الباسم العبوس

حافظ إبراهيم

ولكن حافظ، رغم البؤس ورغم الخوف ورغم القلق كان ظريفًا، وكان يضحك من الأعماق، ويسخر من كل شيء حتَّى من وجوده.

قال كاتب القصة العالمي انطون تشيكوف: «مَن لا يرغب ولا يأمل ولا يقلق لا يستطيع أن يُنتج شيئًا عظيمًا.» وكانت أبرز صفات حافظ إبراهيم … القلق، وأعظم إنتاجه … حياته! ولقد بدأت حياته القلقة الرائعة في عام ١٨٧٢م، حين وُلد في عوَّامة كان يسكنها أبوه المهندس المشرف على قناطر ديروط.

وكان أبوه إبراهيم أفندي فهمي مصريًّا صميمًا، وأمُّه تركية من عائلة متوسطة، فكان القلق يجري حتى في دمه. ويموت أبوه وهو في الرابعة. فيتعهده محمد أفندي نيازي، خاله. ويُدخله المدرسة الخيرية بالقلعة، ثم المبتديان، ثم الخديويَّة، ثم يهجر حافظ الدراسة، وقد امتلأت نفسه بُغضًا للنظام الذي تفرضه المدارس على طلاب العلم. ويسافر به خاله إلى طنطا. وهو في طنطا لا يعمل شيئًا ولا يكسب شيئًا. إنه يدور النهار كله والليل كله أيضًا مع طالب في الجامع الأحمدي اسمه الشيخ عبد الوهاب النجار، يغشيان المقاهي المتواضعة، وحلقات الذِّكْر، ويقرضان الشِّعر أحيانًا، ولكنه شِعر ساذج بارد كحياتهما الفارغة. ويضيق به خاله، ويعلن له سخطه على الحال التي آل إليها. فيضيق به هو الآخر، ثم لا يلبث أن يهجره، تاركًا له ورقة صغيرة تحوي بيتينِ من الشِّعر:

ثقُلَتْ عليك مَئُونَتي
إني أراها واهية
فافرح فإنِّي ذاهبٌ
متوجهٌ في داهية

شِعر فيه سذاجة، ولكن فيه مرارة، وهي أبدًا طابع شِعر حافظ إبراهيم.

روب المحاماة

أصبح حافظ إبراهيم بلا عملٍ ولا مأوى. وهو أحيانًا يتضور جوعًا فلا يجد ما يأكله، ويتمنى أحيانًا أن يموت.

عجبتُ لعُمري كيف مُد فطالا
وما أثَّرت فيه الهموم زوالا
فلَلموتُ خيرٌ من حياةٍ أُرى بها
ذليلًا، وكنتُ السيدَ المفضالا

ولكن هل يفقد الحيلة؟ إن مهنة المحاماة مفتوحة الأبواب للهاربين من المِهَن، والفاشلين في الحياة. وهو فاشل وهارب معًا، وأيضًا طويل اللسان. ولم يلبث أن أصبح محاميًا، ولكن المحاماة تحتاج إلى صبر، وهو قَلِق، وتحتاج إلى بحثٍ، وهو يمقت البحث، وتحتاج أخيرًا إلى نظام، فيتركها غير آسفٍ عليها، ماذا بقي إذن أمامه؟ لا سبيل إلا الكلية الحربية.

ولا يدري أحدٌ السبب الذي دفعه إلى ارتياد هذا الطريق. وأغلب الظن أن تأثُّره بقصة حياة محمود سامي البارودي هو الذي دفعه إليه، المهم أن حافظًا دخل الكلية الحربية وأصبح ضابطًا، وعَمِل فترة في الجيش ثم في البوليس، ثم سافر بعد ذلك إلى السودان في الحملة التي كانت بقيادة كتشنر. والشاعر الرقيق الإحساس أصبح الآن محاربًا وفي يده سيف. وهو يكره الحرب، خصوصًا إذا كانت الحرب داخل أدغال موحشة، وصحراوات مجهولة الحدود. ويبكي حافظ في السودان … يبكي شِعرًا فيقول:

وما أعذَرْتُ حتى كان نَعْلي
دمًا، ووِسادتي وجه التُّرابِ
وحتى صيَّرتني الشمسُ عبدًا
صبيغًا بعدما دَمغت إِهابي
وحتى قلَّم الإملاقُ ظُفري
وحتى حطَّم المِقدارُ نابي
متى أنا بالغٌ يا مِصر أرضًا
أشُمُّ بِتُربها ريحَ الملابِ

ثم جاءه الفرج بعد ذلك؛ فقد تمردت فرقة من الجيش وحوكم ضباطها وأُحيلوا على الاستيداع … وكان عددهم ثمانية عشر ضابطًا، وكان من بينهم حافظ.

زواجه

وعاد حافظ إلى مصر يبحث عن عملٍ؛ عرض نفسه على جريدة الأهرام ولكنه لم يُوفق. وكانت شهرته قد امتدت إلى مختلف الأوساط، وأصبح يغشى مجالس الشيخ محمد عبده، وغيرها من مجالس العظماء. وكان له من جزالة الصوت، وحُسن الإلقاء، وجيد الشِّعر، والنكتة؛ ما أفسح له مكانًا في الندوات. وفي هذه الفترة تزوَّج حافظ إبراهيم، ولكن زواجه لم يدُم طويلًا؛ إذ هجر بيت الزوجية بعد أربعة أشهر، ثم لم يعُد إليه بعد ذلك حتى نهاية حياته التي امتدت ستين عامًا.

البكَويَّة

وفي خلال هذه الأعوام الستين وقعت لحافظ أحداثٌ عجيبة … أُنعِم عليه برتبة البكوية، ثم بنيشان النيل، وعُيِّن بدار الكتب المصرية، فلزم الصمت وآثر السلامة … ولم ينتج شِعرًا يُذكر خلال تلك المدة الطويلة، وكان السبب في ذلك خوفه من ضياع الوظيفة. ولما جاء صدقي إلى الحكم هاجمه حافظ بشدة، ولكنه لم ينشر الشِّعر الذي قاله فيه، ولكن هذا كله لم يمنعه من أن يكون شاعر الوطنية غير منازع.

اشترك في الأحداث التي هزت بلاده بقلمه، وكان من خير شِعره ما قاله في حادث دنشواي، وفي رثاء مصطفى كامل وسعد زغلول. وكان ينتهز الفرص ليصرخ في وجوه المصريين أن أفيقوا، وأن هُبوا. وكان يبدو متشائمًا أحيانًا، ولكنه لم يفقد الأمل في شعبه. كان واثقًا من النصر في النهاية. وهو عندما تمتلئ نفسه يأسًا يقول:

فما أنتِ يا مِصرُ دار الأديب
ولا أنتِ بالبلدِ الطيبِ
وكم ذا بمصرَ من المُضحكات
كما قال فيها أبو الطيبِ
أمورٌ تمرُّ وعيشٌ يمُر
ونحن مِنَ اللَّهو في مَلعب
وشعب يفرُّ من الصالحات
فرار السَّلِيم من الأجرَب

ولكن هذا اليائس المتشائم يعود فيقول لسعد زغلول:

فاوِضْ فخلفَك أُمةٌ قد أقسَمَت
ألا تنامَ وفي البلاد دخيلُ
عُزْلٌ ولكنْ في البلادِ ضَرَاغِمٌ
لا الجيشُ يُفزِعُها ولا الأُسطُولُ

ثم هو يرى البعث بنفسه. لقد هَبَّت الجموع النائمة تبحث عن تاريخها، وهي تحث الخطى في إصرار نحو الفوز، ويُهلل حافظ فرحًا مزهوًّا:

أفَقْنَا بعد نومٍ فوق نومٍ
على نومٍ كأصحاب الرَّقيمِ

شاعر الظرفاء

ولكن حافظ، رغم البؤس ورغم الخوف ورغم القلق، كان ظريفًا، وكان يضحك من الأعماق ويسخر من كل شيء، حتى من وجوده. كان يقول إن الحياة مِحنة، وأن من الواجب أن نستعين عليها بالابتسام. وحافظ لم يكن يبتسم فقط، لقد كان يُقَهْقِه، ويُحرك نفوس الناس ليضحكوا هم الآخرون.

بدمه

حدث مرة أن أديبًا شابًّا كثير الكلام كان يغشى مجالس حافظ، وكان يتحدث دائمًا عن مغامراته في عالَم الضرب والطعن، وكيف أنه قتل فلانًا وجرح فلانًا. وذات ليلة جلس الأديب الشاب يقصُّ على حافظ قصة خلافِه مع جماعة من الأدباء، وكيف أنه أقسم أن يضرجَهم بالدم وسأله أحد الحاضرين: ونفذت وعدك؟

وأجاب حافظ على الفور: طبعًا، وضرجهم بدمه.

يبقى أبسطنا

وكان يحضر حفلة موسيقية، وكان العزف رديئًا والآلات عتيقة بالية. وطلب حافظ من قائد الفرقة أن يُسمعهم لحنًا معينًا، فأجاب المايسترو، بأن اللحن الذي يعنيه سبق لهم عزفه منذ دقائق، وصاح حافظ على الفور: يا سلام، على كده يبقى انبسطنا.

أنا إنجليزي

وخلال الحملة السودانية التي كانت بقيادة كتشنر، حدث أن عاد حافظ إلى المعسكر متأخرًا، وصاح الحارس الإنجليزي الذي كان يقف عند الباب: مَن هناك؟ وكرَّر النداء أكثر من مرة، وارتبك حافظ ولم يدرِ ماذا يفعل. ثم عاد فصاح مُجيبًا: أنا إنجليزي يا جورج.

وما لي جزمة

وكتب مرة إلى جارٍ له يوم زفافه:

أحامِدُ كيف تنساني وبيني
وبينك يا أخي صِلةُ الِجوارِ
أيشبعُ مصطفى الخولي وأُمسي
أعالجُ جوعتي في كسرِ داري
وبيتي فارغٌ لا شيء فيه
سواي، وإنني في البيت عاري
وما لي جزمةٌ سوداءُ حتى
أوافيكم على قُرب المزارِ
فإن لم تبعثَنَّ إليَّ حالًا
بمائدة على متنِ البُخارِ
تُغطِّيها من الحلوى صُنوفٌ
ومن حَمَلٍ تَتَبَّل بالبُهارِ
فإني شاعرٌ يُخشَى لِساني
وسوف أُريك عاقبةَ احتِقاري

نكد الدنيا

وكان يكره شاعرًا من شعراء عصره كراهية شديدة، وكان هذا الشاعر يتولَّى منصبًا هامًّا، وكان حافظ يبدو دائمًا محتاجًا إليه؛ ولذلك كان يُبدي له الود، وإن كان يبغضه في حقيقة نفسه. سأله الشاعر مرة عن أعظم الشعراء في رأيه فأجاب حافظ: المتنبي، فسأله: وأعظم ما قاله، فأجاب:

ومن نكد الدنيا على الحُر أن يَرى
عدوًّا له ما مِن صداقته بُدُّ

ولم يفهم الشاعر طبعًا ما يقصده حافظ إبراهيم.

حافظ مات

وكان حافظ يجلس في مكتبه بدار الكتب حين دخل الساعي ومعه ورقة تحمل اسم زائر ثقيل. وقال حافظ للساعي: أنا مش هنا.

ومضت فترة ثم غافل الزائر الساعي ودخل على حافظ مُهرولًا وقد بسط يده بالسلام: صباح الخير يا حافظ بك.

– حافظ بك مش هنا.

وارتبك الزائر ووقف برهة لا يدري ماذا يفعل. وعاد حافظ يقول: يا أخي حافظ مات، حافظ راح في داهية … هوه مالكوش شُغلة غير حافظ، دنا بادور عليه بقالي عشر سنين أقعد معاه لوحدي مش عارف.

بوليس

روى له أحد أصحاب الصحف كيف أنه خرج من منزله صبيحة صدور صحيفته ليقف بنفسه على حالة التوزيع، وأخذ يروي كيف أنه ركب الترام فوجد كل راكب يحمل صحيفة مع التذكرة. وقال واحد من المنافقين: وأنا كمان والله النهاردة ركبت التُّرُماي لقيت كل راكب معاه نسخة ما عدا راكب واحد.

وأجاب حافظ على الفور: ده لازم بوليس.

ولكن الغريب في الأمر أن خفة دم حافظ ونكتته الشائقة لم يبدُ لها أثرًا في شِعره؛ إذ كان هو في قرارة نفسه حزينًا مكلومًا، يشعر بالوحدة ويحس بالحرمان. ولذلك جاء شِعره كله باكيًا مريرًا، وأجاد في الرثاء وفي الوطنية، استمع إليه يقول بعد مرض طويل:

مَرِضنا فما عادَنا عائدُ
ولا قيل أين الفتى الألمعي
ولا هش طرس إلى كاتب
ولا خفَّ لفظٌ على مسمعي
سكتنا فعزَّ علينا السكوت
وهان الكلام على المُدَّعي

الصيد الحرام

ولكن حافظًا المغمِض العينين على حزنه الدفين، كان ينتفض أحيانًا فيبدو ساخطًا على كل ما حوله من ظروف بغيضة. ساخطًا على الفقر، ساخطًا على الذُّل، بَرِمًا بالظلم الذي لا يدري مداه.

عَزَّت السلعة الذليلةُ حتى
بات مسحُ الحِذاء خَطْبًا جُسامَا
وغدا القوتُ في يد الناس كالْيَا
قوتِ حتى نوى الفقيرُ الصِّياما
ويَخالُ الرغيفَ في البُعد بَدرًا
ويظُن اللحوم صيدًا حرامًا

ثم هو يرى أبناء مصر يسقطون على الطريق، والصعاليك الذين يفدون إليها من بقاع الأرض يمرحون كالآلهة، فيقول حافظ:

بَنُو مِصر في حمى النيل صَرْعَى
يَرقُبون القضاءَ عامًا فعامًا
أيها النيل كيف نُمسي عِطاشًا
في بلاد رَويت فيها الأناما
يرِدُ الواغِلُ الغريبُ فيَروَى
وبنوك الكِرام تشكو الأواما
قد شَقِينا ونحن كَرَّمَنا اللهُ
بعصرٍ يُكرِّمُ الأنعاما

رجل سلام

وهو أيضًا رجل سلام يكره الحرب، ويكره الطغاة، ويحب السلام. وفي عام ١٩٠٤م، قبل أن يرتفع صوت واحد يدعو للسلام، يهتف حافظ إبراهيم فيقول:

أساحةٌ للحرب أم محشرُ
ومورِدُ الموت أم الكوثرُ
وهذه جُندٌ أطاعوا هَوى
أربابِهِم أم نَعَمٌ تُنحَرُ
أشَبعتِ يا حربُ ذئابَ الفَلا
وغصَّت العِقبانُ والأنسُرُ

ثم يقول:

فهل دَرى القيصرُ في قَصرِه
ما تُعلِن الحربُ وما تُضمِرُ؟

مُنصف الموتى

وعندما وافاه أجله، جاءت منيته فجأةً، كان يتعشَّى مع بعض أصدقائه وهو أشدُّ ما يكون مرَحًا وبهجة، ثم شَعر بألم شديد في أمعائه، وعندما حضر إليه الطبيب كان حافظ قد مات، وماتت بموته المنافسة التقليدية التي كانت قائمة بينه وبين شوقي، فقال شوقي العملاق يرثيه:

قد كنتُ أوثِرُ أن تقول رِثائي
يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ

وهكذا انتهت صفحة حافظ إبراهيم، الذي أنصف الموتى وأنصف الأحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤