الفصل السادس عشر

وصية مليونير

إن دواءنا كثيرًا ما يأتي من أنفسنا،
وإن عزَوناه إلى السماء أحيانًا.
مسرحية «العبرة بالخواتيم» [ترجمة عباس حافظ]

احتوى العدد الصادرُ في صباح اليوم التالي من صحيفة «ذا تريبيون» ملخَّصًا لوصية السيد ليفنوورث. كانت بنودها مفاجئة لي؛ وذلك لأنه في الوقت الذي وُرِّثَ فيه القسم الأكبر من هذه التركة الضخمة، حسَب الفهم العام، إلى ابنة أخيه، ماري، تبيَّن من ملحق إضافي، كان مرفقًا بوصيته منذ خمس سنوات، أن إلينور لم تكن منسيَّة تمامًا، إذ جُعِلت وريثةً لتركةٍ، إن لم تكن كبيرة، كانت كافيةً على الأقل لدعمها حتى تنعمَ بعيش رغيد. بعد الاستماع إلى تعليقاتٍ مختلفة من زملائي عن هذا الموضوع، اتجهت إلى منزل السيد جرايس، امتثالًا لطلبه بأن أزوره في أسرع وقتٍ ممكن بعد نشر الوصية.

علَّق أثناء دخولي قائلًا: «صباح الخير»، لكن كان من الصعب أن أُحدد إن كان يُخاطبني أم يخاطب الجزء العلوي المتغضِّن من المكتب الذي كان جالسًا قبالته. ثم أضاف: «ألن تجلس؟» مشيرًا برأسه إلى الوراء في حركةٍ غريبة ناحية كرسيٍّ موضوع خلفه.

سحبتُ الكرسي إلى جانبه. وقلت: «يحدوني الفضولُ لأن أعرفَ ما ستقول عن هذه الوصية، وعن أثرها المحتمل على الأمور التي نحن بصددها.»

«ما فكرتك الشخصية بشأن هذه المسألة؟»

«أظن إجمالًا أن الوصية لن تصنع إلا فارقًا ضئيلًا في الرأي العام. أولئك الذين ظنُّوا من قبلُ أن إلينور مذنبةٌ سيشعرون أن لديهم الآن سببًا أكبرَ من أي وقتٍ مضى ليتشكَّكُوا في براءتها؛ بينما أولئك الذين تردَّدُوا حتى هذه اللحظة في الشك فيها لن يعتبروا أن من شأن المقدار الصغير نسبيًّا الذي وُرِّث لها أن يُشكِّل دافعًا كافيًا لارتكاب جريمة كبيرة كهذه.»

«لقد سمعتَ الرجال يتحدَّثون؛ ما الرأي الذي يبدو أنه الرأي العامُّ السائد بين أولئك الذين تتحدَّث معهم؟»

«أن الدافع وراء الفاجعة سيكون موجودًا في التحيُّز الظاهر في وصيةٍ بهذه الغرابة، ولكن الكيفية لا أحد يدَّعي معرفتها.»

فجأةً أصبح السيد جرايس مهتمًّا بأحد الأدراج الصغيرة أمامه.

قال: «وكل هذا لم يجعلك تُفكِّر في شيء؟»

أجبته: «أفكِّر. لا أعرف ما الذي تقصده. بالتأكيد لم أفعل شيئًا سوى التفكيرِ خلال الثلاثة الأيام الأخيرة. فأنا …»

صاح: «بالطبع، بالطبع. لم أقصد قول أي شيء غير مقبول. إذن هل رأيت السيد كلافرينج؟»

«رأيته فحسب؛ لا أكثرَ من ذلك.»

«وهل ستُعاون السيد هارويل في إنهاء كتاب السيد ليفنوورث؟»

«كيف علمت بذلك؟»

اكتفى بالابتسام.

قلت: «أجل؛ طلبَت مني الآنسة ليفنوورث أن أُسدِيَ لها ذلك المعروفَ الصغير.»

صاح في حماسٍ مفاجئ: «يا لها من مخلوقة عظيمة!» ثم، في عودةٍ فورية إلى نبرة صوته العمَلية، قال: «سيكون لديك فرص، يا سيد ريموند. والآن ثمة أمران أريد منك أن تكتشفهما؛ أولًا، ما الصلة بين هاتَين السيدتَين والسيد كلافرينج …»

«أثَمة صلة، إذن؟»

«بلا شك. وثانيًا، ما سبب الشعور بالجفوة الموجود بوضوحٍ بين ابنتَيِ العم.»

تراجعت إلى الخلف وفكَّرتُ مليًّا في المهمة التي عُرضت عليَّ. جاسوس في منزل امرأةٍ جميلة! كيف يتسنَّى لي أن أُوفق بين هذه المهمة وبين غرائزي الطبيعية بصفتي رجلًا كريمَ الأخلاق؟

سألته أخيرًا: «ألا يمكنك أن تجد شخصًا أكثرَ تمرُّسًا مني ليكتشفَ لك هذه الأسرار؟ دور الجاسوس ليس مستساغًا لمشاعري على الإطلاق، أؤكد لك هذا.»

ارتخى حاجبا السيد جرايس.

قلت: «سأُعاون السيد هارويل في جهوده لتنسيق مخطوط السيد ليفنوورث من أجل طباعته. وسأمنح السيد كلافرينج الفرصةَ لعقد صداقةٍ معي؛ وسأُصغي، إن اختارت الآنسة ليفنوورث أن تجعلني مؤتمنًا على أسرارها بأي حال. لكنني أرفض ضمن هذا أيَّ تنصُّتٍ على الأبواب، أو مباغَتات، أو خدع حقيرة أو حِيَل غير لائقة؛ لأنها خارج اختصاصي؛ فمهمتي هي أن أكتشفَ ما في وُسعي اكتشافُه بطريقةٍ علنية، ومهمتك أن تُفتِّش في خبايا هذه القضية المفجعة وزواياها.»

«بعبارة أخرى، عليك أن تؤدي دور متصيِّد الأخبار، وأؤدي أنا دور الجاسوس؛ بالضبط، فأنا أعرف ما يليق بسيدٍ نبيل.»

قلت: «والآن، ما أخبار هانا؟»

هزَّ كِلتا يدَيْه عاليًا في الهواء. وقال: «لا شيء.»

لا يمكنني أن أقول إنني فوجئت كثيرًا، ذلك المساء، عندما صادفتُ، عند نزولي بعد ساعةٍ من العمل الشاقِّ مع السيد هارويل، الآنسةَ ليفنوورث واقفةً عند أسفل درجات السلَّم. كان ثَمة شيءٌ في سلوكها، الليلة الماضية، هيَّأني لمقابلةٍ أخرى هذا المساء، رغم أن طريقتها في بَدْء المقابلة كانت مفاجئة. قالت، بمظهرٍ يدل على حرجٍ واضح: «سيد ريموند، أريد أن أوجِّه إليك سؤالًا. لديَّ قناعة بأنك رجلٌ طيب الخلق، وأعرف أنك ستُجيبني بما يُمليه عليك ضميرك.» وأضافت، وهي ترفع عينَيْها إلى وجهي لوهلةٍ: «مثلما يفعل أخٌ.» وأردفت: «أعرف أن الأمر سيبدو غريبًا؛ ولكن تذكَّر أن ليس لديَّ مَن أستشيره سواك، ولا بد أن أسأل أحدًا ما. سيد ريموند، هل تظن أن شخصًا قد يقترف أمرًا خاطئًا جدًّا، ثم يغدو إنسانًا صالحًا تمامًا بعد ذلك؟»

أجبتها: «بالتأكيد، إن كان نادمًا حقًّا على خطئه.»

«لكن لنفترض أنه تعدَّى كونه مجردَ خطأ؛ لنقُلْ إنه كان أذًى محققًا؛ ألن تُعكر ذكرى تلك الساعة البغيضة صفو حياة هذا الشخص إلى الأبد؟»

«ذلك يتوقَّف على طبيعة الأذى وأثره على الآخرين. إن كان هذا الشخص قد أصاب إنسانًا بضررٍ يستعصي إصلاحُه، فسيصبح من الصعب على شخصٍ ذي طبيعة حساسةٍ أن يحيا حياةً سعيدة بعد ذلك؛ مع أن حقيقةَ ألَّا يحيا المرء حياةً سعيدةً يجب ألَّا تكون سببًا يمنعه من أن يعيش حياةً طيبةً.»

«لكن حتى تعيش حياةً طيبة، هل من الضروري أن تكشف عن الإثم الذي ارتكبته؟ ألَا يمكن أن يواصلَ المرء حياته ويعملَ صالحًا من دون أن يعترف أمام العالم بجُرمه السابق؟»

«بلى، إلا إذا كان اعترافه به يُمكِّنه بطريقةٍ ما من إصلاح الأمر.»

بدا أن إجابتي أزعجَتها. تراجَعَت إلى الخلف، ووقفَت أمامي لوهلةٍ مستغرقةً في التفكير، وجمالها يشعُّ ببهاءٍ يُضاهي بهاءَ تمثالٍ في وهج المصباح المظلل بالبورسلين بجانبها. ورغم أنها شدَّتْ قامتها، وتقدَّمَتْني إلى غرفة الجلوس بإيماءةٍ كانت تنطوي على جاذبيةٍ في حدِّ ذاتها، لم تُعاود الحديث في هذا الموضوع من جديد؛ بل بدَتْ أنها تُحاول جاهدةً، في الحديث الذي أعقب ذلك، أن تُنسيَني ما سبق أن دار بيننا. كان عدمُ نجاحها في ذلك راجعًا إلى اهتمامي الشديد الذي لا يفتر بابنة عمها.

بينما نزلت من بسطة المدخل، رأيت توماس، رئيس الخدم، مستندًا على البوابة الخارجية. سيطرَت عليَّ في الحال رغبةٌ في استجوابه بخصوص أمرٍ كان قد استحوذ على اهتمامي بشكلٍ أو بآخر منذ وقت التحقيق؛ وكان ذلك الأمر هو مَن السيد روبنز الذي كان قد جاء لزيارة إلينور ليلةَ وقوع جريمة القتل؟ لكن توماس كان متحفظًا على نحوٍ واضح. تذكَّر مجيء ذلك الشخص، لكنه لم يتمكن من وصف هيئته بأكثرَ من قوله إنه لم يكن رجلًا صغيرَ البِنية.

ولم أُلحَّ في الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤