مورش باليه

كان في انتظار «عاطف» مفاجأة مفرحة، فلم يكد يخرج من باب التخشيبة ويسير قليلًا حتى فوجئ بالضابط «زكي» يسير أمامه … فلم يتمالك نفسه وصاح: أستاذ «زكي» … أستاذ «زكي» …

والتفت الضابط في دهشة، وأخذ ينظر إلى الولد المتشرِّد الذي يُناديه في ضيق، في حين الشاويش يجر «عاطف» من رقبته صائحًا: اسكت يا حمار … لماذا تنادي حضرة الضابط؟!

كاد «زكي» يستأنف سيره لولا أن «عاطف» صاح به: إنني صديق المفتش «سامي» الذي كنت معك أمس. أنا «عاطف» …

توقَّف الضابط عن السير واقترب من «عاطف» غير مصدِّق لما يسمعه، ثم أمر الشاويش أن يترك «عاطف» … الذي أسرع إلى «زكي» يهز يده في حرارة، فلم يكن يخطر بباله أن يجد إنقاذًا عاجلًا من الحبس بهذه الطريقة.

شرح «عاطف» للضابط «زكي» سر وجوده في هذا المكان، فقال «زكي»: شيء مدهش حقًّا! … إن المغامرين الخمسة كانوا أسرع من رجال الشرطة، وقد حضرت إلى قسم الأزبكية لأنني علمت أنهم قبضوا على ثلاثة نشالين، وقلت لعل «حمكشة» بينهم …

عاطف: لم يُقبض على «حمكشة»، ولكن هناك شخص يُشبهه حقًّا … وقد تعرَّفت في التخشيبة على ولد يُدعى «طرزان»، قال لي إنه سيدلنا على مكان «حمكشة» بواسطة بعض الأعوان.

زكي: هذا تقدُّم عظيم … فنحن نبحث عن «حمكشة» في كل مكان دون جدوى … ويبدو أنه اختفى أو ذهب إلى «أبو شنب» … وأنت الوحيد الذي يُمكن أن يدلنا على مكانه!

عاطف: سأعود إلى التخشيبة بعد استخراج الفيش والتشبيه، وأعرف كلمة السر من «طرزان» … ولكن كيف أخرج من هناك؟

زكي: سأعود في المساء … وأخرجك …

وهكذا تم الاتفاق وسحب الشاويش «عاطف» وهو غير مصدِّق لهذه المقابلة العجيبة بين الضابط والولد المتشرِّد.

عاد «عاطف» إلى الحبس، وقد امتلأت نفسه بالآمال … فسوف يتمكَّن عن طريق «طرزان» من متابعة «حمكشة»، وبعدها قد يستطيع الوصول إلى «أبو شنب».

استأنف «طرزان» الحديث مع «عاطف»، وظل «عاطف» يستمع إلى كل كلمة يقولها عن عصابة «حمكشة» بانتباهٍ شديد … فكل كلمة يُمكن أن تكون مفيدةً في المغامرة المقبلة.

وأخيرًا قال «طرزان»: والآن … هذه هي كلمة السر … حاول أن تحفظها جيدًا … مورش باليه يورشو.

ردَّ «عاطف» ببطء: يورش باليه … يورشو.

طرزان: مورش باليه يورشو … وليس يورش باليه …

عاطف: مورش باليه يورشو … مورش باليه يورشو …

طرزان: هكذا … لا تنسَ هذه الكلمات مطلقًا … وعليك بالذهاب إلى شارع الظاهر، ستجد مقهًى صغيرًا اسمه مقهى «النجوم» … اجلس هناك واطلب شاي كشري … وقل للجرسون: مورش بالية يورشو … وسوف يفهم كل شيء …

أخذ «عاطف» يُردِّد الكلمات في سره حتى لا ينساها؛ فقد كانت تعني بالنسبة له وللأصدقاء … بل لرجال الشرطة أنفسهم شيئًا هامًّا … مضى اليوم … والتخشيبة تستقبل أفواجًا من المقبوض عليهم … ويخرج منها من يخرج إلى السجن أو للإفراج … وجاء المساء … وأخذ «عاطف» ينتظر «زكي» الذي لم يتأخَّر كثيرًا … فقد أقبل الشاويش واستدعاه لمقابلة الضابط … وأسرع «عاطف» يُودِّع «طرزان»، ثم غادر التخشيبة وقلبه يرقص فرحًا …

استقبل «زكي» «عاطف» قائلًا: مرحبًا بالمغامر الذكي، هل حصلت على كلمة السر؟

عاطف: طبعًا … إنها … إنها …

لقد طارت الكلمات من رأس «عاطف» … طارت … إنه كان يحفظها جيدًا … ولكن ماذا حدث؟ … ماذا حدث؟ إنها … إنها … ولكن … إنه لا يتذكَّر …

قال «زكي» متضايقًا: ماذا جرى؟ … هل نسيت كلمة السر؟

عاطف: لقد … لقد طارت … إنها مور … باليه.

زكي: مورش باليه …؟

عاطف: بالضبط … بالضبط … كيف عرفتها؟

زكي: إنها من لغة النشَّالين أيضًا … ومعناها الرجل المضمون … هل هذا كل شيء؟

عاطف: لا … هناك كلمة أخرى تشبه مورش … إنها يورش …

زكي: لا … إنها يورشو …

عاطف: تمامًا … إنك مدهش … ولكن ما معناها؟

زكي: معناها اتفق معه … ومعنى الكلمات كلها … الرجل مضمون اتفق معه.

وأخرج الضابط «زكي» ورقةً كتب فيها الكلمات وأعطاها ﻟ «عاطف» … ثم أخذه في سيارته وانطلقا إلى المعادي، وفي الطريق قال «زكي»: إنني أعرف شجاعة المغامرين الخمسة … ولكن ذهابك إلى «حمكشة» ليس مسألةً سهلة … فقد يعرف الرجل الحقيقة فتصبح في خطر …

عاطف: ولكن كيف سيعرف؟ … إنني أملك كلمة السر … وفي ثياب التنكُّر هذه يصعب التعرُّف على حقيقتي …

زكي: على كل حال لا تذهب قبل أن تمر عليَّ في المكتب، إن في ذهني خطةً مُعيَّنة، نستطيع أن نُنفِّذها معًا.

وصل «عاطف» إلى منزل «تختخ»، ووجد الأصدقاء جميعًا هناك في غاية القلق؛ لأنه لم يتصل بهم طول النهار … وبسرعة تخلَّص من تنكُّره وارتدى ثيابه العادية. وجلس «عاطف» يلتهم بعض المأكولات الساخنة والشاي، ويروي الأحداث التي مرَّت به طول النهار … وهم يستمعون إليه في إعجاب … وعندما وصل إلى كلمة السر … وجد نفسه قد نسيها مرةً أخرى!

صاح الأصدقاء: مستحيل … كيف تنسى كلمة السر؟ … إن اللغز كله سيُحل بهذه الكلمة …

توقَّف «عاطف» عن الطعام وأخذ يتذكَّر … ويتذكَّر … ولكنه لم يتذكَّر كلمة السر … لقد تذكَّر أن الضابط «زكي» … قد كتبها له في ورقة … وبسرعة أخرج الورقة وقرأ الكلمات … مورش باليه … يورشو … وبسرعة قالت «لوزة»: ما معنى هذا؟!

عاطف: حاولوا أن تعرفوا …

تختخ: أعتقد أنها كلمات من لغة النشَّالين.

عاطف: بالضبط!

تختخ: في هذه الحالة لن نتمكَّن من معرفة معناها …؟

نوسة: قل لنا ولا داعي للامتحان.

عاطف: معناها … الرجل مضمون … اتفق معه.

وبسرع أخرج «تختخ» دفتر مذكراته الصغير، وكتب الكلمات قائلًا: لقد أصبح عندنا عدد لا بأس به من الكلمات.

محب (ضاحكًا): في إمكاننا أن نشتغل بالنشل الآن.

وضحك الأصدقاء جميعًا للنكتة، وقال «تختخ»: هناك حديث يقول: من عرف لغة قوم أمن شرهم … ونحن الآن نعرف بعض لغة النشَّالين ويُمكننا أن نتقي شرهم.

محب: عندما تنتهي هذه المغامرة سوف أطلب من الضابط «زكي» أن يُعلِّمني بقية اللغة، حتى إذا وقعنا على لغز آخر للنشَّالين استطعنا حلَّه سريعًا.

تختخ: هذه فكرة ممتازة حقًّا.

قضى الأصدقاء بعض الوقت معًا ثم تفرَّقوا على أن يعودوا للاجتماع في صباح اليوم التالي، حيث يعود «عاطف» إلى التنكُّر مرةً أخرى.

حضر «عاطف» في الصباح مع بقية الأصدقاء، وقام «تختخ» بعمل التنكُّر المتقن، وتحوَّل «عاطف» في دقائق إلى ولد متشرِّد مرةً أخرى، واتفقوا على أن يتصل «عاطف» تليفونيًّا كلما تمكَّن، ثم انطلق إلى المحطة ومنها أخذ القطار إلى القاهرة، ثم إلى مديرية الأمن حيث التقى بالضابط «زكي».

كان «زكي» يجلس ومعه أحد المخبرين، وعندما رأى «عاطف» قال: هذا هو المغامر الصغير … ولكن مغامرته سوف تنتهي الآن!

قال «عاطف»: لماذا؟!

زكي: سيقوم المخبر «عوضين» بدورك، ويحمل كلمة السر إلى «حمكشة»، حيث يستطيع أن يتبعه أفضل منك، فإني أخشى أن تُعرِّض نفسك للخطر.

أحسَّ «عاطف» بالضيق وقال: ولكن هناك شيء نسيته … فلعل «حمكشة» قد اتصل «بطرزان» وعرف منه حكايتي … وأن الذي سيأتي إليه ولد صغير … وليس رجلًا كبيرًا … كما أن هؤلاء النشَّالين يستطيعون معرفة المخبرين من غيرهم.

فكَّر «زكي» لحظات ثم قال: معك حق، ولكني في الحقيقة أخاف عليك من هذه المغامرة … ولكن ما دمت مُصِرًّا، فسوف أعطيك جهازًا لا سلكيًّا صغيرًا تستطيع أن تخفيه تحت ملابسك … وهذا الجهاز يُطلق موجات لا سلكية في دائرة ثلاثة كيلومترات … ونستطيع عن طريقه أن نتابعك، حتى إذا حدث شيء غير عادي، استطعنا الوصول إليك سريعًا.

ثم قام الضابط إلى دولاب في حجرته، فأخرج جهازًا صغيرًا في حجم علبة الكبريت وبه شريط رفيع ربطه في رقبة «عاطف»: إن فيه بطاريات تكفي لمدة يومَين فقط … وبعدها ينقطع الإرسال … فعليك مراعاة ألَّا تتأخَّر عن هذا الموعد، وسوف يكون رجالنا قريبين منك … وسوف أُخطر المفتش «سامي» بكل شيء…

وودَّع الضابط المغامر الصغير حتى الباب، ثم خرج «عاطف» متجهًا إلى مقهى «النجوم» كما وصفه له «طرزان».

ركب الترام رقم ٣ الذي سار عبر باب الحديد إلى شارع الظاهر … وبعد دقائق كان قد وصل إلى تقاطع الشارع مع شارع بورسعيد، فنزل «عاطف» عند أقرب محطة، وأخذ يبحث حوله حتى عثر على المقهى.

كان مقهًى صغيرًا مُكوَّنًا من غرفة واحدة، يجلس أمامها بعض الناس يشربون «الجوزة» والشاي ويلعبون الطاولة، فمر «عاطف» بالمقهى سريعًا يرقبه، ثم عاد بعد قليل واتجه إلى الداخل.

كان جرسون المقهى شابًّا رفيعًا منكوش الشعر، يمشي في تكاسل ويرد على طلبات الزبائن في لامبالاة، فاختار «عاطف» كرسيًّا قريبًا من الناصية حيث يتم إعداد الطلبات، وانتظر حتى مرَّ به الجرسون الذي يُناديه الجميع باسم «حسن»، وطلب منه كوبًا من الشاي.

طلب «حسن» الشاي ووقف ينتظره حتى أُعِد، ثم حمله إلى «عاطف» وانحنى ليضعه أمامه، وكان على «عاطف» أن ينتهز هذه الفرصة ليقول له كلمة السر ولكنه نسيها … وأخذ يتذكَّر ويتذكَّر ولكن بلا جدوى، وانصرف الجرسون وضاعت الفرصة!

كاد «عاطف» يُجن لضياع الفرصة، وعبثًا حاول أن يتذكَّر كلمة السر … ولم يكن أمامه إلَّا أن يُخرج الورقة ليقرأ الكلمات فيها، فأخذ ينظر حوله حتى يطمئن أن أحدًا لا يراه، ثم مدَّ يده وأخرج الورقة بسرعة، وقبل أن يفتحها كان قد تذكَّر الكلمات؛ مورش باليه يورش … فأعاد الورقة إلى جيبه، وأخذ يُردِّد الكلمات: مورش باليه … يورشو … مورش باليه … يورشو، وشرب الشاي بسرعة … وهو يُردِّد الكلمات، ونادى الجرسون باسمه فجاء … وانحنى ليحمل الكوب الفارغ فهمس «عاطف» في أذنه: مورش باليه يورشو.

انتظر «عاطف» أن يتحدَّث «حسن» أو حتى يُبدي اهتمامًا، ولكن «حسن» حمل الكوب الفارغ والنقود، وانصرف وكأنه لم يسمع شيئًا، وظلَّ «عاطف» جالسًا وقد أذهلته المفاجأة! لقد قال كلمة السر … ولكن شيئًا لم يحدث … فماذا يفعل الآن؟

ظلَّ جالسًا في مكانه يُراقب «حسن» الذي استمر في عمله كأنه لم يحدث شيء على الإطلاق … يخرج من المقهى إلى الشارع … ويعود … ويمر ﺑ «عاطف» دون أن يبادله كلمةً واحدة … أو حتى نظرة …

وتذكَّر «عاطف» جهاز اللاسلكي … هل هو واضح بحيث يراه «حسن»؟ … وهل سيعرف «حسن» إذا كان جهاز اللاسلكي أو أي شيء آخر؟ ومد يده إلى صدره … وتأكَّد أن الجهاز مختفٍ تحت الثياب … وعاودته الشكوك من جديد هل هو متبوع منذ خروجه من القسم؟ هل رآه أحد من رجال العصابة وتبعه إلى هنا …؟

أسئلة كثيرة لم يكن يملك عليها إجابة … وكلما مضى الوقت أحسَّ أنه وقع في مشكلة لا حل لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤