ربُّ المقالب … حفني

حفني محمود

استخدم حفني محمود هذه الموهبة، موهبة صُنع «المقالب» في كل مهنة عَمِل فيها. استخدمها كسياسي، واستخدمها كوزير، واستخدمها ككاتب، وكصحفي وكصديق، وكان أولًا وأخيرًا يستخدمها كإنسان.

لا أدري كيف أبدأ الكتابة عن حفني محمود. هل أكتب عن حفني محمود ابن الذوات، سليل الأسرة القوية الثرية في الصعيد … أم عن حفني محمود السياسي ذي النظرة البعيدة، والقبضة السحرية التي تجمع بأطراف كل الخيوط. أم عن حفني محمود الأديب، صاحب الأسلوب الساخر، والنظرة الواعية بكل ما يحيط به من أمور.

أم عن حفني محمود رجل السلام، أول «باشا» من أسرة كل أفرادها من أهل إقطاع، وهواة حكم، وهو يدعو للحب، ويدعو للسلام. ويُمجد الحرية ويهتف لها.

أم عن حفني محمود صاحب «المقالب» المشهورة، التي أضحكت الناس حينًا، وأبكتهم أحيانًا. وكانت خير إنتاج حفني محمود الفنان.

الحقيقة أنني فضَّلت أن أكتب حياته من خلال هذه «المقالب» والسبب، أن حفني محمود كان فنانًا. لم يجد ردًّا صادقًا يمكنه أن يرد به على أوضاع المجتمع المقلوبة إلا أن يسخر به، وبأوضاعه، وبمَن صنعوا هذه الأوضاع. إن الذين صنعوا هذه الأوضاع حفنة من الناس تنتمي إلى طبقة هو أحد أبنائها!

ولكن ماذا يهم؟ أنه ككل فنان يعمل ما يرضي الرجل الفنان. ثم بعد ذلك، فليأتِ الطوفان … ولكنه لا ينسى الذين استسلموا لهذه الأوضاع المقلوبة، والذين ارتضوها. وهم عامة الشعب. ولذلك كانت سخريته من الجميع، ومقالبه كان يقع في شراكها، أبناء الشعب وأبناء الذوات كذلك.

موهبة المقالب

واخترت أن أكتب حياة الرجل من خلال هذه المقالب لسببٍ آخر، هو أن حفني محمود استخدم هذه الموهبة … موهبة صُنع «المقالب» في كل مهنة عَمِل فيها … استخدمها كسياسي، واستخدمها كوزير، واستخدمها ككاتب، وكصحفيٍّ، وكصديق، وكان أولًا وأخيرًا يستخدمها كإنسان.

وفي هذا الحيز الضيق سأحاول جاهدًا أن أسرد بعض «مقالب حفني محمود» تاركًا للقارئ استخلاص العِبرة، واستخلاص الموعظة، واستيعاب ما تقطره من سخرية حمراء … كالدم.

هيكل فيلم

في أول عهد الوزارة الوفدية الأخيرة كان يتولَّى منصب مدير المطبوعات في وزارة الداخلية زميل طيب جدًّا، هو الدكتور عبد الباسط الحجاجي. ورفع حفني محمود سماعة التليفون وطلب الدكتور الحجاجي. ودارت بينهما المناقشة التالية: حضرتك عبد الباسط الحجاجي؟

– أيوة يا فندم.

– أنا مدير شركة هيكل فيلم.

– أهلًا وسهلًا.

– فيه والله قصة قدمتها الشركة من شهر ولم تخطرنا الرقابة بعدُ بالموافقة، مع أن شركة نحاس فيلم قدمت قصة بعدنا وُوفِق عليها، فالمسألة إذا كانت محسوبيات عشان نحاس فيلم بتاع رفعة الباشا وهيكل فيلم في المعارضة، يبقى المسألة لها وجه تاني.

– لا يا فندم مافيش محسوبيات أبدًا … وأنا كمان ما كنتش أعرف أن نحاس فيلم بتاع رفعة الباشا، وكمان ما كنتش أعرف أن هيكل باشا عامل شركة أفلام.

– لا، أهوه ده اللي حصل.

– طيب، الصبح إن شاء الله، رايح أطلب القصة بنفسي وأشوفها.

– متشكر.

– مين اللي بيتكلم يا فندم؟

– هيكل باشا.

وفي الصباح طبعًا. طلب مدير المطبوعات قصة شركة هيكل فيلم، وروى قصة المكالمة التليفونية بينه وبين هيكل باشا. وكانت فضيحة كبرى.

مَثل آخر

يدعو أحمد خشبة رئيس الوزراء محمد محمود إلى حفلة غداء في بيته. ولا يدعو إليها بقية الوزراء.

ويمسك حفني محمود سماعة التليفون ليتصل بالوزراء واحدًا بعد آخر يدعوهم للغداء على مائدته … مُقلدًا أصوات خشبة، ويفاجأ خشبة وضيفه بجميع أعضاء مجلس الوزراء يفدون إلى دار خشبة قبل الغداء بدقائق. ويضرب محمد محمود المائدة بقبضة يده وهو يصرخ: عملها حُفني، عملها حُفني «بضم الحاء».

حيدر باشا

ويطلب إليه أحد تُجار الخشب أن يتوسط له عند حيدر باشا، وكان وقتئذٍ قائد عام القوات المسلحة. يطلب إليه أن يُحدِّثه في أمر ابن شقيقته العسكري بالمشاة، لكي يُخلي سبيله.

وتصور أن رجلًا يطلب إليك أن تُوسِّط له قائد عام القوات المسلحة في أمر يتصل بجندي نفر في سلاح المشاة … وينسى حفني محمود الحكاية كلها، ولكن الرجل يتعقبه … في الصباح وفي المساء. وفي البيت وفي المقهى، وفي الشارع وفي كل مكان.

ويضيق حفني محمود بالرجل فيعتزم أمرًا، وفي منتصف الليل أمسك حفني محمود بسماعة التليفون وطلب حيدر في منزله، ودار الحديث الآتي: حيدر باشا.

– أيوة، مين؟

– أنا عبد القادر جودة تاجر الخشب.

– أي خدمة يا فندم.

– أيوة، عندكم الواد ابن أختي في سلاح المشاة، وعاوزك تديله أجازة.

ويفاجأ حيدر باشا بهذا الطلب الغريب من رجل لا يعرفه بعد منتصف الليل، فيسأل المتحدث: حضرتك عاوز مين؟

– حيدر باشا بتاع الجيش.

– وعاوزه عشان الحكاية دي؟

– آه، إيه يعني … كبير حيدر باشا؟

– لا؛ ولا كبير ولا حاجة، بس اقفل السكة.

– اقفل السكة ياللي …

وانتهت المحادثة. ولكن بعد أن استمرت ثلاثة أيام متتالية وفي نفس الموعد.

ثم طلب حفني من تاجر الأخشاب أن يذهب لمقابلة حيدر في مكتبه بقصر النيل … ويفرح الرجل ويذهب.

كانت الساعة قد بلغت الواحدة ظُهرًا، وحيدر في مكتبه عاكف عن دراسة بعض الشئون الهامة، حين دخل سكرتيره ليقول له، إن بالخارج تاجر أخشاب اسمه عبد القادر جودة، ويريد مقابلتك.

ويقفز حيدر عند سماعه الاسم.

ونام تاجر الخشب عشرة أيام في المستشفى بعد ذلك، وكانت درسًا قاسيًا لن ينساه.

المؤلف العظيم

ورجل آخر يطلب من حفني محمود أن يُقدمه إلى أحد الأُمراء السابقين ليتولى طبع كتاب له ضد حزب الأحرار الدستوريين (ولاحظ أن حفني محمود من الأحرار)، ويعتذر حفني محمود، ولكنه يعطي للرجل الرقم السري لتليفون الأمير، ويطلب إليه أن يحدِّثه في الأمر.

ويتصل المؤلف بالأمير، ويطلبه الأمير في الحال ليطَّلِع على أصول الكتاب، فقد كان الأمير وقتئذٍ خصمًا لمحمد محمود، وبين الاثنين عداوة شديدة.

ويطير الرجل من الفرحة، ويهرول إلى قصر الأمير ويمسك حفني محمود بسماعة التليفون ويتحدث إلى الأمير على النحو الآتي: ألوه، أفندينا.

– أيوة، مين؟

– أنا المؤلِّف اللي كلمت سموَّك من دقيقة.

– أيوة، عاوز إيه تاني؟ أنا قلتلك تعالَ.

– لا فيه حاجة واحدة بس عاوز أقولها، وهي إنك حمار ومغفل. وإنك تتمتع بأخلاق عربجية مش أخلاق أمراء!

ويرطن الأمير بكل لغات الأرض سبًّا في صاحبنا المؤلف المظلوم: خرسيس، كلب بن كلب، أوعى تيجي، أحسن أقتلك!

– لا، وأنا هاجي رغم أنفك عشان أقول الكلام ده في وشك!

وينهي حفني محمود المناقشة عند هذا الحد.

كل هذا، وصاحبنا المؤلف يهرول سعيدًا إلى قصر الأمير، وعندما بلَغه كانت الساعة الخامسة بعد الظُّهر، وكان أمام الباب أكثر من عشرة رجال سُود من خدم القصر، وفي أيديهم مقشات وعِصِي، وأشياء أخرى، فقد أمرهم بضرب المؤلف علقة ساخنة عندما يصل.

وما كاد المؤلف المسكين يلفظ باسمه حتى انهال جميع الخدم عليه ضربًا وركلًا حتى فقد وعيه … وحتى أصول الكتاب مزقها الرجال السود.

السر الحقيقي

وخلال الأزمة التي نشبت بين عبد الفتاح الطويل ووزارة الوفد الأخيرة، طلب حفني محمود رئيس تحرير إحدى الصحف اليومية الكبرى ودار الحديث الآتي: ألو، أنا الطويل، فيه مقال أرسلته للجريدة منذ دقائق وسيصلك حالًا بعنوان … «السر الحقيقي وراء الأزمة الوزارية».

ويفرح رئيس التحرير للنصر الصحفي الكبير، ثم يعود حفني محمود إلى الحديث فيقول: بس والله قبل النشر تبقى تعرضه علينا.

– حاضر يا فندم.

– وهكذا أُعِد المقال للنشر في الصفحة الأولى. وفي الساعة الثالثة صباحًا دق جرس التليفون في بيت عبد الفتاح الطويل، وكان المتحدث هو رئيس التحرير: عبد الفتاح باشا، صباح الخير.

– صباح النور يا فندم، إيه الحكاية؟

– المقال بتاع معاليك أُعِد للنشر خلاص.

– مقال إيه؟

– المقال اللي بعتُّه.

– أنا ما كتبتش مقالات خالص. بعنوان إيه ده؟

– «السر الحقيقي وراء الأزمة الوزارية».

وينتفض عبد الفتاح الطويل من الغيظ ويصرخ في وجه رئيس التحرير: لا … أنا رايح أبلغ النيابة.

ويقدم فعلًا بلاغًا للنائب العام … ولم يظهر المقال بالطبع … وكشف التحقيق أن صاحب المقال هو حفني محمود.

أخطرها جميعًا

ومن هذا النوع عمل حفني محمود مقالب كثيرة، ولكن أخطرها جميعًا كان في منزل أحمد الألفي عطية. وكان سيروح ضحيته صاحب المنزل … لولا الصدفة وحدها.

كان حفني محمود يسهر مع الألفي عطية في منزله. وكان معهما كامل الشناوي ويوسف الشريعي. وفي الثالثة اعتذر الشريعي عن اضطراره لترك السهرة؛ لأن في منزله ضيوفًا من أسرة السعداوي، أقوى القبائل العربية في الإقليم.

ويخرج الشريعي، فيتصل حفني محمود بمنزل الشريعي فيرد عليه واحد من الضيوف، أفراد أسرة السعداوي. ويقول حفني محمود: مين انت؟ اديني واحد مهم شوية، واحد مهم شوية من فضلك. ويأتي زعيم السعداوية ليرد عليه: إيه الحكاية؟

– يوسف الشريعي مات، الرجل اللي اسمه الألفي عطية ضربه بالنار دلوقت في البيت اللي قصادكم على طول.

ويخرج أفراد أسرة السعداوي جميعًا مسلحين، ويحاصرون بيت الألفي، فقد قرروا قتله. لولا أن عاد الشريعي مرة أخرى إلى منزل الألفي عطية بعد أن ذهب إلى منزله فلم يجد أحدًا من الضيوف، وظن أنهم سافروا إلى الصعيد. ولكنه فوجئ عند عودته إلى بيت الألفي عطية بالضيوف جميعًا يحاصرون المنزل، وهم على أتم الاستعداد لقتله عندما يهمُّ بالخروج.

إلى دسوق

وبلغ من جبروته في هذا الفن أنه استطاع أن يقنع رجلًا صاحب صيدلية بالنوم في فراش أحد المستشارين. وأن يُفرق بين حافظ محمود وصديقه محمد الأسمر عامًا، وأن يقنع محمد محمود بضرورة تعيين أحد القضاة بالمعاش وزيرًا، لأن حفني محمود كان يتضايق من وقاره الشديد أثناء جلسته في بار اللواء، وأن يتفق مع طه الفشني وبطانته بإحياء ليلة مولد في دسوق، ويسافر الشيخ الفشني ومعه البطانة إلى دسوق، فلا يجد أحدًا بهذا الاسم الذي انتحله حفني محمود … عبده بك دبور … ولكن حفني محمود الإنسان يرسل في اليوم التالي بمبلغ خمسين جنيهًا للشيخ الفشني، نفس الأجر الذي اتفقا عليه بصفته عبده بك دبور.

وهكذا عاش حفني محمود إلى آخر أيام حياته يضحك من الناس ويضحك عليهم … وكان يحب الليل … فكان يسهره كله ولم يحدث أن أوى إلى فراشه قبل إشراقة الصباح.

النهاية

وكما عاش خفيفًا كالفراشة … مات فجأة كالخيال. وهكذا خبا الضوء في العين الذكية. وجفت الابتسامة على الفم الذي لم يعرف في حياته إلَّا الابتسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤