الفصل السابع والعشرون

إيمي بيلدن

لم أسعَدْ بساعةٍ من التحدُّث إلى رجلٍ أوفر منه مزاحًا ضمن حدود الدعابة اللائقة.

مسرحية «عذاب الحب الضائع» [ترجمة أنطوان مشاطي]

كان لديَّ موكل في «ر…» اسمه مونيل؛ وكنت قد خططتُ أن أعرف منه أفضلَ وسيلةٍ للوصول إلى السيدة بيلدن. من ثَمَّ، عندما أسعدني الحظُّ بأن ألتقيَ به، تقريبًا بعد وصولي مباشرةً، إذ أخذني على طريقٍ طويلٍ في عربةٍ يقودها حصانه الشهير ألفريد، اعتبرت أن هذا اللقاء بدايةٌ مبشِّرة لمغامرةٍ مجهولة النتائج.

بعد أن تبادلنا التحياتِ الأولى، كان سؤاله ونحن نتجه سريعًا نحو البلدة: «حسنًا، كيف حال يومك؟»

أجبته: «دورك فيه يسير بسلاسةٍ كبيرةٍ»؛ وبينما كنت أفكِّر في أنه لا يمكنني أن آمُلَ مطلقًا في أن أحظى باهتمامه بشئوني إلا بعد أن أُوفِّيَه حقه فيما يخص شئونه هو، أخبرته بكل ما بوسعي إخباره به بخصوص الدعوى التي لم يُفصَل فيها بعد؛ وهو موضوع تتشعَّب منه أسئلة وإجابات لا حصر لها، لدرجة أننا كنا قد قطعنا البلدة مرتين قبل أن يتذكر أن لديه خطابًا يتعين إرساله. ولأنه كان مهمًّا، ولا يحتمل أيَّ تأخير، هُرِعْنا في الحال إلى مكتب البريد، حيث دخل، وتركني بالخارج أشاهد التدفق الضئيل إلى حدٍّ ما للغادين والرائحين الذين في ذلك الوقت من اليوم يتخذون من مكتب بريد بلدة ريفية مكان التقائهم. وسط هؤلاء، لاحظتُ بوجهٍ خاص، لسببٍ ما، سيدةً في منتصف العمر؛ ولا يمكنني أن أعرف السبب في ذلك؛ لم تكن هيئتها مميزةً بأي حالٍ من الأحوال. ومع ذلك عندما خَرجَت، وهي تحمل خطابَين في يدها، أحدهما في ظرفٍ كبير والآخر في ظرفٍ صغير، واللذَين أخفَتهما تحت وشاحها بسرعةٍ عندما التقَت عيناها بعينيَّ، وجدتُ نفسي أتساءل عمَّا كان في خطابَيْها ومَن يمكن أن تكون، حتى إن نظرةً عابرةً من رجلٍ غريبٍ قد تدفعها لا إراديًّا إلى فعلِ هذا التصرُّف المريب. لكن ظهور السيد مونيل من جديدٍ في نفس اللحظة صرف انتباهي، وفي شغفي بالحوار الذي تبع ذلك، سرعان ما نسيتُ أمر السيدة وخطابَيْها. ولأنني عقدت العزم على ألَّا أدعَ له أي فرصةٍ للعودة إلى الحديث في موضوعِه الذي لا ينتهي، وهو القضية، صِحتُ مع أول فرقعةٍ للسوط: «تذكرت، كنت أعرف أمرًا أردتُ أن أسألك عنه. وهو: هل تعرف أي أحدٍ في هذه البلدة باسم بيلدن؟»

«هناك أرملة السيد بيلدن في البلدة؛ لا أعرف غيرها.»

«هل اسمها الأول إيمي؟»

«أجل، السيدة إيمي بيلدن.»

قلت: «تلك هي مَن أقصدها.» ثم سألته: «مَن هي، وما قصتها، وما حدود معرفتك بها؟»

قال: «حسنًا، لا أفهم ما الذي يجعلك مهتمًّا بمسنَّةٍ تشعر فيها بطيبةٍ مألوفة مثلها، لكن بما أنك تسأل عنها، لا مانع لديَّ من أن أخبرك أنها الأرملة المحترمة لنجار متوفًّى من هذه البلدة؛ وأنها تعيش في منزل صغير في آخر الشارع هناك، وأنه إن كان لديك أيُّ عجوز شريد بائس تريد أن تجد له مبيتًا في الليل، أو أي أسرة فقيرة تضم صغارًا في حاجةٍ إلى الرعاية، فهي من ينبغي أن تلجأ إليها. أما عن معرفتي بها، فأعرفها مثلما أعرف عشراتٍ آخرين من أفراد كنيستنا هناك أعلى التل. عندما أراها أتحدث إليها، وهذا كل ما في الأمر.»

«قلت إنها أرملة محترمة. هل لها عائلة؟»

«لا؛ تعيش وحدها، ودخلها محدود؛ على ما أعتقد؛ لا بد أن لديها دخلًا؛ إذ إنها تضع دائمًا نقودًا في طبق التبرعات، لكنها تُمضي وقتها في الحياكة وأعمالٍ خيريةٍ من هذا القبيل، مثلما بوسع امرأةٍ ذات موارد محدودة وقلبٍ مِعطاء أن تجد الفرصة لفعل ذلك في بلدة مثل هذه. ولكن، عجبًا، لماذا تسأل؟»

قلت: «عمل، مهمة عمل. فالسيدة بيلدن — بالمناسبة أبقِ هذا الأمر سرًّا — متورطة في قضية تخصُّني، وشعرت أنه يتعيَّن بدافع الفضول إن لم يكن بدافع المال، أن أعرف شيئًا عنها. لكني لم أصل لشيءٍ حتى الآن. واقع الأمر أنَّني على استعدادٍ لأن أقدِّم شيئًا، يا مونيل، مقابل فرصة دراسة شخصية هذه السيدة. والآن ألا يُمكنك أن تجعلني أتعرَّف عليها لأدخل منزلها بطريقةٍ تجعل من الممكن والمناسب لي أن أتحدثَ معها عندما تُتاح لي الفرصة؟ سيُصبح المكتب ممتنًّا لك إن تمكنت من فعل ذلك.»

«حسنًا، لا أعرف؛ أظن أنه يمكنني فعل ذلك. إنها معتادةٌ على استقبال نزلاء في الصيف عندما يمتلئ الفندق بالنزلاء، وربما يمكنني أن أستحثَّها على أن توفِّر سريرًا لصديقٍ لي حريصٍ على أن يُقيم بالقرب من مكتب البريد لأنه ينتظر برقية عمل، حالما تصل ستتطلَّب اهتمامه في الحال.» ثم غمز لي السيد مونيل غمزةً خبيثة، متخيلًا قليلًا مدى قرب الملاحظة التي أشار إليها.

«لا يلزم أن تقول ذلك. قل لها إن لدي نفورًا غريبًا من النوم في فندقٍ عام، وإنك لا تعرف مَن هو أصلح منها لاستقبالي، خلال المدة القصيرة التي أرغب أن أوجَد فيها في المدينة.»

«وماذا سيُقال عن حُسن ضيافتي عندما أدعك تبقى في هذه الظروف في أي منزلٍ آخر غير منزلي؟»

«لا أعرف؛ سيقال كلامٌ قاسٍ جدًّا، بلا شك؛ لكنني أظنُّ أن حسن ضيافتك يمكن أن يحتمل الأمر.»

«حسنًا، إذا كنتَ مُصرًّا، سنرى ما يمكن فعله.» ثم اتجه إلى بيتٍ أبيض متواضع وبسيط، لكنه كان ذا مظهر جذاب بما يكفي، وتوقف هناك.

قال، وهو يقفز إلى الأرض: «هذا هو منزلها؛ لندخل ونرَ ما في وُسعنا فعله.»

نظرت لأعلى إلى النوافذ، التي كانت جميعها مغلقةً عدا نافذتَي الشرفة المطلة على الشارع، وقلت لنفسي: «إن كان لديها أحدٌ مختبئ هنا، وترغب في أن تحتفظ بأمر وجوده في المنزل سرًّا، فمن الحماقة أن آمُل أنها ستستضيفني، مهما كانت جودة التوصية التي جئت بها.» لكن أُسوة بصديقي، نزلت بدوري وتبعته إلى الممشى القصير الذي تحدُّه الحشائش إلى الباب الأمامي.

أبدى ملاحظةً وهو يطرق الباب: «لا خادمة لديها؛ لذا ستأتي بنفسها لتفتح الباب؛ لذا استعد.»

بالكاد كان لديَّ وقت لِأُلاحظ أن ستائر النافذة على يساري أُسدِلَت فجأةً، عندما سُمع وقع أقدام مسرعة في الداخل، وجذبت يدٌ مسرعةٌ البابَ وفتحته؛ ورأيت أمامي السيدة التي كنت قد لاحظتها عند مكتب البريد، والتي كان تصرُّفها مع الخطابَين قد استوقفني لغرابته. تعرفت عليها من أول نظرة، رغم أن ملابسها كانت مختلفة، وأصابها بالتأكيد بعضُ القلق أو الاضطراب الذي بدَّل التعبير على وجهها، فجعل أسلوبها مغايرًا عن ذلك الوقت، فبدا عليها التوتر وترددٌ بسيط. لكني لم أرَ أي سبب يدعوني إلى أن أظن أنها تذكرتني. على العكس، لم تكن النظرة التي وجهتها نحوي تحوي سوى التساؤل، وعندما دفعني السيد مونيل إلى الأمام قائلًا: «صديق لي؛ في الحقيقة هو المحامي الخاص بي من نيويورك»، انحنَتْ في مجاملةٍ سريعةٍ قديمة الطراز كان مدلولها الوحيد رغبةً واضحةً في الظهور بمظهر المدركة للشرف الممنوح لها، وسط غشاوة مشكلة معينة أربكَت كلَّ ما يتعلق بها.

قال موكلي بصوتٍ ناعم ودودٍ كان مقصودًا منه أن يُعيد أفكار شخصٍ إلى مجراها الصحيح: «جئنا لنسألَكِ معروفًا، يا سيدة بيلدن؛ لكن ألن تسمحي لنا بالدخول؟» وأردف: «لقد سمعت كثيرًا عن منزلِك المريح، وأنا سعيدٌ بهذه الفرصة التي ستسمح لي أن أرى ذلك بعيني.» وفي تجاهلٍ تامٍّ لنظرة الممانعة المتفاجئة التي قابلَت بها تقدُّمه، اتجه بجُرأةٍ إلى الغرفة الصغيرة التي ظهر على نحوٍ جذابٍ بِساطُها الأحمر المبهج وحوائطها الزاهية المعلقة عليها صور من خلال الباب الموارب على يسارنا.

بعدما وجدَت منزلها قد تعرَّض للغزو هكذا على يدِ انقلاب على الشاكلة الفرنسية، فعلَت السيدة بيلدن أفضل ما يمكن فعله في هذا الموقف، وألحَّت عليَّ أن أدخل أنا أيضًا، وأبدَت لي حفاوةً كبيرة. أما السيد مونيل، فبلغ الذروة في محاولاته أن يبدوَ لطيفًا؛ لدرجة أنني سرعان ما وجدت نفسي أضحك على تعليقاتِه الطريفة، مع أن قلبي كان مضطربًا تمامًا؛ مخافةَ ألا تُكلل محاولاتنا، بعد كل ذلك، بالنجاح الذي كانت قطعًا تستحقه. في الوقت نفسِه، أخذ أسلوب السيدة بيلدن يلين أكثر فأكثر، فاندمجَت في الحديث بسهولةٍ لم أكن أتوقعُها من امرأةٍ في مثل ظروفها المتواضعة. في الواقع، سرعان ما رأيت أنها لم تكن امرأةً عادية. كان ثمة لطفٌ في حديثها، وأسلوبها كان، جنبًا إلى جنب مع روحها التي تشعُّ بالأمومة وهيئتها العامة، يبعث في النفس سرورًا كبيرًا. كانت آخرَ امرأة في العالم يمكن للمرء أن يشكَّ في أن لها أيَّ يدٍ في أي عملٍ خفي، لو لم تُظهِر تردُّدًا مُريبًا عندما فتح السيد مونيل موضوع استضافتي هناك.

قالت: «لا أدري، يا سيدي؛ يسعدني هذا، ولكن»، ورمقَتْني بنظرةٍ متفحصة، وأردفَت: «في الحقيقة، لم أستقبل أيَّ نزلاء مؤخرًا؛ فقد ابتعدت عن الأمر برمته، وأخشى ألَّا أستطيع أن أوفر له سبل الراحة. خلاصة القول، عليك أن تُعفيني من ذلك.»

رد السيد مونيل: «ولكن لا يمكننا ذلك.» وأضاف: «هل يُعقل أن تُغري شخصًا بأن يدخل غرفة مثل هذه»، وألقى نظرةَ إعجاب شديدٍ على أرجاء الغرفة التي، مع كل بساطتها، كانت ألوانها الدافئة والشعور العامُّ الذي تبعثه بالراحة جديرَين بالإعجاب الوافر، وتابع: «ثم تُعرضي عنه عندما يلتمسُ منكِ بتواضعٍ أن ينال شرف المبيت لليلة واحدة في رحاب المغريات التي بداخلها؟ لا، لا يا سيدة بيلدن؛ إنني أعرفكِ جيدًا وأعرف أنكِ لستِ أهلًا لذلك. لو أن لعازر نفسه كان قد أتى إلى بابك لَما كنتِ ستردينه؛ فضلًا عن رجلٍ طيبٍ ذكيٍّ مثلِ صديقي هذا.»

بدأَتْ حديثها، وبدا للحظةٍ في عينَيْها ما يُشبه ميلًا خفيفًا لتقبُّل الثناء: «أنت بارعٌ جدًّا»؛ وأردفت: «ولكن ليس لديَّ أي غرفة مُعَدَّة. كنت قد بدأت للتو في تنظيف المنزل، والفوضى تعمُّ المكان والآن السيدة رايت، في الجهة المقابلة من الشارع …»

قاطعها السيد مونيل بطريقةٍ قاطعةٍ صريحة: «صديقي سينزل هنا.» وأردف: «إذا لم يكن باستطاعتي أن أستضيفه في منزلي — وهو أمرٌ غير مستحسنٍ لأسبابٍ معينة — فعلى الأقل سأشعر بالرضا لعِلمي بأنه في عهدة أفضل ربة منزل في «ر…»»

تدخلتُ في الحديث، ولكن من دون أن أُظهر اهتمامًا مبالغًا فيه، فقلت: «أجل، سأشعر بالأسف، منذ أن قدِمت إلى هنا، لاضطراري إلى أن أذهب إلى أي مكان آخر.»

أشاحَت بناظرَيْها المضطربَين عنَّا ناظرةً تجاه الباب.

بدأتْ حديثها قائلةً: «لم يسبق أن دعاني أحدٌ مطلقًا غيرَ مضيافة؛ لكن كل شيء في حالةٍ من الفوضى. في أي وقتٍ تريد أن تأتي؟»

أجبت: «كنت آمُل أن أبقى الآن؛ فلديَّ بعض الخطابات التي يتعيَّن أن أكتبها، ولا أطلب أكثر من أن تأذني لي بالجلوس هنا لأكتبها.»

ما إن نطقتُ كلمةَ خطابات حتى رأيت يدها تندسُّ في جيبها في حركةٍ لا بد أنها كانت تلقائية، لأن تعبير وجهها لم يتغيَّر، وأسرعت بالرد قائلةً:

«حسنًا، بإمكانك ذلك. إذا كان بوسعك أن تحتمل ظروف الإقامة البائسة هذه التي بإمكاني أن أوفِّرها لك، فلن يقال إنني رفضتُ ما يسرُّ السيد مونيل أن يطلق عليه معروفًا.»

ومثلما كانت ممانعتُها كاملة، كذلك كان استقبالها، فمنحَتنا ابتسامةً لطيفة، ومتجاهلةً شكري لها، أسرعَت إلى الخارج مع السيد مونيل نحو العربة، حيث تلقَّت حقيبتي وكذلك، وهو ما راقها أكثر، بلا شك، عبارات المجاملة التي كان الآن أكثر إقبالًا من أي وقتٍ مضى على أن يمنحها إياها.

قالت حالما دخلَتْ من جديد: «سأعمل على تجهيز غرفةٍ لك في غضون وقتٍ قصيرٍ جدًّا.» وأردفت: «في تلك الأثناء، خُذ راحتَك هنا؛ وإذا كنت تريد أن تكتب، أظن أنك ستجد كلَّ ما تحتاج إليه للكتابة في هذه الأدراج.» وجرَّت منضدةً إلى الكرسيِّ المريح الذي كنت أجلس عليه، ثم أشارَت إلى الأدراج الصغيرة في الأسفل، بمظهرٍ يدل على رغبةٍ واضحةٍ في أن تجعلَني أستفيد بأي شيءٍ وكل شيءٍ كان لديها، حتى إنني وجدتُ نفسي أتساءل عن موقفي مستشعرًا شيئًا من الحرج الذي لم يكن بعيدًا كلَّ البعد عن أن يكون خزيًا.

قلتُ: «شكرًا لكِ؛ معي أدواتي»، وأسرعتُ بفتح حقيبتي وإخراج حافظة أدوات الكتابة، التي كنت أحملها معي دائمًا.

قالت: «سأتركُك إذن»؛ وبانحناءةٍ سريعةٍ، ونظرةٍ قصيرةٍ وخاطفةٍ من النافذة، أسرعتْ بمغادرة الغرفة.

كان بوسعي أن أسمع خطواتها تعبر الممر، ثم تصعد درجتَين أو ثلاثَ درجاتٍ على السلم، ثم تتوقَّف، وتصعد بقيةَ درجات السلَّم، ثم تتوقَّف مرةً أخرى، ثم تُواصل سيرها. وعندئذٍ كنت في الطابق الأول وحدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤