العناية الإلهية وتاريخ الإنسان

هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟

هذا سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاهًا يتوخاه على نهج مرسوم؟

شيء يتعلق بالإنسان الفرد.

وشيء يتعلق بالناس كافة، أو بالإنسانية جمعاء.

فالشيء الذي يتعلق باتجاه الإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة.

والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.

وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.

وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية، وارتقاء المعاملات التجارية، وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.

هذا وذاك هما الوجهة المعقولة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.

وهذا وذاك هما في الواقع سبيل الاتجاه الوحيد الذي يطَّرد في حوادث التاريخ.

فكان الإنسان الفرد قبل نشأة القبيلة هملًا مستباحًا، لا يُحفظ له حق، ولا يُفرض عليه واجب، ولا ينال من الحرية إلا ما يغفل عنه المعتدون عليه.

ثم نشأت القبيلة فنشأ معها للفرد نوع من الضمان، ولكنه ضمان شائع لا يستقل فيه بحرية ولا بتبعة، فيؤخذ بذنب غيره في الثأر والمغرم، ويقاسمه غيره فيما يغنمه ويستولي عليه، فهو رقم متكرر وليس بكمٍّ مستقل في الحساب.

ثم نشأت الأمم فازداد نصيبه من الحرية كما ازداد نصيبه من التبعة، وأصبح المقياس الوحيد لارتقاء الأمة هو مقدار حظ الفرد فيها من الحريات والتبعات.

فليس لارتقاء الأمة علامة أصدق من هذه العلامة: وهي حريات الفرد وتباعته، بل ليس للارتقاء عامة علامة غيرها يطَّرد بها القياس في جميع الأمور، أو كما قلنا في كتابنا «هتلر في الميزان» إن: «مقاييس التقدم كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال، فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشامخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياسًا واحدًا لا يقع فيه الاختلاف والاختلال: وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة، فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل …»

تلك هي وجهة التاريخ المطردة في حالة الإنسان الفرد حيث كان.

أما وجهته في حالة الإنسانية كلها فالاتجاه إلى التقارب بينها مطَّرد متعاقب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.

ونحن الآن في عصر يُلمسنا هذا التقارب في كل علاقة من علاقات العالم المعمور: في المواصلات، وفي المعاملات، وفي الروابط السياسية، وفي نقل المعلومات وإذاعة الأخبار، وفي هذا التضامن التام الذي يجعل الأزمة في ناحية من الأرض أزمة قريبة يحس بها أبعد الأمم من تلك الناحية، أو يجعل القوي مهتمًّا بموقف الضعيف منه مهما يكن من اعتزازه بالسطوة والثراء.

ولم تكن الحروب ولا المطامع حائلًا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان والفرس والعرب والصليبيين والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية من الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا وأوروبة وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.

وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعًا، لولا ضرورات الحروب واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟

بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الفاتحة لا تدوم إلا بمقدار ما يكون لدوامها من رسالة عالمية.

فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية، واستلزم التحول في أطوار الأمم واتساع مجالها رسالةً عالميةً أخرى على غير ذلك النظام.

•••

ولنبحث عن دلائل هذا الاتجاه في تاريخ الإقليم الذي نتكلم في هذا الكتاب عن بطل من أبطاله: وهو الإقليم الهندي، أو الأقاليم الهندية على التعبير الصحيح.

فقد كانت حروب الاستعمار الأوروبي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها، ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.

لم تكن الهند قط وطنًا واحدًا في عصر من العصور.

لأنها كانت تتألف من شتى العناصر وشتى المذاهب، وشتى اللغات، وشتى المصالح، وشتى المواقع الجغرافية.

فلم تدافع قط دفاعًا واحدًا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها.

فلما ابتليت باستعمار واحد طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها، وجد فيها «وطن واحد»، يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.

وولدت الهند مولدًا جديدًا في التاريخ.

وزال الاستعمار أو كاد، وبقيت الهند الجديدة، وبقيت معها علاقات يشتبك فيها الشرق والغرب، وتنتظم في الوحدة الإنسانية على نحو لم تعهده ولم تحلم به قبل محنة الاستعمار.

•••

إذا كان اتجاه التاريخ المعقول هو الاتجاه الذي تنتهي إليه الحوادث في حياة الفرد وحياة الإنسانية عامة.

وكان هذا الاتجاه مما تلتقي عليه عوامل الوفاق وعوامل الشقاق، ويتوافى عنده ما يراد وما لا يراد.

فمن عمل المؤرخ الباحث، لا من عمل المتدين المؤمن فحسب، أن يفهم للتاريخ معنى غير معنى المصادفة العمياء، وأن يرى للعالم مصيرًا مقدورًا يمضي إلى غاية هذا الاتجاه حيث تهديه عناية الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤