تقديم

رأى الأستاذ محمود السَّعدني أن يسمي كتابَه هذا «الظُّرفاء» ورأى — ولا أدري لماذا؟ أن أكون واحدًا من هؤلاء الظُّرفاء … ثم رأى أن أُساهم في الكتابة بكلمةٍ!

وأُبادر فأؤكد للقُرَّاء أنَّ الصورة التي رسمها لي صديقي السعدني لا تُمثل من حقيقتي إلا اسمي … لو كنت أحد الظرفاء الذين خصَّهم بعنايته لرضيت بما نسبه إليَّ من مزايا تافهة … وعيوبٍ جميلة … وأشياءَ أخرى غريبةٍ تثير السُّخرية والابتسام!

وكتاب السَّعدني، بعد ذلك، متحفٌ أنيقٌ يضم آثار بعض من الشَّخصيَّات المصرية الموهوبة، وقد تناول المؤلف هذه الشخصيات بالدراسة المرحة، والتحليل الضاحك، وأضفى على حياتها ظلالًا كثيرة من خياله السَّخي!

وللسعدني خيالٌ طاغٍ قويٌّ، غير أن هذا الخيال على طغيانه وقوته لا يقهر الحقائق دائمًا … فكثيرًا ما خضع لها، وهو في حديثه عن بعض ظرفاء مصر، لا يمشي وراء الحقيقة المجردة، ولا يمشي أمامها، ولكن يسير معها، يصادقها أحيانًا، ثم يخاصمها كما يخاصم الصديقُ صديقَه!

والشخصيات التي عرضها السعدني في مُتحفه تُمثِّل الطبيعة المصرية، بذكائها ومكرها وسخريتها، تمثل حضور البديهة، ودقة الملاحظة، وخفة الروح.

وقد كانت النكتة السلاح السِّري الفتَّاك الذي استخدمه المصريون في محاربة الغُزاة والمحتلين، كانت النكتة هي الفدائي الجسور الذي استطاع أن يتسلل إلى قصور الحكام، وحصون الطغاة، فأقضَّ مضاجعهم، وملأ صدورهم بالرعب والقلق.

والنكتة المصرية القوية تعتمد على المبالغة في تصوير حقيقة، أو تشويه حقيقة.

  • كان زِيوَر باشا رئيسًا للوزارة وكان ضخم الجثة، فوصفه عبد العزيز البشري بأنه إذا ركب العربة لم يستطع أحد أن يعرف هل هو جالسٌ إلى الشمال أو هو جالس إلى اليمين! وأنه كان يمشي في حديقة داره فتراهن اثنان من المارة هل هو يسير أمامهما أو هو مُتجه إليهما!

  • وكان مأمون الشناوي يتكلم عن سرعة تضخُّم حمادة الطرابلسي واطراد الزيادة في وزنه فقال إنه كان يجلس معه فرآه وهو «بيتخن»!

  • وكان حفني محمود وزيرًا للمواصلات، فسمع صوتًا عاليًا يرتفع من الغرفة المجاورة لغرفته فاستدعى الساعي وسأله: ايه الزيطة دي؟ فقال له الساعي إن السكرتير يتكلم من الإسكندرية، فقال حفني محمود: قُل له بدل ما يزعق كده … يتكلم في التليفون!

  • وكان حافظ إبراهيم جالسًا في حديقة داره بحلوان، ودخل عليه عبد العزيز البشري وبادره قائلًا: لقد رأيتك من بعيد فتصورتك واحدة سِت … فقال حافظ إبراهيم: والله يظهر إن نظرنا ضعف، أنا كمان شُفتك وأنت جاي افتكرتك راجل!

  • وكان البشري وحافظ إبراهيم مدعُوَّين إلى إحدى الرحلات، ودخل البشري على حافظ في غرفة النوم وطلب إليه أن يرتدي ملابسه، فقال حافظ: أنا لسة مغسلتش وشِّي، فقال له البشري: وشك موش عاوز غسيل … نفَّضه كفاية!

  • وتعَوَّد عبد العزيز البشري أن يستخدم صِيَغًا مختلفة في القَسَم بالله، فكان يقول مثلًا: أُقسم بالله ثلاثًا … وحقِّ ذات الله العليَّة … قسمًا بذات العزَّة والجلال … وكان إذا استعمل أحد هذه الأقسام في أول الليل ظلَّ يستعمله إلى أخر الليل.

    وفي إحدى الليالي لاحظ حافظ أن عبد العزيز البِشري استعمل كل صِيغ الأقسام … فسأله: إيه الحكاية؟ هوه مفيش «يمين» نوبتشي الليلة!

    وبين الشخصيات التي لمعت في مجال النكتة، ولم تكن لها صفة سياسية أو فكرية، المعلم دبشة الجزار، والأُسطى حسين الترزي.

  • كان حسين يسير في الطريق على قدميه، فلمحه أحد أصدقائه وكان يسوق عربته الخاصة، ودعا حسين إلى الركوب معه ليوصله إلى المكان الذي يريده، وكانت العربة قديمةً، فقال له حسين: ما أقدرش. علشان مستعجل!

    وزار دبشة إحدى الفنانات في دارها فوجد عندها رُمَّانًا، وأبدى إعجابه بالرمان، فقالت له: أفرط لك رُمان يا دبشة؟ فقال لها: فرَّطي لي … في عرضك!

  • وقابل سليمان نجيب إحدى السيدات في ميدان سِباق الخيل، فسألها عن اسم الحصان الذي لعبت عليه، فقالت له: إذا قلت لك اسم الحصان فهل تُشاركني عليه؟ فقال لها سليمان: أنا موش عاوز أشاركِك … أنا عاوز أشارك جُوزِك!

في هذا الكتاب أكثر من طراز للنكتة، وبعض هذه النُّكت يعتمد على المفارقات، وبعضها يعتمد على المبالغة، وبينها نُكت تعتمد على الجِناس والتَّورية واللعب بالألفاظ، وهي كلها تعطي صورةً صادقةً عن النكتة المصرية.

بين الشخصيات التي تعرَّض لها الكتاب شخصيات تُجيد النُّكتة إلقاءً ولا تُجيدها كتابةً … مثل محمد البابلي، ومحجوب ثابت، وحافظ إبراهيم، وعبد العزيز البشري.

•••

كان البابلي مُفكرًا على درجة عالية من الثقافة … وكان يجمع بين ترف الحياة وترف الذهن … وكان يتحدث بأسلوبٍ لاذع أنيق، ولكنَّه لم يحاول أن يُسجل هذا الأسلوب على الورق.

وكان محجوب ثابت يجنح في كتابته إلى تصنُّع الجَد، ويستخدم في مقالاته السياسية شعارات حماسية وطنية، وكان حريصًا على أن يبدو من خلال ما يكتبه مُتجَهِّم الوجه، مُقطب الجبين!

وكان حافظ يبلغ القمة في التعبير عن النكتة إذا ألقاها، أو عبَّر عنها بالشِّعر الخفيف، وكم له في هذا المضمار من أشعار لم يتضمَّنها ديوانه المطبوع، ولكن طريقته المعقدة في الكتابة كانت تخنق روح النكتة.

وكذلك كان عبد العزيز البشري … فإن أسلوبه الكتابي يعتمد على جزالة اللفظ، وهذا الأسلوب يحجب الجمال الذي امتاز به أسلوب البشري عندما يطلق النكتة، أو يحكي حكايةً.

وكان المازني يجيد السخرية إذا كتب، ولم يكن يعرف كيف يقول النكتة، ولا كيف يرويها عن غيره.

أمَّا عبد الله النديم وحسين شفيق المصري، فكلاهما كان يُحسن التعبير عن النكتة بالكتابة، والزجل، والكلام، والشِّعر الماجن، والشِّعر الرصين.

•••

لقد كان مفروضًا أن أتعرَّض هنا لدراسة النكتة؛ ما هي؟ وما الفرق بينها وبين الفكاهة، والطُّرفة، والمُلْحة، والدعابة، والسخرية، والقَفشة، والقافية … وهل تأثرت بحضارة العرب؟ وأي النكت أشد أثرًا؛ النكتة المسموعة، أم النكتة المكتوبة، أم النكتة المرسومة؟

ولكن مثل هذه الدراسة لا يتَّسع لها الحيز المخصص لمقدمة كتابٍ … ثم يبقى أن ما كتبته ليس مقدمة، ولا تمهيدًا. ولا تعريفًا … وإنما هو مجرد مساهمة بكلمة صغيرة، في كتابٍ غير صغير!

كامل الشناوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤