حارس «باريس» … هل هو واحد منهم؟

يقع ملهى «النجمة» في شارع «دوبريه»، وهو شارع صغير متفرِّع من شارع «سان ميشيل» قرب نهايته، وهو عبارة عن مبنًى قديم تعرَّض للقصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، عندما هاجم الألمان فرنسا، ويقال إنه ظلَّ يعمل دون أن توقفه غارات الطيران، ولا جيوش الاحتلال، وهو مشهور بما يقدِّمه من استعراضات صاخبة، ويقصده السياح من كل بلاد الدنيا، إلا أنَّ الغريب أن ترى فيه فرنسيًّا واحدًا، إن الفرنسي الوحيد الذي يسهر فيه هو «كوزان»؛ ولذلك فعندما ظهر عند باب الملهى أحنى الرجل الواقف على الباب رأسه مُحيِّيًا في احترام ظاهر، كان «كوزان» عريض الكتفَين كأنه مصارع قديم، مفتول الذراعَين، حاد النظرات، أنيقًا إلى حدٍّ ما، يترك شعره مهوشًا، وكأنه قد خرج من معركة منذ دقائق.

دخل في خطًى ثابتة، وقطع الممرَّ الطويل الذي يؤدِّي إلى الصالة، كان صوت الصخب الداخلي يتجاوز الباب إلى الممر … فوقف «كوزان» عند الباب، وألقى نظرةً طويلةً شملت الصالة كلها، وكأنه يبحث عن أحدٍ ما، وظلَّ واقفًا في مكانه بعض الوقت، وكأنه لم يتخذ قرارًا بالسهر هذه الليلة، إلا أن صوت عصًا تدق الأرض جعله ينظر في اتجاه الصوت … ثم يبتسم فيما يُشبه السخرية؛ فقد رأى كهلًا يدق الأرض بعصاه، وبجواره شاب ذو شارب ولحية، يقتربان من الباب، وعندما أصبحا قريبَين منه قال العجوز بلهجة تبدو وكأنه أمريكي: هل بدأَت السهرة إذن؟!

أجاب «كوزان» وهو يبتسم: ليس بعدُ يا والدي.

ابتسم العجوز الذي لم يكُن سوى «أحمد» وقال بصوت كهل: لعل السهرة تكون طيبة. لم يَرُدَّ «كوزان»، فتقدَّم «أحمد» و«خالد» ودخلا الصالة، كانت مزدحمةً بما يكفي؛ فلم يتقدَّما داخلها؛ فقد ظلَّا قريبَين من الباب.

همس «أحمد»: لعله لا يدخل.

مرَّ بعض الوقت، ثم ظهر «كوزان»، أخذ طريقه إلى منضدة قريبة من «البيست»، يبدو أنها محجوزة له، ثم جلس بمفرده. كانت جِلسته في مكان يسمح ﻟ «أحمد» برؤيته جيدًا؛ فقد كان يجلس هو و«خالد» في منتصف الصالة تقريبًا. لم تمرَّ لحظات حتى بدأ استعراض ضخم جعل الصالة تضج بالتصفيق، في نفس الوقت مال «أحمد» نحو «خالد» وقال: ينبغي أن نعرف أخبار «لوكاتس» المزعوم!

أسرع «خالد» بمغادرة الصالة، وظلَّ «أحمد» يرقب «كوزان» الذي أخذ يُصفِّق مع الموسيقى. اقترب الجرسون من «أحمد» وانحنى مبتسمًا يسأله ماذا يشرب، ردَّ «أحمد» بابتسامة وقال: قهوة باللبن!

ابتسم الجرسون وانصرف، وألقى «أحمد» نظرةً سريعةً في اتجاه «كوزان»، فلم يجِده وحده، كان هناك اثنان قد انضمَّا إليه، فكَّر «أحمد» بسرعة: هل «كوزان» يعمل لحساب عصابة ما؟ وهل عاد مرةً أخرى ليُصبح جاسوسًا على رقم «صفر» والشياطين اﻟ «١٣»؟!

عاد «خالد» بسرعة، وأخبر «أحمد» أنه أرسل رسالةً إلى «فهد» الذي ردَّ بأنهما يتتبَّعانه …

نقل «أحمد» أفكاره إلى «خالد» الذي أسرع يرقب «كوزان». كان الثلاثة يتحادثون وقد اقتربت رءوسهم.

وهمس «أحمد»: إنها فكرة عادية ليهرب من الرقابة … فيستغل الملهى في لقاءاته. صمت قليلًا، ثم قال: أخشى أن ينصرف أحدهم دون أن نراقبه، ومن المؤكَّد أن الاثنَين سينصرفان وحدهما.

كان «أحمد» يفكِّر بسرعة؛ فقد رأى الآخرَين يتركان «كوزان» وينصرفان.

هَمَّ «خالد» بالخروج خلفهما.

إلا أن «أحمد» جذبه من يده، وهمس: دعهما؛ إن «كوزان» أهم!

كان الصخب قد ارتفع في الملهى بطريقة لم يَعُد معها من الممكن أن يظلا في مكانهما، قال «أحمد»: هيَّا بنا!

انصرفا، وقبل أن يتركا الصالة لمح «أحمد» بطرف عينه «كوزان»، وهو يدق المنضدة بيده سعيدًا. خرجا من الملهى، كان يبدو الهدوء يغمر الشارع، حتى إن «أحمد» تنفَّس بعمق وهو يقول: جو فاسد … ذلك المكان الذي اسمه «النجمة»!

سارا في هدوء، وقال «خالد»: ينبغي أن تتخلَّص من الماكياج، قبل دخول الأوتيل.

وبسرعة في أحد الشوارع الجانبية تخلَّصا من الماكياج وأخذا طريقهما إلى الأوتيل. كانت مدام «ماريان» غير موجودة، غير أن الحارس الليلي كان ساهرًا، وابتسم لهما فألقيا إليه تحية المساء، ثم صعِدا إلى حجرتَيهما مباشرة … وفي حجرة «أحمد» قال: ينبغي أن نعرف أين «فهد» و«قيس»! وأخرج جهاز الإرسال الصغير، ثم أرسل رسالةً سريعةً إلى الشياطين.

بعد لحظة، جاءه الرد: «إننا نقترب من الهدف!» لم يفهَم «أحمد» جيدًا معنى الرسالة، وعندما نقلها إلى «خالد» قال: لا بد أنهما حقَّقا تقدُّمًا ما، وإلا كانت الرسالة قد اختلفت!

صمت «أحمد»، وكان غارقًا في تفكيره، حتى إن «خالد» قال: هل تشغلك الرسالة؟ فنظر له «أحمد» قليلًا، ثم قال: لا، إنني أفكِّر في «كوزان»؛ فمن الواضح أنه على اتصال ما. إن المسألة تحتاج إلى خداع.

ظهر التساؤل على وجه «خالد»، فأكمل «أحمد»: إن «كوزان» رجل ذكي بما يكفي، ولا بد أن نلعب أمامه بطريقة ذكية حتى لا نكشف أنفسنا. لقد رأيناه الليلة، وعندما يعود «فهد» و«قيس» تكون الصورة كاملةً أمامنا، وساعتها سوف نقرِّر خطة الهجوم.

صمت «خالد»، ومن بعيد سمعا دقات الساعة، كانت تُعلن الحادية عشرة مساءً، لم يكن يقطع صمت الليل سوى مرور سيارة سريعة، فقال «خالد»: تعجبني «باريس» في هدوئها، إننا لم نسمع كلاكس سيارة منذ وصلنا!

أصاخا السمع، كان صوت اهتزاز السُّلم ينبئ عن أن أحدًا في الطريق إلى الأدوار العليا، فقال «أحمد»: إنه شخص بمفرده!

ابتسم «خالد» وقال: وربما تكون خطوتهما واحدة!

ازداد صوت اهتزاز السُّلم، فالتقت أعينهما، وظلَّ الصوت يقترب حتى بدأت الخطوات تنتظم في الطريق إليهما، فتعلَّقت أعينهما بالباب الذي فُتح بعد لحظة، وظهر «فهد» أولًا، كان يبتسم ابتسامةً عريضة، ثم دخل «قيس» وهو يقول بالابتسامة نفسها: لعلها سهرة طيبة عند عزيزتنا «النجمة»!

قال «أحمد»: لعلكما اقتربتما من الهدف أكثر!

ضحك «قيس» ضحكةً سريعةً وهو يقول: غدًا … سوف نتناول الغداء معًا، إنه شخصية طيبة … «لوكاتس» المزعوم!

سأل «خالد» بسرعة: وهل كان هو نفسه «لوكاتس»؟

أجاب «فهد»: لا، إن اسمه «جاكومو»، وهو يعمل في السمسرة.

علت الدهشة وجه «أحمد»، ثم قال: عمل غريب! وهل عقدتما معه صفقةً ما؟

قال «فهد»: ليس إلى هذا الحد، لكننا طلبنا شراء سيارة مستعملة، ووعَدنا باللقاء غدًا.

سأل «أحمد»: وكم يتقاضى عمولةً لهذه العملية الصغيرة؟

قال «قيس»: عشرين في المائة من الثمن.

سأل «فهد»: هل وجدتما «كوزان»؟

أخبرهما «أحمد» بما حدث، ثم قال في النهاية: إنني أفكِّر في طريقةٍ لخداع «كوزان»؛ حتى نتأكَّد من شكوكنا.

نظر له الشياطين في اهتمام، فقال: أفكِّر في الاتصال به غدًا لأُخبره أننا في «باريس»، وأننا نطلب شيئًا محدَّدًا، سيارة، شقةً مفروشة … لعمل ما، ونحدِّد له مكان اللقاء، ثم نروي له كيف يتصرَّف؟

قال «فهد»: هل تعني أنه قد يفكِّر في عمل ما ضدنا؟

أجاب «أحمد»: ما دام يعمل مع عصابة ما، فلا بد أنه سوف يفكِّر هذا التفكير.

قال «خالد»: لا أظن. إن المنطقي أكثر أن يظل غامضًا، فيقدِّم لنا ما نريده، دون أن يكشف نفسه، إلا … توقَّف قليلًا وكأنه يستجمع أفكاره، ثم أكمل: إلا إذا عرفنا العصابة التي يتعامل معها … وإذا عرفنا؛ فيكون الأمر قد انتهى.

كانت هذه وجهة نظر صائبة، حتى إن «أحمد» قال: هذا صحيح، لكن … إن «كوزان» له علاقة قديمة ﺑ «سادة العالم»، ولو أننا طلبنا من رقم «صفر» أن يرسل إليه رسالة ليكون في خدمتنا لقيامنا بعملية جديدة ضد «سادة العالم»، فالمؤكَّد أنه سيقول لهم، وإذا اكتشفت العصابة وجودنا؛ فلن يكون ذلك إلا عن طريقه!

خالد: هي تجرِبة، وعلينا أن نبدأها! ولكن … لم يكمل «خالد» كلامه؛ فقد توقَّف وهو ينصت، ثم همس: هناك من يتجسَّس علينا!

نظروا له في دهشة، فقال: لقد سمعت صوت أقدام تبتعد، ولأن السقف كله من الخشب، فإنه يمكن أن يظهر!

أسرع «فهد» في قفزة سريعة إلى الباب، وعندما فتحه لم يرَ أحدًا، خرج بسرعة وألقى نظرةً على السُّلم الممتد حتى حجرة الحارس الليلي، كان الحارس يدخل الحجرة في نفس اللحظة، حتى إن «فهد» لم يرَ سوى قدمه وهي تدخل الحجرة، فتوقَّف قليلًا يفكِّر، ثم عاد إلى الشياطين، قال: يبدو أنه الحارس.

علت الدهشة وجوه الشياطين، فأخبرهم «فهد» بما رآه، إلا أن «أحمد» قال: قد تكون مصادفة!

قال «فهد»: وقد تكون هي المفتاح!

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وكان الشياطين لا يزالون في اجتماعهم يتحدَّثون، في النهاية قال «أحمد»: لنترك ذلك للغد، إننا في حاجة إلى النوم.

انصرف «خالد» و«فهد» إلى حجرتهما، وتمدَّد «أحمد» على سريره، وأغمض عينَيه، لكنه لم يستطِع النوم، لقد بدأ يستعيد صورة «لوكاتس»، ثم صورة «كوزان»، والحارس الليلي، وتردَّد في خاطره سؤال: هل يمكن أن يكون الحارس أحد أعضاء عصابة «سادة العالم»؟

ورغم أنه لم يقطع بإجابة ما … إلا أنه ظلَّ قلقًا لفترة طويلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤