لقيط في دورة المياه

في مدرسة السنية كانت معي زميلة اسمها سعاد، تسكن في منزل مجاور لبيت عمي الشيخ محمد، بيتها أحسن حالًا، تدخلُه الشمس، المرحاض نظيف، أزورها لمجرد الدخول إلى المرحاض، تمشي معي إلى المدرسة، تُعطيني كراريسها أنقل منها ما يفوتني أيام الغياب.

سعاد سمراء البشرة نحيفة قصيرة، ووجهها طويل شاحب، شفتاها رفيعتان تشوبهما زرقة، مُطبِقتان بشدة الجدية والاستقامة، في المرآة شفتاي مُنفرجتان غير منطبقتين، هل أفتقد الجدية والاستقامة؟ أشد عضلات وجهي، أزمُّ شفتيَّ، مهما حدث لن أبتسم، لا شيء في الكون يبعث على الابتسام.

فجأة تَنفرج شفتاي، أبتسم لأقل سبب، جرْو صغير يرفع ذيله يبول فوق جدار الجامع، الناظرة ترفع أنفها بكبرياء لتَسقُط من فوق المنصة، أنفجر بالضحك، سعاد إلى جواري شفتاها لا تنفرجان.

أخي طلعت يُشاركني الضحك، يقلِّد طنط فهيمة، يدق بكعب حذائه الأرض، يُقلِّد عمي الشيخ محمد، يتنحنَح بصوته الغليظ، زوجة عمي تتأوه بصوتها الناعم الممطوط.

الجمعة يوم الإجازة، أذهب مع أخي إلى حديقة الأزبكية والأندلس وحديقة الحيوان في الجيزة، نتبارى في ركوب الترام دون دفع التذكرة، أخي أكثر جرأةً في التزويغ من الكمساري، يقفز من الترام قبل أن يصل إليه، أقفز خلفه، الكمساري يَقفز ورائي، لم يكن مألوفًا أن تقفز البنات من الترام.

ركوب الترام دون دفع التذكرة من المَباهج الكبيرة التي تملأ حياتنا الصغيرة، ثمن التذكرة ستة مليمات تبدو ستة جنيهات. أخي طلعت يكبرني بعام واحد، يعرف كل شيء في مصر، سينما مترو، مسرح الريحاني، كازينو بديعة، لم يحبَّ المدرسة أو المذاكرة، يأخذني إلى دار الكتب في باب الخلق، نجلس نقرأ الروايات، الكتب القديمة، أخي يحبُّ الشعر، الموسيقى، العزف على العود، الغناء، التمثيل، كان يمكن أن يكون فنَّانًا موهوبًا لولا ما حدَث في منوف.

كان في العاشرة من عمره، الضربة جاءته في نصف وجهه الأيسر، نصف قرن وأكثر مضى منذ الحادث، أخي طلعت لا يَنساه، يراه كل يوم في المرآة، الجرح الملتئم في خده الأيسر، الجرح غير الملتئم في أعماقه.

– لولا منوف يا نوال …

– كان حصل إيه يا طلعت.

– كنت بقيت موسيقار كبير.

صوت أخي في أذني قبل أن أُغادر مصر في صيف ١٩٩٢، جاء يَزورُني في بيتي بالجيزة، بريق طفولي يطلُّ من عينيه، طبقة شفافة من الدموع الجافة، سحابة رقيقة من الحزن القديم، صفرة خفيفة تطفو فوق البريق، في يده روشتة من الطبيب: ارتفاع نسبة البولينا في الدم.

– ماذا في الكُلية اليسرى؟

– شوية تعب.

كلمة «تعب» ترنُّ بصوته غريبة، لم يكن أخي يشعر بالتعب، لا ينام الليل، يتدرَّب على العزف، يغني، يرى نفسه في المرآة موسيقارًا كبيرًا، يَركب البسكليتة يطير بها في الهواء، يحلق فوق الزرع مثل الفراشة، بشرته بيضاء (مثل أمي) مُشربة بالحمرة، ملامحه مُتناسقة، ممشوق الجسم، تَرمقه البنات بإعجاب، يرمقه الصبيان بكراهية، أمسَك أحدهم قعر زجاجة، ضربه في وجهه، جاءت الضربة في خده الأيسر، كان طفلًا في العاشرة، هل نفَذت الضربة إلى القلب؟ إلى الكلية اليسرى؟

أخذه أبي إلى طبيب في منوف، في القاهرة أخذه الطبيب إلى طبيب أكثر كفاءةً، التأم الجرح في الخد الأيسر، ترك علامة يراها أخي كل يوم في المرآة.

– لولا الجرح كنت بقيت …

– الجرح مش باين يا طلعت …

في المرآة لا يرى أخي إلا الجرح، منذ جاءته الضربة يَكتُم الدموع، الرجل يتلقى الضربة دون بكاء، البكاء للبنات، أصبح أخي رجلًا في العاشرة من عمره.

يَبتلِع الدموع إذا ضربه أبي، يَضربه حين يسقط في المدرسة، حين يترك المذاكرة، لم يدرك أبي موهبة أخي.

– عاوز تبقى مصوراتي؟!

– عاوز تبقى مازيكاتي؟!

لم تكن الفنون مُحترَمة، الشهادات العليا من الجامعة هي أهم شيء، من لا يدخل الجامعة لا يكون مثقَّفًا، من لا يتخرج في الجامعة لا يكون عريسًا.

كلمة «الجامعة» لها رنين ساحر، أول مرة رأيت «القبَّة» كنت في الرابعة عشرة من عمري، ذهبت مع أخي طلعت وزميلتي «سعاد»، دخلنا حديقة الحيوان في شارع الجيزة، خرجنا من الباب الآخر في شارع الجامعة. «القبة» لها هيبة، تلمَع تحت الضوء أكبر من قرص الشمس، الساعة العالية ترن بصوت أقوى من الأسد في حديقة الحيوان، شارع الجامعة تَحوطُه الأشجار الباسقة، أوراق الشجر أكثر خضرةً من الأشجار الأخرى، رائحة الياسمين تملأ الجو، أسفلت الشارع يلمع تحت الشمس مغسولًا بالماء والصابون، طلبة الجامعة يدبُّون فوق الأرض بأحذية جلدية قوية، يرتدون بدلًا من الصوف المتين رصاصي اللون، تتدلى من أيديهم حقائب جلدية تلمع تحت الضوء، رءوسهم شامخة، عيونهم نحو السماء، يَرمقوننا باستعلاء نحن الأطفال أو التلاميذ، أيأتي يوم أدخل فيه الجامعة؟ أجلس إلى جوار هؤلاء الرجال؟ أتخرَّج؟ أُصبح كاتبة؟ طه حسين كان طفلًا فقيرًا فاقد البصر، أبي ليس فقيرًا مثل أبيه، وأنا لست فاقدة البصر!

شارع الجامعة وحديقة الأورمان، فرع النيل فوق كوبري بديعة (كوبري الجلاء)، والنيل الرئيسي، كوبري قصر النيل، الأسد الحجري عند مدخل الكوبري أكبر من الأسد الحقيقي في حديقة الحيوان، مياه النيل تجري تحت الكوبري، تَنعكس عليها الأضواء، مياه أخرى، نيل آخر غير النيل في كفر طحلة، السيارات تَمرُق فوق الكوبري، يهتز من تحتنا، تهتزُّ معه أجسامنا، أيسقط الكوبري ونحن فوقه؟!

دخلت إلى الميدان الواسع «الإسماعيلية» نسبة إلى الخديو إسماعيل، الجامعة اسمها جامعة فؤاد الأول، ميدان واسع آخر اسمه ميدان فاروق الأول، شارع الملكة ناظلي، شارع الملكة فريدة، قصر الأمير محمد علي، مدرسة الأميرة فوزية، الأميرة فوقية؛ أسماء ترنُّ في أذني مهيبة، أسماء الآلهة في السماء، لم أَعرف أنها سوف تَسقُط ومعها ألقاب الباشوات في بضع سنوات.

زميلتي «سعاد» مثلي تحلم بدخول الجامعة، كلية الحقوق بالذات؛ تُريد أن تكون محامية لتدافع عن حقوق الفقراء. أخي طلعت يُريد أن يدخل معهد الموسيقى، أريد أن أدخل الفنون الجميلة، كلية الآداب. الأدباء، أيتخرَّجون في كلية الآداب؟!

في أحلامي أرى نفسي أديبةً أو كاتبة أو عازفة على العود، على البيانو، رسامة، أمسك الفرشاة في يدي والحامل الخشب فوقه اللوحة، الصورة في ذهني، أول حبٍّ في حياتي، أسترجعها، نائمة في الليل بجوار طنط فهيمة، عيناها الجاحظتان ترمقني، تكشف أحلامي، في غمضة عين تنام، يَرتفع شخيرها في السكون، أتسلَّل من الفراش إلى الفرندة الواسعة، أُطلُّ على النجوم، أستكشف المستقبل، أستعيد الماضي، أدوِّن السطور في مفكرتي.

الماضي يبدو لي ساحرًا، سقوط الأشياء في العدم يُكسبها الرونق، الروَث في حقل عم صابر له رائحة العطر، بِركة الطين بحيرة تلمع تحت القمر، قطرات المطر فوق زجاج النافذة، أصابع تعزف على العود، نهيق حمارة الحاج محمود أكثر رقةً من شخير فهيمة.

شطبت العبارة الأخيرة من مفكرتي، كارثة لو عثرت عليها طنط فهيمة، أشطب الكثير من مفكرتي، أمزق الورقة وأُلقي بها من نافذة القطار، أشدُّ عليها السيفون في المرحاض، أخشى أن ألقيها في صفيحة القمامة في المطبخ، أرى طنط فهيمة تُفتِّش في الصفيحة.

بعد موت جدي استبدلت طنط فهيمة الكلب الوولف بالقط المتنمِّر، في ظلمة الليل يقفز الجسد الأسود فوقي، أهبُّ من النوم مُفزَعة، تأخذه طنط فهيمة في حضنِها، تَحوطه بذراعيها.

علاقة حبٍّ تربط طنط فهيمة بالقطِّ المتوحش، يَستكين بين ذراعيها، في غيابها يُصبح هائجًا متحفِّزًا، تُطلق عيناه بريقًا، لسانًا مثل اللهب، في الليل يموء بين ذراعيها، عشيق يحنُّ إلى الحب، تحنو عليه طنط فهيمة أكثر من كل سكان البيت، أتفضِّلُ معاشرة الحيوان على الإنسان؟ تعطيه حق الحبِّ وتَحرمني من الحق ذاته، لم تمدَّ يدها مرة واحدة لتُربِّت على كتفي، لم تحُطْني بذراعيها مرةً واحدةً، لم تضع أمامي صحنًا باللبن، تملأ صحن الكلب باللبن.

في الليل أجلس في الفرندة كما كنتُ أفعل في منوف، أمامي الحديقة، أوراق الشجر تلمع تحت ضوء القمر، عيناي تتعلَّقان بالنجمة البعيدة الوحيدة؛ نجمتي، وُلدت معي، تموت معي، إلى جوارها نجمٌ يلمع، يرمقها، عيناه يَكسوهما البريق، يطلُّ عليها من الفرندة العلوية، يَعزف العود، يُغنِّي لها وحدها دون ملايين البشر، يعرف اسمها من بين ملايين الأسماء، «يا نوال فين عيونك؟» أغمض عيني، أتسلَّق السور، أصل إلى الدور الثاني، أتوقف لحظة ممسكة بسور الفرندة، كان يقف متكئًا بذراعه على سور الفرندة، أُسند يدي فوق السور الحجري كما يَسند يده، يهبُّ الهواء، يمتلئ قميصه الواسع بالهواء، يحلِّق في الجو روحًا بلا جسم، يختفي وراء السحب، عيناي تدوران تبحثان، السماء والأرض خاليتان منه، يبدو غيابه مفاجئًا طارئًا لم يحدث من قبل، أمدُّ يدي نحو السور الحجري، ملمس الحجر تحت أصابعي دافئ مثل بشرة حية، له رائحة الجسم، أضع يدي فوق يده، السور الحجَري يَلينُ تحت ذراعي كذراعه.

أنتفض في السرير، أصحو، تَفتح طنط فهيمة عينيها … يسقط القطُّ بين ذراعيها يفتح عينيه هو الآخر، يَرمقني في غضب، أنا غريمته في هذا الفراش، يُريد أن يكون وحده في السرير؛ كالزوج لا يطيق شريكًا له.

في مفكرتي السرية كتبت:

طنط فهيمة لو عرفت كم من الوقت أَقضيه في الليل بين ذراعي «ف»، ماذا تقول عني؟ فتاة فاسدة؟ طنط فهيمة تقوم بأسوأ الأعمال في وضح النهار بأنف شامخ، تَحرمني من شرب اللبن في الصباح، تُعطيه للقطِّ المتنمِّر، هل أُواجهها بحقيقتها؟ هل أواجه كل الناس بحقيقتهم؟ أنام وأحلم أنني واجهت العالم بحقيقتي، ولدتني أمي في هذا العالم، هذا العالم ليس بيتي، الأرض ليست أرضي، السماء ليست سمائي، الأهل ليسوا أهلي، أنا بلا أرض، بلا سماء، بلا أهل! أنام وأحلم بالعالم كله تغير، أحلم بلحظة أكسر قشرتي الخارجية، القوقعة الصلبة تحوطُني، تُعجزني عن النطق، لماذا لم أنطق اسمه؟ نَلتقي وجهًا لوجه؟ لم تنفرج شفتاي عن كلمة «أحبك»، في الحلم أهمس له بالكلمة، ينظر إليَّ باندهاش، أيُمكن أن تَنطق بنت بمثل هذه الكلمة؟ تتَّسع عيناه بدهشة، يَبتسم بسخرية، يمضي في طريقه إلى شارع المحطة في يده الحقيبة والعود في يده الأخرى، أصحو من النوم مبلَّلةً بالعرق، بالندم طول العمر لو أن ابتسامته الساخرة لم تكن حلمًا، لو أن مُفكرتي وقعت في يد أحد! ماذا يقولون عن التلميذة الجادة المستقيمة؟! تسترجع حبها الأول؟! تُشكِّله، تعيد تشكيله؟! تستحضره؟ نسمة هواء في جو خانق؟ صورة جميلة في عالم يخلو من الجمال؟

جاءني أخي طلعت وهمس في أذني: عندي فكرة جهنَّمية! كثيرًا ما تُراوده تلك الأفكار الجهنمية، رحلة إلى حديقة الحيوان في الجيزة، إلى القناطر الخيرية، إلى دار الكتب في باب الخلق، المسرح، السينما، لم تكن أي شيء من ذلك، مغامرة بدت خطيرةً شاركته فيها، لماذا؟ إنه صديقي الوحيد في البيت الكبير المُوحش، هل أفقد صداقته وأنا مثله أحبُّ الصور، أكره طنط فهيمة وأود الانتقام منها.

لم يكن في البيت إلا أنا وأخي، سافر الجميع في إجازة يومين، هبط أخي طلعت إلى الغرفة في الحديقة الخلفية: «أنا جبت عربية كارو عشان نشيل الصور دي كلها.»

ارتعدتْ، لم يُعطني فرصة للاعتراض، بدأ يَحمل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، وجدت نفسي أُساعده كالتابع المطيع. بعض الصور كبيرة ثقيلة نشترك في حملها معًا، أو يحملها أخي فوق ظهري مثل حماره، الإطارات عريضة ثقيلة مصنوعة من الذهب أو ماء الذهب، صورة جدي بالبدلة الرسمية والنياشين يُشبه سعد زغلول باشا، صورة الخديو إسماعيل والخديو عباس والملك فؤاد الأول، الإمبراطور هيلا سلاسي ملك الحبشة، الأستاذة فهيمة شكري تتلقى شهادة المعلمات، صورة زفاف أمي وأبي، زفاف طنط نعمات إلى محمد أفندي الشامي، ثوب الزفاف قصير من الدانتيل الأبيض، طنط هانم ثوب زفافها طويل يُجرجر ذيله على الأرض، صورة بدور هانم (شقيقة جدي) تَحتضِن طفلها تُشبه صورة الملكة نازلي تحتضن الأمير فاروق، العذراء مريم تَحتضِن المسيح، صورة لجدي طاهر بيه زوجته إلى جواره ترتدي اليشمك، ثلاثة من الصبية يرتدون بِدَلًا أنيقة، خالي يحي، خالي زكريا، خالي ممدوح، محمد علي باشا أحد أسلاف شكري بيه! أمي بالفستان السواريه في حفلة رأس السنة، أمي تَحمل طفلها الأول «طلعت»، الإلهة إيزيس تحمل حورس.

أمسك أخي الصورة الأخيرة، تحفة!

«خسارة الصور دي تترمي في التراب كدة!»

ساعتان ننقل الصور من الغرفة إلى العربة الكارو، صعد أخي مع السائق فوق العربة ليربط الحبال، الحمارة مربوطة في العربة هزيلة بيضاء تُشبه حمارة الحاج محمود في منوف، زمجر السائق، الحمل أثقل مما تصوَّر، طالبنا بزيادة في الأجر، لم يشأ أخي أن يضيع الوقت، وافق على الفور، تأهَّبت العربة الكارو للحركة، فوقها الحمل الثمين، نحن من خلفها، فجأةً ظهرت طنط فهيمة، انشقت عنها الأرض، رأيتُها أنا وأخي في وقت واحد تدفع الباب الحديدي الخارجي بيدها لتدخل، ظهرها ناحيتنا، سمعنا الجرس المعلَّق فوق الباب يُصلصل، ابتدرت لتُغلق الباب وراءها، التقطتْ أُذناها الصوت، النهيق، شارع الزيتون لم يكن فيه حمير، توقَّفتْ حركة رأسها مع الاستدارة لتُغلق الباب، عيناها الجاحظتان من وراء العربة الكارو، الحمارة لم تتحرَّك بعد، الحمل ثقيل، تُثبت حوافرها في الأسفلت، يرتفع نهيقها في الجو.

«شيه يا عزيزة شيه!»

طنط فهيمة عيناها لم ترَيا العربة الكارو، الحمارة فقط رأتها، تحرَّكت عيناها إلى العربة، أكوام الصور فوق ظهر العربة، تردَّدت، استدارت لتدخل، ظهرها أصبح ناحيتنا، نجَونا، نجونا، حمدنا الله.

لماذا استدارت مرة أخرى؟! لمحَت المرحوم جدي يتربع فوق ظهر العربة الكارو، داخل الإطار المذهب، داخل بدلة التشريفات فوق صدره النياشين.

«يا دي المصيبة!» طنط فهيمة ترفع الصوت، أبوها المرحوم عاد من القبر، المصيبة تحوَّلت إلى فضيحة، امتدَّت من بيت المرحوم في الزيتون إلى بيت الشيخ الأكبر في القلعة، إلى العمارة العالية في الضاهر إلى منوف إلى كفر طحلة إلى كل مكان في الكون.

عاد المرحوم (ومعه جميع الصور) إلى الخلفية في الحديقة، انطلقَت الحمارة مع سائق العربة الكارو، لم يردَّ لأخي الثمن الذي أخذه مقدَّمًا. استأجرتْ طنط فهيمة نجَّارًا، أصبح لباب الغرفة قفلٌ لا يفتحه الجان، أخي يحاول تفسير ظهور طنط فهيمة، لغز أصعب من نظرية فيثاغورس، لو طنط فهيمة تأخَّرت دقيقة واحدة بس! لو الحمارة اتحركت دقيقة واحدة قبل ما طنط فهيمة توصل!

كان عنيدًا يَكره الفشل في هذه المغامرات أكثر من الفشل في المدرسة، حصل على هذه الصور بعد ذلك، كيف؟ دخلتُ إلى غرفته في منوف فرأيتُ الوجوه معلقة فوق الجدران، التي حملتها فوق ظهري من الغرفة الخلفية، يتوسطها المرحوم جدي داخل الإطار المذهب داخل بدلة التشريفات، النياشين فوق صدره.

•••

في مدرسة السنية، في ربيع عام ١٩٤٥م، وقع حادث انقلبت له الدنيا، واحدة من الفرَّاشات اسمها دادة «أم علي» أطلقت صرخة حادَّة من دورة المياه، خرجَت تحمل بين ذراعيها مولودًا يرفس بيديه وقدميه، أعلنت الناظرة الطوارئ، إغلاق الأبواب، حظر الخروج على جميع البنات.

لم أفهم الموضوع، «دادة أم علي» (الفرَّاشة) ولدت طفلها في دورة المياه؟ زميلتي سعاد همسَت في أذني بكلمة جديدة: «لقيط»، الناظرة تُشبه نبوية موسى وطنط فهيمة، ترمق طوابير البنات بعينين جاحظتين، النظارة الزجاجية تدبُّ على الأرض بكعب حذائها، أنفها من الجانب يرتعش، حركة عصبية، شامخة إلى السماء، أرستقراطية من سلالة البشوات والأمراء من عائلة محمد علي باشا.

لم تعثُر الناظرة على البنت الآثمة، أصبحت كل تلميذة متَّهمة بالحمل السِّفاح، رنَّت كلمة السِّفاح في أذني مثل السفَّاح، سمعتُ مِن طنط هانم عن السفَّاح في حي السكاكيني، بجوار شارع الظاهر. «السفاح» يحمل السكين يقتل الناس، يعيش في السكاكيني، لا يسكن فيه إلا أصحاب السكاكين، يا عبيطة يا نوال، السكاكيني باشا كان عايش في الحي، عشان كدة اسمه السكاكيني! باشا يُسمُّونه السكاينس؟ هل جمع فلوسه من بيع السكاكين يا طنط هانم؟

شرَحتْ زميلتي سعاد الفرقة بين السِّفاح والسفَّاح، السِّفاح (بالكسرة) هو الحمل أو المولود بدون أب.

مولود بدون أب، سيدنا عيسى عليه السلام، أهناك غيرُه؟ سعاد تشرح لي، عيون المفتشين تمر علينا في الطابور، كشافات تبحث عن علامة الجريمة، الحمل السِّفاح مرسوم فوق وجه التلميذة؟ في بصمة يدها؟!

لم يعثروا على البنت المذنبة، أصبحت البنات كلهنَّ مذنبات، مدرسة السنية كلها أصبحت مذنبة، مدرسة سيئة السمعة.

– انتي في مدرسة إيه يا نوال؟

– السنية يا طنط.

– ياه! اللي لقوا فيها ما اعرفش إيه في التواليت!

النسوة من عائلة المرحوم جدي تَنتفض أجسادهنَّ، يشهقْنَ في نفس واحد، ياه! لا تكفُّ الواحدة منهن عن السؤال: انتي في مدرسة إيه؟ السنية يا طنط، يا مصيبتي! في عيونهم لا أرى أي مصيبة، اللذَّة تتأرجَح في عيونهنَّ، أيحلمْن طول الليل بالحمل السِّفاح؟!

طلبة المَدارس يَمشون وراءنا يُغنُّون ساخرين: يا بنات السنية، مشيكم على الأرض غية (على وزن: يا بنات إسكندرية، مشيكم على البحر فيه).

أحدهم يُمسك طوبة يَقذفنا بها، يُلقي بحقيبة كتبه فوق صدر واحدة مِنَّا، يركب معها الترام، يتبعها حتى بيتها، لا يكفُّ عن الهسهسة بصوت قبيح، كلمات أقبح من الفحيح.

خبطني واحد منهم بكوعه في صدري، واقفة أنتظر الترام، أمسكتُ حقيبة كتبي وهويتُ بها فوق رأسه، يَسقط على أسفلت الشارع فوق قضبان الترام، كادت العجلات تدهسُه، تجمَّع زملاؤه، شدوه إلى الرصيف، لم يقترب منِّي أحد منهم، يَرمقونني من بعيد، إذا حاول أحد منهم الاقتراب صاحوا به: اوعَ يا ابني رأسك! دي من عيلة طرزان!

خالي يحيى يقف في الفرندة يُعاكس البنات، خالي ممدوح ينضمُّ إليه، لكن خالي زكريا كان مُهذَّبًا، طنط فهيمة أخذت دور أبيه، تحذره من أخيه يحيى وابن عمه ممدوح، تقول له: «دول صايعين وضايعين مش لازم تكون زيهم.»

الشجار يدبُّ بين طنط فهيمة وطنط نعمات، نعمات هي الكبرى، أخذت دور الأم لأخويها، تُدلِّل خالي يحيى باسم «توحة»، تُدلِّل خالي زكريا باسم «زيكة»، رجل له شارب كثيف اسمه توحة أو زيكة؟!

بقايا التقاليد في تلك العائلات، اسم توحة يُوحي بطفلة ذات خدين ناعمين، ليست هي خالي يحيى، قصير نحيف، أحدب الظهر، رأسه كبير، جبهته مقوَّسة، شعره مجعد، يدهنه بالبريانتين، يفرقه على جنب، طربوشه أحمر فاقع مائل على جنب، عيناه من وراء النظارة مائيتان غارقتان في الدموع، لا يبكي، يَضحك على نكت لا تُضحِك أحدًا، «النني» الأسود مُطفأ خالٍ من التعبير، تشوبه زرقة بلون طلاء النوافذ أيام الحرب، الحاجبان كثيفان مقوَّسان إلى أعلى، مندهش دون أن يندهش، أنفه ناعم، طرفه المدبَّب مرفوعٌ مثل أنف طنط فهيمة، تجري فيه دماء أرستقراطية، فتحتا الأنف واسعتان تشوبهما رعشة، يملؤهما شعر غير بشري، شفتاه رفيعتان يُبلِّلهما بطرف لسانه، يبتلع لعابه بصوت مسموع، يمصُّ لسانه، يلعق شفتيه، يضحك فيَظهر فكَّاه الأعلى والأسفل، اللثة حمراء، الأسنان مُشرشرة صفراء بلون الدخان، يرتدي بدلة ضيقة وصديري ضاغط على صدره، يُشعل السيجارة وراء السيجارة، يُمسكها بين إصبعين صفراوين، يدقُّ بها فوق مسند الكرسي، دقات قوية، أصابعه رفيعة تشوبها رعشة، لم يُكمل تعليمه، اشتغل موظَّفًا في السكة الحديد، يُصلح الساعات المعلقة في المحطات.

يبدو رجلًا طفلًا، مثقَّفًا جاهلًا، عاليًا واطيًا، تفوح منه رائحة الدخان، مع عطر فواح من عطور النساء.

أبي يَعتبر خالي يحيى نموذج الشباب المخنَّث، نتاج طبقة عالية هابطة إلى أسفل، مصيرها نحو الزوال.

•••

عُدتُ من المدرسة فرأيت طنط فهيمة تلطم خدَّيها بيديها: يا دي المصيبة السودة؟

الخادمة شلبية متكوِّرة وراء باب المطبخ تبكي، هل مات أحد؟

دخلت إلى غرفة طنط نعمات، هل سأراها جثةً ممددة في السرير، رأيتُها واقفة أمام المرآة داخل فستانها الحريري الأسود، ساقاها السمينتان البيضاوان داخل جورب شفاف أسود، شعرها ملفوف بدبوس كبير فيه فصوص لامعة، قدماها داخل حذاء أسود لامع له كعب عالٍ رفيع، تفتح «الشفونيرة»، ترتدي الإسورة (الشبكة التي شبَكها بها محمد أفندي الشامي)، ساعة اليد الصغيرة ذات الفصوص اللامعة، جلست أمام التسريحة أو «التواليت»، وضعت البودرة على وجهها، كحَّلت عينها بالكحل الأسود الطويل في المكحلة، تضعها بين جفونها، صبغت شفتيها الرفيعتين بإصبع الروج، قلبَت الشفة العليا فوق السفلى، مطت بوزها إلى الأمام.

رأتني في المرآة عند مدخل الغرفة، بطنها مُرتفع قليلًا تحت الفستان الحريري الضيق، أيكون في بطنها حمل سِفاح؟!

– بتبصيلي كدة ليه يا جارية ورور؟

– إيه المصيبة السودة يا طنط نعمات؟

– البنت مقصوفة الرقبة اللي اسمها شلبية، ماشية مع الولد المكوجي، أنا رايحة دلوقتي حالًا أشده من رقبته أجيبه هنا هو والمأذون عشان يكتب كتابها.

شلبية الخادمة الصغيرة تبدو أصغر منِّي، تَحمل في بطنها جنينًا؟! طنط نعمات تقول عنها «مأرودة». لا يقل عمرها عن «خمستاشر سنة»، نحيفة كالبوصة، بلا أثداء ولا أرداف، جلدة على عضمة، تنام على كنبة بلدي في غرفة الدادة، تُغلق عليها طنط فهيمة بالمفتاح في الليل، كيف حملت شلبية؟!

طنط نعمات تتَّهم الولد المكوجي، أو صبي البقالة المُجاورة، بائع الروبابيكيا، جامع القمامة، الزبال، ولد من الخدم، تقول عنهم: «بلا دين ولا ضمير ولا أخلاق.» طنط فهيمة لا ترى أنه واحد من الخدم، الخدم لا يَملكون الجرأة لاغتصاب خادمة الأستاذة فهيمة شكري على سن ورمح، شارع الزيتون كله يعمل حسابها، الاستهانة بالخادمة هي استهانة بالمَخدومة، طنط فهيمة ترى أنه واحد من البهوات الصايعين الضايعين من أمثال يحيى بيه شكري.

شلبية ملامحها تُشبه زينب ابنة عمَّتي بهية، ترتدي جلبابًا واسعًا يُخفي ارتفاعة البطن، متكورة حول نفسها، تمسح دموعها، تشد طرف جلبابها تغطي ركبتيها، طنط نعمات تلسعها بالعصا الخيزران: انطقي يا بنت! الولد المكوجي ولا الزبال؟

– ماعرفش وحياة ربنا يا ستي.

– بتحلفي بربنا كدب، إلهي يحرقك في نار جهنم!

– أنا في عرضك يا ستي! أبوس رجليكي يا ستي!

خالتي نعمات لا تلين لهذه التوسلات، قسوتها تشتد، انهالت عليها بالعصا الخيزران، تضربها على أي مكان تصل إليه، شلبية تتكوَّر كالقنفذ، تحمي رأسها بذراعيها، ذراعان رفيعتان بلا لحم، عودان من البوص، تسقط فوقهما العصا الخيزران، يرتطم الخيزران بالبوص، شيء ينكسر، الخيزران؟ البوص؟!

طنط نعمات سمينة قصيرة، قامتي فارعة بالنسبة لها، ذراعاي قويتان أقوى من ذراعيها، ضربت الطالب الشاب على محطة الترام، أثق في قوة عضلاتي، أقوم بالتمرينات الرياضية في الحديقة الخلفية، عمودان من الحديد في الأرض، «العُقلة» و«المتوازيَين»، يقفز خالي زكريا عليهما، يحمل فوق كتفيه عمودًا من الحديد يَنتهي من كل ناحية بكرة حديدية، أتبارى مع خالي زكريا في حمل الأثقال، جسمي يَزداد قوة، أمشي رافعة رأسي، خطوتي فوق الأرض تخفُّ، قوة جديدة تحملني، قدماي لا يلمسان الأرض، هل يخفُّ الجسم مع ازدياد قوته والروح ترق؟!

صوت شيء يتكسر في أذني، الخيزران؟ البوص؟ أمسك العصا بيدي الاثنتَين، أُغمض عيني، أضرب بكل قوتي، أفتح عيني، بين يدي العصا، هل أضرب طنط نعمات؟

لم أضربها رغم قسوتها، أُشفق عليها، تربطني بها علاقة دم، شقيقة أمي أخذتُ منها العصا الخيزران، ألقيت بها في الحديقة، لا شيء أكثر من ذلك.

بقيتْ مشكلة شلبية دون حلٍّ، لم يتزوجها أحد من الخدم، لكلٍّ منهم زوجة على الأقل، فشَلت طنط نعمات في مهمَّتها، في حياتها كلها، لا أحد مسئول عن فشلها إلَّا شلبية، شلبية هي السبب وراء المصاب، من ورقة الطلاق إلى السرطان في حلق المرحومة.

أبكي وحدي في الليل، أتذكَّر شلبية، طفلة مثلي، عمرها أربعة عشر عامًا، أصبحت الضحية وكبش الفداء، الخروف البريء يُذبَح بدلًا من البيه، لا دليل على أنه يترك بصمته، من يبحث عن البصمة؟! البنت ليس لها أحد في مصر، أهلُها في الصعيد، الحامل سِفاحًا تُقتَل مع الجنين دون تحقيق.

انطلقت المشاعر السوداء المخبوءة تحت البشرة الملساء المَنزوعة الشعر، الناعمة نعومة الثعابين، العصا الخيزران كالكرباج، تُمسكها الأصابع البضة المدبَّبة الأظافر كالمخالب، الجسد القصير المُمتلئ بالغضب، بالحزن، بالإحباط، يَنتفض مع انتفاضة الخادمة المضروبة، الضاربة والمضروبة جسد واحد، تَفصلهما العصا الخيزران، طنط نعمات، أتضرب نفسها بنفسها؟ تنهار بعد الضرب من الإعياء، تتهاوى فوق المقعَد تلهث، تنفض الهواء من صدرها، تشهق، تتشنَّج، تنهمر الدموع من عينيها، العرق يتصبَّب من جسدها، تفرغ جسدها من المياه الراكدة السوداء بلون قاع البرك.

طنط فهيمة لم تَضرب شلبية، تستنفذ طاقته المخزونة في الخروج إلى المدرسة، تضرب التلميذات بحافة المسطرة، تمرُّ عليهن في طابور الصباح، تنهال المسطرة فوق الأصابع الممدودة مثل مس هيمر ونبوية موسى وناظرة السنية وكل الناظرات، تعود طنط فهيمة من المدرسة بعد الظهر منهوكة القوى.

أمي لم تَضرب الخادمة سعدية بقسوة نعمات، تنفِّس أمي عن طاقتها في السجادة العجمية بالمضرب الخيزران، في تخريط الملوخية بالمخرطة، فرم اللحم في المفرمة، تسعة من الأطفال وأبوهم توكلهم طول النهار، يد زوجها تربِّت عليها في الليل، تُدفئها في ليالي البرد.

طنط نعمات عاشت وماتت، لم تَحمل ولم تَلِد ولم يَكفُلها أحد، لم تملك في الحياة إلا جهاز عُرسها، كراسي الصالون المذهب، السرير النحاسي الأصفر، الدولاب الكبير، الشيفونيرة، ترابيزة السفرة، البوفيه، «الدينوسوار» الدولاب الزجاجي للصيني والفضيات واثنتين من الكومدينو، التسريحة أو التواليت، قِطَع الأثاث الشبيه بأثاث أمي.

لم تحصل طنط نعمات على شيء من معاش أبيها، القانون يَحرم المطلَّقات من معاش الأب، بعد الطلاق نفقة عام واحد من زوجها، أصبحت طنط نعمات بلا مَورد، تطوف على بيوت الأهل في موعد الأكل، عمتي رقية في كفر طحلة مثل طنط نعمات، الفقر في القرية أقلُّ قسوةً من المدينة، القلوب في المدينة أشدُّ قسوة من القرية، عاشت عمتي رُقية وماتت أحسن حالًا من طنط نعمات.

لطنط فهيمة جزء من معاش أبيها، مع راتبها من المدرسة، تَنتمي إلى طبقة أعلى من أختها نعمات، ترمقها بطرف أنفها، طنط فهيمة رفضت الزواج بعقد رسمي، لم تشأ أن تفقد معاشها من أبيها؛ الابنة المتزوجة مثل المطلقة، تُحرَم في القانون من معاش الأب. تزوجت طنط فهيمة بعقد «عرفي»، العقد العُرفي لا يُعتبَر عقد زواج رسمي، احتفظت طنط فهيمة بمعاش أبيها حتى ماتت، العقد العُرفي غير مُحترَم مع أنه شرعي، الناس لا تَحترم إلا العقود الرسمية.

صورة شلبية محفورة في ذهني، تمشي وراء طنط فهيمة حاملةً صرة من الدمُّور فيها ملابسها، إلى أين تأخذها؟ تُنقذها من بين يدي طنط نعمات، تُنقذ سمعة العائلة الكريمة؟ لم أعرف مصير شلبية، طردتها طنط فهيمة إلى أبيها ليَقتلها؟ ربما تهيم على وجهها في الشوارع تتسول طعامها؟ تبيع جسدها في سوق البغاء إذا اكتسى جسدُها باللحم؟ لم أعرف مصير الطفل في بطنها، القانون يَحرم الطفل من الانتساب للأم، التبني مُحرَّم في الإسلام، آية في القرآن تقول: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ، إذا كان الأب مجهولًا يصبح الطفل «غير شرعي»، يتحمَّل عن أبيه وزر الإثم، ضحية أخرى بريئة مثل خروف العيد، لماذا لا يكون الأب المذنب هو الأب غير الشرعي؟!

كيف استطاعت طنط فهيمة أن تَطرُد شلبية من البيت؟ طنط نعمات اعتبرت الطردَ أشد قسوة من الضرب، في أعماقها الأمومة المَكبوتة، الحنان الراقد في القاع، تَرمُق شلبية بعينين مملوءتين بالدموع، تبتلع الدموع قبل أن يراها أحد، تسقط دمعة واحدة تمسحها بمنديلها الحريري الأبيض.

طنط نعمات تخجل من دموعها، تَلطم خديها بيديها، والدموع تظلُّ حبيسة، سمات العائلات المنحدرة من السلالات الراقية، عماتي الفلاحات الفقيرات يَبكين بالدموع دون خجل، يفرحن، يزغردن بصوت عالٍ دون حرَج، يَغمُروننا بالقبلات بالعناق عند الاستقبال، عند الوداع تنهمر دموعهنَّ، في المأتم يطلقْن صراخًا يُشبه الزغاريد، يتجمَّعنَ في الحقل في الدار في السوق، يواسين بعضهن بعضًا في الأحزان والمصائب، البيت بجوار البيت، النافذة تطلُّ على النافذة والجارة، تتجمَّع الجارات أمام الدار، يجلسْن على عتبة الباب، كل مَن تمرُّ في الزقاق تجلس معهن، الواحدة منهن لا تشعر بالوحدة، لا عزلة، لا جوع، تمدُّ يدها إلى أي حقل وتأخذ كوز ذرة.

طنط نعمات تَعيش في الوحدة، البيت الكبير تحوطه حديقة واسعة وسور حديد، نوافذ الجيران بعيدة، أتَجلِس على عتبة الباب كما تفعل ستي الحاجة أو عمتي رقية؟ أتمدُّ يدها لتأخذ رغيفًا من أي مخبز كأنما الحقل؟

طنط فهيمة مثل طنط نعمات، تَلطِم خدَّيها وتظلُّ دموعها محبوسة، في الليل أصحو على جسدها ينتفض يرجُّ السرير، جفونها مغلقة، وصوتها يخرج مُتحشرجًا من بين فكَّين يصطكَّان: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!» يَنقطع صوتها، تكفُّ أنفاسها عن إصدار أيِّ صوت، ماتت؟! تشهق شهقة واحدة مُتحشرجة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» يَنتفض جسدها انتفاضةً واحدة، كالدجاجة المذبوحة، تهدأ، تعود أنفاسها عميقة مُنتظمة بالشخير الخافت.

كانت ترى في نومها الكوابيس، شبح شلبية يلوحُ لها في الليل! طفلة متكورة بجوار صرة ملابسها تبكي، صوت البكاء يَخرق أذنيها مثل صفارة القطار، تقودُها من يدها إلى القطار، ترغمها على الصعود، تدفعها في ظهرها بقبضة يدها، تتبعها داخل القطار، تجلسها على مقعد خشبي في الدرجة الثالثة مع صرة ملابسها المربوطة بالدوبارة. لم أكن مع طنط فهيمة في تلك اللحظة، تصورتُها واقفةً فوق رصيف المحطة، شلبية جالسة على المقعد بجوار النافذة، يدها النحيلة تُمسك النافذة، يدها الثانية فوق صُرَّة ملابسها، وجهها خالٍ من الدم، عيناها مملوءتان بالدموع وتتسعان لدموع العالم، تتفادى طنط فهيمة النظر إليها.

تنظر إلى الناحية الأخرى، تتعلَّق عيناها بالسماء، عمود السواري، يتحرَّك القطار إلى الأمام معه شلبية، يتحرَّك الرصيف إلى الخلف معه طنط فهيمة، تمشي بظهرها إلى الوراء، وجهها أصبح في رأسها من الخلف، ترفع طنط فهيمة يدها لتتأكَّد من وجود عينيها في مكانها، تَصطدم يدها بالنظارة الخارجية فتسقط على الأرض، تنكسر، يَتناثر زجاجها في الجو مثل رذاذ المطر، طنط فهيمة عاجزة عن الرؤية، لا ترى شيئًا بدون النظارة، كيف تعود إلى البيت؟!

عادت طنط فهيمة من محطة القطار بدون شلبية، لم تُكلِّم أحدًا في البيت، لم يُكلمها أحد، تنفجر بدون سبب مثل قطِّها المتنمر، عادت الأمور إلى ما كانت عليه، لم يعد أحد يذكر اسم شلبية. جاء خادم عجوز في السبعين من العمر، عادت طنط فهيمة إلى طبيعتها، لكنَّ كوابيس الليل تُراودها، أصحو في الليل على انتفاضة جسدها، صوتها المُتحشرج، تكلم نفسها في النوم، نشيج خافت كالبكاء المكتوم، تَنفتح عيناها متسعتين جاحظتين في ذهول، تمتدُّ يدُها تحت وسادتها، تتحسس المصحف، سلسلة المفاتيح، تُغمض عينيها وتغطُّ في النوم.

تغلق الباب على الخادم العجوز، تَخشى عليه من الحمل السفاح، طنط نعمات تتهكَّم عليها، طنط فهيمة لم تعد تأمن على شيء في البيت حتى نفسها، تُغلق علينا الباب بالمفتاح في الليل، تقرأ من المصحف سورة يس، تطرُد بها الجان والشياطين، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، صوتها يشبه صوت ستي الحاجة وعمَّتي رقية، ملامحها أيضًا تتغير، تُصبح مثل طنط نعمات خائرة القوى، مُستسلمةً للمصير المحتوم، في الصباح تتبدَّل، ترتدي وجه الناظرة الشامخة، التايير الصوفي الأنيق، الحذاء الجِلدي القوي، تَضغط بإصبع الرُّوج الأحمر على شفتَيها، تضحك بصوت عالٍ مُلقيةً برأسها إلى الوراء.

هذه المرأة التي سمعتْ بكاء شلبية، دفعتها بقوة داخل القطار، هي نفسها المرأة التي تضحك وهي تصبغ شفتيها بالروج الأحمر؟!

في الرابعة عشرة من عمري، أنام في سريرٍ واحد مع هذه المرأة، أخاف منها، أخاف لو امتدَّت يدها نحوي تُغطيني فأنتفض، أتمتدُّ يدُها إلى عنقي؟ أتدفعني بقبضتها لأسقط من فوق السرير؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤