الحياة في إنسان

كامل الشناوي

هذه السطور كتبتُها عن كامل الشناوي وهو حيٌّ، فلما مات فكرت في كتابة فصل جديد … ولكني عدلت! ولأسباب أحتفظ بها لنفسي. لنترك كامل الشناوي التاريخ … للتاريخ، ولنتكلم عن كامل الشناوي الحي.

كان كامل الشناوي رجلًا فريدًا بين الرجال … أعداؤه يكرهونه على طول الخط، وأصدقاؤه يحبونه على طول الخط … والسبب … كامل الشناوي نفسه.

فهو إذا أَحَبَّ، أحب بلا قيدٍ ولا شرط، وإذا كَرِهَ، كره بلا قيد ولا شرط، وهو مثل القائد الحاسم، إذا هاجم دمَّر هدفه تمامًا، وإذا انسحب، مضى لا يلوي على شيء.

السر

وعلاقته بأي إنسان تحددها صفات هذا الإنسان نفسه؛ فإذا كان إنسانًا وسطًا … فكامل يكرهه، «فليس أبغض على قلبي من الشيء الوسط، ويستوي عندي نصف الأُمِّي ونصف المتعلم!»

وهو لهذا السبب نراه يعشق الأذكياء والأغنياء معًا … ويكره الذين يمتازون بنصف ذكاء، والذين يتمتعون بنصف غباوة … ولكن — وهنا العجب — نرى كامل الشناوي لا يُطبق هذا المذهب على سلوكه هو نفسه في الحياة … مثلًا، إنه يعشق الحرية، ويناضل في سبيلها … ولكن نصف نضال … وهو ينشد العدل، ويدافع من أجله، ولكن نصف دفاع … وهو يحمي المواهب ويحتضن أصحابها، ولكن أيضًا، نصف حماية، ونصف احتضان.

ولا بد أن يكون وراء هذا السلوك سر من الأسرار … ربما كان السر عُقَدًا نفسية تراكمت بمرور الزمن على نفس الصبي الصغير الذي خرج من السيدة زينب، ومن بيئة يحكمها ويتحكم فيها سلطان الدين، ليتربَّع هذا الصبي الصغير آخر الأمر على رأس المجتمع، يبهره، ويدهشه ويشترك في توجيه مصيره، وصُنْع أحداثه، لفترةٍ طويلة من الزمان.

البحث عن الحياة

ولقد بدأ كامل الشناوي حياته طالبًا في الأزهر، ثم ما لبث أن هجر الدراسة فيه كافرًا بالمناهج العقيمة، بالعلوم الجامدة التي انفصلت عن عصرنا عشرات القرون، بالجهل النشيط الذي كان ميزة بعض علماء الأزهر في تلك الأيام. وخرج كامل إلى الحياة ينشد البحث عن شيء يحِن إليه ويحبه، عن الشِّعر، عن الفن، عن الموسيقى، عن الغناء … وبمعنًى آخر، خرج ينشد البحث عن الحياة. فنراه ينضم إلى جمعية للشعراء، ثم يذهب إلى حافظ محمود ليتعلم منه فن الخطابة والإلقاء، ثم يبعث إلى جريدة الأهرام بين الحين والحين بقصيدة من نَظْمِه، ولكن القليل من هذه القصائد كان يرى النور، أما الغالبية العظمى فكان يجد طريقه بسهولة … إلى سلَّة المهمَلات.

المقلب رقم ١

يقول كامل الشناوي: كان المشرف على الصفحة الأدبية في الأهرام ممن يطربون للألفاظ الغريبة الميِّتة «كجُلمود صخر … وأشياء من هذا النوع، ولم يكن يستسيغ أبدًا هذه المعاني الجديدة، ولا هذه الرقَّة التي أخذت تسيل من شِعر شُبَّان ذلك الجيل!»

وفكر كامل في وسيلة ليقنع بها الأستاذ المشرف على الصفحة بأن شِعره يستحقُّ النشر، ووجد الوسيلة أخيرًا في «مقلب» فيه كل الاحتجاج، وكل السخط وكل الثورة التي تعتمل في نفس كامل، وفيه، قبل هذا وبعد هذا … فنٌّ جميل.

ومن هنا، ستظل «المقالب» من هذا النوع هي هواية كامل الشناوي، وطريقته المُثلى في التعبير عن رأيه بصراحةٍ في الأشخاص والأحداث.

فضيحة

ونفَّذ كامل الشناوي «المقلب»؛ كتب قصيدة من نوع:

سلامًا صباحًا لا يعمُّ ولا يجري
ولا ألما بها نفسي ولا تدري

وهات يا شِعر من هذا النوع الذي يعجب الأستاذ المشرف على الصفحة، ثم ذيَّل القصيدة بإمضاء شاعر مشهور كانت له شنَّة في تلك الأيام. وطوى القصيدة، وبعث بها إلى الأهرام. ونشرت الأهرام القصيدة … وكانت فضيحة.

الصداقة والشِّعر

وهكذا أيضًا … دخل كامل الشناوي الأهرام، محرِّرًا بها، ثم مشرفًا على الصفحة.

وكان صِيته قد بدأ، رغم حداثة سِنه، ينتشر في كل الأوساط، ودخل الشاب السمين الأسمر الذي يحفظ الشِّعر ويقرضه، ويقول النكتة، ويجيد حَبْك المقالب، ويُقلد الأصوات والحركات، دخل القصور، وجالس الوزراء ورؤساء الوزراء، وأصبح صديقًا لصاحب القبضة الحديدية … محمد محمود.

ولكن — وهنا العجب أيضًا — نرى الشاعر كامل الشناوي، الذي أصبح صديقًا لمحمد محمود، لا يمدح بشِعره هذا الحاكم بأمره … إن القصيدة الوحيدة التي قالها في مدح زعيم … كانت في مدح مصطفى النحَّاس، بالرغم من أنه لم يكن صديقًا له، «وكل ما هناك أنه يستحق شِعري!» لماذا؟

لأن النحاس كان ممثِّل الشعب بحق في ذلك الوقت، كان أعظم الزعماء، وإذا كانت الصداقة لرئيس الوزراء … فالشِّعر يجب أن يكون للزعيم.

عالم جديد

ويسأله المرحوم تقلا باشا عمَّا إذا كان له أصدقاء من بين الوزراء، فيجيبه كامل الشناوي ببساطة: «إنني أسهر كل ليلة مع محمد محمود.»

ويخبط تقلا باشا كفًّا بكف، فأمامه صحفي عبيط يصادق رئيس الوزراء … ثم يكتب في جريدته شِعرًا. ويصرخ تقلا باشا في وجه الصحفي الغشيم: حاول أن تحصل على كل الأخبار من محمد محمود … ويجيب كامل بنفس البساطة: سأحاول.

ويخرج من مكتب تقلا باشا إلى سراي محمد محمود.

احتراف الصحافة

وفي مجالس الوزراء والزعماء لا يكون الحديث نُكَتًا فقط ولا دردشة فقط، بل إن الذين يصنعون الأخبار، يضطرون حتى في حياتهم العادية إلى الدردشة في الأسرار والأخبار والأنباء، وهو الكَنز الذي يبحث عنه كامل الشناوي الشاعر الذي قرر أن يكون صحفيًّا. ومن خلال الدردشة والحديث، يلتقط كامل الشناوي خبرًا هامًّا: أن أمين عثمان سيسافر إلى القدس ليجتمع بأحد المسئولين الإنجليز، وأن مفاوضات على مستوًى عالٍ ستدور هناك، بعيدًا عن أعين الصحفيين ورقابة الشعب.

ويُسرع كامل الشناوي إلى الجريدة ومعه الخبر، ويُعيد تقلا باشا صياغة الخبر وينشره منسوبًا إلى مراسل الأهرام في القُدس، ويُحدث الخبر هزَّة في كل الأوساط، ويتلقَّى كامل التهنئة، ويقبض مكافأة ضخمة، أكدت عزمه الذي كان قد استقر على أن يتحول بكل طاقاته إلى احتراف مِهنة المتاعب والقلق … الصحافة.

مقلب مضاد

ويدرك محمد محمود بذكائه أن كامل الشناوي، المحرر بالأهرام، وصديقه وجليسه، هو مصدر الخبر، ولكنه «يبلعها» ويسكت لجولة قادمة، ليُلقِّن كامل الشناوي درسًا لا ينساه … وذات مساء، وفي سراي محمد محمود وكامل الشناوي جالسٌ يُنصت في اهتمام، يُعلن رئيس الوزراء خبرًا، هو في ذاته سَبْقٌ صحفي عالمي. أن جوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر قد وصل إلى مصر سرًّا، ونزل بفندق سميراميس، وأنه التقى بمحمد محمود في ظلام الليل، ودارت بينهما أحاديث خطيرة. ويستأذن كامل الشناوي من رئيس الوزراء ويخرج مسرعًا إلى الأهرام … إلى مكتب تقلا باشا.

ويرتاب رئيس التحرير المدرَّب في الخبر، فيرفع سماعة التليفون ليتصل بفندق سميراميس، ثم بجميع الفنادق التي يحتمل أن يأوي إليها وزير خارجية ألمانيا، واتصل بالمطار وبرجال البوليس، وبكل مكان له علاقة بوصول جوبلز. ولكن الجميع يؤكدون أن الخبر كاذب. ويضطرُّ تقلا باشا في الفجر إلى الاتصال بمحمد محمود، وما إن يسمع رئيس الوزراء صوت تقلا باشا حتى ينفجر ضاحكًا، وينهي المحادثة بكلمة لا تزال ترن في أُذن كامل: «عشان كامل يتعلم!»

وفعلًا، تعلَّم كامل الشناوي من يومها أن يكون حذرًا، ولعل الحذر أصبح أبرز صفاته … بعد الظُّرف.

وتمضي الأيام بكامل الشناوي إلى الأمام، وهو يتنقل من نصرٍ إلى نصر، وشهرته تُطبِّق الآفاق، وصيته يدوي كالطبل، والمال ينهال عليه كما تنهال المياه من جوف القِرَب، ويتبخَّر من بين أصابعه بأسرع مما يأتي، وهو يحب المال ويطلبه ويسعى في سبيله، ولكنه يحبه — كما يقول أوسكار وايلد —كالجنتلمان، يحبه لينفقه، ويقبض عليه ليتركه يسيل من بين أصابعه!

يلتقي كامل بوجوه كثيرة، وأصناف شتَّى من الناس وأنواع مختلفة من النفوس، وألوان لا حصر لها، عباقرة وأغبياء، وزراء وصعاليك، فنانون وأدعياء، أصحاب مواهب، وأصحاب سُلطة، أصدقاء وأعداء، وكامل الشناوي يتفرَّج ويتأمل ويضحك، ولكنه أبدًا … صديق للجميع.

ولكن، كيف يجد القدرة في نفسه على أن يظل صديقًا للجميع، وهو الفنان الذي ينفعل ويضطرب ويتألَّم ويصرخ أحيانًا في شِعره وفي فنه صراخًا رهيبًا عنيفًا، سيظل يُدوِّي أبد الدهر في سمْع الوجود.

لا أحد يدري؟

أنا نفسي سألته هذا السؤال، ولكن بطريقة أخرى: كيف تستطيع أن تنافق كل هؤلاء الناس؟

ويبدو أن السؤال كان قاسيًا على قلب الشيخ الذي بلغ الخمسين، فقال وهو يكبت في نفسه غضبًا ثائرًا: تعودتُ أن أجامل الناس، وما تسميه أنت نفاقًا، أُسميه أنا مجاملة.

وفي سبيل هذه المجاملة ترزَح نفس كامل الشناوي تحت أثقالٍ من العذاب!

أبرز صفاته

ومن أبرز صفاته أنه يستطيع أن يشم رائحة موهبةٍ على بُعد ألف ميل، وهو لا يشمها فقط، ولكنه يسعى إليها، ويجذبها نحوه، ويُجاهد في سبيل أن يدفع بها خطوات واسعة إلى الأمام … وإذا كان مكتب الشناوي صالونًا يلتقي فيه كل مساء رجالُ الأدب ورجال الفكر، ورجال الفن، ورجال العلم، ورجالٌ فقط، وأشباه رجال؛ فباب كامل الشناوي طريق للمواهب الصغيرة إلى المجد والشهرة … وإذا كان وراء كل عظيم امرأة، فوراء كل فنانٍ شاب … كامل الشناوي، وراء الأدعياء أيضًا، وراءهم بلسانه ونكاته وقفشاته.

ولقد ذكرت من قبل أن كامل الشناوي اختار لنفسه طريقًا وسَطًا في الحياة … ينشد العدل ويدافع في سبيله، ولكنه نصف دفاع … ويناضل من أجل الحرية … ولكن نصف نضال … ومن أجل هذا أيضًا خاض كامل الشناوي غِمار كل المعارك التي خاضها الشعب، ولكنه لم يدخل السجن أبدًا، فقد كان يخوض المعارك عندما يكون الجو مناسبًا للقِتال، حتى إذا هبت العاصفة آثر كامل أن ينحني لها حتى تَمُر، فإذا انقضت عاد كامل مرة أخرى إلى النضال.

ولعل هذا راجع إلى ذكاء كامل الشناوي، وهو ذكاء من فصيلة «الذكاء العام» للشعب.

لقد خاض الشعب المصري عبر تاريخه الطويل آلاف المعارك، وشهد عشرات الغزوات والمحتلين، ولم يلِن الشعب ولم يستكِن، ولم يهدأ، بل ظل يقاوم ويناضل، وذهب كل الغُزاة، وكل الطغاة، وبقي الشعب … ذلك لأنه آثر ألا يدخل معركة حاسمة مع أعدائه قد تنتهي بإبادته.

عاشق الليل

وكما يعشق كامل الشناوي الأدب والفن، فإنه يعشق الليل، الحياة عنده تبدأ عندما يبدأ الظلام، ولا يأوي كامل إلى فراشه إلا عند الفجر، ومن المؤكد أنه يكره الوحدة، ولديه قدرة عجيبة على العمل وسط مائة إنسان، وفي جوِّ صاخب عاصف، وهو يبدو دائمًا هاربًا من شيء في نفسه، وطاقته المبدعة يفرزها قليلًا في الكتابة، وكثيرًا في الكلام … إنه يعشق الكلام أيضًا … وهو أسعد ما يكون عندما يتكلم في الأدب، وأنت تحسُّ عندما تسمع كامل ينشد الشِّعر … إنه يضيف إلى القصيدة معانيَ جديدة لم تكن تحس بها من قبل.

ولكن هذا الوَلَع الشديد بحب الكلام، والذي أمتع الآلاف وأسعدهم، قضى على كامل الشناوي كأديب؛ إذ إنه لم ينتج أدبًا على ورق، وكل روائع كامل وآثاره الخالدة كانت طلقات في الهواء.

وأعجب ما في كامل أنه، وهو الذي يُقدِّر النكتة ويعشقها ويضعها أحيانًا فوق كل اعتبار، يفزع من النكتة ويرهبها إذا كانت مصوَّبة إليه، صحيح أنه يحب النكتة، ويطرَب لها، ويضحك من أعماقه عليها، على شرط أن يكون هو قائلها، وفي جلسة مريحة، وبين أصدقاء أعزاء؛ ولكنه يخاصم النكتة ويكرهها إذا كانت ضده، إذا كانت تعنيه … إن موقفه منها كموقفه من المعارك، يخوضها إذا كانت لا تقضي عليه.

ومهما يكن الأمر، فقد ذاق كامل الشناوي كل ألوان الحياة؛ ذاق خيبة الأمل، وذاق الفشل، وتجرَّع النجاح ووصل إلى القمة، وربح الألوف، وعاش كالمِهْراجات، وأنفق كل ما ربح، وعرف عشرات الألوف من الناس، وأَحَب وتألَّم، وشَعر بالرضا، وشَعر بالسخط، وكان دائمًا ثائرًا على كل شيء، حتى على نفسه … ولكنه استطاع ببراعة وبذكاء أن يسير على حبل الحياة دون أن يسقط … وعاش حياته كما اشتهى أن تكون حياته، واختلفت صورته عند الناس، فمنهم مَن يعدُّه مازحًا، ومنهم مَن يعتبره فنانًا، وهو عند البعض أديبٌ، وعند الآخرين صحفي، ولكني أعتقد أنه كل هذه الأشياء، وأنه إنسان، وإنسان فريد من نوعه، جمع في نفسه وبين جوانحه كل ما في الحياة العريضة المتلاطِمة، من متناقضات، وببساطة، إنني أعتقد أن كامل الشناوي هو … الحياة.

وليعذِرْني القارئ إذا ضربت صفحًا من نكات كامل الشناوي وقفشاته، فهي شائعةٌ ذائعة على كل لسان. وليعذِرني كامل الشناوي نفسه إذا كنت قد أخطأت، وهذا الذي كتبته ليس تاريخًا لحياة كامل الشناوي، وإلا لكنت احتجت إلى مجلد ضخم، قد تنتهي صفحاته قبل أن ينتهي الحديث عن كامل الشناوي، ولكنه مجرد انفعال شخصي بأستاذ زاملته حينًا، وصاحبته حينًا، واتفقت معه حينًا، ولكنني أحببته على الدوام.

أمتع هواياته

وبعد، إن قصة الصبيُّ المعمم الصغير الذي خرج من السيدة زينب، وهرب من الأزهر، ليتربَّع على رأس المجتمع، ويشترك في توجيهه وصياغة مصيره لفترة طويلة من الزمان، قصة هذا الصبي لم تنتهِ بعد، وأغلب الظن أنها لن تنتهي أبدًا … فلقد أثر كامل الشناوي في عصره كما تأثر به، وأثر في العشرات الذين تتلمذوا عليه، والذين أُعجبوا به، والذين شغفوا بفنِّه … وسيظل كامل الشناوي طرازًا فريدًا بين أدباء العصر، وسيظل بابًا لكل الموهوبين من الشباب إلى الجنة، وستبقى حياته … أعظم إنتاجه، كما كانت الحياة عنده … أمتع هواية لديه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤