الفصل الثاني والثلاثون

رواية السيدة بيلدن

أيها الجشعُ الملعون والمدمِّر،
أنت العدو الأبدي للحب والشرف.
مسرحية تَراب «أبرا-ميول»
الشر لا يتفشى مطلقًا،
دون عون امرأة.
المصدر السابق

في يوليو القادم سيكون قد مرَّ عامٌ على أول مرة رأيتُ فيها ماري ليفنوورث. كنت أعيش حياة مملَّة رتيبة إلى أبعدِ حدٍّ في تلك الآونة. كنت أحبُّ ما هو جميل، وأكره ما هو دنيء، وأنجذب بالفطرة نحوَ كلِّ ما هو عاطفي وغير مألوف، لكن كتبَ عليَّ وضعي العسر ووحدتي كأرملةٍ أن أقضيَ أيامي في حلقة مضنية من الحياكة فقط ولا شيء سواها، وكنت قد بدأت أظن أن شبح الشيخوخة الرتيبة قد خيَّم عليَّ، حتى جاء صباحُ أحد الأيام، في ظل شعوري العارم بانعدام الرضا، وعبرت ماري ليفنوورث عتبة بابي، وبابتسامة واحدة، غيرت مضمون حياتي كله.

قد يبدو هذا مبالغةً في نظرك، لا سيما عندما أقول إن مجيئها كان لمهمة عمل لا أكثر؛ إذ كانت قد سمعَتْ أنني ماهرة في أشغال الإبرة؛ لكنك لو كنت رأيتها وهي تطل عليَّ في ذلك اليوم، ولاحظت النظرة التي اقتربت بها مني، والابتسامة التي تركتني بها، ستلتمسُ العذر لحماقة امرأةٍ عجوزٍ عاطفية، أبصرت في هذه الشابة الحسناء ملكةً ساحرة. فالحقيقة أن جمالها وسحرها بهَراني. وعندما جاءت إليَّ، بعد أيامٍ قليلة، وجلست القُرْفُصاءَ على الكرسي الصغير عند قدميَّ، قالت إنها متعبة جدًّا من النميمة والصخب في الفندق، وسيُريحها أن تهرب بعيدًا وتختبئ مع شخصٍ يسمح لها أن تتصرَّف كطفلةٍ كما كانت، أعتقد أنني شعرت لوهلةٍ بأكثرِ شعورٍ صادقٍ بالسعادة في حياتي. فلمَّا قابلتُ إقبالها عليَّ بكل الحماس الذي أثارَتْه طريقتها في نفسي، سرعان ما وجدتها تستمتعُ بشغف وأنا أحكي لها، دون وعي مني، قصة حياتي الماضية في صورة قصة رمزية ممتعة.

في اليوم التالي رأيتها في المكان نفسِه؛ وفي اليوم الذي يليه؛ دائمًا بهاتَين العينَين الشغوفتَين المسرورتَين، واليدَين المتحركتَين، اللتَين لا تسكنان، واللتَين كانتا تُمسكان بكل ما تلمسان، وتكسِران كل ما تُمسكان.

لكنها لم تأتِ في اليوم الرابع، ولا الخامس، ولا السادس، وبدأت أشعر أن الشبح القديم عاد ليُخيِّم عليَّ، وفي إحدى الليالي، بالضبط في الوقت الذي كانت حمرة الشفق تندمج فيه بعتمة الليل، تَسَلَّلَت خلسةً من الباب الأمامي، وتحركت ببطءٍ حتى صارت بجانبي، ووضعت يديها على عينيَّ بضحكة منخفضة رنانة، حتى إنني جفلت.

صاحت، وهي تُلقي عباءتها جانبًا، وتكشف عن البهاء المتجلي لثوبها المسائي: «أنت لا تعرفين ماذا تصنعين معي!» وأردَفَت: «ولا أنا أعرف ماذا أصنع مع نفسي. رغم أن الأمر يبدو حماقة، شعرتُ أنني لا بد أن أهرب بعيدًا وأخبر أحدًا ما بأنَّ ثمة عينَين كانتا تتطلعان إليَّ، وأنه لأول مرة في حياتي أشعر أنني امرأة وأيضًا ملكة.» وبنظرةِ استحياء يغلب عليها الكبرياء، تدثرَت بعباءتها، وصاحت ضاحكةً:

«هل أتى لزيارتكِ من قبلُ طيفٌ هائم؟ هل شق الطريق إليكِ في محبسكِ شعاعٌ طفيفٌ لضوء القمر ولو للحظة خاطفة؟ قولي!» ثم ربتت على وجنتي، وابتسمت ابتسامة مذهلة إلى أبعد حد، حتى إنني في هذه اللحظة، رغم الفزع الكئيب الذي تكالب عليَّ من الأحداث التي وقعت فيما بعد، لا يمكنني أن أشعر إلا بشيءٍ أشبهَ بالدموع تنهمر من عيني كلما تذكرتها.

فقلت لها بصوتٍ هامس: «وهل أتى الأمير إليك؟» وأنا أُلمِّح إلى قصة كنت قد أخبرتها بها في زيارتها الأخيرة لي؛ قصة فتاة كانت قد انتظرت طيلةَ حياتها في ذلٍّ وهوانٍ الفارسَ الهُمام الذي سيأتي لينتشلها من كوخٍ حقير إلى العرش، وفارقَت الحياة في اللحظة التي جاء فيها عاشقُها الوحيد، ذلك الشاب القروي المخلص الذي تجاهلَتْه في كبرياء، إلى بابها بالثروة التي أمضى أيامه كلها يجمعها من أجلها.

لكن عندئذٍ احمرَّ وجهها خجلًا، وتراجعت نحو الباب. وتمتَمَتْ قائلة: «لا أدري؛ أخشى أنه لم يأتِ. أنا … أنا لا أفكر في أي شيء بخصوص ذلك. إن الفوز بقلوب الأمراء ليس أمرًا سهلًا.»

قلت: «ماذا! هل أنتِ ذاهبة؟ ووحدكِ؟ دعيني أرافقكِ.»

لكنها اكتفت بهزِّ رأسها الجميل، وأجابت: «لا، لا؛ هذا، صدقًا، قد يُعكر صفو هذه الحالة الشاعرية. جئت إليك كطيف، وسأنصرف كطيف.» ثم، منطلقة كشعاع قمرٍ، تحركت بخفَّةٍ إلى الظلمة، وسارت وكأنها تُحَلِّق مبتعدةً في الشارع.

عندما أتت في المرة التالية، لاحظت حماسة متقدةً في أسلوبها، مما أكد لي، على نحو أوضح من حلاوة الحياء التي بدَت في لقائنا الأخير، أن قلبها قد تأثر باهتمام عاشقها. وبالفعل، ألمحتْ بهذا قبل أن تنصرف، قائلة بنبرة حزينة، عندما كنت قد أنهيت قصتي بالنهاية السعيدة المعتادة، بالقبلات والزواج: «لن أتزوج أبدًا!» منهيةً عبارتها بتنهيدة طويلة من الأعماق، شجعتني نوعًا ما على أن أقول، ربما لأنني كنت أعرف أن لا أمَّ لها:

«ولمَ ذلك؟ ما السبب الذي يمكن أن يجعل هاتَين الشفتَين الورديتَين أن تقولا إن صاحبتهما لن تتزوَّج أبدًا؟»

رمقَتني بنظرةٍ خاطفة، ثم غضَّت بصرها. خشيتُ أن أكون قد أغضبتها، وكنت أشعر بوضاعتي، عندما أجابت فجأة، بنبرةٍ ثابتة لكنها خفيضة: «قلت إنني لن أتزوج أبدًا؛ لأن الرجل الذي يُعجبني لا يمكن أبدًا أن يكون زوجًا لي.»

انطلقَت كل العواطف الدفينة في داخلي دفعة واحدة. قلت: «لِمَ لا؟ ماذا تقصدين؟ أخبريني.»

قالت: «ليس ثمة ما أخبركِ به سوى أنني أضعف من أن …» لم تكن لتقول إنها مغرمة، فقد كانت امرأةً معتزَّة بنفسها، «أُعجَب برجلٍ لن يسمح عمي لي أبدًا أن أتزوجه.»

ونَهَضَتْ كما لو كانت ستنصرف، لكنني أعدتها. كررتُ سؤالي: «مَن ذاك الذي لن يسمح لكِ عمُّكِ بأن تتزوجيه! لماذا؟ هل لأنه فقير؟»

«لا؛ عمي مغرمٌ بالمال، ولكن ليس إلى ذلك الحد. علاوةً على ذلك، السيد كلافرينج ليس فقيرًا. فهو يمتلك مكانًا جميلًا في بلده …»

فقاطعتُها: «بلده؟ أليس أمريكيًّا؟»

أجابت: «لا؛ إنه إنجليزي.»

لم يتبيَّن لي لماذا تعيَّن عليها أن تقول ما قالَتْه بهذه الطريقة، ولكني افترضتُ أن ذكرى خفيةً ما قد أزعجَتْها، فمضيتُ أسأل: «ما العقبة في ذلك إذن؟ أليس …» كنت سأقول مستعدًّا، لكنني امتنعت.

أكدَت بنبرة المرارة نفسِها التي تحدَّثَتْ بها من قبل: «إنه إنجليزي.» وأردَفت: «بقولي ذلك، قلت كل شيء. عمي لن يسمح لي أبدًا بأن أتزوج رجلًا إنجليزيًّا.»

نظرتُ إليها في استغراب. فعقلي لم يستوعب مثل هذا السبب التافه مطلقًا.

فواصلَت كلامها: «إن لديه هوسًا تامًّا تجاه هذا الموضوع.» وأردفَت: «إن طلبي الزواج من هذا الرجل يُماثل أن أطلب منه أن أُغرق نفسي.»

كان من شأن امرأةٍ أرجحَ عقلًا مني أن تقول: «إذن، إن كان الأمر هكذا، فلِمَ لا تتخلَّصين من أي تفكيرٍ فيه؟ لماذا ترقصين معه، وتتحدثين إليه، وتسمحين لإعجابكِ به بأن يتطوَّر ليصير حبًّا؟» لكنني كنت حالمةً تمامًا حينها، وغاضبةً من تحاملٍ عجزت عن فهمه أو إدراكه، فقلت:

«لكن هذا استبداد محض! لماذا يكره الإنجليزَ هكذا؟ ولماذا، إن كان يكرههم، تشعرين بأنكِ مجبرةٌ على إرضائه في رغبةٍ غير منطقية؟»

قالت، وقد احمرَّ وجهها وأشاحَتْ بناظرَيْها: «لماذا؟ أتودين أن أُخبرك، يا خالة؟»

أجبتُها: «أجل؛ أخبريني بكل شيء.»

«حسنًا، إذن، إن كنت ترغبين في معرفة الجانب الأسوأ في شخصيتي، كما تعرفين بالفعل الجانب الأفضل، فإنني أكرهُ أن أُغضب عمي؛ لأني … لأني … تربَّيْتُ طوال الوقت على أنني وريثتُه الشرعية، وأعلم أنني إن تزوجت بخلاف رغبته، فسيُغير رأيَه في الحال، ويتركني مُفلِسة.»

صِحت، وقد أخمد هذا الاعترافُ الحالةَ الشاعريَّةَ التي كنت فيها: «لكنكِ، أخبرتِني بأن السيد كلافرينج يمتلك من المال ما يكفيه للعيش، وبذلك لن يصيبكِ العوز؛ وإن كنتِ تُحبين …»

برقَت عيناها البنفسَجيَّتان في ذهول.

وقالت: «أنتِ لا تفهمين، السيد كلافرينج ليس فقيرًا؛ لكن عمي غني. سوف أصبح ملكة …» وعندئذٍ تَوَقَّفَت عن الكلام، وهي ترتجف، وهوى رأسها على صدري. تابعَت قائلةً: «آه، قد يبدو هذا جشعًا، أعرف ذلك، لكنه العيب في تنشئتي. لقد تَعَلَّمتُ أن أقدِّس المال. سأضيع تمامًا من دونه.» ثم لانَ وجهُها بأكملِه من أثر شعورٍ آخر وأضافَت: «ومع ذلك، يصعب عليَّ أن أقول لهنري كلافرينج: «اتركني! فمستقبلي أعزُّ عليَّ منك!» لا يمكنني ذلك، يا إلهي، لا يمكنني!»

قلت لها، عازمة على أن أستوضح حقيقة الأمر إن أمكن: «أنتِ تُحبِّينه، إذن، أليس كذلك؟»

نهضَت مضطربةً. وقالت: «أليس ذلك دليلًا على الحب؟ إن كنتِ عرَفتِني من قبل، قلتِ إنه كذلك.» ثم، استدارت، ووقفَت أمام صورةٍ معلقةٍ على حائط غرفة الجلوس.

قالت: «تلك تُشبهني.»

كانَت واحدةً من أفضل صورتَين فوتوغرافيتَين لديَّ.

علَّقتُ قائلةً: «أجل، ولذلك أُقدِّرها.»

بدا أنها لم تسمعني؛ كانت مُستغرِقةً في التحديق في الوجه البديع أمامها. سمعتها تقول: «ذلك وجهٌ فاتن.» وأردفَت: «أجمل مني. أتساءل عمَّا إذا كانت ستتردَّد يومًا ما بين الحب والمال. لا أعتقد أنها ستفعل»؛ ازداد وجهُها كآبةً وحزنًا وهي تنطق بما قالته؛ وأضافَت: «إنها لن تفكِّر إلا في السعادة التي ستنعم بها؛ فهي ليسَت قاسيةً مثلي. ستُحب إلينور هذه الفتاة.»

أعتقد أنَّ وجودي قد غاب عن ذهنها؛ لأنها ما إن ذَكرَت اسم ابنةِ عمها حتى التفتَتْ سريعًا حولها بنظرةٍ يغلب عليها الشك، قائلةً برفق:

«الأم هوبارد العجوز تبدو خائفة. ألم تكن تعرف أن مَن كانَت تستمع إليها صغيرة بائسة غير حالمة، عندما كانَت تحكي كلَّ هذه القصص الرائعة عن الحب الذي يفتكُ بالتنانين، وعن الحياة في الكهوف، والسير على نِصال المحاريث الحارقة وكأنها رُقع من حشائش الربيع؟»

قلت، وأنا أجذبها بين ذراعَي بدافعٍ لا يُقاوَم من الشفقة: «نعم؛ ولكن لو كنت أعرف، لما كان ذلك سيُشكل أي اختلاف. كنتُ سأظلُّ أتحدَّث عن الحب، وكل ما يمكن أن يصنعَه ليجعلَ هذا العالم المملَّ والكئيبَ ساحرًا ومبهجًا.»

«أكنتِ ستفعلين؟ ألَا تظنين إذن أني بائسة؟»

ماذا كان يمكنني أن أقول؟ ظننتُ أنْ ليس في العالم مخلوقٌ بمثل سحرها، وأخبرتها بذلك صراحةً. وعلى الفور تهلَّلَت أساريرها لتُصبح في قمة البهجة والمرح. لم أظنَّ حينها، ولا أظنُّ الآن، أنها كانت مهتمة إلى حدٍّ ما برأيي؛ لكن طبيعة شخصيتها كانت تتطلَّب الإعجاب، ومن دون وعيٍ منها كانت تتفتح في ظله، كوردة تتفتح تحت ضوء الشمس.

قالت: «وهل ما زلتِ ستسمحين لي بأن آتيَ وأُخبرَكِ بمدى السوء الذي أنا عليه؛ أي إذا استمررْتُ في أن أكون سيئة، مثلما سأظلُّ بلا شكٍّ حتى نهاية المطاف؟ ألن تُعرِضي عني؟»

«لن أُعْرِض عنكِ أبدًا.»

«ولا حتى إن فعلتُ شيئًا مريعًا؟ ولا حتى إن هرَبت مع حبيبي في ليلة جميلة، وتركت عمي يكتشف كيف كُوفِئ على مُحاباته الحنونة؟»

قيل ذلك هَزْلًا، وكان المراد منه الهزل، إذ لم تنتظر حتى ردي. لكن بَذْرة تلك الفكرة انغرسَت بعمقٍ في قلبَينا مع ذلك. وطيلة الأيام القليلة التالية أمضيتُ وقتي في تخطيط الكيفية التي سأتدبر بها الأمر، إن وقع على عاتقي تولِّي مسألةِ إنجاح أمرٍ مثير كالهرب. لذا فلكَ أن تتخيَّل، مدى سعادتي، عندما ذات مساء جاءت إليَّ هانا، هذه الفتاة التعيسة التي ترقد الآن جثة هامدة تحت سقف منزلي، والتي كانت تعمل وصيفةً للآنسة ماري ليفنوورث في تلك الفترة، وهي تحمل رسالةً من سيدتها، كان نصها كالآتي:

جهِّزي لي غدًا أمتعَ قصة لهذا الموسم؛ واجعلي الأمير وسيمًا تمامًا مثل … مثل الأمير الذي سمعتِ به، واجعَلي الأميرة مرتبكةً كصغيرتك المدللة المستكينة.

ماري

لم تَعنِ لي هذه الرسالة القصيرة سوى أنها خُطِبَت. لكن اليوم التالي أتى دون أن تأتيَ عزيزتي ماري، ولم تأتِ في اليوم الذي يليه، ولا الذي يليه؛ ولم أتلقَّ أي خبر أو إشارة أكثر من أن السيد ليفنوورث قد عاد من رحلته. مضى يومان آخران، وعندئذٍ أتت، تحديدًا مع بداية الشفق. كان قد مر أسبوع منذ أن رأيتُها، لكن ربما كان ما مرَّ عامًا من أثر التغيير الذي لاحظتُه على وجهها وطلعتِها. بالكاد استطعت أن أرحب بها بإظهار أيِّ دلالة على السعادة؛ إذ كانت على النقيض مما كانت عليه في السابق.

قالت، وهي تنظر إليَّ: «خاب أملُكِ، أليس كذلك؟» وأضافت: «كنتِ تتوقَّعين أن أبوحَ إليكِ بأسرار، وأن أهمسَ لكِ بآمال، وأن أظهر في هيئةٍ تنمُّ عن ثقةٍ ساحرة؛ وبدلًا من ذلك، ترَين امرأةً باردة، قاسية، تشعر لأول مرةٍ في وجودكِ بميلٍ إلى التحفُّظ والتزام الصمت.»

أجبت، وأنا أشعر بانقباض، كان السبب فيه هيئتها أكثرَ من كلامها: «ذلك لأنكِ واجهتِ في حبِّكِ ما يُكدركِ أكثر مما يُشجعكِ.»

لم تردَّ على ما قلته، لكنها نهضت وظلت تجول في الغرفة، ببرودٍ في البداية، ولكن بعد ذلك بدرجة معينة من الاضطراب الذي تبيَّن أنه كان تمهيدًا لتغيرٍ في مسلكها؛ لأنها توقفت فجأة، واستدارت نحوي، وقالت: «السيد كلافرينج رحل عن «ر…» يا سيدة بيلدن.»

«رحل!»

«أجل، أمرني عمِّي أن أُخرجه من حياتي، وأطعته.»

سقطت القطعةُ التي كنت أحيكها من يدي، في غمرة إحباطي الشديد. قلت: «آه! إذن هو يعلم بارتباطكِ بالسيد كلافرينج؟»

«أجل؛ لم يكن قد مضى عليه في المنزل خمس دقائق عندما أخبرَته إلينور.»

«أعرَفَت إذن؟»

قالَت بتنهيدةٍ غير مكتملة: «نعم، ولم تستطع أن تمنع نفسها. كنتُ حمقاء بما يكفي أن أُعطيَها الإشارة لمَّا أظهرت اللحظات الأولى لسعادتي وضعفي. لم أفكِّر في العواقب، لكني ربما كنتُ أعرفها. فضميرها يقظ للغاية.»

أجبتها: «لا أسمِّي إفشاء أسرار الآخرين بالضمير اليقظ.»

«ذلك لأنكِ لست إلينور.»

ولأنه لم تكن لديَّ إجابةٌ على هذا، قلت: «ومن ثَمَّ لم يلْقَ هذا الارتباط قبولًا لدى عمكِ؟»

«قبول! ألم أخبركِ بأنه لن يسمح لي بتاتًا بأن أتزوَّج من رجلٍ إنجليزي؟ قال إنه أهونُ عليه أن أُدفَن أمام عينَيْه.»

«وهل استسلمتِ؟ ألم تُقاومي؟ أسمحتِ لهذا الرجل القاسي والفظِّ بأن ينال ما يريده؟»

كانت تبتعد لتنظر مرةً أخرى إلى الصورة التي كانَت قد جذبَت انتباهها المرة السابقة، لكن عندما قلت هذا أولَتْني نظرةً جانبيةً بسيطةً كانت موحيةً بدرجةٍ تفوق الوصف.

«أطعتُه عندما أمرني، إن كان ذلك ما تعنين.»

«وأخرجتِ السيد كلافرينج من حياتكِ بعدما أعطاكِ وعد شرفٍ منه بأن تُصبحي زوجته؟»

«ولِمَ لا، وقد وجدت أنه استحال عليَّ أن أفيَ بوعدي.»

«إذن فقد قررتِ ألَّا تتزوجي منه؟»

لم تُجب على الفور، وإنما رفعت وجهها من غير تفكيرٍ إلى الصورة.

أجابت في النهاية بما شَعَرتُ أنه مرارة الاستهزاء بنفسها: «سيُخبركِ عمي أنني قد قررت أن أنصاع كليًّا لرغباته!»

ولإحباطي الشديد، انفجرتُ بالبكاء. صحت: «آهٍ، يا ماري، آهٍ، يا ماري!» وفي التو شعرت بالخجل، وانتفضت لأنني كنتُ قد ناديتها باسمها الأول.

لكن يبدو أنها لم تنتبه لهذا.

سألتني: «هل لديكِ أي شكوى؟» وأضافت: «أليس واجبي الواضح أن أخضع لرغبات عمي؟ ألم يُربِّني منذ الطفولة؟ ويُغدقْ عليَّ بالنعم؟ وهو من جعلني كل ما أنا عليه، حتى حب الثروة الذي غرسه في روحي مع كل هديةٍ كان يرمي بها في حجري، ومع كل كلمةٍ ألقاها على مسامعي، منذ أن كنت كبيرةً بما يكفي لأعيَ ما تعنيه الثروة؟ أيحقُّ لي الآن أن أتجاهل هذه الرعاية الأبوية الحكيمة، والكريمة، والحرة، لمجرد أن رجلًا عرَفتُه منذ أسبوعَين فقط يُجازف بأن يعرض عليَّ الزواجَ مقابل أن يمنحني حبه كما يدَّعي؟»

«لكن» حاولت بضعفٍ، مقتنعةً بأنها ربما بنبرة السخرية التي قيل بها الكلام لم تبتعد كثيرًا عن طريقة تفكيري رغم ذلك «إن كنتِ في أسبوعَين قد تعلمتِ أن تُحبِّي هذا الرجل أكثر من أي شيءٍ آخر، حتى الثروة التي جعلت صنيع عمِّك شيئًا في مثل هذه اللحظة …»

فقالت: «حسنًا، ماذا إذن؟»

«عجبًا، كنت سأقول، عليكِ أن تضمني سعادتكِ مع الرجل الذي اخترتِه، إن كان عليكِ أن تتزوجيه سرًّا، واثقةً في تأثيركِ على عمكِ للفوز بعفوه الذي لا يمكنه مطلقًا أن يصرَّ على أن يحرمكِ منه.»

كان يجب أن ترى التعبير الماكر الذي تسلَّل إلى وجهها عندئذٍ. سألت وهي تتسلَّل إلى ذراعي، وتضع رأسها على كتفي: «أليس من الأفضل، أليس من الأفضل أن أتأكد من موافقة عمي أولًا، قبل أن أشرعَ في تجرِبةٍ خطيرةٍ وأهرب مع حبيبٍ شديد اللهفة؟»

صدمَني أسلوبها، فرفعت وجهها ونظرتُ إليه. كانت تعتليه ابتسامةٌ بَشوشة.

قلت: «أوه، يا عزيزتي، ألم تُخرجي السيد كلافرينج من حياتكِ بعد؟»

فهمسَت بأسلوبٍ رزين: «لقد أبعدتُه.»

«ولكن ليس من دون أمل؟»

انطلقَت منها ضحكة رنانة.

«يا أيتها الأم العزيزة هوبارد، يا لكِ من خاطبة، صدقًا! يبدو عليكِ الشغف بالأمر كما لو كنتِ أنتِ نفسكِ الحبيب.»

ألححت في طلبي: «لكن أخبريني.»

وفي لحظةٍ استعادت حالتها المزاجية الجادة. وقالت: «سينتظرني.»

•••

في اليوم التالي أرسلتُ إليها الخطة التي كنت قد وضعتها لتتواصلَ سرًّا مع السيد كلافرينج. كان عليهما أن ينتحلا اسمَين، بأن تنتحل هي اسمي؛ لأنه أقلُّ عُرضة لأن يثير الظنون حوله من اسم غريب، وأن ينتحل هو اسم لي روي روبنز. راقت لها الخطة، وطُبِّقت في الحال، مع تعديلٍ طفيف هو استخدام توقيع سري على الظرف، لتمييز خطاباتها عن خطاباتي.

وهكذا اتخذتُ الخطوة المميتة التي ورطتني في كل هذه المصائب. بمنحي اسمي لهذه الفتاة الشابَّة لتستخدمه كما تشاء وتوقِّع به على ما تشاء، بدا أنني تخليت عما كان يُبقيني ذاتَ قدرة على التمييز والتقدير الصائب للأمور. منذ ذلك اليوم فصاعدًا، كنت مجرد عبدة مخلصة لها للتدبير، والتخطيط؛ فكنت أنسخُ الخطابات التي تُحضرها لي، وأُرفقها بالاسم المستعار الذي اتفقنا عليه، وأَشغَل نفسي في ابتكار طرقٍ لأُحيل إليها الخطابات التي وصلَتني منه، دون المخاطرة باكتشافها. كانت هانا الوسيطَ الذي استخدمناه؛ لأن ماري شعرت أنه لن يكون من الحكمة أن تتردَّد على منزلي كثيرًا. ومن ثَمَّ كنت أعطي الرسائل لهذه الفتاة إذا لم أستطع أن أُرسلها بأي طريقة أخرى، واثقةً؛ لطبيعتها المتكتمة، وكذلك لعدم إلمامها بالقراءة، من أن هذه الخطابات الموجَّهة إلى السيدة إيمي بيلدن ستصل إلى العنوان المقصود من دون أي عقَبة. وأعتقد أن هذا ما كان يحدث دائمًا. على أي حال، لم أسمع عن أي صعوبة ظهرت من اللجوء إلى هذه الفتاة كوسيطٍ بيننا.

لكن كان ثَمة تغييرٌ وشيك. استُدعي السيد كلافرينج، الذي كان قد ترك أمًّا مريضةً في إنجلترا، فجأة للعودة إلى الوطن. تجهَّز للرحيل، لكن إذ كان غارقًا في الحب، ومشتتًا بالظنون، ويستحوذ عليه الخوفُ من أنه، حالما يبتعد من جوار امرأة كماري يخطب العالمُ بأسره ودَّها، ستكون فرصته ضئيلة في الحفاظ على مكانته في نظرها، كتب إليها، وأخبرها بمخاوفه وطلب منها الزواج به قبل أن يرحل.

كتب: «اقبلي الزواج بي، وسأُلبِّي رغباتكِ في كل شيء. إن الاطمئنان إلى أنكِ لي سيجعلُ رحيلي ممكنًا، ومن دون ذلك، لا يمكنني أن أرحل؛ لا يمكن، ولا حتى إن كانت أمي ستُفارق الحياة من دون أن تودِّع ابنها الوحيد.»

بالمصادفة كانت في منزلي عندما أحضرتُ هذا الخطاب من مكتب البريد، ولن أنسى أبدًا كيف فَزِعَتْ عندما قرأته. ولكن، من هيئتها التي بدَت عندها وكأنها قد تلقت إهانة، سرعان ما هدأت لتُفكر بتروٍّ في الموضوع، فكتبت وعهدت إليَّ بنَسخِ بِضعة سطور وَعَدَته فيها بالموافقة على طلبه، إذا وافق أن يترك لتقديرها حريةَ مسألة إشهار الزواج، وإذا قَبِل بأن يودِّعها عند باب الكنيسة أو أي مكان ستُعقَد فيه مراسم الزواج، وألا يظهر في حضورها مرة أخرى حتى إشهارِ الزواج. وبالطبع جاء الرد الأكيد على هذه الرسالة في غضون يومين: «سأفعل أي شيء، حتى تكوني لي.»

واستُحضر كلُّ ما كان لدى إيمي بيلدن من فطنةٍ وقدرة على التخطيط لتسخيره للمرة الثانية، للتخطيط لإمكانية الترتيب لهذه المسألة من دون أن يتعرض الطرفان لاحتمال كشفِ أمرهما. وجدت الأمر صعبًا جدًّا. في المقام الأول، كان من الضروري أن يُعقَد الزواج في غضون ثلاثة أيام؛ إذ كان السيد كلافرينج، عندما تسلَّم خطابها، قد جهَّز للرحيل على متن الباخرة التي أبحرَت يوم السبت التالي؛ وبعد ذلك، إذ كانت هيئته هو والآنسة ماري لافتةً للنظر للغاية بحيث لا يمكنهما على الإطلاق أن يتزوجا سرًّا في أي مكانٍ في نطاق المساحة التي يكثر فيها القيل والقال لهذا المكان. ومع ذلك كان من المستحسن ألا يكون مكانُ عقد الزواج بعيدًا للغاية، وإلا فإن الوقت المستغرَق في رحلة الذهاب والعودة قد يستلزم غياب الآنسة ماري ليفنوورث عن الفندق مدةً طويلة تكفي لإثارة شكوك إلينور؛ وهو أمرٌ شعرت ماري بأن من الحكمة أن تتجنَّبه. نسيت أن أقول إن عمَّها لم يكن هناك؛ إذ كان قد غادر مرة أخرى بعد مدة قصيرة من الإبعاد الظاهري للسيد كلافرينج. لذا كانت «ﻓ…» هي البلدةَ الوحيدة التي خطرَت في ذهني وكانت تجمع بين مَيزتَي المسافة وسهولة الوصول إليها. وعلى الرغم من أنها على طريق السكة الحديدية، فإنها كانت في مكانٍ قليل الأهمية، وكان أفضل ما فيها أنه كان بها رجل مغمور جدًّا يعمل قسيسًا تابعًا للمكان، وأفضل شيء على الإطلاق أنه كان يعيش على مسافة لا تَزيد عن نحو خمسين مترًا من المحطة. هل يمكن أن يتقابلا هناك؟ استقصيت، فوجدت أنه يمكن تنفيذُ هذا، ومدركةً إدراكًا تامًّا لشاعرية المناسبة، بدأت التخطيطَ للتفاصيل.

والآن أصل إلى الأمر الذي ربما يكون قد تسبب في تدمير مخطَّطنا بأكمله: أشير بذلك إلى اكتشاف إلينور للمراسلات بين ماري والسيد كلافرينج. وقد حدث على النحو التالي. كانت هانا، التي في زياراتها المتكررة إلى منزلي، كانت قد ازدادت ولعًا بعالمي، قد جاءت إليَّ ذاتَ ليلة لتجلس معي بعضَ الوقت. ومع ذلك، لم يكن قد مر على وجودها في المنزل أكثرُ من عشر دقائق، عندما سُمِع صوت طرق على الباب الأمامي؛ وعندما توجهتُ إلى الباب رأيت ماري، كما افترضت، من العباءة الطويلة التي كانت ترتديها، واقفةً أمامي. ظنًّا مني أنها قد أتت ومعها خطابٌ إلى السيد كلافرينج، أمسكتها من ذراعها وجذبتها إلى الردهة، قائلةً: «هل هو معكِ؟ لا بد أن أرسله الليلة، وإلا فلن يتسلمَه في الموعد.»

عندئذٍ توقَّفت، لأني عندما التفتَت نحوي المخلوقةُ اللاهثة التي كنتُ أمسكها من ذراعها، رأيت نفسي أقف في مواجهة شخصٍ غريب.

صاحت قائلةً: «لقد أخطأتِ.» وأضافت: «أنا إلينور ليفنوورث، وقد أتيتُ من أجل وصيفتي هانا. أهي هنا؟»

لم أستطع إلا أن أرفع يدي في فزع، وأشير إلى الفتاة الجالسة في ركن الغرفة أمامها. وعلى الفور استدارت الآنسة إلينور على عقبَيها.

قالت: «هانا، أريدكِ»، وكانت ستنصرف من المنزل من دون أن تنطقَ بكلمة أخرى، لولا أنني أمسكتها من ذراعها.

قلت: «أوه، آنسة …» لكنها رمقَتني بنظرةٍ جعلتني أتخلى عن ذراعها.

صاحت بنبرة خافتة ومؤثرة: «ليس لديَّ ما أقوله لكِ!» وأردفَت: «لا تعطِّليني.» وبعدما ألقت نظرة أخرى لترى إن كانت هانا تتبعها، انصرفت.

لساعة جلستُ القُرفصاءَ على السلم حيثما كانت قد تركتني بالضبط. ثم أويتُ إلى السرير، ولكن لم يغمض لي جفن تلك الليلة. ولذلك لك أن تتخيل دهشتي عندما، مع أول ضوء لنور الصباح الباكر، جاءت ماري، التي كانت تبدو أكثرَ جمالًا عن أي وقت مضى، تركض صاعدةً درجاتِ السلم وتدخل الغرفة التي كنتُ بها، وفي يدها المرتجفةِ خطابٌ إلى السيد كلافرينج.

صحت في فرحٍ وارتياح: «يا إلهي! ألم تفهم حقيقة ما قلته إذن؟»

تحولت نظرةُ السرور على وجه ماري إلى استخفاف غير مبالٍ. وقالت: «إن كنتِ تقصدين إلينور، فبلى. أُطلِعَت على الأمر كما ينبغي، أيتها الأم هوبارد. إنها تعرف أنني أحب السيد كلافرينج وأكتب له. لم أستطع أن أُبقيَ الأمر سرًّا بعد الخطأ الذي وقَعْتِ فيه الليلة الماضية؛ لهذا فعلت أفضل ما يمكن فعله في هذا الموقف، وأخبرتها بالحقيقة.»

«ليس أنكِ ستتزوجين؟»

«بالطبع لا. لا أُومِن بإعطاء معلوماتٍ غير ضرورية.»

«ولم تَجِديها غاضبةً بقدر ما كنتِ تتوقعين؟»

تابعَتْ ماري، بفورة ندمٍ واحتقارٍ لنفسها: «لن أقول ذلك؛ كانت غاضبةً بما يكفي. ومع ذلك، لن أُسمي استياء إلينور المتعجرفَ غضبًا. كانت حزينة، أيتها الأم هوبارد، حزينة.» وبضحكة أعتقد أنها كانت نابعةً من ارتياح شخصي أكثرَ من كونها أيَّ رغبة في التفكير في ابنة عمها، ألقَت رأسها على جانبٍ واحد، ونظرَت إليَّ نظرةً بدَت أنها تقول: «هل أُثْقِل عليكِ كثيرًا، أيتها الأم هوبارد العزيزة العجوز؟»

لقد أثقلَتْ عليَّ بالفعل، ولم أستطع إخفاء ذلك. قلتُ بأنفاسٍ لاهثة: «ولن تُخبر عمَّها؟»

سرعان ما تغيَّر التعبير الساذَجُ الذي ارتسم على وجه ماري. فقالت: «لا.»

شعرت بيدٍ ثقيلة، ساخنة محمومة، تنزاح من فوق قلبي. وقلت: «وبإمكاننا أن نستمرَّ فيما نحن فيه، صحيح؟»

ردًّا على سؤالي مدَّت يدها لتُعطيَني الخطاب.

كانت الخطة المتفقُ عليها بيننا لتنفيذ مقاصدنا هي ما يلي. في الوقت المحدد، كان على ماري أن تستأذن من ابنة عمها بالانصراف بحجةِ أنها قد وعدَتْني بأن تأخذني لزيارة صديقةٍ في البلدةِ المجاورة. بعد ذلك كان عليها أن تستقلَّ عربةً طُلب إحضارها مسبقًا، لتأتيَ بها إلى هنا، حيث كان عليَّ أن أُرافقها. ثم نتجه على الفور إلى منزل القسيس في بلدة «ﻓ…» حيث كان لدينا سببٌ يدعونا إلى الاعتقاد بأننا سنجد كلَّ شيءٍ مُعدًّا لنا. لكن كان في هذه الخطة، على بساطتها، شيءٌ واحد منسيٌّ، وهو طبيعة حب إلينور لابنة عمها. لم نشكَّ في أن شكوكها ستُثار؛ ولكن أن تتبع ماري فعليًّا وتطلبَ تفسيرًا لتصرُّفها، فهذا ما لم يكن متصوَّرًا على الإطلاق، لا من جانبها هي، التي كانت تعرفها تمام المعرفة، ولا من جانبي أنا، التي كنت أعرفها بقدرٍ محدود جدًّا. ومع ذلك كان هذا ما حدث بالضبط. لكن دعني أوضح. كانت ماري، التي كانت قد التزمَتْ بالخطة حتى نقطة ترك رسالة اعتذارٍ صغيرة على تسريحة إلينور، قد جاءت إلى منزلي، وكانت تخلعُ عباءتها الطويلة لتوها لتُريني ثوبها، عندما سمعنا صوتَ قرعٍ آمر على الباب الأمامي. تدثرَتْ سريعًا بعباءتها، وأسرعتُ أنا لأفتح الباب، ويمكنك أن تكون واثقًا من أنني كنتُ أنوي أن أصرف زائري بعد عبارات مجاملة قصيرة، عندما سمعتُ صوتًا من ورائي يقول: «يا إلهي، إنها إلينور!» فنظرت إلى الخلف، ورأيت ماري تنظر عبر ستارة النافذة على مدخل المنزل في الخارج.

صِحت، في فزعٍ طبيعي جدًّا: «ماذا سنفعل؟»

«نفعل؟ عجبًا، افتحي الباب واسمحي لها بالدخول؛ أنا لست خائفةً من إلينور.»

وعلى الفور فعلتُ ذلك، فسارت إلينور ليفنوورث شاحبةً جدًّا، لكن بملامح حازمة، إلى داخل المنزل ثم إلى هذه الغرفة، مواجهةً ماري تقريبًا في نفس الموضع الذي تجلس أنت فيه الآن. وهي ترفع وجهًا لم يسَعْني، حتى في تلك اللحظة المهيبة، سوى الإعجابِ بالتعبير البادي عليه الذي كان مزيجًا من الرقَّة والقوة، قالت: «لقد جئتُ لأسألكِ من دون أي مبرِّرٍ لطلبي، إن كنتِ تسمحين لي بمرافقتكِ في رحلتكِ هذا الصباح؟»

أعرضت ماري، التي كانت قد هيَّأت نفسها لتلقِّي عبارات اتهامٍ أو التماس، بلا مُبالاة مواجِهةً زجاج النافذة. وقالت: «أنا آسفة جدًّا، لكن العربة لا تتسع إلا لاثنين؛ ولهذا سأُضطرُّ أن أرفض طلبكِ.»

«سأطلب عربة كبيرة.»

«لكني لا أرغب في رفقتك، يا إلينور. سنخرج في رحلةٍ للترفيه، ونرغب أن نقضيَ وقتًا ممتعًا بمفردنا.»

«ولن تسمحي لي بأن أرافقكِ؟»

«لا يمكنني أن أمنعكِ من الذَّهاب في عربةٍ أخرى.»

أصبحَت ملامح وجه إلينور أكثرَ جدية. وقالت: «ماري، لقد نشأنا معًا. أنا أختُكِ بالحب والمودة إن لم يكن بصلة الدم، ولا يُمكنني أن أراكِ تنطلقين في هذه المغامرة من دون رفيقٍ آخر غير هذه المرأة. أخبريني إذن، هل أذهب معكِ، كأختٍ لكِ، أم أمضي في الطريق خلفَكِ بصفتي الوصيةَ القسرية على شرفكِ خلافًا لرغبتكِ؟»

«شرفي؟»

«أنتِ ذاهبةٌ لمقابلة السيد كلافرينج.»

«وماذا في ذلك؟»

«على بُعد عشرين ميلًا من البيت.»

«فماذا إذن؟»

«والآن هل من الحصافة أو الشرف أن تفعلي هذا؟»

اتخذت شفَتا ماري المتغطرستان انحناءةً منذِرةً بسوء. صاحت بمرارة: «اليد التي سهرت على تربيتكِ هي نفسُها التي ربَّتني.»

أجابت إلينور: «هذا ليس وقت الحديث عن ذلك.»

احمرَّ وجه ماري. وظهرت كل الضغينة التي كانت بداخلها. كانت تبدو تمامًا مثل كبيرة الآلهة جونو في غضبها وتهديدها المتهوِّر. وصاحت قائلةً: «إلينور، سأذهب إلى بلدة «ﻓ…» لأتزوج من السيد كلافرينج! والآن هل ترغبين في مرافقتي؟»

«نعم.»

تبدَّل أسلوب ماري برمته. فاندفعت إلى الأمام، وأمسكت بذراع ابنة عمها وهزته. صاحت: «لأي سبب؟» وأضافت: «ما الذي تنوين فعله؟»

«أن أشهد على الزواج، إن كان زواجًا حقيقيًّا؛ ولأحولَ بينكِ وبين العار إن ظهر أيُّ بطلان من شأنه أن يؤثر على شرعيته.»

هوَت يدُ ماري من على ذراع ابنة عمِّها. وقالت: «لا أفهمكِ.» وأردفت: «ظننتُ أنكِ لم تُقرِّي أبدًا بما اعتبرتِه خطأً.»

«ولست أفعل ذلك. أي شخص يعرفني سيُدرك أنني لا أعطي موافقتي على هذا الزواج لمجرد أني أحضر مراسمه بصفتي شاهدًا غيرَ راضٍ عما يحدث.»

«ولمَ تذهبين إذن؟»

«لأني أُعلِي شرفكِ على راحة بالي. لأني أحبُّ راعيَنا المشترك، وأعرف أنه لن يسامحني أبدًا إن تركت أثيرته تتزوج، رغم أن زواجها قد يكون مخالفًا لرغباته، دون أن أدعمها بحضوري حتى أجعل هذا الإجراء لائقًا على الأقل.»

«لكن بفعلكِ ذلك، ستتورطين في عالمٍ من الخيانة؛ وهو ما تكرهينه.»

«أكثر مما أنا عليه الآن؟»

«لن يعود السيد كلافرينج معي، يا إلينور.»

«لا، افترضت أن ذلك لن يحدث.»

«سأتركه فورًا بعد مراسم الزواج.»

أحنت إلينور رأسها.

«سيُسافر إلى أوروبا.» وتوقَّفت عن الكلام.

ثم أضافت: «وسأعود إلى البيت.»

«حتى تنتظري ماذا، يا ماري؟»

استحال وجه ماري للون القرمزي، وأشاحت بجسدها في بطءٍ.

وقالت: «ما تفعله كل فتاة في ظروفٍ كهذه، على ما أظن. تنامي مشاعر أكثر عقلانية في قلب أبٍ متعنِّت.»

تنهَّدَت إلينور، وأعقب ذلك صمتٌ دام مدةً قصيرة، كسره نزولُ إلينور على ركبتَيْها، وإمساكها بيد ابنة عمها. انتحبَت، وقد اختفَت عجرفتها وسط سيلٍ من التوسُّل الشديد: «آه يا ماري، فكِّري فيما أنتِ فاعلة! فكري، قبل فوات الأوان، في العواقب التي لا بد أنها ستُعقِبُ فعلًا مثل هذا، قبل فوات الأوان. الزواج الذي يُبنى على خداعٍ لا يمكن أن ينتهيَ بسعادةٍ أبدًا. الحب … لكنه ليس كذلك. الحب كان سيدفعكِ إمَّا إلى أن تُبعدي السيد كلافرينج، أو أن تتقبَّلي علنًا المصير الذي ستُلاقينه من زواجكِ منه. العاطفة الجامحة وحدها هي التي تنحدر بكِ إلى خدعةٍ مثل هذه. وأنتِ»، واصلت كلامها، وهي تنهض وتستدير نحوي في نوعٍ من الأمل اليائس الذي كان مؤثرًا أن أراه: «هل بوسعكِ أن تشاهدي هذه الفتاة التي لا أمَّ لها، مدفوعة بأهوائها، وغير معترفةٍ بأي رادعٍ أخلاقي، تدخل إلى الطريق الملتوي والمظلم الذي تُخططه لنفسها، دون أن تنطقي بكلمة تحذير ومناشدة واحدة؟ أخبريني، أيتها الأم لأطفالٍ ماتوا ودُفنوا، ما العذر الذي ستُقدمينه ليُبرر دوركِ في فعلة هذا اليوم، عندما تأتي إليكِ، ووجهها مُكتسٍ بالحسرة التي ستعقب هذه الخديعة …»

قاطعها صوت ماري، بنبرةٍ فاترة ومتكلفة: «نفس العذر الذي ستُقدمينه، على الأرجح، عندما يسألُكِ عمي كيف سمحتِ بارتكاب هذا العصيان في غيبته: لأنها لم تستطع أن تمنع نفسها، وأن ماري اختارت طريقها، وعلى كل من حولها أن يتأقلَموا عليه.»

كان الموقف أشبهَ بتيار هواءٍ شديد البرودة تدفق على حين غِرةٍ داخل غرفة تصاعدت حرارة الغضب فيها إلى درجة الاحتدام. تصلَّبَت إلينور في الحال، ومتراجعةً، شاحبة ومتماسكة، توجهَت بالحديث إلى ابنة عمها:

«إذن لا شيء يمكن أن يَثنِيَكِ؟»

كان اعوجاجُ شفتي ماري هو الردَّ الوحيد على السؤال.

سيد ريموند، لا أريد أن أُثقل عليك بالمشاعر التي انتابَتْني، لكن المرة الأولى على الإطلاق التي شعرت فيها بأني فقدتُ الثقة في حِكمتي في دفع هذا الموضوع إلى هذا الحد كانت عند اعوجاجِ شفتَيْ ماري. على نحوٍ أكثر وضوحًا من كلمات إلينور، أوضح لي النزعة التي كانت تُقدِم بها على هذه المهمة المهلكة؛ وبعد أن أصابني ذعرٌ لحظي، تقدَّمتُ لأتحدَّث عندما أوقفَتْني ماري.

أضافَت بتأكيدٍ ينطوي على مرارة: «حسبكِ الآن، أيتها الأم هوبارد، لا تمضي وتعترفي بأنكِ خائفة، لأني لا أريد سماع هذا. لقد وعدتُ بأن أتزوج هنري كلافرينج اليوم، وسأفي بوعدي … وإن لم أكن أحبه.» ثم ابتسمَت لي بطريقةٍ جعلَتْني أنسى كلَّ شيءٍ ما عدا حقيقة أنها ذاهبةٌ إلى عُرسها، وأعطَتْني وشاحها لأثبِّته. وبينما كنت أفعل هذا، بأصابع ترتجف بشدةٍ، قالت، وهي تنظر مباشرةً إلى إلينور:

«لقد أثبَتِّ أنكِ أكثرُ اهتمامًا بمصيري عمَّا كنت أتوقَّع لأي سبب. هل ستستمرين في إبدائكِ لهذا القلق طوال الطريق إلى بلدة «ﻓ…» أو هل لي أن أتطلَّع لقضاء دقائق معدودةٍ من السلام أحلم فيها بالخطوة التي، حسب نظرتكِ، على وشك أن يَنهال عليَّ بسببها وابلٌ من العواقب الوخيمة؟»

ردَّت إلينور: «إذا ذهبت معكِ إلى «ﻓ…» فسأذهب بصفتي شاهدةً، لا أكثر. واجبي الأخوي انتهى.»

قالَت ماري، وهي تغمز في بهجةٍ مفاجئة: «حسنًا، إذن، أظن أنَّ عليَّ تقبُّلَ الوضع. أيتها الأم هوبارد، أعتذر بشدةٍ عن تخييب أملكِ. لكن العربة لن تتسعَ لثلاث. إن طابت نفسكِ، فستكونين أول من يُهنئني عند عودتي إلى المنزل الليلة.» وتقريبًا قبل أن أستوعب ذلك، كانتا قد جلستا في العربة التي في انتظارهما عند الباب. وصاحت ماري، وهي تُلوح بيدها من الخلف: «وداعًا، تمنَّيْ لي الكثير من السعادة … في رحلتي.»

حاولت أن أفعلَ ذلك، لكن لساني انعقد. لم يكن بوسعي إلا أن أُلوح بيدي ردًّا عليها، وهُرِعت منتحبةً إلى داخل المنزل.

أما عن ذلك اليوم، والساعات الطويلة التي قضيتها أتقلَّب بين الندم والقلق، فلا أظن أن لديَّ القدرةَ على الحديث عنه. دعني أتطرق مباشرةً إلى الوقت الذي كنت فيه جالسةً بمفردي في غرفتي المضاءة بنور المصباح، أنتظرُ وأراقب أي إشارة على عودتهما كما وعدتني ماري. فجاءَتني الإشارة بمجيء ماري نفسها، التي جاءَت متسللةً إلى داخل المنزل، متدثرةً في عباءتها الطويلة، وبوجهها الجميل الذي يشعُّ حمرةً، في نفس الوقت الذي كنت فيه بدأت أشعر باليأس.

دخلت معها موسيقى من نوعٍ صاخبٍ آتية من المدخل المسقوف للفندق، حيث كان النزلاء يرقصون، فأحدثَت وقعًا غريبًا على خيالي لدرجة أني لم أُفاجَأ مطلقًا عندما خلعت عنها عباءتها، وأرَتْني رداءَ عُرسها الأبيض ورأسها المتوج بإكليل ورود بيضاء كالثلج.

فصِحتُ، وأنا أجهش بالبكاء: «أوه، ماري! أنتِ إذن …»

«السيدة كلافرينج، في خدمتكِ. أنا عروس، يا خالة.»

فتمتمتُ، وأنا أضمُّها إلى حضني بعاطفة قوية: «من دون عرسٍ.»

لم تُبالِ بمشاعري. ومستكينةً بالقرب مني، سمحَت لنفسها بأن تستسلم للحظة عاصفةٍ أجهشَت فيها بدموعٍ صادقة، قائلةً وسط نحيبها كلَّ ما هو شجي؛ وأخبرتني كم تحبني، وكيف أنني كنتُ الوحيدةَ في هذا العالم التي جَرُؤَت على أن تأتيَ إليها، في ليلة عرسها، لأهونَ عليها أو أهنئها، وكم كانت تشعر الآن بالخوف من أن كلَّ شيء قد انتهى، كما لو أنها قد تنازلت عن شيء ذي قيمة غالية باسمها.

سألتها، في جزع بالغ لعجزي عن أن أُسعِد هذين الحبيبين: «وألا يُعزي قلبكِ التفكير في أنكِ جعلتِ شخصًا ما أكثر الرجال زهوًا؟»

تنهدت قائلةً: «لا أعرف.» وأردفت: «أي سعادة يمكن أن ينالها مِن أن يشعرَ بأنه مرتبطٌ مدى الحياة بفتاةٍ جعلَتْه يرحل بهذه الطريقة، فتاةٍ سرعان ما ستفقد ثروتها المرتقبة؟»

قلت: «حدِّثيني عن ذلك.»

لكنها لم تكن في حالةٍ مزاجيةٍ تسمح بذلك في تلك اللحظة. فالإثارة التي كانت قد مرَّت بها في ذلك اليوم كانت تفوقُ احتمالها. بدا أن آلاف المخاوف تُحاصر عقلها. جالسةً القُرْفُصاء على الكرسي الصغير عند قدمَيَّ، عقدَت ذِراعيها وأعطى بريقٌ على وجهها جانبًا من لا واقعيةٍ غريبة على ثيابها الأنيقة. قالت: «كيف لي أن أُبقيَ الأمر سرًّا! الفكرة تُطاردني كل لحظة؛ كيف لي أن أبقي الأمر سرًّا!»

سألتها: «عجبًا، هل ثمة أي خطر من أن يُعرَف الأمر؟ هل رآكِ أو تبعكِ أحدٌ؟»

تمتَمَتْ: «لا، كل شيء سار على ما يُرام، ولكن …»

«أين الخطر، إذن؟»

«ليس بوسعي أن أُخمِّن؛ لكن بعض الأفعال مثل الأشباح. لن تختبئ؛ إنها تُعاود الظهور؛ وتثرثر؛ تُظهِر نفسها شِئْنا أم أَبَينا. لم أُفكر في هذا من قبل. كنتُ مجنونة، متهورة، قولي ما تشائين. لكن منذ أن حلَّ الليل، شعرت بشيءٍ يكتسحني مثل سحابةٍ كثيفةٍ من الدخان تخنق الحياة والشباب والحبَّ في قلبي. بينما كان ضوء النهار باقيًا كان بوسعي أن أحتملها؛ لكن الآن … آهٍ يا خالة، لقد فعلت شيئًا سيُبقيني في خوفٍ دائم. لقد تحالفتُ مع هلعٍ لا يفتر. لقد قضيتُ على سعادتي.»

كنت أشعر بذهولٍ عقد لساني.

«لمدة ساعتَين تصنَّعتُ السعادة. مرتديةً فستان العرس الأبيض، ومتوجةً بإكليلٍ من الزهور، كنتُ أُحيِّي أصدقائي كما لو كانوا ضيوفَ حفل الزفاف، وجعلت نفسي أصدق أن كل المجاملات التي أُتحِفتُ بها — وكانت كثيرة للغاية — كانت ببساطة عباراتِ تهنئةٍ كثيرةً بزواجي. لكن لم يكن ثمة جدوى من ذلك؛ إلينور كانت تُدرك أن لا جدوى من ذلك. فذهبت إلى غرفتها لتُصلي، أما أنا … فقد أتيت إلى هنا؛ لأرتميَ عند قدَمَي شخصٍ ما وأبكي، للمرة الأولى، وربما الأخيرة … فليرحَمْني الرب!»

نظرت إليها في انفعال خارج عن سيطرتي. قلت: «آه يا ماري، ألم أنجح، إذن، إلا في أن أجعلَكِ تعيسة؟»

لم تُجب؛ كانت منشغلة بالتقاط إكليل الزهور الذي سقط من شعرها على الأرض.

قالت أخيرًا: «لو لم أتعلم أن أحبَّ المال هكذا!» وتابعت: «لو أن بوسعي، مثل إلينور، أن أتطلع إلى مباهج الحياة التي كانت لنا منذ الطفولة على أنها لا تعدو أن تكون أمورًا ثانوية في الحياة، ومن السهل التخلي عنها أمام نداء الواجب أو المحبة! لو لم تكن المكانة الرفيعة والتملُّق والمقتنيات الأنيقة تعني لي الكثير؛ أو لو كان الحب، والصداقة، والسعادة في المنزل أمورًا أكثرَ قيمةً لديَّ! ليت كان بإمكاني أن أخطوَ خطوة واحدة من دون أن أجترَّ ورائي سلسلة من آلاف الرغبات المترفة. بوسع إلينور أن تفعل ذلك. مع ما بها من عجرفة كما هي غالبًا فيما يتصل بأنوثتها الفاتنة، ومن تكبر عندما تُمسُّ شخصيتها الرقيقة بوقاحة زائدة، عهدتها تجلس لساعات في عَلِيَّة صغيرة، باردة، سيئة الإضاءة، كريهة الرائحة، تُهدهِدُ طفلًا متسخًا على ركبتيها، وتُطعم بيدها عجوزًا نافدةَ الصبر لن يرضى أحدٌ آخر أن يلمسها. آهٍ، آهٍ! يتحدثون عن الندم وتغير الأحاسيس! ليت أحدًا أو شيئًا يُغيِّر أحاسيسي! لكن لا أمل في ذلك! لا أمل على الإطلاق في أن أكون أي شيء سوى ما أنا عليه: فتاة أنانية، عنيدة، ومادية.»

ولم تكن هذه الحالة المزاجية مجرد حالة عابرة. في تلك الليلة نفسها أفصحَت عن اكتشافٍ زاد من خوفها إلى حدِّ الهلع تقريبًا. لم يكن هذا سوى حقيقة أن إلينور كانت تُدون مذكرات يومية بما جرى في الأسابيع القليلة الماضية. صاحت، وهي تحكي لي هذه النقطة في اليوم التالي: «يا إلهي، أي أمانٍ يمكنني أن أشعر به ما دامت مذكراتها باقيةً أمام عيني كلما دخلت غرفتها؟ ولن توافق على التخلص منها، رغم أني بذلتُ قصارى جهدي حتى أُبين لها أنها خيانةٌ للأمانة التي أودعتها إياها. تقول إن هذا كلُّ ما لديها لتُظهره دفاعًا عن نفسها، إذا ما وجَّه لها عمُّها يومًا ما اتهامًا بخيانته وخيانةِ هَناءة العيش التي وفرها لها. وعدتني بأن تحتفظ بها في مكانٍ مغلق؛ لكن ما النفع الذي سيعود من ذلك؟! قد تحدث آلافُ المصادفات، وأيٌّ منها كفيلٌ بأن تُلقي بها بين يدَي عمي. لن أنعمَ بالأمان للحظةٍ وهذه المذكرات موجودة.»

حاولتُ أن أُخفف عنها بقولي إنه إذا كانت إلينور لا تحمل ضغينةً في نفسها، فمثل هذا الخوف لا مبرر له. لكنها لم تطمئنَّ بالًا، وإذ رأيتُها في حالة من الاضطراب الشديد، اقترحت أن يُطلَب من إلينور أن تضع هذه المذكرات في عهدتي إلى أن يأتي الوقت الذي تشعر فيه بالحاجة إلى استخدامها. لاقت الفكرة استحسانًا لدى ماري. فصاحت: «أجل، وسأضع شهادة زواجي معها، وبهذا أتخلص من خوفي كله دفعة واحدة.» وقبل أن تنقضي فترة بعد الظهر، كانت قد قابلت إلينور وأبلغتها بطلبها.

قوبل الطلب بالموافقة لكنه كان مرهونًا بشرط، وهو أنه لم يكن مسموحًا لي أن أُتلفَ أو أُسلِّم كل الورق أو أيًّا منه إلا بِناءً على طلبٍ مشترك من الاثنتين. وعليه أُحضر صندوق قصديري صغير وضِعت بداخله جميع الأدلة المتوفرة التي كانت تُثبت زواج ماري حينها، أي: شهادة الزواج، وخطابات السيد كلافرينج، والأوراق من مذكرات إلينور على النحو المشار إليه في هذه المسألة. بعد ذلك سُلِّم إليَّ بِناءً على الشرط الذي سبق أن ذكرتُه، وخبَّأته في خِزانةٍ بالطابق العلوي، حيث كان متروكًا على حاله حتى الليلة الماضية.

•••

وهنا توقفَت السيدة بيلدن، واحمرَّ وجهها بتألم، ورفعت عينَيها إلى عينيَّ بنظرةٍ امتزج فيها القلق والرجاء على نحوٍ يدعو إلى العجب.

قالت: «لا أدري ماذا ستقول، ولكن بدافعٍ من مخاوفي، أخرجتُ الصندوق من مخبئه الليلة الماضية وعلى الرغم من نصيحتك، أخذتُه من المنزل، وهو الآن …»

فأنهيتُ الجملة في هدوءٍ: «في حوزتي.»

لا أظن أني رأيتُها أكثرَ ذهولًا منها الآن، ولا حتى عندما أخبرتُها بموت هانا. صرخت: «مستحيل!» ثم صاحت: «تركتُه الليلة الماضية في الحظيرة المهجورة التي احترقت. لم أقصد سوى أن أُخفيه في الوقت الحالي، ولم يخطر ببالي مكانٌ أفضل منها لما كنتُ في عجلة من أمري؛ لأنه يُقال إن الحظيرة مسكونة — شنق رجلٌ نفسه هناك ذات مرة — ولا يذهب أحدٌ إلى هناك مطلقًا. أنا … أنا … لا يمكن أن يكون بحوزتك! إلا إذا …»

قلت: «إلا إذا وجدتُه وأخرجته قبل أن يلحق الدمارُ بالحظيرة.»

ازداد وجهها حُمرة. فقالت: «أكنتَ تتبعُني إذن؟»

قلت: «نعم». ثم، إذ شعرتُ أن وجهي قد احمرَّ، أسرعت بأن أضيف: «أنا وأنتِ، كنا نلعب أدوارًا غريبة وغيرَ مألوفةٍ لنا. في وقتٍ ما، عندما تصبح جميع هذه الأحداث المفزعةِ مجردَ حلمٍ من الماضي، سنطلب أن يعفوَ كلٌّ منَّا عن الآخر. لكن هذا لا يهمُّ الآن. الصندوق في أمان، وأنا متلهفٌ إلى أن أسمع بقية قصتكِ.»

بدا أن هذا هدَّأ من روعها، وبعد دقيقة واصلت حديثها:

ظهرت ماري على طبيعتها أكثر بعد ذلك. ومع أنني، بسبب عودة السيد ليفنوورث واستعداداتهم اللاحقة للمغادرة، لم أرَ إلا القليلَ من ذاتها، كان ما رأيته كافيًا لأن يجعلني أخشى من أنها، مع إخفاء الأدلة على زواجها، أخذت تُطلق العِنان لفكرة أن الزواج نفسَه قد أصبح باطلًا. لكن ربما أكون قد ظلمتها في هذه المسألة.

انتهت تقريبًا قصةُ تلك الأسابيع القليلة. عشية اليوم السابق لمغادرتها، جاءت ماري إلى منزلي لتودِّعني. كانت تحمل في يدها هدية لن أذكر قيمتها، لأني لم أقبلها، مع أنها أغرتني بأروعِ ما لديها من حِيَل. لكنها قالت شيئًا تلك الليلة لم أستطع أبدًا أن أنساه. كان ما يلي. كنت أتحدث عن أملي في أنه قبل أن يمضيَ شهران، ستجد نفسها في موقف يجعلها ترسل في طلب السيد كلافرينج، وأنه عندما يأتي ذلك اليوم فإني أرغبُ بأن أُبلَّغ به؛ وعندئذٍ قاطعَتني فجأة قائلةً:

«لن يقتنع عمي أبدًا، كما تصفين الأمر، ما دام على قيد الحياة. إذا ما كنتُ مقتنِعةً بهذا قبلئذٍ، فأنا متأكدةٌ منه الآن. لا شيء إلا موته سيجعلُ في الإمكان أن أرسل في طلب السيد كلافرينج.» ثم، إذ رأتني أبدو فزعةً من فترة الفراق الطويلة التي بدا أن هذا سيستغرقها، احمرَّ وجهها قليلًا وهمست قائلة: «المستقبل يبدو مُريبًا إلى حدٍّ ما، أليس كذلك؟ لكن إن كان السيد كلافرينج يُحبني، يمكن أن ينتظرني.»

قلت: «لكن عمك لم يتجاوز ربيعَ عمره إلا بقليلٍ ويبدو بصحةٍ قوية؛ سيستغرق الأمرُ سنواتٍ من الانتظار، يا ماري.»

تمتمَت: «لا أدري، لا أعتقد ذلك. عمي ليس قويًّا كما يبدو وكذلك …» ولم تنطق بأكثرَ من ذلك، ربما خوفًا من المسار الذي كان ينعطف إليه الحديث. لكن كان ثَمة تعبيرٌ على وجهها جعلني أُفكر حينها، وجعلني لا أتوقفُ عن التفكير منذ ذلك الحين.

لا يعني ذلك أن أيَّ خوف حقيقي من وقوع حدثٍ ما كالذي أثاره ما وقع منذ ذلك الحين، أثقلَ عليَّ وحدتي أثناءَ الأشهر الطويلة التي مرَّت حتى الآن. كنت مثلما أنا الآن واقعةً بشدة تحت تأثير سحر جمالها لدرجةٍ منعَتني من أن أسمح لأي شيء يمكن أن يؤثر على صورتها أن يظلَّ طويلًا في ذهني. لكن عندما، في وقتٍ ما في فصل الخريف، جاءني خطابٌ موجَّه إليَّ بصفةٍ شخصية من السيد كلافرينج، يفيض بتوسلٍ حارٍّ بأن أُخبره بأي خبرٍ عن المرأة التي، رغم وعودها، كتبت عليه أن يعيشَ في قلق قاسٍ، وعندما، في الليلة نفسها، حدثني صديق، كان قد عاد لتوه من نيويورك، عن لقائه بماري ليفنوورث في تجمعٍ ما، محاطةً بلفيفٍ من المعجبين، بدأت أدرك خطورة الموقف؛ ولهذا جلست، وكتبتُ لها خطابًا. لم يكن بالأسلوب الذي كنت قد اعتدتُ على أن أتحدث به إليها — فلم أستحضر أمامي عينيها المتوسلتَين ولا يديها المرتجفتين، مما كان يضلل رأيي ويبعده عن مساره الصحيح — وإنما أخبرتها، بصراحة وجدية، بما يشعر به السيد كلافرينج، وبالخطر الذي تعرض نفسها له بأن تمنع حبيبًا متلهفًا من حقوقه. وأذهلني الرد الذي أرسلته لي.

«لقد أقصيتُ السيد روبنز من حساباتي حاليًّا، وأنصحكِ بأن تفعلي الشيءَ نفسه. أما بشأن السيد المحترم نفسه، فقد أخبرتُه بأنني عندما أتمكن من استقباله، سأحرص على إخطاره بذلك. ذلك اليوم لم يأتِ بعد.»

ثم أضافت في الحاشية: «لكن لا تُحبطيه. عندما يحظى بسعادته، ستكون سعادةً تُرضيه.»

فكَّرت في نفسي قائلةً «عندما». آه، إن «عندما» هذه هي التي من المحتمل أن تُقوِّض كل شيء! لكن، عازمةً فحسبُ على النزول على رغبتها، جلست وكتبت خطابًا إلى السيد كلافرينج، ذكرت فيه ما قالته، ورجوته أن يصبر، مضيفةً أنني سأُطلعه بكلِّ تأكيد إن حدث أيُّ تغيير لدى ماري أو في ظروفها. وبعد أن أرسلته إلى عنوانه في لندن، انتظرت تطور الأحداث.

ولم يتأخر وقوعها. في غضون أسبوعين سمعت بالموت الفجائي للسيد ستيبنز، القسِّ الذي تولَّى عقد زواجهما؛ وبينما كنت أرزَحُ تحت وطأةِ الكرب الذي سبَّبتْه هذه الصدمة لي، أذهلني أيضًا أن أرى في صحيفة نيويوركية اسم السيد كلافرينج ضمن قائمة الوافدين إلى فندق هوفمان؛ وهو ما أظهر أن خطابي إليه قد فشل في إحداث الأثرِ المقصود، وأن الصبر الذي كانت ماري قد اعتمدَت عليه بلا بصيرة منها كان مُشْرِفًا على نهايته. ومن ثَمَّ لم أندهش مطلقًا عندما جاء، في غضون أسبوعين أو نحو ذلك، خطابٌ منه على عنواني، نتيجةً للحذف المستهتر للعلامة الخاصةِ على الظرف، ففتحته، وقرأت ما يكفي لأن أعرف أنه، مدفوعًا نحو اليأس بسببِ الإخفاقات المتوالية التي كان قد تعرَّض لها في جميع محاولاتِه للوصولِ إليها في نطاقٍ عام أو خاص، وهي إخفاقات لم يخجل من أن يُرجع السببَ فيها إلى نفورها من رؤيته، كان قد قرَّر أن يُخاطر بكل شيء، حتى سخطها؛ وبالتقدم بالتماسٍ إلى عمها، يضعُ حدًّا، على نحوٍ قطعي وفي الحال، لهذا القلق الذي كان يرزحُ تحت وطأته. كتب يقول: «أُريدكِ سواءٌ بمهر أو بدونه، فهذا لا يُشكل فارقًا كبيرًا عندي. إن لم تأتِي طوعًا، فلا بد أن أحذوَ حذو الفرسان الشجعان، أجدادي؛ سأقتحم القلعة التي أنتِ محتجَزةٌ فيها، وسأحملك بالقوة بين ذراعيَّ.»

لا يمكنني القول إني تفاجأت كثيرًا، لمعرفتي بماري كما عهدتها، عندما أرسلت إليَّ، في غضون أيام قليلة من هذا، خطابًا لأنسخ لها هذا الرد: «إن كان السيد روبنز يتوقَّع أن يكون سعيدًا مع إيمي بيلدن، فعليه أن يُعيد النظر في نبرة الإصرار التي يتحدَّث بها. لأنه بهذا التصرف لن ينجحَ فحسب في تدمير سعادة من يقرُّ بحبه لها، بل سيُعرض نفسه لخطر أن يفسد فعليًّا الحبَّ الذي يجعل الرابطة بينهما قويَّة.»

لم يكن لهذا الخطاب تاريخٌ ولا توقيع. كان صرخةَ التحذير التي تُطلقها إنسانةٌ شجاعة، مستقلةٌ بذاتها عندما تصبح في موقف تُضطرُّ فيه إلى الدفاع عن نفسها. هذا الخطاب جعلني أنا نفسي أنكصُ فزعًا، رغم أنني كنت أعرف من البداية أن عنادها الجذابَ لم يكن سوى الزَّبَدِ الطافي فوق أعماقٍ لا حد لها من عزم قاسٍ وغاية مدروسة إلى أبعد حد.

لم يكن بوسعي سوى تخمينِ أثر ذلك فعليًّا عليه وعلى مصيرها. كل ما أعرفه هو أنه بعد أسبوعين عُثِر على السيد ليفنوورث مقتولًا في غرفته، وأتت هانا تشيستر، مباشرةً إلى بابي فرارًا من مشهد العنف، وتوسلَت إليَّ لأستقبلها وأُخفِيَها من الاستجواب العام، لأني كنت أحبُّ ماري ليفنوورث وأرغب أن أقدم معروفًا لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤