الثائر الساخر

بيرم التونسي

«فنان الشعب لم يستجدِ يومًا بفنِّه، ولم يطلب أجرًا ثمنًا لموقفه، وعاش ومات يقول فنًّا … لا يخطب ولا يصرخ، لأن الفن أقوى من كل شيء.»

كان نموذجًا للفنان الملتزم، واشتراكيًّا حقًّا، كأن الاشتراكية ميكروب يسري في دمه، وفي سبيل هذا الموقف الرائع دفع حياته، ولم يدفعها مرة واحدة، ولكن دفعها بالتقسيط، وقضى عشرين عامًا يتسوَّل في باريس، ويتصعلك على رصيف ميناء داكار، ويتجول كالذئب حتى بلده تونس، ويرتعش من شدة البرد تحت جبل أيسون في الشام.

فنان الشعب لم يستجدِ يومًا بفنِّه، ولم يطلب أجرًا ثمنًا لموقفه، وعاش ومات يقول فنًّا، لا يخطب ولا يصرخ؛ لأن الفن أقوى من كل شيء، عاش رغم أنف الصياع الذين شتموه، والحُساد الذين حقدوا عليه، وأولاد الذوات الذين احترفوا الفن لأنه موضة الموسم، وهو يقول في كل شيء وأي شيء؛ لأنه عاش الحياة كلها عاشها بالطول وبالعرض، وبالعمق، كذلك عاش محتجًّا، لا يُهادن ولا يُماين، محترق الأعصاب كأنه شمعة تحترق، زاهدًا كأنه غاندي، لا يجد حتى معزة يسحبها وراءه.

واكتشف — والتاريخ لا يزال فجرًا — سر المشكلة.

المشكلة ليست وطنية، ولكنها اجتماعية من الدرجة الأولى، وعساكر الإنجليز ليسوا كل المشكلة، ولكنهم جزءٌ منها، توزيع الأرزاق هو المشكلة الحقيقية، والتهليب هو المرض الذي يجب أن يُحارَب.

ورفع سيفه ضد المهَلِّباتِية والخطَّافة وقُطاع الأرزاق، موقفٌ عظيم من فنانٍ عظيم، يرتفع به إلهامه إلى مرتبة النبوَّة.

ففي الوقت الذي كانت فيه غاية الكفاح، صراخ حاد من الحناجر «مصر والسودان لنا وإنجلترا إن أمكنا» و«الاستقلال التام أو الموت الزؤام» كان هو يرى المشكلة بالعكس، فليس الاستقلال أن ترحل عساكر الإنجليز من مصر، بل الذي يجب أن يرحل هو استماطي وبنايوتي وكل الخواجات المتمصِّرين وكل المصريين المستخوجين.

يقول مُعرِّيًا هؤلاء الغرباء المتمصِّرين:

«والقطن برضه لمزراحي ولقرداحي،
وابن البلد يقعد ماحي في بلاده يقيم
أقطانه. هو اللي زرعها، واللي جمعها،
ويوم ما باعها ما جابت له حق البرسيم.
بنايوتي يقبض ويحصل، ودا بيوصل،
ويجري دايمًا ما يحصَّل ولا حتى بهيم.»

هنا المشكلة … أجير يطفح الكوتة طول النهار ولا يكسب شيئًا، وخواجا مجَعْبز على القهوة طول النهار، يلعب الطاولة ويقبض ثمن كل شيء!

الفنان العظيم وضع يده على المشكلة ثم راح يغوص فيها حتى القاع … ناس تعمل ولا تجد ما تأكله، وناس تأكل وليس لديها ما تعمله. ويكتشف الفنان عالمًا غريبًا اسمه السمسرة … أي شحط معه ثروة يدخل بها السوق … ليحصل في النهاية على ضِعْف ثروته.

وعن هؤلاء السماسرة يقول:

ولا بيحرث ولا بيبدُر،
ولا بيسبك ولا بيطرق،
ولا بيحصد ولا بيجمع،
ولا بيخرط ولا بيقطع،
ولا بيشحن ولا بيخزن،
ولا بيوزن ولا بيدفع،
وهو الغانم الأسلاب؛
وغيره يضرب المدفع،
وإذا السوق ارتفع سالك،
وإذا السوق اتضرب سالك،
وغير مسئول عن التالف،
وغير مسئول عن الهالك،
وبالتليفون يجيب مليون
ومِيت مليون، ولا يشبع؛
وله يوم الصعود فرصة،
وله يوم النزول فرصة،
وهدم بيوت، وخَلْق تموت
بحسرة، وهو متمتع.

هذا فنانٌ مثقَّف، وسر فنيته أنه يحس المشاكل بمزاج مصري. حتى في الغربة وهو بعيد، صايع وضايع وغلبان، يظل يبحث عن شيء ينقصه:

لا سَطْل خروب يسعِفْني،
ولا ابن نُكْتة يكيِّفني.
ما يقصِف العُمْر ويفني
غير الخلايق بعيلها.

وهو لا يسكت أبدًا ولا يهمد، حتى وهو في تونس … في المنفى … يتحرك ضميره فيتحرك لسانه:

والمغربي المسلم راخر
أبو زر فاشوك،
لما انتقدته فزع قاللي:
يلعن أبوك.
وأنا اللي قصدي أشوف قيده
يصبح مفكوك.
لقيته فرحان بيه راضي؛
طيب، مبروك.

وهو إذا دخل معركة لا يداوِر ولا يناور، بل يقتحمها بالطريق المباشر؛ لأنه صاحب ضميرٍ حي:

وجابوك الانجليز يا فؤاد قعَّدوك
تمثِّل على العرش دُور الملوك،
وخلوك تبَهدِل في أُمَّة أبوك.
ومين يلقوا مثلك مغفل ودون؟

وهو لا يكتفي بهذا الكلام المباشر، إنه ينهش الطاغية في عِرضه، إنه فنان يفهم مزاج الشعب، وشعبنا قد يغفر كل شيء، إلا التفريط في العِرض … إنه يسخر من الطريقة التي وُلد بها الأمير فاروق … والشعب فيها يتهامس في السر بأن الأمير قد وُلد بعد أربعة أشهر من زفاف أمه نازلي من السلطان أحمد فؤاد … ويتلقَّف بيرم التونسي هذا الهمس، ليجعل منه قنابل يفجرها في وجه السلطان:

مرمر زماني، يا زماني مرمر.
البنت ماشية من زمان تتمَخطر.
والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر.
يا راكب الفيتون وقلبك حامي،
اسبق على القُبة وسُوق قدامي،
تلقى العروسة زي محمل شامي،
وأبوها يشبه في الشوارب عنتر،
وغطي زهر الفل فوقها وفوقك،
وجِبلها شبشب يكون على ذوقك،
ونزل النونو القديم من طوقك،
يطلع كويس لا الولد يكبر.
ويوم ما ينزل في الجاكتة الكاكي،
وستة خيل والقمشجي الملاكي،
تسمع قولتها …
العافية هابلة والولد متشطَّر،
الوزة من قبل الفرح مدبوحة،
والعطفة من قبل النظام مفتوحة.
ولما جت تتجوز المفضوحة،
قلت: اسكتوا خلوا البنات تِسَّتَّر.

ويحشد القصر كل جواسيسه وبوليسه ضد بيرم التونسي، ولكن بيرم التونسي لم يكن مصري الجنسية حتى تلك اللحظة، ولعله سوء الحظ — سوء حظ الملك — أن يكون بيرم التونسي مُتمتِّعًا بالحماية الفرنسية، ولو أنه كان مصريًّا لحظةَ كتابة هذا الزجل الرهيب لتدلى بيرم التونسي من حبل المشنقة. ولكنهم في البداية اكتفوا بضَربه، واستأجروا بلطجيًّا جزائريًّا يعيش في مصر اسمه يوسف شُهدي ليتعقَّب بيرم التونسي ويقتله … وأدى الرجل مهمته على الوجه الأكمل، ظل يتعقَّب بيرم ويضربه كلما يلقاه، ولكن يبدو أن الضرب لم يكن كافيًا لقطع لسانه، فنفوه … ووقف على رصيف الميناء يوم عيد الأضحى، والدموع تغمر عينيه، ينظر إلى مصر نظرة أخيرة:

يوم الدبايح كان آخر مواعيدك،
وقفت لِك فرحان أنصب رايات عيدك،
وأفرش لِك الريحان وأسمع زغاريدك.
زعق غراب البين فصَّلت أكفاني.
يا ريته كان في منام يصبح ويتفسر،
أو حكم بالإعدام على القاسي بيستر،
ما كان تشوف العين حال اللي بكاني.

ويسمع وهو في المنفى، أن كل شيء في مصر ينهار ويتحلل، رائحة العفن في كل مكان، والتفسُّخ في كل شيء، وعبد المنعم أبو بثينة أصبح أميرًا للزَّجَّالين:

خراب ما يحتاج لمعاينة،
وفن باير، وأهي باينة؛
أميري جوز أم بثينة،
وأنا الرعية وعيالها.
يا مصري هجرك يكفاني.
يا عاملة قُمع ونسياني،
ويوم ما هرجع لِك تاني،
هتبقى راجعة براسمالها.

الثائر … الساخط … يجد وقتًا للضحك، كلماته تقطر سُمًّا، وتقطر حلاوة، ليس في العالم أكثر ضراوة من رجل ضائع يضحك.

كتب زجلًا يرثي به سجَّانًا اسمه غانم:

وانشال سي غانم مِرابْعَة بعد ندب كفاه،
وندب كان يستحقه في حياته قفاه.

ويصف حفلة رقصٍ في باريس:

يا صاح وحقك ليس على
مَن راح المرقص من حرَج.
جمعوا الفتيان مع النسوا
ن فيا للأمر المنبهج.
ما كان مغنِّي القوم يد
ق الدف بلحن منه شجي،
حتى انفرطت وحداتهم،
ثم ازدوجت بالمزدوجِ.
رجل وقرينته التصقا
بصدور العز وبالمُهَجِ.
فعلى كتفيه معاصمها،
ويداه بخصر ذي عِوَجِ.
فإذا انجذبت فلمنجذب،
وإذا اختلجت فلمختلجِ،
وإذا نقلت قدمًا رفعت
قدمًا، والرفع بلا عَرَجِ.

وهو فنان صحيح، ولكنه مصريٌّ بسيط فيه كل خصائص المصري البسيط، حتى مزاجه مصري، بلدي، وهو يحب النسوان، وهذه الكلمة بالذات «النسوان» عنوان قصيدة في ديوانه، أنا شخصيًّا أعتبرها أرقَّ ما كُتب في الأدب العربي عامة عن النسوان:

في كل عام للورد أوان، إلا النسوان.
وبقدرتك نابتين ألوان أبيض وأحمر.
وانت اللي تعلم، وأنا أجهل إيه أجمل
من الخدود اللي لا تدبل ولا تتغير.
ودي العيون اللي أشهد لك بها وأسجد لك،
دي خلت الطاغي انقاد لك والمتكبِّر.
والشفتين اللي فالقهم كنت خالقهم
للابتسام، والا رازقهم، دا أنت تحيَّر.
العبد يعشق بالقوة عشق لجوَّه،
وكمان جهنم؟ إيه هو؟ ما احناش معشر.
بذِمتي انت اللي جاذبني، يا معذبني،
وياللي ذوقك يعجبني لما تصوَّر.
لك صنعة في العين والحاجب، بها تتعاجب،
ونقول وجود الله واجب، مين بيه يِكْفَر؟
وليك قوالب في الأجسام، غُلُب الرسَّام
يقلِّدك بحجر ورخام يلقاك أشطَر.
يا سِت أم زناق محبوك وقميص مفكوك،
حطِّي على القلب المشبوك إيدِك يِعمَر.
ويام نص ملاية حرير، والنص يطير
على أكتاف، أنا عقلي غطى المرمر.
ويللي ساقك يسوَى رقاب حارة الباب،
في لون حقيقته إن كان بشراب والَّا مقشَّر.
يا مسلمين الله يا حريم، أنا ما لي غريم
غيركم أروح وياه في جحيم يوم المحشَر.

وهو يسخر من المؤمنين أصحاب الحاجات:

يا رب سُلطان جمالك يتعبد للذَّات،
خالص لوجهك، لا للنيران ولا الجنات،
لكن عبيدك وخلقك يعبدوك لغايات،
وصبحوا وأنا عبد منهم كلهم ترسات.

وكل شيء في الحياة يستحق السخرية، وهو صاحب عينٍ نفَّاذة لا تفوته شاردة، وهو، لأنه صايع، ولأنه ثائر، تقع عينه على منظر عادي بالنسبة للرجل العادي، ولكن هو الفنان، يستخرج من المنظر العادي صورة خالدة:

أربع عساكر جبَّارة يفتحوا بِرلين
ساحبين بتاعة فِجل جايَّة من شِربين.
أنا قلت: إيه الحكاية؟ قال: خالفت الجوانين.
طب اشمعنى ميت ألف واحد في البلد سارحين
يشَرَّطوا في الجيوب ويكسَّروا الدكاكين؟

وعلى نفس الطريق، يقهقه في صِباه قهقهةً دامية:

يا بائع الفجل بالمليم واحدة،
كم للعيال، وكم للمجلس البلدي؟
إذا الرغيف أتى فالنصف آكُلُه،
والنصف أجعله للمجلس البلدي.
كأن أمي، أبلَّ الله تُربتها،
أوصت فقالت أخوك المجلس البلدي.

ويصوع ويجوع، ثم يعود آخر الأمر مُثخَنًا بالجِراح … مضرَّجًا بالدم … ولكنها على أية حال، عودة إلى البلد الذي أحبه بشغفٍ، وإلى الشعب الذي عَبَدَه بجنون، وعلى رصيف ميناء بورسعيد، يهتف بكلمات كأنها قطرات دم تسيل من قلبه:

غُلُبت أقطع تذاكر، وشبعت يا رب غُربة
بين الشطوط والبواخر، ومن بلادنا لأوروبا.
وقلت ع الشام أسافر، إياك ألاقيلي تُربة
فيها أجاور معاوية، وأصبح حماية أمية.
في بورسعيد السفينة، رسيت تفرغ وتملا،
والبياعين حاوطونا بكارت بوستال وعُملة،
لكن بوليس المدينة ما تزُوغْش من جنبه نملة،
يا بورسعيد والله حسرة، ولسة يا اسكندرية.
هتف بي هاتف وقاللي: انزل، ومن غير عزومة،
انزل دي ساعة تجلِّي، فيها الشياطين في نومة،
انزل دا ربك تملِّي فوقك وفوق الحكومة.
نطيت في ستر المهيمِن للشط يا حكِمدارية.
وأقولكم، بالصراحة اللي في زماننا قليلة،
عشرين سنة في السياحة وأشوف مناظر جميلة؛
ما شفت يا قلبي راحة في دي السنين الطويلة؛
إلا امَّا شفت الملاية واللِّبدة والجلَّابية.

أخيرًا عاد … وسيعيش الآن في مجتمع الأرزقية، يأكل عيشه بحذر، بعد عشرين سنة طويلة من الصياعة والضياعة، اكتشف أن كل شيء لا يزال مكانه … الخونة في الصدارة، وأصحاب القضايا العظيمة في الذيل لا يشعر بهم أحد.

لكن هل يسكت بيرم التونسي؟ هل يهمد؟ هل يسترزق؟ إنه على أيَّة حال، سيُحاول أن يعيش وسيقاوم ما استطاع، ويطلبون منه في النهاية أن يؤلف شِعرًا للأسرة المالكة، آخر ما كان يتوقعه بيرم، ولكنها فرصة على أية حال، وسيطلق العنان للسانه، وسيمدح، ولكنه سيجرح في الوقت نفسه:

ومزارع جوها دافي،
وطولها وعرضها وافي،
وليه يمشي ابنها حافي
يمد الأيد ويطويها؟
وليه الباشا والوالي
يجبهم بابها العالي؟
وليه ما يكونش طوالي
حاكمها من أهاليها؟

تصوَّروا … هذا مدح في العائلة المالكة، ولأول مرة في التاريخ بعد قمبيز، يصبح لمصر حاكم مصري من أهاليها، ويعيش بيرم التونسي حتى يرى المعجزة تتحقق ويصرخ في ميكروفون الإذاعة ليلة خروج الطاغية من مصر، وصوته مبلَّل بالدموع:

يقوم من سراية يروح في سراية،
ويبعث عشايا بنرمين هدية.
وخالتي الإذاعة تقول كل ساعة،
وعظيم الثنايا جزيل العطية.

تحية لابن البلد الفنان الإنسان … محمود بيرم التونسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤