السيد … العبد

إمام العبد

دخل الأدب بأزجاله، وهي أزجالٌ لا تقف على أقدام … ولكنه فرض نفسه على الأدب والأدباء من خلال النكتة والقافية.

لعلَّه أغرب أديب في زمانه وفي كل الأزمان، فقد دخل الأدب بأزجاله، وهي أزجال لا تقف على أقدام، ولكنه فرض نفسه على الأدب والأدباء من خلال النكتة والقافية! ونُكتته ليست مُسلية وليست مُضحكة، ولكنها قاسية وتحمل رأيًا، فهو ناقد أذِن أسلوبه في النقد أن يُنكت عليك وعلى الآخرين. ولقد كانت قسوته أمرًا حتميًّا، جاءت نتيجة وضعه الاجتماعي؛ فهو ابن عبدين اشتراهما أحد الأثرياء الأغنياء من سُلالة الترك، وكان إمام العبد هو نِتاج هذا الزواج الفريد … الغبي!

نشأ إمام العبد في بيت ليس بيته، ومع ذلك يضم أبويه. والكلمة الأولى والأخيرة فيه لرجل جاهل كحمارٍ، غبي كثورٍ، عديم النشاط والإحساس كأنه سلحفاة، وكان الطبيعي والحتمي لولدٍ في مثل ظروفه أن ينشأ ويتعلم ويتربَّى ليصبح بوابًا أو سايسَ خيول، أو طباخًا على أحسن الفروض. ولكن الخطأ الذي وقع فيه الباشا التركي أنه أرسل إمام إلى المدرسة. وفي المدرسة تعلَّم إمام القراءة والكتابة، وفي المدرسة أيضًا شاعت قصة حياته؛ فأصبح مُضغة في الأفواه، وكان لابن العبد أن يدافع عن نفسه، وكل إنسان يدافع عن نفسه بما تملكه يداه، ولم يكن إمام العبد يملك شيئًا إلا لسانًا أطول من حبل الغسيل، وأحدَّ من سيف المقاتل، وأشد فتكًا من سُم الثعبان.

وهكذا حمل إمام العبد سلاحه واقتحم المعركة غير آسفٍ ولا هيَّاب.

ضد الجميع

والإنسان — أي إنسان — لا يولد شريرًا بطبعه، ولا يولد طيبًا من بطن أمه. ولكن الإنسان، يتخذ موقفه دائمًا على ضوء موقف المجتمع منه … وعندما تكون رجُلًا مُهابًا ومحترمًا من الناس فأنت بالضرورة طيب مع الجميع … وعندما تكون مُسخة وملطشة فأنت بالضرورة ضد الجميع … وهكذا أصبح إمام العبد ضد الجميع؛ لأنهم جميعًا كانوا ضده.

ولكن إمام العبد لم يكن شريرًا، كان ظريفًا؛ ولذلك لم يخرج على المجتمع، ولكنه آثر أن يتتريق عليه. وبرع إمام العبد في النكتة حتى صار أحد أعلامها في مطلع القرن العشرين، وأصبح زينةَ كل مجلس ومقصد كل فنان. والتفَّ حول العبد كل مشاهير عصره، وكان أقربهم إليه عبد العزيز البشري وحافظ إبراهيم.

وذات مساء كان حافظ يزوره في بيته، وخرج العبد من الحجرة بعض الوقت ثم عاد ليأمر حافظ بأن يلقي بالسيجار التوسكاني الذي كان يفضِّله خارج الدار. وعندما سأله حافظ عن السر في هذا الطلب الغريب، قال العبد: «أصل أبويا فاهم إن إحنا مولعين الفرن بجِلَّه.» والجلَّة هي روث البهائم الذي يستعمله الفلاحون في الوقود.

وذات مساء خرج آخر الليل من البار مع شفيق المصري، وكانت ليلة باردة من ليالي الشتاء، واستقلَّا عربة حَنطُور ومضى بهما الرجل على غير هُدًى، وأخيرًا سألهما: البهوات رايحين على فين؟ ورد العبد وهو يرتعش من البرد، الدنيا برد إحنا مش قادرين نتكلم، إذا كنت عاوزنا نرد عليك أُقَف في شارع دَفَا وإحنا نقولك.

الجزار الأديب

وكان له صديق جزار هجر الجزارة واحترف الأدب، وكان الجزار يجلس مع العبد وحافظ إبراهيم، فقال حافظ للجزار: إزي الحال؟ وقال الجزار: الحمد لله. وعاد حافظ يسأله: الجزارة الأحسن والَّا الأدب، فأجاب العبد على الفور: هُوه لما كان جزار، كانت الكلاب بتمشي وراه، دلوقت لما أصبح أديب، بقى يمشي ورا الكلاب.

وليس في العالم أبلغ نقدًا لمهنة الأدب من هذه النكتة الخاطفة القاتلة، وكأنه يطلق قنابل من مدفع ميدان.

•••

وكان البشري بخيلًا إلى حدٍّ ما، فقال عنه العبد: «البشري مش ممكن يركب تاكسي إلا إذا كان بُوزه ناحية حلوان.» ولما سأله الحاضرون عن السبب أجاب: «أَصلي بيخاف أحسن العداد يعمل فلوس في التدويرة.»

•••

ولم يكتفِ بالتنكيت على الناس، بل نَكَّت على نفسه؛ كان يجلس في بار اللواء يكتب خطابًا لصديق، فتساقطت نقطة من الحبر على الأرض، فقال على الفور، يا خبر اسود، الواحد بقى يعرق كتير اليومين دول!

•••

وكان يجلس مرة مع حافظ محمود، وكان يرتدي كرافتة سوداء، فقال له حافظ محمود زَرَّر قميصك يا إمام، «باعتبار أن الكرافتة جزء من جلده»، ورد إمام على الفور: «أما يبان جلدي، أحسن ما يبان عرضي.»

•••

وكان له صديق شديد الكبرياء وشديد الفقر، فقال عنه العبد: «مرة صاحبنا ده كان ماشي في السكة وبعدين لقى نص فرنك، فضل واقف جنبه لحد ما فات واحد فقير، فنادى عليه وقال له، وطي يا ولد هات النص فرنك ده.»

•••

وقف يتفرج مع صديق على خناقة حامية، والمتشاجران يتشاتمان. ثم يكفان عن الشتائم، ويقتربان من بعض ثم يبتعدان … ومضت نصف ساعة كاملة ولم تمتدَّ يد أحدهما على الآخر. وسحب العبد زميله وقال له: «يا عم ياللا بينا، دي إشارة بس، لكن الخناقة الأسبوع القادم!»

•••

وكان لأحد أصدقائه سيارة قديمة مهكَّعة، وكان دائم الركوب فيها ثم انقطع عن ركوبها فترة من الزمان، ولما سألوه عن السبب قال: «يا عم أنا ركبتها أسبوع نعل جزمتي داب.»

•••

طلب منه أديب تافه أن يستمع إلى قصيدة من قصائده، فقال له العبد في همس: «طب استنى لما نروح خرابة أحسن حد يشوفنا.»

•••

نُعي إليه أحد أصدقائه، وكان صاحب ورشة لحام، فقال في لهجة آسفة: «الله يلحمه.»

هنا كانت عبقرية إمام العبد الحقَّة، أما إمام العبد كزجَّال فقد كان من نوع الزجالين الوُعَّاظ، غير أن وعظه كان ظريفًا وخفيفًا؛ لأن الرجل نفسه كان كالطائر الصدَّاح.

وكان الظريف من بيت أدب،
وكان أبوه حازم وصاحب عكاز.
ماشي على دين الليالي عجب،
والعمر مخلوق للسهر والقمار.
مالت عليه واحدة وقع في الشَّرك،
وبات أسيرًا للحظ من غير سبب،
وكلما يحضر تقول: الملك
حضر وتقديم التحية وجب.
ضيع عليها المال بسحر العيون،
وجاب له حلية بألفين جنيه.
صبح، على كيفه، أسير الديون،
وثروته في اسم باشا وبيه.

وهو زجال كما ترى من الدرجة العاشرة، ولكن نكته وقفشاته كانت من طراز عظيم.

ومات قبل أن يصل إلى الخمسين، ولو أن أحدًا من معاصريه عُني بجمع تراثه لكان للعبد شأن آخر، فهو لم يكن صاحب نكتة فارغة، ولكنه كان أديبًا يصوغ أدبه في نكتة، وكان شاعرًا قصائده قفشات، وكان رسامًا لوحاته عبارات ينطقها بنت اللحظة، وكان مُقاتلًا خنجره لسانه.

في آخر أيام حياته قال له صديق عجوز: تعرف يا عبد لو احنا زمان أنا كنت اشتريتك … وقال العبد: «عندك حق … اللي زيك زمان كانوا بيشتروا العبيد عشان الزوجات!»

رحم الله العبد، لم يبقَ منه الآن إلا كلمات على ألسنة المحبين وما تبقَّى من الأصدقاء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤