهم ويُجهزون عليهم. وكان أبو أسيد حُضير الكتائب على رأس الأوس، وكان في نفسه من الحقد على الخزرج أشدُّه. فلما بدأ القتال دارت على الأوس الدائرة، فولوا فرارًا نحو نجد، فعيَّرتهم الخزرج. فلما سمع حُضير تعييرهم طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: واعقراه! والله لا أريم حتى أقتل! فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا فعاد الأوس للقتال وبهم من الألم مما أصابهم ما جعلهم يستبسلون مستيئسين، فيهزمون الخزرج شر هزيمة. وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، حتى أجارها سعد بن معاذ الأشهلي. وأراد حُضير أن يأتي الخزرج قصرًا قصرًا، ودارًا دارًا، يقتل ويهدم لا يُبقي منهم أحدًا، لولا أن منعه أبو قيس بن الأسلت إبقاءً على بني دينهم؛ «فجوارهم خير من جوار الثعالب.»

واستعادت اليهود بعد هذا اليوم مكانتها بيثرب. ورأى المنتصر والمهزوم من الأوس والخزرج جميعًا سوء ما صنعوا، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم. واختاروا لذلك عبد الله بن محمد من الخزرج المهزومة لمكانته وحسن رأيه. لكن تطور الأحوال تطورًا سريعًا حال دون ما أرادوا؛ ذلك أن نفرًا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد فسألهم عن شأنهم وعرف أنهم من موالي اليهود. وقد كان اليهود بيثرب يقولون لهم إذا اختلفوا وإياهم: إن نبيًّا مبعوثًا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم النبي أولئك النفر ودعاهم إلى الله، نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. وأجابوا محمدًا إلى دعوته وأسلموا، وقالوا له: «إنا قد تركنا قومنا — أي الأوس والخزرج — ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء النفر إلى المدينة، ومن بينهم اثنان من بني النجار أخوال عبد المطلب جد محمد الذي كفله منذ مولده، فذكروا لقومهم إسلامهم، فألفوا قلوبًا منشرحة ونفوسًا متلهفة لدين يجعلهم موحدين كاليهود، بل يجعلهم خيرًا منهم، فلم تبق دار من دور الأوس والخزرج جميعًا إلا فيها ذكر محمد عليه السلام.

فلما استدار العام وعادت الأشهر الحرم وجاء موعد الحج لمكة، أتى الموسم اثنا عشر رجلًا من أهل يثرب فالتقوا هم والنبي بالعقبة، فبايعوه بيعة العقبة الأولى. بايعوه على ألا يشرك أحدهم بالله شيئًا، ولا يسرق ولا يزني، ولا يقتل أولاده ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ولا رجليه ولا يعصيه في معروف، فإن وفى ذلك فله الجنة، وإن غشي من ذلك شيئًا فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وأنفذ محمد معهم مصعب بن عمير يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين. ازداد الإسلام بعد هذه البيعة بيثرب انتشارًا. وأقام مصعب بين المسلمين من الأوس والخزرج يعلمهم دينهم، ويرى مغتبطًا ازدياد الأنصار لأمر الله ولكلمة الحق. فلما آذنت الأشهر الحرم أن تعود، لحق بمكة وقصَّ على محمد خبر المسلمين بالمدينة، وما هم عليه من منعة وقوة، وأنهم سيجيئون إلى مكة موسم حج هذا العام الجديد أكثر عددًا وأعظم بالله إيمانًا.

دعت أخبار مصعب محمدًا أن يفكر في الأمر طويلًا. ها هم أولاء أتباعه بيثرب يزدادون كل يوم عددًا وسلطانًا، ولا يجدون من أذى اليهود ولا من أذى المشركين ما يجد زملاؤهم بمكة من أذى قريش. وها هي ذي يثرب بها من الرخاء أكثر مما بمكة، بها زرع ونخيل وأعناب. أوليس من الخير أن يهاجر المسلمون المكيون إلى إخوانهم هناك ليجدوا عندهم أمنًا، وليسلموا من فتنة قريش إياهم عن دينهم؟! وذكر محمد أثناء تفكيره أولئك النفر من يثرب الذين كانوا أول من أسلم، والذين ذكروا ما بين الأوس والخزرج من عداوة، أنهم إذا جمعهم الله به فلا رجل أعز منه. أوليس من الخير، وقد جمعهم الله به، أن يهاجر هو أيضًا؟! إنه لا يحب أن يرد على قريش مساءاتها وهو يعلم أنه أضعف منها، وأن بني هاشم وبني المطلب إن منعوه من الاعتداء عليه فلن ينصروه معتديًا، ولن يمنعوا الذين اتبعوه من اعتداء قريش عليهم ومن إصابتها إياهم بأنواع المساءة. وإذا كان الإيمان أقوى سند يجعلنا نستهين بكل شيء ونضحي عن طيب خاطر في سبيله بالمال والراحة والحرية والحياة، وإذا كان الأذى من طبعه أن يزيد الإيمان استعارًا، فإن في استمرار الأذى والتضحية ما يشغل المؤمن عن دقة التأمل التي تزيد في أفق المؤمن سعة، وفي إدراكه قوةً وعمقًا. وقد أمر محمد الذين اتبعوه من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة المسيحية أن كانت بلاد صدق، وكان بها ملك لا يُظلَم عنده أحد؛ فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب وأن يتقووا بأصحابهم المسلمين فيها، وأن يتآزروا بذلك على دفع ما يمكن أن يصيبهم من شرٍّ؛ ليكون لهم بذلك من الحرية في تأمل دينهم والجهر به ما يكفل إعلاء كلمته، كما يكفل نجاح الدعوة إليه؛ دعوة لا تعرف الإكراه، بل أساسها الرفق والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن.

وكان الحاج من يثرب في هذه السنة — سنة ٦٢٢ ميلادية — كثيرين بالفعل، وكان من بينهم خمسة وسبعون مسلمًا، منهم ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان. فلما عرف محمد مَقْدَمَهم، فكر في بيعة ثانية لا تقف عند الدعوة إلى الإسلام على نحو ما ظل هو يدعو إليه ثلاث عشرة سنة متتابعة في رفق وهوادة مع احتمال صنوف التضحية والألم جميعًا، بل تمتد إلى ما وراء ذلك، وتكون حلفًا يدفع به هؤلاء المسلمون عن أنفسهم الأذى بالأذى والعدوان بالعدوان. واتصل محمد سرًّا بزعمائهم وعرف حسن استعدادهم، فواعدهم أن يلتقوا معه عند العقبة جوف الليل في أوسط أيام التشريق. وكتم مسلمو يثرب من معهم من المشركين أمرهم، وانتظروا حتى إذا مضى ثلث الليل من يوم موعدهم مع النبيِّ خرجوا من رحالهم يتسللون تسلل القَطَا مستخفين حذر أن ينكشف سرهم. فلما كانوا عند العقبة تسلقوا الشعب جميعًا وتسلقت المرأتان معهم، وأقاموا ينتظرون مقدم صاحب الرسالة.

وأقبل محمد ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان ما يزال على دين قومه، لكنه عرف من قبلُ من ابن أخيه أن في الأمر حلفًا، وأن الأمر قد يجر إلى حرب، وذكر أنه قد تعاهد مع من تعاهد من بني المطلب وبني هاشم أن يمنعوا محمدًا، فليستوثق لابن أخيه ولقومه حتى لا تكون كارثة يصلى بنو هاشم وبنو المطلب نارها، ثم لا يجدون من هؤلاء اليثربيين نصيرًا. لذلك كان العباس أول من تكلم فقال: يا معشر الخزرج! إن محمدًا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه. فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه.

قال اليثربيون — وقد سمعوا كلام العباس: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فأجاب محمد بعد أن تلا القرآن ورغَّب في الإسلام: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

وكان البراء بن معرور سيد قومه وكبيرهم، وكان قد أسلم بعد العقبة الأولى وقام بكل ما يفرض الإسلام، إلا أنه جعل قبلة صلاته الكعبة، وكان محمد والمسلمون جميعًا يومئذ ما تزال قبلتهم المسجد الأقصى. ولما اختلف هو وقومه واحتكموا إلى النبي أول وصولهم إلى مكة، رد محمد البراء عن اتخاذ الكعبة قبلته. فلما طلب محمد إلى مسلمي يثرب أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، مد البراء يده على ذلك وقال: بايعنا يا رسول الله! فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر.

وقبل أن يتم البراء كلامه اعترض أبو الهيثم بن التَّيِّهان قائلًا: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال — أي اليهود — حبالًا،٢ نحن قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم٣ أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. وهمَّ القوم بالبيعة، فاعترضهم العباس بن عُبادة قائلًا: يا معشر الخزرج! أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلًا أسلمتموه فمن الآن فدعوه؛ فهو والله إن فعلتم خِزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخرة.

فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ ورد عليهم محمد مطمئن النفس قائلًا: الجنة.

مدوا إليهم أيديهم، فبسط يده فبايعوه، فلما فرغوا من البيعة قال لهم النبي: أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء. فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فقال النبي لهؤلاء النقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي. وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: بايعنا على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

تم ذلك كله جوف الليل في شعب العقبة في عزلة من الناس والقوم على ثقة من أنه لا يطَّلع عليهم إلا الله، لكنهم ما كادوا يُتمونه حتى سمعوا صوتًا يصيح بقريش: إن محمد والصباء٤ معه قد اجتمعوا على حربكم ذلك رجل خرج لبعض شأنه، فعرف من أمر القوم قليلًا اتصل بسمعه، فأراد أن يُفسد عليهم تدبيرهم، وأن يُدخل في روعهم أن ما بيتوا بليل افتضح، لكن الخزرج والأوس كانوا عند عهدهم، حتى لقد قال العباس بن عُبادة لمحمد بعد أن سمع هذا المتجسس: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا!» فكان جواب محمد أن قال: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.» فرجعوا إلى مضاجعهم وناموا حتى أيقظهم الصبح.

على أن الصبح ما كاد يتنفس حتى علمت قريش بنبأ هذه البيعة فانزعجت. وغدت جِلتها على الخزرج في منازلهم يعاتبونهم ويقولون لهم: إنهم لا يريدون حربهم، فما بالهم يحالفون محمدًا على قتالهم؟! وانبعث المشركون من الخزرج يحلفون بالله ما كان من هذا شيء. أما المسلمون فاعتصموا بالصمت حين رأوا قريشًا مالت لتصديق شركائها في الدين، وعادت قريش لا تؤكد الخبر ولا تنفيه، وأخذت تتنطسه علها تقف على جليَّة الأمر فيه. واحتمل أهل يثرب رحالهم وعادوا قاصدين بلدهم قبل أن تثق قريش بشيء مما حصل. فلما عرفت أن الخبر حق، وخرجت تطلب أهل يثرب، فلم تلحق منهم إلا بسعد بن عبادة، فأخذوه وردوه إلى مكة وعذبوه حتى أجاره جُبير بن مطعم بن عدي والحارث بن أمية؛ لأنه كان يجير لهما من يخرجون في تجارتهما إلى الشام حين مرورهم بيثرب.

لم تُبالغ قريش قط في فزعها ولا في تتبعها الذين بايعوا محمدًا على قتالها؛ فقد عرفته ثلاث عشرة سنة متتابعة منذ بدء نبوته، ووقفت من الجهود للحرب السلبية التي أعلنت عليه ما جهدها وجهده، ونال منها ونال منه. عرفت ذلك القوي بالله المستمسك برسالة الحق لا يلين فيها ولا يُداجي، ولا يخاف فيها أذى ولا مساءة ولا قتلًا. وقد خُيل إلى قريش بعد أن أرهقته ومن معه بألوان الأذى، وبعد أن حاصرته في الشعب؛ وبعد أن أدخلت على أنفس أهل مكة جميعًا من الروع ما صدهم عن اتباعه، أنها توشك أن تظفر به، وأن تحصر نشاطه في الدائرة الضيقة من الأتباع الذين ظلوا على دينه، وأنه ومن معه لا يلبثون إلا قليلًا حتى تضنيهم العزلة فيعودوا إلى حكمها طائعين. أما اليوم وإزاء هذا الحلف الجديد، فقد انفتح أمام محمد والذين معه باب الرجاء في الغلب، أو على الأقل باب الرجاء في حرية الدعوة إلى عقيدتهم، والطعن على الأصنام وعُبَّادها.

ومن يدري ما يكون أمر القوم من بعد ذلك في شبه جزيرة العرب كلها وقد نصرتهم يثرب بأوسها وخزرجها، وقد جعلتهم بمأمن من العدوان، وفسحت لهم حرية القيام بفرائض دينهم ودعوة غيرهم إلى الانضمام إليهم؟! فإذا لم تقض قريش على هذه الحركة في مهدها فالخوف من المستقبل لن يزال يساورها وفوز محمد عليها لن يزال يقض مضجعها.

لذلك أمعنت تفكر فيما تفعل لتحبط ما قام به محمد، ولتقضي على هذه الحركة الجديدة. ولم يكن هو من ناحيته أقل من قريش تفكيرًا؛ إن هذا الباب الذي فتح الله أمامه هو باب العزة لدين الله، والسمو لكلمة الحق. فالمعركة الناشبة اليوم بينه وبين قريش هي أشد ما وقع منذ بعثه، وهي معركة حياة أو موت بالنسبة له ولها، والغلب لا ريب للصادقين. فليُجمع أمره، وليستعن بالله وليكن لما تكيد قريش أشد ازدراء مما كان في كل ما سلف، وليُقدِم ولكن في حكمة وأناة ودقة؛ فالموقف موقف حنكة السياسي والقائد الدقيق المداورة.

وأمر أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم. وبدأ المسلمون يهاجرون فرادى أو نفرًا قليلًا. لكن قريشًا فطنت للأمر، فحاولت أن ترد كل من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به. وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إذا كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من تستطيع حبسه ممن لم يطعها. لكنها لم تكن تقدر على أكثر من ذلك، حتى لا تكون حرب أهلية بين مختلف قبائلها إذا هي همت بقتل واحد من أهل هذه القبائل. وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد مقيم حيث هو، لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرر الهجرة. وما كانوا ليعرفوا وقد أذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة من قبل وظل هو بمكة يدعو سائر أهلها إلى الإسلام. وبلغ من ذلك أن أبا بكر استأذنه في الهجرة إلى يثرب، فقال له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا، ولم يزد على ذلك.

على أن قريشًا كانت تحسب لهجرة النبي إلى يثرب ألف حساب. لقد كثر المسلمون فيها كثرة جعلتهم يكادون يكونون أصحاب اليد العليا. وها هم أولاء المهاجرون من مكة ينضمون إليهم فيزيدونهم قوةً. فإذا لحق محمد بهم — وهو على ما يعرفون من ثبات وحسن رأي وبُعد نظر — خشوا على أنفسهم أن يدهم اليثربيون مكة أو يقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، وأن يجيعوها كما حاولوا هم أن يجيعوا محمدًا وأصحابه حين وضعوا الصحيفة بمقاطعتهم وأكرهوهم على أن يلزموا الشعب وأن يقضوا فيه ثلاثين شهرًا.

وإذا بقي محمد بمكة وحاول الخروج منها، فهم معرضون لمثل هذا الأذى من جانب اليثربيين دفاعًا عن نبيهم ورسولهم. فلم يبق إلا أن يقتلوه ليستريحوا من كل هذا الهم الواصب.٥ لكنهم إن قتلوه طالب بنو هاشم وبنو المطلب بدمه وأوشكت الحرب الأهلية أن تفشو في مكة فتكون شرًّا عليها مما يخشونه من ناحية يثرب. واجتمع القوم بدار الندوة يفكرون في هذا كله وفي وسيلة اتقائه. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله؛ زهيرًا والنابغة ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم. لكن هذا الرأي لم يلق سميعًا. وقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ثم لا نبالي بعد ذلك من أمره شيئًا. لكنهم خافوا أن يلحق بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرَقون منه. وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتًى شابًّا جليدًا، وأن يُعطوا كل فتًى سيفًا صارمًا بتارًا فيضربوه جميعًا ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعًا، فيرضوا فيه بالدية، وتستريح قريش من هذا الذي بدد شملها وفرق قبائلها شيعًا. وأعجبهم هذا الرأي فاطمأنوا إليه، واختاروا فتيانهم، وباتوا يحسبون أن أمر محمد قد فرغ منه، وأنه بعد أيام سيُوارَى وتُوارى دعوته في التراب، وسيعود الذين هاجروا إلى يثرب إلى قومهم وإلى دينهم وآلهتهم، وتعود بذلك لقريش ولبلاد العرب وحدتها التي تمزقت ومكانتها التي تضعضعت أو كادت.
١  سورة فصلت آية ٣٤.
٢  الحبال: العهود.
٣  الهدم (بالسكون وبالتحريك): إهدار دم القتيل. يريد إن طلب دمكم فقد طلب دمي وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمي، لاستحكام الألفة بيننا. وهو قول معروف للعرب يقولون: دمي دمك وهدمي هدمك؛ وذلك عند المعاهدة والنصرة.
٤  جمع صابئ، وهو الخارج على دين قومه وجماعته.
٥  الواصب: الدائم الثابت أو الموجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤