الصِّراع

أريد أن أمسَّ في هذا الحديث من بعدُ كتابًا رائعًا إلى أقصى غايات الروعة للكاتب الفرنسي النابه: جان جيونو.

وهو لا يُعرَف بهذا العنوان، وإنما عنوانه الدقيق «الفارس فوق السقوف» Les Hussards sur les toits.

وهو عنوان غريب كما ترى، ولكنه يصوِّر حقيقة من الحقائق الرائعة التي عرضها المؤلف في كتابه؛ فبطل القصة فارس إيطالي لم يبلغ الثلاثين بعدُ، وقد بلغ مرتبة الكولونيل في جيش من جيوش الثورة التي جاهدت في استخلاص شمال إيطاليا من احتلال النمسا في النصف الأول من القرن الماضي.

وهو قد فارق وطنه فارًّا إلى فرنسا؛ إشفاقًا من العتاب على خطأ تورَّط فيه وتعرَّض للسجن والمحاكمة، فآثَر الفرار المؤقت محتفظًا بنفسه لاستئناف الجهاد في سبيل تحرير وطنه …

ولكنه يبلغ فرنسا في ذلك العام المنكر الذي اجتاحها فيه وباء الكوليرا الخطير، الذي وقع سنة ١٨٣٨ وأذاق الفرنسيين في الجنوب أهوالًا مروعة حقًّا.

والكاتب يصور لنا ما كان من صراع هذا الفتى للموت الذي تعرَّض له مرات لا تُحصَى أثناء إقامته في جنوب فرنسا، وهذه المحاولات التي لا تُحصَى للفرار من هذا الوباء، فهو قد فرَّ من وطنه ليتجنب المحاكمة والسجن، فأصاب في منفاه الاختياري ما هو أشد خطرًا وأروع روعًا من السجن ومن العقاب الذي كان يتعرَّض له لو أقام في وطنه. في ذلك الوقت لم يكن العلم قد استكشف ما يُعرَف الآن من ضروب العلاج لهذا الوباء، ولم تكن النُّظُم الصحية الفردية والاجتماعية قد بلغت ما بلغته من الدقة والتقدم في هذه الأيام؛ فكان الوباء إذن منكرًا مروعًا ساحقًا ماحقًا بأدق معاني هذه الكلمات وأوسعها وأبعدها مدًى، وكان كل ما استطاعته الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت، هو عزل المصابين والاحتياط لمحاصرة المدن والقرى الموبوءة حتى لا يطرأ عليها الأصحاء، ولمحاصرة المدن والقرى التي لم يبلغها الوباء حتى لا يلم بها الموبوءون فيحملوا إليها الوباء. وفي ذلك الوقت لم تكن وسائل المواصلات قد نظمت على هذا النحو المعروف من اليسر، وإنما كان الناس ينتقلون من مكان إلى مكان على ظهور الدواب، أو في تلك العربات التي كانت تجرها الدواب، ولم يكن الطب الوقائي قد تجاوز أيسر ما كان الناس يعرفونه من تلك المحاولات الساذجة لوقاية الأجسام مما كان يمكن أن تتعرَّض له من آفات.

فكان الوباء إذا ألمَّ بإقليم من الأقاليم حصد أهله حصدًا، وأذاقهم ألوانًا من الوبال والنكال والهول. وليس من اليسير أن أفصِّل لك هذه القصة الرائعة، ولا أن ألخِّصها تلخيصًا متقاربًا، وأنا لا أملي هذا الحديث لأحاول فيه شيئًا من ذلك، فهو غير يسير لأن التفصيلات في هذا الكتاب أكثر من أن تحصى، وأعسر من أن يحاول محاول تلخيصها فضلًا عن استقصائها. بل الغريب من أمر هذا الكتاب، هو أن مؤلفه قد نسي نفسه ونسي قارئه، ولم يذكر إلا فنَّه الخالص الذي غرق فيه إلى أذنيه، وأمعن في العناية به وفي تجويده وإتقانه، حتى إن أول أثر من آثار قراءته المباشرة إنما هو هذا الملل الذي يأخذ القارئ قبل أن يبلغ الخمسين من صفحاته، ويوشك أن يصرفه عن المضي في القراءة إذا لم يأخذ نفسه بالصبر والمطاولة، فإذا حمل القارئ نفسه على ما تكره، وأخذها بالمضيِّ في القراءة على كثرة ما يصدُّه عنها ويزهده فيها، لم يلبث أن ينسى نفسه وينسى صاحب الكتاب، وأن يفنى في الفن كما فني فيه الكاتبُ نفسُه، وإذا هو ملِحٌّ في القراءة ماضٍ فيها لا يلوي على شيء، لا يبلغ حدثًا مروعًا من الأحداث التي تعرض فيه حتى يشعر بالشوق الشديد إلى استقصائه، وإلى الانتقال إلى غيره من الأحداث الأخرى التي تليه. وما يزال كذلك متنقلًا من حدث مروع إلى حدث آخَر أشد منه ترويعًا، حتى يألف الروع والهول ولا يعدل بهما شيئًا، وأغرب ما في هذا الكتاب أنه يخدع القارئ عن نفسه حتى يوشك أن يحبِّب إليه هذه الأهوال التي لا تُحتمَل ولا تُطاق، وإذا هو يبلغ آخِر الكتاب فيشعر بشيء من الأسف غير قليل لأنه قد فرغ من القراءة، وفارق هذه الأهوال الشداد، وهو محتاج بعد ذلك إلى وقت طويل، إلى قراءات مختلفة شديدة التنوع لينسى هذا الكتاب، ولا يضطر إلى لزوم التفكير فيه، والوقوف الطويل عند هذا الحديث أو ذاك من أحداثه الثقال.

والكتاب بعد هذا كله آيةٌ في تصوير خصلتين متناقضتين من خصال الحياة الإنسانية الاجتماعية، هما: خصلة التنافر، والتدابر من جهة أخرى.

فالناس متنافرون متدابرون في هذا الكتاب ما داموا أصحاء لم يبلغوا الوباء، كلٌّ منهم حريص أشد الحرص وأقواه على أن يفر بنفسه من الكارثة قبل أن تصيبه، فهو أَثِر إلى أبعد غايات الأثرة، لا يحب أن يرى غيره ولا أن يدنو منه غيره، ولا يحب أن يشاركه أحد من الناس في أي مرفق من مرافق الحياة، فهو فردي تنتهي به الفردية إلى غايتها، وهو مستوحش آبد كهذه الوحش الآبدة في أعماق الصحارى، وفي شِعاب الجبل وعلى قممها الشاهقة، فهو يعمد إلى سلاحه ليرد به عن نفسه كل إنسان يريد أن يقربه. وهذه الظاهرة الفردية تشيع في الأصحاء، وتستقر في نفوسهم، وتسيطر على عقولهم وجوارحهم حتى تصبح ظاهرة اجتماعية مزعجة حقًّا. فإذا ألمَّ الوباء بمدينة أو قرية ظهرت الخصلة الأخرى، خصلة التضامن والتعاون والتآلف والمشاركة في احتمال المكروه ومحاولة دفعه إن أتيح للناس أن يدفعوه، ومحاولة الصبر عليه وتجرُّع كأسه إلى ثمالتها إذا لم يكن من ذلك بدٌّ. ويمعن الكاتب في تصوير هاتين الخصلتين المتناقضتين حتى يظهر لك الإنسان شيطانًا ماردًا أحيانًا حين تملكه الأَثَرة، ومَلَكًا مطهرًا أحيانًا أخرى حين يسيطر عليه الإنسان؛ فيعطيك بذلك صورة كأوضح ما تكون الصور من هذا الإنسان الغريب، الذي يقسو حتى تبلغ به القسوة أقصى ما يستطيع أن تبلغ، ويرفق حتى يبلغ به الرفق مرتبة القدِّيسين الأبرار.

وفي هذا الكتاب ظواهر كثيرة كلها يحتاج أن نقف عنده فنطيل الوقوف، منها: ظاهرة المغامرة التي تستأثر ببعض الناس فتوجِّههم إلى الخير الخالص، حتى تنتهي بهم إلى البطولةِ، والمغامرةُ التي تستأثر ببعضهم الآخَر، فتدفعهم إلى الشر الخالص، حتى يصبحوا مَرَدة لا يقدرون شيئًا ولا يحفلون بشيء، ولا يقفون عند خُلُق أو دين، ولا يرجون لشيء أو لأحد وقارًا.

فهذا مغامر خير يريد أن ينجد الملهوف، وينقذ المكروب، ويسعف المحروب، ويعين المحتاجين إلى المعونة ويواسي الذين لا يملك لهم معونة ولا إنقاذًا، فيمضي في ذلك منغمسًا في الوباء إلى أذنيه لا يخاف الموت، ولا يحفل به ولا يحسب له حسابًا، وإنما يُسعِف وينقذ ويواسي ويعين حتى يدركه القضاء المحتوم، فيسقط صريعًا شهيدًا بين صرعى الوباء وشهدائه.

وهذا مغامر آخَر لا يفكِّر في الناس ولا في حاجتهم إلى المعونة والبر والإحسان، وإنما يفكر في نفسه وفي طموحه إلى الثروة والغنى والكسب من كل طريق، فهو لص فاتك وهو مارد لا يحفل بالحق، ولا بالعدل، ولا بالقانون، ولا يحسب للسلطان حسابًا قد برئ قلبه من كل رحمة، وبرئت نفسه من عواطف الخير كلها، فهو ينعم بشقاء الأشقياء، ويسعد ببؤس البائسين، ويثري من فقر الفقراء، ويوشك أن يحيا من موت الذين يتخطَّفهم الموت، وربما اجتمعت الظاهرتان في شخص واحد، ولكن في شيء من الاعتدال والانسجام كما اجتمعتا في هذا الفتى الإيطالي الذي نراه مرة مواسيًا منقذًا ممعنًا في هذا كله غير حافل بالوباء، ولا حاسب لنتائجه أي حساب، وإنما ينغمس فيه مع تلك الراهبة الشيخة إلى قمة رأسه، فهو يُعِين المرضى الذين يسقطون في الطريق، يغسل عنهم آثار القيء والإسهال، وهو يغسل الموتى ويعين على نقلهم إلى حيث تُحرَق جثثهم، وهو ينسى نفسه في هذا كله نسيًا تامًّا. وتراه مرة أخرى مشفقًا من الوباء إلى أقصى آماد الإشفاق، حتى إنه ليلزم سقوف الدور يكره أن يخالط أهل المدينة الموبوئين، أو أن تكون بينه وبينهم صلة قريبة أو بعيدة، ويحتال أغرب الاحتيال في التماس أيسر ما يقيم الأود من الطعام والشراب يتبلَّغ بهما في هذه العزلة المخيفة. ونراه مرةً وقد أعياه التماس القوت وسُدَّت عليه طرق الحيلة، فأخذ يناجي نفسه بالسرقة لا ليكسب غنى أو ثراء ولكن ليقيم أوده، وإذا هو ينحدر متلصِّصًا مترفقًا إلى إحدى الدور في أعماق الليل لعله أن يصيب فيها قطعة من خبز أو شربة من ماء، وهو ينحدر وينحدر يظن أن أحدًا لا يشعر به، فإذا بلغ آخِر السلم الذي انحدر فيه، رأى نورًا يظهر فجأةً وفتاة لم تتقدم بها السن، رائعة الجمال، بارعة الحسن، تسأله: مَن هو؟ وماذا يريد؟

فيضطر إلى أن يجيبها بالحق، فتتلطف في شيء من الغلظة والاحتياط والتحفُّظ إنْ صحَّ هذا التعبير.

وتئويه إلى إحدى الحجرات وتقدِّم له بعض الطعام والشراب، وقد عرف أنها وحدها في هذه الدار الكبيرة، فينكر أمرها ويسألها أليست خائفة منه؟ فتُظهِر له سلاحها الذي تستطيع أن ترد به عن نفسها الغوائل، حتى إذا طعم وشرب عاد إلى سقفه الذي أوى إليه وترك هذه الفتاة آمنة موفورة، وفي نفسه ما فيها من الإعجاب بها والإكبار لها، وشيء آخَر أكثر من الإعجاب والإكبار.

ونراه مرةً ثالثة وقد احتال حتى سرق فرسًا واعتلى صهوته، ومضى به مصعدًا في الجبل متَّخذًا طريقه كما يستطيع؛ ليتَّقِي الوباء من جهةٍ وليبلغ الحدود ويعود سالمًا إلى وطنه ليستأنف جهاده في تحرير إيطاليا إن استطاع الإفلات من هذا الوباء.

وهو يمضي في طريقه متنكبًا كل قرية أو مدينة أو بيئة يكثر فيها الناس، لا يكاد يمضي أيامًا حتى يلقى فارسًا آخَر يمضي في نفس الطريق، وما هي إلا أن يبصرا بالجند يحاصرون قرية أو مدينة، ويردُّون عنها الطارئين عليها فيفران ثم يتفارقان، وإذا هو يرى في هذا الفارس تلك الفتاة التي آوته وأطعمته وسقته منذ ليالٍ، غير خائفة منه ولا معنية بغير إسعافه، وهي قد فرَّتْ من دارها تريد أن تعود إلى قصرها ذلك البعيد في عِطف من أعطاف الجبل لم يبلغه الوباء، وقد أصبحا رفيقَيْ سفر يتعاونان على احتمال ما يعرض لهما من الأخطار. ومنذ ذلك الوقت تنشأ في القصة الرائعة قصة أخرى أشد روعةً، وهي قصة هذه المرافقة التي تخلص من جميع الشوائب، والتي ترتفع فيها المودة إلى أعلى درجة من الطهر والعفة والنقاء والإيثار، وما أكثر ما يلقى الرفيقان من المصاعب! وما أكثر ما يعترضهما من الخطوب! وما أكثر ما يلمُّ بهما من حلو التجارب ومرِّها، ومن جد الحياة الصارم وهزلها المر! فهما يتعرضان للجند ويتعرضان للصوص، ويُؤخَذان أسيرين إلى حيث يُلقَيان في معزل من هذه المعازل التي يُلقَى فيها الأصحاء حتى يتخطفهم الموت. وهما يفران من هذا المعزل بعد خطوب، ويخلصان آخِر الأمر حتى يوشكا أن يبلغا مأمنهما في ذلك القصر الذي تيممه تلك الفتاة، ولكنهما لا يكادان يشرفان من بُعْد على مأمنهما ذاك، حتى يلمُّ الوباء بالفتاة فيأخذها القيء وتسقط على الأرض مبهورة، وما أسرع ما ينحيها الفتى إلى أعماق الغابة من الغابات! وهنالك يقوم على تمريضها كما يستطيع نافيًا عنها الأذى، ملتمسًا لها الدفء، ساقيًا لها ما يستطيع أن يسقيها من دواء حتى يأخذه الإعياء آخِر الليل، فيغفو إغفاءة ثم يحس شيئًا فيفيق، وإذا الفتاة تلقي عليه معطفها تريد أن تقيه به من البرد. وقد برئت الفتاة وارتفعت بينهما الكلفة آخِر الأمر، فهي توجِّه إليه الحديث بلغة المخاطب الفرد، كما تتحدث الفتاة إلى أخيها أو زوجها. قد ألغى الوباء ما كان قد بقي بينهما من كلفة، ولكن حبهما ظل نقيًّا طاهرًا كما يكون الحب بين الأخوين.

وهو يُبلغ الفتاة مأمنها ويقيم في قصرها يومًا أو يومين ريثما يشتري جوادًا أصيلًا، ثم يستأنف السير إلى وطنه ليعود إلى الجهاد، وما يمنعه من ذلك وهو لا يكاد يطلع من وراء هذا الجبل حتى يرى أعلام إيطاليا.

وما أكثر ما أهملتُ من الظواهر الفنية في هذا الكتاب! ولكن ظاهرة واحدة لا أحب أن أهملها؛ لأن الكاتب قد صوَّرها أروع تصوير وأبرعه، وهي هذه التي تصوِّر لنا الطير ولا سيما جوارحها، وقد أَنِسَتْ إلى الموت واعتادت العكوف على هذه الجثث الكثيرة المتناثرة، كما يصوِّر لنا شعراؤنا القدماء عكوف الطير على جثث القتلى في ميادين الحرب بعد انتهاء المواقع. وربما استوحشت بعض الطير المستأنسة فعادت سباعًا تعيش على لحم هذه الجثث الإنسانية، وهي قد ألفت ذلك حتى إنها ستدنو من الأحياء تظن أن الموت منهم قريب، وأن جثثهم ستصبح كلها مرتعًا بعد قليل، حتى خاف الإنسان من الطير وحتى استخفت الطير بالإنسان، فلم تشفق منه ولم تستوحش من قربه، وإنما اتخذته لنفسها مطمعًا.

وبعدُ، فهل صوَّر الكاتب هذا الصراع بين هذا الفتى وبين الوباء فحسب؟ أم هل تجاوزه من حيث يدري، أو من حيث لا يدري إلى تصوير صراع آخَر أقوى وأبقى من صراع الإنسان لوباء من الأوبئة، وهو تصوير الصراع الذي يكون بين كل إنسان وبين الموت، سواء كان وباءً أم لم يكن؟

فهل حياة الإنسان مقيمًا أو ظاعنًا، مطمئنًا أو قلقًا، موسرًا أو معسرًا، سعيدًا أو شقيًّا، إلا صراع بينه وبين الموت الذي يكمن له في كل حركة من حركاته، ومن حركات الأحياء والأشياء من حوله، وفي كل ثني من أثناء طريقه، وفي كل ما يعرض له من الخطوب ما دقَّ منها وما جلَّ؟ وأكبر الظن أن الكاتب لم يُرِد إلى هذا النحو من الفلسفة العليا، ولكن كتابه يوحي به إيحاءً. وهذا عندي أوضح دليل على أن الكتاب رائع حقًّا، وعلى أنه من أبرع الصور الفنية التي أنتجها الأدب الفرنسي المعاصر في هذه الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤