أتعس الظرفاء

مجدي فهمي

وفعلًا انهمك مجدي في الرقص! واستنجد الرجل بالبوليس، فقد تأكد أن الموظف الذي اقترحه كامل الشناوي … لا بدَّ أنه كان نزيلًا لمستشفى المجاذيب.

الحرب عام ١٩١٤م

وفي مصر جنود من كل الأجناس، ومن شتى بقاع الأرض: إنجليز، وهنود، وأستراليون، ومن شرق وغرب أفريقيا، والجنود الأجانب يأكلون خيرات البلاد، والمصريون يأكلون من طين الأرض، والفلاحون يهجرون الريف، والأثرياء يفرغون رصاص المسدسات في رءوسهم، والتجار يُفلسون بالعشرات، والخراب يعمُّ وينتشر ويُصبح في نهاية الحرب «زعيم الأغلبية» في البلاد.

ويُفلس مع مَن أفلسَ تاجرٌ عجوز اسمه أحمد فهمي، كانت له تجارة رابحة في الريف. ويقيم أحمد فهمي في المنصورة، وقد هدَّت كيانه المأساة، فلا يجد ما يصنعه إلا النكتة، والتَّرْيَقة على عباد الله.

ومع الإفلاس يُرزق أحمد فهمي بولد، فيطلق عليه من باب التريقة أيضًا … اسم مجدي، أي مجد الوالد، وكان مجد أحمد فهمي … الإفلاس.

ويترعرع الطفل مجدي وسط هذه الظروف العجيبة، والد يحترف الهزل بعد أن حطمته المأساة، وأوضاع غريبة تسيطر على البلاد، ملِك يملك ولا يحكم، ووزراء لا يملكون ولا يحكمون، وجيش أجنبي يحكم ويملك كل شيء … حتى الملك والوزراء.

ويجوب الطفل حواري المنصورة مع أبيه، يدخل غُرَز الحشيش، والمقاهي الحقيرة، ويصافح وجوهًا شاحبة، وأفواهًا نَخَر فيها السوس، ولكنها مفتوحة رغم كل شيء تُقَهقِه ساخرة على كل شيء.

ثم يهجر مجدي المنصورة إلى القاهرة … إلى المدرسة، ولكنه بعد أن ينتهي من دراسته الثانوية يُصاب بكارثة توقفه، وتمنعه من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. فقد مات أبوه فجأة، وأُصيب بعاهة جعلته لا يرى أبعد من مواطئ قَدَميه.

ويخرج مجدي إلى الشارع.

ولم يكن في الحياة التي شهدتها مصر تلك الأيام مُتَّسعٌ لرجل مثل مجدي لم يُتِمَّ تعليمه، مترهل الجسم كأنه فيلٌ، ضعيف البصر لا يكاد يرى، حاد النكتة كأن لسانه كرباج سوداني أصيل … فيقنع من الحياة بالفُرجة عليها، والسخرية منها … ومن كل الناس. ويظل مجدي عاطلًا بلا عمل، وتنشب الحرب العالمية عام ١٩٣٩م ومجدي بلا عمل، ولا أمل في عمل، والحرب جعلت لكل شيء سعرًا حتى التراب، إلا مجدي، فقد ظل كما كان … لا سعر له على الإطلاق. ولا شيء يشغله في الحياة إلا التردد على مكاتب ومنازل الأصدقاء، يضحكهم، ويدخِّن من سجائرهم، ويأكل على موائدهم، ثم يتكرم أحدهم آخر الليل بتوصيله إلى بيته.

بِتلَعَّبْلي حواجبك؟!

وكان من الممكن أن تمضي الحياة هكذا إلى آخر العمر. ولكن أحد أصدقائه — كامل الشناوي — يعثر له على عمل، في أحد المكاتب ليقوم بترجمة نشرات عن جهود الحلفاء في الحرب، عملٌ يجيده مجدي، وبمرتَّب لم يكن مجدي يحلم به، تسعون جنيهًا ليس كل عام، وليس كل دهر، ولكن كل شهر، ويخطف مجدي العنوان من يدِ كامل الشناوي ويُهرول نحو المكتب ويدخل على «صاحب السعادة» المدير، فيجده رجلًا ضئيلًا لا يكاد يبين من خلف المكتب، دميمًا كأنه قرد، ولكنه بالرغم من ذلك يبدو بشوشًا رقيقًا مجاملًا إلى حدٍّ بعيد. ويجلس مجدي أمامه في أدب شديد يستمع إليه وهو يشرح له تفاصيل العمل، وكان الرجل يعاني من شلل قديم أورثه حركة عصبية غريبة تجعله دائمًا يرعش حاجبه الأيمن ويخرج لسانه، ويهز كتفه الأيمن، خصوصًا إذا انهمك في الحديث، وعندما انتهى الرجل من شرْح طبيعة العمل وذكر المرتب (٩٠ جنيهًا) راح يخرج لسانه لمجدي ويهز له كتفه، ويرعش له حاجبه في حركة متواصلة، ودقق مجدي النظر إليه، فتأكد أن الرجل يسخر منه، وليس أدل على ذلك من هذه الحركة الغريبة، ومن المرتب الذي ذكره؛ إذ إن مجدي كان لا يحلم بأكثر من تسعة جنيهات.

وعندما يصل مجدي إلى هذا الاستنتاج الخاطئ، يقفز من فوق مقعده، ليقف وسط الحجرة ويصرخ في وجه الرجل: بقى انت بتلَعَّبْلي حواجبك، طيب أنا هَرقُصلَك.

وفعلًا … انهمك مجدي في الرقص، واستنجد الرجل بالبوليس؛ فقد تأكَّد له أن الموظف الذي اقترحه كامل الشناوي … لا بد أنه كان نزيلًا لمستشفى المجاذيب.

الغريب في الأمر أن المدير ظل معتقدًا حتى آخر أيام حياته، أن الموظف مجدي هو أحد «مقالب» كامل الشناوي. ما علينا، فقد خسر مجدي الوظيفة، وعاد إلى الشارع.

وتمضي سنوات طويلة ومجدي عاطلٌ، ثم يتوسط له حفني محمود عند حامد جودة ليُلحقه بوظيفة في مجلس النواب، ويوافق حامد جودة، ويصبح مجدي أخيرًا موظفًا على اعتماد، وبمرتب خمسة وعشرين جنيهًا. ولا يكاد ينقضي أسبوع على تعيين مجدي حتى يهب الشعب في كل مكان ثائرًا ضد حكومة الأقليَّة، والمدُن تموج بالمتظاهرين يهتفون بسقوط الخوَنة، ويصيحون مُطالبين بالجلاء والاستقلال، وتستمر المظاهرات أسبوعًا كاملًا، وتُهاجم الجماهير الغاضبة دار مجلس الوزراء، والوزارات، وتتجه إحداها إلى مجلس النواب. ويقف حامد جودة يرقب المظاهرة الصاخبة من نافذة مكتبه، عشرات الألوف يزمجرون ويهتفون: «يسقط الخونة، يسقط حامد جودة.» وشخص أكثر حماسًا من المتظاهرين يقود المظاهرة، ويركب فوقها، ويهتف في صوت كالرعد: «يسقط حامد جودة.» ويدقق حامد جودة النظر إلى الشاب الذي يركب فوق الأعناق، فيجد أنه نفس الشاب الذي توسَّط له حفني محمود … البائس مجدي. وتقوم الدنيا وتقعد، ويُفصل مجدي من مجلس النواب.

ركوب المظاهرة!

ولكن حامد جودة يستدعيه، ويصر على أن يعرف منه الأسباب التي دفعت به إلى ارتكاب هذه الجريمة!

ويجيبه مجدي في سذاجة وفي سخرية: ولا حاجة، أنا خرجت من بيتنا عشان أوصل للمجلس لقيت المظاهرات شغالة والمواصلات مقطوعة، فقلت أحسن طريقة أركب مظاهرة لحد المجلس … ويضحك حامد جودة حتى يستلقي على قفاه، ويخرج مجدي من مكتب رئيس المجلس … إلى المهنة التي كان يجيدها … إلى الشارع.

ويسأم مجدي البطالة فيبحث بنفسه عن عمل، وكان يهوى الصحافة فاتصل بصاحب إحدى المجلات الأسبوعية الذائعة وتوسَّل إليه أن يفسح له مكانًا في جريدته، ووافق الرجل، وذهب مجدي إليه. وخلال جلسة استمرت تسع ساعات كاملة وامتدت حتى الفجر، ظل الرجل صاحب الجريدة يُلقي على مجدي دروسًا في الصحافة، وفي فن الكتابة، ومجدي يستمع إليه ويبتسم ويهز رأسه موافقًا إياه على كل حرف.

•••

يقول مجدي: كان الرجل جاهلًا … أجهل من مُعلم إلزامي، حقيرًا أحقر من عبد، فاستغل ضعفي وحاجتي إليه ليفرز معي عُقَده النفسية. وخرجتُ من مكتبه وقد اتفقنا على أن أكتب له مقالة في الأدب، مقابل عشرة جنيهات.

وغاب مجدي أيامًا ثم عاد ومعه المقال، مقال في الأدب كما اتفق مع الصحفي الكبير، وقرأ الرجل المقال فأعجبه، وأمر بنشره على الفور، وظهر المقال في الجريدة، وكانت فضيحة! يقول مجدي لقد خسر الجاهل سمعته، وخسرت، أنا الجنيهات العشرة.

وكان المقال يبدأ هكذا: يقول همفري بوجارت في كتابه «الشمس طالعة»: إن كل ما يجري على أرض الناس لا يمكن أن يدوم إلا بعد فوات الأوان، ولكن «شارل بواييه» يرد عليه زعمه هذا في مؤلفه الضخم «من هنا حتى نعود» فيقول: إن الإنسان الفرد ليس ذا قيمة حقيقية إلا بالحلوى. وإن الحلوى تفقد طمعها بمجرد أن ينسى الإنسان نفسه؛ إذ إن الإنسان كالقرد، يحلو له أن يتسلق الحياة، حتى إذا تمكَّن من الوصول انداحت من حوله المآسي، كما تنداح مياه بحيرة التمساح!

واختفى مجدي بعد ذلك شهرًا كاملًا، وقيل إن صاحب الجريدة «المثقَّف» أقسم أن يقتله بالرصاص.

فتلة المرسلات

ويسأم مجدي البطالة مرة أخرى فيبحث عن شيء جديد، وسرعان ما يجد هذا الشيء في باب إحدى المجلات الأسبوعية؛ إذ أرسل مجدي إلى المجلة خطابًا رقيقًا هذا نصه:

فتاة خمرية، شعرها طويل، جميلة جدًّا، من أسرة محافظة، دَخْل شهري محترم، ترغب في مراسلة شاب، منصِب محترم، لا يزيد على الأربعين، طويل، رياضي، يهوى التحف والأسفار.

وينهال على العنوان الذي ذكره مجدي مئات الخطابات من قُضاة في المحاكم، ومحامين ذوي شهرة، وأطباء مرموقين، وطلبة مراهقين، وصياع، وذئاب، وأولاد ناس، وأولاد كلب. ويستمتع مجدي بقراءة خطابات الغرام العنيف الذي هبط فجأة على حضرات الروميوهات، ثم يعتني بالرد عليها جميعًا. وانقَضَت خمسة شهور قبل أن يكتشف بعضهم اللعبة، فقد ذهب بعض الروميوهات الذين لم يستطيعوا الصبر إلى العنوان الذي ذكرته الخَمرية ذات الشعر الطويل، فإذا به نادي نقابة الصحفيين.

وذات مساءٍ كان مجدي يجلس مع مأمون الشناوي في منزل مأمون؛ إذ لم يكن لمجدي منزل. وكان معهما مُدرس وقور كان يتردد على بيت مأمون ليعطي أبناء مأمون دروسًا في اللغة العربية، وكان المدرس — كما قلت — وقورًا لا يحب المزاح. خجولًا مُنطويًا على نفسه، وكان رغم فقره يتمتع بمظهر محترم، وكان مجدي يخشاه ويتجنبه؛ فقد كان دائم الحديث عن الجنة والنار ومعصية الله.

وفجأة، دخل عليهم المخرج المشهور أحمد بدرخان، وما إن عرف المدرس الوقور أن الزائر الجديد هو بدرخان، حتى انقلب إلى النقيض، وراح يصرخ ويزوم، ويقفز كالثور ويتحدث بسرعة وبلهجة مضحكة: أستاذ بدرخان، يا سلام، المخرج، يا ألف مرحب بتاع السيما، يا حلاوة، يا أهلًا وسهلًا، يا ألف مرحب، يا ألف نهار أبيض. أهلًا أهلًا، وعندك فيلم دلوقت، دا شيء جميل خالص، طيب والنبي خُدني، أي والله خدني، وحياة مَن جمَّعنا من غير ميعاد تاخدني.

– بس آخدك إيه؟

وهتف مجدي على الفور: خدو على قفاه!

وخرج المدرس من بيت مأمون، ولم يعُد على الإطلاق.

«تسريح» مُزيَّف!

وعندما احترقت القاهرة، وفرض فاروق الظلام على البلاد، وأجبر الناس على الفرار إلى البيوت قبل المغرب كالأرانب. شهر مجدي لسانه على العهد كله، واشترك في المعركة إلى جانب الشعب كمقاتل يُطلق «الكلام» على معاقل الطغاة، فكانت كلماته أفتك من الرصاص، وأشد مفعولًا من القنابل.

يروي مجدي نكتة من أغرب ما حدث له تلك الأيام: كنت ماشيًا في السكة، وفات ميعاد حظر التجول، بصيت لقيت عسكري ورايا عَمَّال يصرخ … قف مَن أنت، قف مَن أنت، رُحت واقف مكاني، جه العسكري قدامي ومعاه بندقية وسُونكي وسألني: معاك تسريح «تصريح»؟

– أيوة معايا.

– وريني.

يقول مجدي، وضربتْ لخمة معي، فلم يكن معي تصريحًا، لقد خشيت أن أبلغه بالحقيقة فيغرز السُّونكي في بطني، فآثرت الكذب حتى تكون هناك فرصة للتفاهم. وبحثت في كل جيوبي عن شيء يصلح «تصريحًا» فلم أعثر على شيء، فلم يكن معي بطاقة، ولا شيء يشبه البطاقة وكل ما عثرت عليه، ورقة يانصيب … (الدبة)، ورقة عليها أرقام، وعليها صورة الدبة. وسلمت العسكري ورقة اليانصيب الدبة، فأخذها مني وابتعد عني قليلًا ليلقي عليها نظرة في ضوء عمود النور. وغاب العسكري طويلًا، ظل يحدق في الورقة أكثر من عشر دقائق، وأنا أتوقع شرًّا خلال كل لحظة، فقد خشيت أن يفهم العسكري أنني تعمدت السخرية به فيطعنني بالسونكى، أو يطلق عليَّ النار. وبعد أن انقضت عشر دقائق كاملة، تقدَّم العسكري مني وصوَّب بندقيته نحوي، وقال لي في لهجة الواعي الخبير وهو يشير على ورقة اليانصيب وإلى صورة الدبة بالذات: لكن دي مش صورتك!

واستطاع مجدي أن يقنعه بأن الصورة له ولا أحد سواه، واستطاع أيضًا أن يقنعه بمصاحبته إلى المنزل، حتى لا يتعرَّض له أحد غيره.

وعاش مجدي حياته بعد ذلك يضحك، ولكنه ضَحِكٌ كالبكاء، ويسخر سخرية مريرة من الأوضاع المقلوبة، والنُّظُم الحقيرة، ويلعن الحياة والأحياء، ويسبُّ الدين والدنيا وكل الناس، حتى الذين اعترضوا طريقه، والذين تعقَّبوه وطاردوه.

ثم قُدر لمجدي أن يشهد البعث، فعاش حتى نشبت الثورة، ولكنه لم يشهد إلا بدايتها … ثم فجأة … مات مجدي. وكانت حياته القصيرة الخاطفة أشبه بضحكة عريضة صافية من ضحكاته، سرعان ما تُدوِّي، وسرعان ما تختفي وتتلاشى.

•••

ومات مجدي ولم يبلغ السادسة والثلاثين، وهكذا ذهب آخر ظرفاء العصر، وأطيبهم قلبًا، وأتعسهم حظًّا، فقد كان أتعس حظًّا … حتى من عبد الحميد الديب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤