وجهًا لوجه

جلس الرجل الذي دخل الغرفة على طرف الفراش … وكان في إمكان «أحمد» وهو في موضعه تحت الفراش أن يرى قدميه، والحقيبة التي جرها من الدولاب … وكان «أحمد» قد فحص الحقيبة جيدًا … ولم يجد فيها ما يريب … ولكن ما حدث أمام عينيه كان شيئًا مدهشًا … لقد ضغط الرجل على المفاصل المعدنية للحقيبة ثم أدارها فإذا «إيريال» طويل يقفز منها، ثم أعمل يديه في قفل الحقيبة … وسمع «أحمد» صوتًا يرنُّ في الحجرة وكان واضحًا أن القطع المعدنية في الحقيبة هي جهاز إرسال واستقبال.

وسمع «أحمد» الرجل في مكمنه يتحدث: «١٩ أرض يتحدث. لا شيء في الطريق. يمكنكم البدء غدًا. التاسعة مساءً مناسبة. حوِّل.»

ثم أعاد إغلاق الحقيبة كما كانت وأسرع بوضعها في الدولاب ثم انصرف وأغلق الباب وراءه.

بعد دقيقتين كان «أحمد» قد نهض هو الآخر من مخبئه ثم أسرع يغادر الغرفة. كانت خطة الثعالب الثلاثة واضحة في تعمية من يتبعهم؛ فهم يتناولون عشاءهم ثم يقوم واحد منهم على أنه ذاهب إلى دورة المياه ويقوم بالاتصال ويعود إلى مكانه.

والمعلومات التي حصل عليها هامة جدًّا … ولكن هل يعني موعد التاسعة غدًا أن النسف سيتم في هذا الموعد؟ وماذا يجب أن يفعلوا ليحولوا دون هذه العملية! هل يعملون للقبض على الثعالب الثلاثة، ولكن بأي تهمة، إن وجود جهاز إرسال لاسلكي لا يكفي للقبض عليهم … ثم إنهم سوف ينكرون طبعًا أنهم يقومون بعمل أي شيء هنا.

ووصل «أحمد» إلى الطابق الأرضي واتجه إلى «زبيدة» التي كانت لا تزال تخدم الثعالب الثلاثة … ومن بعيدٍ ألقى «أحمد» نظرة عليهم وتعرَّف على «مندوزا» الضخم من أول نظرة … كما عرف «جاتمان» كما وصفته «إلهام» … أما الثالث فكان يبدو رجلًا هادئًا … سمينًا … كأنه رجل أعمال لا علاقة له بعمليات الإجرام.

ودقق «أحمد» النظر فيهم جيدًا كأنما يطبع صورهم في ذاكرته … ورأته «زبيدة» فاتجهت إليه تهمس: انتهِ من عملك بسرعة … سأنتظرك مع «عثمان» في الخارج.

وخرج «أحمد» وكان «عثمان» واقفًا يتحدث مع أحد الزبائن، فأنهى حديثه معه واجتمعا فقال «أحمد»: معلومات غاية في الأهمية … نريد عقد اجتماعٍ سريع …

وبعد لحظات لحقت بهم «زبيدة»، فاستقلُّوا سيارة تاكسي أوصلتهم إلى الكابينة، وبسرعةٍ روى «أحمد» ما سمعه في غرفة الرجل … قالت «زبيدة»: إنه الرجل الثالث وينادونه باسم «بلور».

قال «خالد»: سأتصل بجهات الأمن هنا، وسأعطيهم بلاغًا من مجهول … بأن عمليات نسفٍ ستتم غدًا في التاسعة مساءً … إما في مناطق الآبار وإما في مناطق الخزانات!

إلهام: أعتقد أن الآبار هي المقصودة؛ فالخزانات يمكن تعويضها، أما الآبار فالخسائر فيها ستكون فادحة.

أحمد: سأقوم بالاتصال الآن برقم «صفر» وإخطاره بما حصلت عليه من معلومات ثم نتفق على دورنا في العملية.

وأسرع «أحمد» إلى جهاز اللاسلكي وأملى المعلومات التي حصلوا عليها ثم تلقَّى من رقم «صفر» رأيه … كان موافقًا على الاتصال المجهول بجهات الأمن … وطلب زيادة مراقبة الثلاثة طوال اليوم التالي … وتحركاتهم في التاسعة … ثم متابعتهم إذا خرجوا إلى أي مكان.

فجأةً قالت «إلهام»: ما رأيكم في دور جديد ﻟ «ياسمين»؟

خالد: «ياسمين»؟ من هي «ياسمين»؟

إلهام (ضاحكة): الفتاة الظريفة التي ضربت مستر «جاتمان» وأخذت مسدسه.

وخفق قلب «أحمد» وهو يقول: لقد نجحت «ياسمين» مرة، ولعلها لا تنجح مرة أخرى …

إلهام: لو أن عندنا مكانًا آخر بعيدًا عن المدينة … بحيث نستطيع إخفاء شخص فيه لأثرنا الثعالب ومن خلفهم واضطررناهم إلى العمل بوضوح أو الانسحاب …

زبيدة: ماذا تقصدين؟

إلهام: أقترح مثلًا أن أرسل خطابًا معك غدًا إلى «جاتمان» أوقِّعه باسم «ياسمين» وسيأتي طبعًا لمقابلتي … وسأختار مكان اللقاء بعيدًا عن مقرِّنا حتى لا يعرفه أحد ولا «جاتمان» ولعلي أحصل منه على معلومات.

عثمان: بالقوة؟!

إلهام: لا … بالإقناع؛ فسوف أصوِّر له أني أريد أن أنضم إلى فريق الثعالب الثلاثة وأساعدهم فيما هم مُقدمون عليه.

أحمد: لا أوافق …

إلهام: على مسئوليتي! المهم تدبير مكان!

أحمد: لا بد أن أكون قريبًا منكِ … لا أستطيع أن أتركك …

ولاحظ «أحمد» أنه اندفع قليلًا فقال: أقصد واحدًا منا … فلسنا ندري ما هي حيل الثعالب.

إلهام: والمكان؟

خالد: في إمكاني تدبير مكانٍ في قرية «الزهراء» فعند ابن عمي هناك منزل منعزل يمكن أن يفي بالغرض.

أحمد: وأين تقع القرية؟

خالد: على بعد ستة كيلومترات من المدينة.

إلهام: هذا مناسب جدًّا!

وجلست «إلهام» تكتب رسالة إلى «جاتمان» تدعوه لمقابلتها في السادسة مساءً لأنها تريد الاعتذار إليه عمَّا فعلت … وإعادة مسدسه إليه … وطلبت منه أن يأتيَ مع رسولها … وكان الرسول حسب الاتفاق هو ابن عم «خالد» على أن يختبئ «أحمد» في إحدى غرف المنزل توقعًا لأي حادث … ونام الأصدقاء … وقضوا اليوم التالي في المراقبة …

وفي الخامسة مساءً حملت «زبيدة» الرسالة وذهبت لعملها في فندق «الشيراتون» وذهب «عثمان» معها … بينما ذهب «أحمد» إلى قرية «الجهراء» مع «إلهام» … وعندما اقتربا من المنزل كانت مفاجأة لهما … منزل بعيد مهجور من طابقَيْن مبني بالأحجار البيضاء الكبيرة، مغلق النوافذ والأبواب … ومن الواضح أنه لم يُستخدم منذ سنوات.

وعندما تقدم «أحمد» وفتح الباب صدر عنه صوتٌ مزعج … ثم دخلا وأغلقا الباب وفضَّلا أن يُضيئا النور حتى لا يلفت إليهم الأنظار فتْحُ النوافذ … ونظر «أحمد» حوله؛ كان في صالة واسعة فُرشت على الطراز العربي … وعلى الجانبَيْن وفي الواجهة أبواب تُفتح على الغرف الكثيرة.

وجلسا وحيدَيْن في انتظار حضور «جاتمان» مع ابن عم «خالد» الذي كان عليه أن يطلق نفير السيارة عندما يقترب، ثم يعود ويترك «جاتمان». ونظر «أحمد» إلى «إلهام» وأحس أنه يريد أن يقترب منها أكثر … وأن يحميَها أكثر … هذه الفتاة الشجاعة التي وضعت نفسها بين أنياب الأسد لتسهم في إنقاذ ثروة بلد عربي شقيق …

ومدَّ يده إليها … ومدَّت يدها … وتلامست اليدان، وقال «أحمد» بصوتٍ هامس: إنكِ تعرفين طبعًا أن ما يربطنا شيءٌ أكثر من مجرد زمالة عمل … ونظرت «إلهام» أمامها … كانت تحس بخجل أن تنظر في عينيه مباشرةً … ورغم ما عُرف عنها من جرأة فقد أحسَّت في هذه اللحظة أنها ضعيفة جدًّا … ولكنها استعادت نفسها وهبَّت واقفةً وقالت: أليس من مبادئ العمل أن ننسى عواطفنا … أظن أنه ليس المكان المناسب ولا الوقت المناسب!

في هذه الأثناء كانت «زبيدة» تدور في الكافتيريا في انتظار ظهور «جاتمان» وكانت تتمنَّى أن تجده وحده … ولم يطُل انتظارها فقد ظهر الثعالب الثلاثة … كانوا سعداء في ذلك الصباح … وقد أخذوا يتبادلون الأحاديث المرحة وهم في طريقهم إلى مائدتهم المنعزلة … وعندما مرُّوا أمام «زبيدة» نظر إليها «مندوزا» مبتسمًا وحيَّاها بابتسامةٍ واسعة، وأخذَتْ «زبيدة» طريقها إلى مائدتهم لتسألهم عن طلباتهم فأخذ «مندوزا» يُطري جمالها، وانحنت على المائدة تتظاهر بتنظيفها، ثم أسقطت الخطاب الذي كانت تمسكه في يدها في حجر «جاتمان»، ثم اعتدلَتْ ووضعت نفسها تحت أمرهم فيما يطلبون.

شاهد «جاتمان» الورقة … وبدَتْ ملامح وجهه متوترة، ثم مدَّ يده وأخذ الخطاب وأطبق عليه أصابعه التي تُشبه المخالب … وأدركت «زبيدة» أن مهمتها انتهَتْ وكتبت الطلبات التي طلبوها ثم ابتعدَتْ لإحضارها.

عندما عادت «زبيدة» بعد عشر دقائق … ذهلت عندما وجدت الرجال الثلاثة يشتركون في قراءة الخطاب … إذن ﻓ «جاتمان» لم يخفِ ما حدث له مع «إلهام» ولكن أذنها التقطت على مبعدةٍ كلمة من فم «جاتمان» أدركت منها أنه لم يقُل لصديقيه الحقيقة كاملة … كان يقول: «البنت النشَّالة.»

إذن ﻓ «جاتمان» قد زعم أن «ياسمين» … قد نشلته … ولا تدري «زبيدة» إذا كان الرجلان الآخران قد صدقاه أم لا … ولكنها وجدت «مندوزا» مصرًّا على أن يذهب مع «جاتمان» إلى موعد «ياسمين» وأدركت أن الأمور تسير على ما يرام … فرغم اعتراض «جاتمان» … وهو لا شك يخشى أن تتضح الحقيقة … إلا أن «مندوزا» وكان واضحًا أنه «الزعيم» أصرَّ على موقفه …

وعندما وصلَتْ بالطلبات قال لها «جاتمان»: كيف وصلتكِ الرسالة؟

زبيدة: جاءَتْ فتاةٌ جميلة هذا الصباح وطلبَتْ مني أن أسلِّم الرسالة لك وحدك!

جاتمان: بيضاء وعيونها سوداء واسعة، وتبدو قوية ونشيطة؟

زبيدة: تمامًا يا سيدي!

جاتمان: وكم أعطتْكِ؟

زبيدة: أعطَتْني نصف دينار … إنها فيما يبدو فقيرة يا سيدي؟

ومد «جاتمان» يده وأخرج حافظةً ضخمةً حافلةً بأوراق النقد ثم منح «زبيدة» خمسة دنانير قائلًا: شكرًا … لم يكن من المعقول أن أغادر «اللؤلؤة» دون أن أقابل «ياسمين» مرةً أخرى.

سألت «زبيدة»: هل تغادرها قريبًا يا سيدي؟

رد «جاتمان»: إن ذلك يتوقَّف على مقابلتي اليوم ﻟ «ياسمين»!

ثم نظر إلى ساعته وقال: الساعة الخامسة … لم يبقَ سوى نصف ساعة ويحضر الشاب الذي سيحملني إليها.

مندوزا: سيحملنا معًا يا «أرنست».

قال «جاتمان»: تمامًا يا مستر «مندوزا» معًا …

كانت لهجته منكسرة بما لا يترك مجالًا للشك في أنه لا يستطيع ولا «بلور» أن يخالف تعليمات «مندوزا».

كان على «زبيدة» أن تتصرَّف بسرعةٍ لإخطار «أحمد» و«إلهام» بحضور «مندوزا» مع «جاتمان»، فأخذَتْ تنظر حولها باحثةً عن «عثمان» ولكنه لم يكن موجودًا … ويبدو أنه صعد مع أحد الزبائن إلى غرفته، أما «خالد» فلم يكن في مكانٍ محدد، فقد ذهب يتسقط الأنباء، ويطوف قرب الآبار لعله يعثر على شيء …

أخذت الدقائق تمر تباعًا … ثم ظهر ابن عم «خالد»، واتجه إليها فأشارَتْ له حيث كان يجلس الرجال الثلاثة … وبعد لحظاتٍ شاهدَتْ «مندوزا» و«جاتمان»، يغادران الفندق مع الشاب ورأَتْ خلال الزجاج السيارة وهي تتحرك مسرعة.

قرَّرَت «زبيدة» أن تُسرع إلى القرية لتحذير «أحمد» و«إلهام» وفي هذه اللحظة ظهر «عثمان» … فأسرت تروي له ما حدث … وطلبت منه أن يحاول سبق «مندوزا» و«جاتمان» إلى المنزل البعيد …

أسرع «عثمان» خارجًا … وضاعَتْ دقائق ثمينة وهو يبحث عن سيارة تقلُّه إلى المكان المطلوب، وعندما عثر عليها كان أكثر من ربع ساعة قد انقضى منذ انطلقت السيارة تحمل الثعلبين إلى قرية «الزهراء».

كان «أحمد» و«إلهام» قد أعدَّا المنزل للاستقبال … فحرَّك «أحمد» بعض المقاعد من مكانها استعدادًا لصراعٍ قد يقع … ثم استكشف غرف المنزل جميعًا واختار غرفة مجاورة للصالة ليكمن فيها … وكانت «إلهام» قد وضعت مسدس «جاتمان» في حقيبة يدها … وفكَّر «أحمد» قليلًا ثم قال لها: هاتي المسدس يا «إلهام»!

إلهام: لماذا؟

أحمد: سيتمكن «جاتمان» من أخذ المسدس منكِ ولو بالقوة … ومن الأفضل أن نُفرغه من الطلقات.

إلهام: لا تنسَ أنه قاتلٌ محترف … وسيعرف من وزن المسدس أنه خالٍ من الطلقات.

أحمد: سنخلي الطلقة الأولى فقط … فإذا أطلق أول طلقة استطعت أن أقفز إلى الصالة …

وسمعا صوت نفير السيارة فأسرع «أحمد» يُمسك بالمسدس ثم نزع منه أول طلقةٍ وأعطاه «لإلهام». وفي تلك اللحظة سمعا أصوات أقدام تتقدَّم … وقال «أحمد» هامسًا: إنهم أكثر من شخص …

ثم قفز واختفى في الغرفة التي اختارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤