الفصل الثاني عشر

إلينور

أنتِ ثابتة الجَنان …
… وفي حفظ السر
لا تضاهيكِ امرأة.
مسرحية «هنري الرابع»
لا، إن ما يقتلها هو سم الاغتياب السريع المفعول والقاطع أكثر من حد السيف،
واللسان الجارح أفظع من جميع تماسيح النيل.
مسرحية «سيمبلين» [ترجمة أنطوان مشاطي]

فتحت مولي الباب. وقالت وهي تُرافقني إلى الداخل: «ستجد الآنسة إلينور في غرفة الجلوس، يا سيدي.»

خوفًا من جهلي بالأمر، أسرعت إلى الغرفة التي أشِيرَ إليها؛ وشعرتُ كما لم أشعر من قبلُ بفخامةِ هذه الردهة البهية بأرضيتها الأثرية، وأخشابها المنحوتة، وزخارفها البرونزية؛ عبَثيَّة الأشياء تفرض نفسها عليَّ لأول مرة. وضعت يدي على باب غرفة الجلوس، وأرهفتُ السمع. كان السكونُ يُخيِّم على كل شيء. سحبت الباب ببطءٍ وفتحته، ثم أزحت ستائرَ الساتان الثقيلة المنسدلة أمامي حتى الأرض، ونظرت إلى الداخل. ويا له من مشهدٍ ذاك الذي أبصرَتْه عيناي!

رأيت إلينور ليفنوورث جالسةً في ضوء مصباحٍ غازي وحيد، لم يُساعد ضوءُه الخافتُ إلا على إظهار الساتان اللامع والرخام البرَّاق لهذه الغرفة الرائعة. كانت شاحبةً من أثر الشفق الناعم من النافذة المقوسة التي كانت تجلس بالقرب منها، مثل تمثال سايكي المنحوت الذي كانت جاثمةً تحته، وجميلة مثله، وتقريبًا بلا حَراك مثله، ويداها متيبِّستان ومتجمدتان أمامها في تضرعٍ كانت قد انقطعَت عنه، وبدا أنها كانت غيرَ واعية لأي صوتٍ أو حركةٍ أو لمسة؛ هيئة صامتة معبرة عن اليأس في حضرة قَدرٍ لدود.

متأثرًا بالمشهد، وقفتُ ويدي ممسكةٌ بالستارة، مترددًا في أن أتقدم أو أتراجع، وفجأةً هزت رجفةٌ قوية وجهَها الجامد، وانحلَّت يداها المتيبستان، ورقت عيناها المتحجرتان، وبعدما هبَّت واقفةً، أطلقت تنهيدةَ ارتياح، وتقدمت نحوي.

صِحت، وقد أجفلَني صوتي نفسُه: «آنسة ليفنوورث!»

توقفت، وضغطت بيديها على وجهها، وكأن العالم بأسرِه وكل ما كانت قد نسيته اندفع نحوها من جديد ما إن نُطِق اسمُها.

سألتها: «ما الأمر؟»

هوت يداها بقوة. «ألا تعرف؟ لقد … لقد بدءوا يقولون إنني …» توقفَت، وأمسكتْ بحلقها. قالت بأنفاس متقطعة، وهي تشير إلى الجريدة الملقاة على الأرض عند قدميها: «اقرأ!»

انحنيتُ ورفعت ما اتضح من أول نظرة أنها صحيفة «ذي إيفينينج تليجرام». كانت نظرةٌ واحدة كافيةً لكي تُطلعَني على ما أشارت إليه. رأيت مكتوبًا فيها بحروف مفزعة:

جريمة قتل ليفنوورث

***

آخر تطوُّرات القضية الغامضة

***

أحد أفراد عائلة القتيل يُشتبه بشدةٍ في ارتكابه الجريمة

***

أجملُ امرأة في نيويورك في موضع شبهة

***

التاريخ السابق للآنسة إلينور ليفنوورث

كنت مهيَّأً للأمر؛ يمكنك القول إنني كنتُ قد درَّبت نفسي على هذا الأمر تحديدًا؛ ومع ذلك لم أستطع أن أمنعَ نفسي من التراجُع في ذُعرٍ. أسقطْتُ الجريدة من يدي، ووقفْتُ أمامها مشتاقًا إلى النظر إلى وجهها، ومع ذلك وَجِلًا من النظر إليه.

قالت بأنفاسٍ متقطعة: «ماذا يعني هذا؟ ماذا، ماذا يعني هذا؟ هل أُصيبَ العالم بالجنون؟» وحدَّقت عيناها، بثبات وجمود في عينَيَّ وكأنما استحال عليها أن تستوعب معنى هذا العمل الشائن.

هززت رأسي. لم أستطع أن أرد.

تمتمَت قائلةً: «يتَّهمونني أنا؛ أنا، أنا!» وهي تضرب صدرها بيدها المقبوضة، وصاحت قائلةً: «أنا التي أحببت التراب الذي كان يمشي عليه؛ أنا التي كنت سأُلقي بجسدي بينه وبين الرصاصة القاتلة لو أنني فقط كنتُ أعلم بالخطر الذي كان معرَّضًا له. يا إلهي! ما قالوه لم يكن بهتانًا فحسب، بل خِنجر طعنوني به في قلبي!»

متأثرًا كثيرًا بألمها، ولكن عازمًا على ألَّا أُظهر تعاطفي حتى أصل إلى قناعة أكثرَ رسوخًا ببراءتها التامة، أجبتها، بعد صمت:

«يبدو أن هذا أصابكِ بدهشةٍ عظيمة، يا آنسة ليفنوورث؛ ألم يكن بوُسعكِ إذن أن تتوقَّعي عواقب امتناعكِ بإصرارٍ عن الردِّ على نقاطٍ بعينها؟ ألم تعرفي إلا القليلَ عن الطبيعة البشرية حتى تتخيَّلي، في الموقف الذي أنتِ فيه، أنَّ بإمكانكِ التزامَ الصمت حيال أي أمرٍ متصلٍ بهذه الجريمة، دون أن تُثيري عداء عامة الناس، ودون أن يقولوا شيئًا عن شكوك الشرطة؟»

«لكن … لكن …»

لوحت سريعًا بيدي. وقلت: «عندما تحدَّيتِ المحقق أن يعثر في حوزتك على أي ورقة مريبة؛ عندما» أرغمت نفسي على الحديث «امتنعتِ عن إخبار السيد جرايس بالكيفية التي صار بها المفتاح في حوزتكِ …»

تراجَعَت بسرعةٍ إلى الوراء، وكأن وابلًا ثقيلًا يسقط عليها من أثر كلماتي.

همست، وهي تنظر حولها في ذعرٍ، قائلة: «اسكت، اسكت! أحيانًا أظنُّ أنَّ للجدران آذانًا، وأن الظلال نفسها تُنصت.»

أجبت: «آه؛ إذن تأمُلين أن تُخفي عن العالم ما يعرفه المحققون؟»

لم يبدر منها رد.

أردفتُ: «آنسة ليفنوورث، يؤسفني أن أقول إنكِ لا تستوعبين طبيعة موقفك. حاولي للحظةٍ أن تُلقي نظرةً على القضية بعين شخصٍ حيادي؛ حاولي أن ترَيْ بنفسكِ ضرورةَ تفسير …»

تمتمت بصوتٍ أجشَّ قائلةً: «ولكن ليس بوُسعي أن أفسر.»

«ليس بوسعِك!»

لا أدري إن كان ذلك بسبب نبرة صوتي أم لطبيعة العبارة نفسِها، لكن بدا أن ذلك التعبير البسيط كان له أثرُ اللطمة عليها.

صاحت، متراجعةً: «يا إلهي! أتشكُّ فيَّ، أيمكن أن تشك فيَّ أنت أيضًا؟ ظننت أنك …» وتوقفَت. «لم أحلم أنني …» وتوقفَت مرةً أخرى. فجأةً ارتجف جسدُها كلُّه. «يا إلهي، لقد فهمت! لقد أسأت الظن بي من البداية؛ الظواهر ضدي كانت قويةً للغاية»؛ وهوَت إلى مقعدها ببطء، مستسلمةً لشعورٍ عميقٍ بالخزي والمهانة. غمغمَت قائلةً: «آه، ولكن الآن أنا منبوذة.»

لمس الاستعطاف شغافَ قلبي. تحركتُ إلى الأمام، وصِحْت: «آنسة ليفنوورث، لست إلا إنسانًا؛ لا يمكنني أن أراكِ مغتمَّةً هكذا. قولي إنكِ بريئة، وسأُصدقكِ، بصرف النظر عن أي ظواهر.»

هبَّتْ واقفةً، فأصبحت قامتها أعلى مني. قالت: «هل يمكن لأي أحدٍ أن ينظرَ إلى وجهي ويتَّهمَني بالجُرم؟» ثم، وأنا أهزُّ رأسي نفيًا في حزن، ما لبثَت أن قالت بصوتٍ متهدِّج: «تحتاج إلى دليلٍ آخر!» وارتجفت بانفعالٍ غير عادي، وانطلقت مسرعة نحو الباب.

صاحت: «تعال، إذن، تعال!» وعيناها تشعَّان بإصرارٍ تامٍّ نحوي.

تحركت رغمًا عني في اضطرابٍ وفزع، وقطعتُ الغرفة إلى الموضع الذي كانت تقف فيه؛ لكنها كانت قد وصلَت بالفعل إلى الردهة. أسرعتُ وراءها، وقد ملأني خوفٌ لم أجرُؤ أن أُعبِّر عنه، ووقفت عند سفح الدَّرَج؛ كانت في منتصف الطريق إلى الأعلى. تبعتها إلى ردهة الطابق الأعلى، ورأيتها واقفة منتصبةً وشامخة عند باب غرفة نوم عمها.

صاحت مجددًا، لكن بنبرةٍ هادئة ووَقورة هذه المرة: «تعال!» وفتحت الباب على مِصراعَيه، ودخلت.

متغلبًا على الحيرة التي انتابتني، تبعتُها ببطء. لم يكن يوجد ضوء في غرفة الموت، باستثناء شعلة المصباح الغازي، في أقصى نهاية الردهة، تبعث ضوءًا غريبًا في الداخل، وعلى بصيصِ ضوئها رأيتُها جاثيةً على رُكبتَيها عند السرير المغطَّى، ورأسها منحنٍ على رأس القتيل، ويدُها على صدره.

صاحت، وهي ترفع رأسها بينما أدخل: «لقد قلتَ إنني إذا أعلنتُ براءتي فستُصدقني. انظر هنا»، وبعدما وضعَت وجنتها على الجبين الشاحب لذلك الرجل البارِّ بها الذي فارق الحياة، قبَّلَت شفتَيه الشاحبتَين برفقٍ وانفعالٍ وألم، ثم بعدما هبَّت واقفةً، صاحت بنبرةٍ مكبوتةٍ لكنها جذابة: «هل بوسعي أن أفعلَ ذلك لو كنتُ مذنبة؟ ألن يتجمَّد النفَسُ على شفتَيَّ، ويجمدَ الدمُ في عروقي، ويهونَ قلبي عند ملامسته؟ بصفتك ابنًا لأبٍ كنت تُحبُّه وتحترمه، هل يُمكنك أن تُصدق أنني امرأةٌ موصومةٌ بعارِ هذه الجريمة بينما بوُسعي أن أفعل هذا؟» ثم عادَت لتجثوَ على ركبتَيها وتُلقي بذراعَيْها فوق هذا الجسد الميت وحوله، وهي تنظر في وجهي في الوقت نفسِه بتعبيرٍ تعجز يدٌ بشرية عن رسمه، ويعجز اللسان عن وصفه.

أردفت: «في الأزمان الغابرة، كانوا يقولون إن جسدَ المتوفَّى قد ينزف دمًا إذا لامسَه القاتل. إذن ماذا يُمكن أن يحدثَ هنا، إذا كنت أنا، ابنته، وطفلته الغالية، التي تنعَّمت في خيره، وتزيَّنت بمجوهراته، وأحاطها دفءُ قبُلاته، كما يتهمونني؟ ألن ينشقَّ الكفن عن جسد المتوفَّى الحانق وينفرَ مني؟»

لم يكن باستطاعتي أن أُجيب وذلك في حضرة بعضِ المشاهد التي ينعقد معها اللسان.

واصلَت حديثها: «آه! إن كان يوجد ربٌّ في السماء يحبُّ العدل ويُبغض الإثم، فليَسمعْني الآن. لو كنتُ، بالتفكير أو بالفعل، بقصدٍ أو دون قصد، السبب فيما آل إليه هذا الإنسانُ العزيز؛ لو كان ثَمة مقدار طيف جرم، فضلًا عن الجرم نفسِه، يقع على عاتق قلبي ويمتدُّ إلى هاتَين اليدَين الواهنتَين، فلْيتَجلَّ غضبُه في قِصاصٍ عادلٍ أمام العالم، وليسقطْ جبين المذنب هنا، على صدر الميت، ولا يرتفعْ ثانيةً أبدًا!»

أعقب هذا الابتهالَ صمتٌ مهيب؛ ثم تصاعدت من صدري تنهيدةُ ارتياح طويلة جدًّا ومرتعشة، وانفلتَت كلُّ المشاعر المكبوتة في قلبي حتى تلك اللحظةِ من عقالها، فانحنيت نحوها وأمسكت بيدها.

هَمَسَت: «أتُصدق، أيمكنك أن تُصدق أني موصومةٌ بجُرم الآن؟» وبنعومةٍ تبدَّت الابتسامة، التي لا تُحرك الشفاهَ فحسب، بل تشعُّ من الوجه، مثل فيضِ سلام داخلي، على وجنتَيها وأساريرها.

«جرم!» أفلتَت الكلمةُ من شفتي دون سيطرة «جرم!»

قالت في هدوء: «لا، ما عاش مَن بوسعه أن يتَّهمني بجرم، هنا.»

ردًّا على ذلك، أخذتُ يدها، التي كانت في يدي، ووضعتُها على صدر الميت.

أحنَت رأسها بنعومة وتأنٍّ وامتنان.

هَمَسَت: «والآن حان وقت المقاومة! ثَمة شخص واحدٌ سيُصدقني، مهما تكُن الظواهر القاتمة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤