الفصل الرابع والثلاثون

السيد جرايس يستعيد سيطرته

وأن يَغلب هيرود.

مسرحية «هملت»

خدعة اختلقها العدو.

مسرحية «ريتشارد الثالث»

مرَّت نصف الساعة. وكان قد وصل القطار الذي كان لديَّ من الأسباب ما يجعلني أنتظر وصول السيد جرايس فيه، ووقفت في المدخل منتظرًا في اضطرابٍ يفوق الوصفَ الاقترابَ المتمهلَ والمتثاقل لمجموعةٍ تضم مزيجًا متنوعًا من الرجال والنساء الذين لاحظتهم يُغادرون المحطة مع مغادرة العربات. هل من الممكن أن يكون موجودًا بينهم؟ هل كانت طبيعة البرقية حاسمة بما يكفي لتجعل حضوره إلى هنا، وهو مريضٌ كما تركته، يقينًا قاطعًا؟ كان اعتراف هانا المكتوب يهتزُّ من أثر ضربات قلبي، القلب الذي كان ينتشي فرحًا الآن، بعد أن كان منذ نصف الساعة فحسب مفعمًا بالشكِّ والصراع، وبدا أنه أثار بداخلي رِيبة، وتصاعد أمامي احتمالُ أن أقضيَ نهارًا طويلًا في ضجرٍ، عندما انعطف جزءٌ من الحشد السائر إلى شارعٍ جانبي، ورأيت السيد جرايس يعرج، ليس على عكازَيه، وإنما متألمًا جدًّا على عكازٍ واحد، ويسير على مهل في الشارع.

كان وجهه، وهو يقترب، لافتًا للنظر.

صاح، لمَّا التقَينا عند البوابة: «حسنًا، حسنًا، حسنًا، هذه تحية لا بد أن أُلقيَها أشبهُ بالسؤال عن أخبارك. هانا ماتت، صحيح؟ وكل شيء انقلب رأسًا على عقب! همم، ما ظنُّك بماري ليفنوورث الآن؟»

لذلك قد يبدو طبيعيًّا، في الحوار الذي دار بيننا بعد دخوله المنزلَ وجلوسه في غرفة جلوس السيدة بيلدن، أن أبدأ حديثي بتقديم اعترافِ هانا؛ لكن هذا لم يحدث. سواءٌ لأنني كنتُ حريصًا على أن أجعله يمرُّ بنفس الأحاسيس المتقلبة بين الخوف والرجاء التي كان من نصيبي أن أشعر بها منذ أن جئت إلى «ر…»؛ أو ما إذا كان لا يزال، في الجانب الفاسد من الطبيعة البشرية، يقبعُ بداخلي استياءٌ كافٍ من التجاهل المستمر الذي كان يُقابل به دائمًا شكوكي في هنري كلافرينج ليجعلَني في لحظةٍ أكشفُ له ما لديَّ من معلومات في الوقت الذي يبدو أن إدانته وصلت إلى مرحلة اليقين التام، لكن لا يُمكنني أن أجزم. يكفي أنني لم أسمح لنفسي أن أُسلمه الخطابَ الذي قد أخذته من أسفلِ جثمان هانا قبل أن أعطيه تفاصيلَ كاملةً عن جميع الأمور الأخرى المتعلقة بإقامتي في هذا المنزل؛ وليس قبل أن أرى بريقَ عينيه، وارتجافَ شفتَيْه مع الإثارة الناجمة عن قراءة الخطاب المرسَل من ماري، الذي عُثِر عليه في جيب السيدة بيلدن؛ وفي الواقع، لم يحدث ذلك إلا بعد أن أصبحت متأكدًا نتيجةَ تعبيراتٍ على شاكلة «هائل! اللعبة الأخطر في هذا الموسم! لا شيء مثل هذا منذ قضية لافارج!» أنه سينطق بفرضيةٍ أو قناعةٍ لديه إن أعلنَ عنها ستقفُ إلى الأبد كحائلٍ بيننا.

لن أنسى أبدًا تعبير وجهه وهو يتسلَّم ذلك الخطاب؛ إذ صاح قائلًا: «يا إلهي! ما هذا؟»

«اعترافٌ من الفتاة هانا وهي على فِراش الموت. وجدته مُلقًى على فراشها عندما صعدت لأعلى، منذ نصف ساعة، لأُلقيَ نظرةً ثانية عليها.»

بعدما فتَحه، قرأه بإحساسٍ متشكك، لكنه سرعان ما تحول إلى ذهولٍ بالغ، وهو يُطالعه في عجالة، ثم وقف يُقلبه في يده مرة تلو الأخرى، وهو يتفحصه.

علَّقت، بإحساسٍ معيَّن بالانتصار: «دليلٌ مدهش؛ سيُغير مجرى الأمور تمامًا!»

أجاب بحدة: «أتظن ذلك؟» ثم، بينما كنتُ واقفًا أحدِّق فيه في ذهول؛ إذ كان أسلوبه مغايرًا تمامًا لما كنت أتوقعُه، رفع بصره لأعلى وقال: «قلتَ لي إنك عثرتَ عليه في فراشها. في أي مكانٍ في فراشها؟»

أجبتُه: «تحت جسد الفتاة نفسها.» وأردفت: «رأيتُ طرفًا منه بارزًا من أسفل كتفها، فسحبته وأخرجته.»

جاء ووقف أمامي. «أكان مطويًّا أم مفتوحًا، عندما رأيته لأول مرة؟»

«مطويًّا، بداخل هذا الظرف»، وأَرَيْته إياه.

فأخذه، ونظر إليه لبرهةٍ، ثم واصل طرح أسئلته.

«هذا الظرف مجعَّد جدًّا، وكذلك الخطاب نفسه. أكانا على تلك الهيئة لمَّا عثرت عليهما؟»

«نعم، وليس هذا فحسب، بل كانا مَثنيَّين كما ترى.»

«مثنيَّان؟ هل أنت متأكد من ذلك؟ طُوي، ثم أُغلِق الظرف عليه، ثم ثُني كما لو أن جسدها تدحرج عليه وهي على قيد الحياة؟»

«أجل.»

«ألا توجد خدعةٌ في الأمر؟ ألا يبدو كما لو أنه دُس تحتها عند وفاتها؟»

«إطلاقًا. من الأحرى أن أقول إنَّ هيئتها كانت تدلُّ على أنها كانت تُمسك به في يدها حالما رقدت على السرير، لكن عندما انقلبَت، سقط منها ثم استقرَّ جسدُها عليه.»

تعكَّر صفوُ عينَي السيد جرايس، اللتَين كانتا تلمعان بشدة، بما يُنذر بالسوء؛ بدا جليًّا أن إجاباتي قد أحبطَته. بعدما وضع الخطاب، وقف مستغرقًا في التفكير، لكنه فجأةً رفعه مرةً ثانية، متفحصًا حواف الورقة التي كُتب عليها، ورمقني بنظرةٍ خاطفة، ثم اختفى بعدها في ظل ستارة النافذة. كان أسلوبه غريبًا جدًّا، فنهضتُ لا إراديًّا لأتبعه؛ لكنه أشار إليَّ بالرجوع، قائلًا:

«تسَلَّ بذلك الصندوق على الطاولة، الذي أبديتَ صخبًا كبيرًا بشأنه؛ وتفقَّدْ إن كان بداخله كلُّ ما يحقُّ لنا أن نتوقعه فيه. أريد أن أختليَ بنفسي للحظةٍ.»

مسيطرًا على ذهولي، شرَعتُ في تنفيذ طلبه، لكن لم أكد أرفع غِطاء الصندوق أمامي حتى عاد مسرعًا، ورمى الخطاب على الطاولة في انفعالٍ شديد، وصاح قائلًا:

«هل قلتُ إنه لم يكن ثمة أيُّ شيءٍ مثل هذا مطلقًا منذ قضية لافارج؟ أقول لك إنه لم يكن ثمة أي شيءٍ مثل هذا أبدًا في أي قضية. إنها أغربُ قضيةٍ في السجلات! يا سيد ريموند»، ثم فعليًّا التقَتْ عيناه، أثناء انفعاله، بعينيَّ لأولِ مرةٍ منذ عملي معه، وقال: «هيِّئ نفسك لخيبةِ أمل. اعتراف هانا المزعوم هذا ما هو إلا خدعة!»

«خدعة؟»

«نعم؛ خدعة، تزوير، سمِّه ما شئت؛ لم تكن الفتاة هي من كتبته مطلقًا.»

وثبتُ من الكرسي من الذهول، والغضبِ تقريبًا. وصحتُ: «كيف عرَفتَ ذلك؟»

مال إلى الأمام، ووضع الخطاب في يدي. وقال: «انظر إليه؛ ودقِّق فيه عن كثب. والآن أخبرني ما أولُ شيء لاحظتَه بشأنه؟»

«عجبًا، أول شيءٍ لفتَ نظري، أن الكلمات مكتوبةٌ بحروفٍ متفرقةٍ لا متشابكةٍ؛ وهو شيءٌ ربما يكون متوقعًا من هذه الفتاة، حسبَ جميع الروايات.»

«ثم ماذا؟»

«وأنَّ هذه الحروف مكتوبةٌ على صفحةٍ من ورق عادي …»

«ورق عادي؟»

«نعم.»

«أي صفحة من دفتر تِجاري من جودةٍ عادية.»

«بالتأكيد.»

«لكن هل هو كذلك بالفعل؟»

«عجبًا، نعم؛ يمكنني أن أقول ذلك.»

«انظر إلى السطور.»

«ماذا فيها؟ آه، أرى أنها تصل إلى أعلى الصفحة؛ من الواضح أنه استُخدم مقص هنا.»

«باختصار، هذه صفحةٌ كبيرة، قُصَّت حتى تصبح بحجم الدفتر التِّجاري، صحيح؟»

«نعم.»

«وهل هذا كل ما تراه؟»

«هذا كل شيء ما عدا الكلمات.»

«ألا تدرك العنصر المفقود بقص هذه الورقة؟»

«لا، إلا إذا كنت تقصد ختم المصنع في الزاوية.» نظر السيد جرايس نظرةً ذات مغزًى. وأضفتُ: «لكني لا أرى سببًا يستدعي أن يكون غياب ذلك الختم أمرًا يمثِّل أي أهمية.»

«ألا ترى سببًا؟ ولا عندما تفكر في أنه بذلك يبدو أننا حُرِمنا من أي فرصة لتتبع مِن أي رزمة ورقٍ أُخِذَت هذه الورقة؟»

«نعم.»

«همم! إذن أنت هاوٍ أكثر مما كنتُ أحسبُك. ألَا ترى أنه، مع غياب أي دافعٍ كان يمكن أن يحمل هانا على إخفاء مصدر الورق الذي كتبَت عليه كلماتها الأخيرة، لا بد أن يكون شخصٌ آخر هو مَن أعدَّ هذه الورقة؟»

قلت: «نعم؛ لا يمكنني أن أقول إنني أرى كل ذلك.»

«لا يمكنك! حسنًا إذن، أجبني عن هذا السؤال. ما الذي يدعو هانا، وهي فتاةٌ على وشك الانتحار، إلى أن تهتمَّ بوجود أي دليل، في اعترافها، على المكتب، أو الدرج، أو رزمة الورق الفعلية التي أُخِذَت منها هذه الورقة، التي كتبت عليها اعترافها؟»

«ما كانت ستهتمُّ بذلك.»

«ومع ذلك بُذِل جهدٌ مُضنٍ للتخلُّص من ذلك الدليل.»

«لكن …»

«ثم ثَمة شيء آخر. اقرأ الاعتراف نفسَه، يا سيد ريموند، وأخبرني بما تستخلصه منه.»

قلت، بعدما انصعتُ لطلبه: «عجبًا، أرى أن الفتاة، بعد أن أنهكَها فزعٌ لا ينتهي، استقر عقلها على أن تضع حدًّا لهذا، وأن هنري كلافرينج …»

«هنري كلافرينج؟»

طُرح السؤال بمغزًى كبير، فرفعت ناظريَّ. وقلت: «نعم.»

فقال: «أه، لم أعلم أن اسم السيد كلافرينج كان مذكورًا في الخطاب؛ اعذرني.»

«اسمه ليس مذكورًا، ولكن أُعطي وصف ينطبق عليه بشكلٍ مدهش …»

وهنا قاطعني السيد جرايس. وقال: «ألا يبدو هذا مفاجئًا لك قليلًا أن فتاةً مثل هانا توقفَت لتصفَ رجلًا تعرفه باسمه؟»

أجفلتُ مِن قوله؛ لم يكن هذا طبيعيًّا بالتأكيد.

«أنت تصدق رواية السيدة بيلدن، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«أتظنها كانت دقيقةً في روايتها لِما حدث هنا منذ عام؟»

«أجل، أظن ذلك.»

«إذن لا بد أنك تصدِّق أن هانا، الوسيطة، كانت تعرف السيد كلافرينج واسمه؟»

«بلا شك.»

«إذن لماذا لم تستخدم اسمه؟ إن كانت نيتها، حسب اعترافها هنا، أن تُنقذ إلينور ليفنوورث من الاتهام الباطل الذي وجِّه إليها، فمن الطبيعي أن تلجأ لأكثر الطرق مباشرةً لفعل ذلك. إن هذا الوصف لرجلٍ كان بوسعها أن تُزيل الشكَّ عن هُويته بذكر اسمه في الحال ليس عملًا من صنيع فتاةٍ جاهلةٍ فقيرة، وإنما شخص ما، حاول أن يتقمَّص «دور» تلك الفتاة، ففشل فشلًا واضحًا. لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. أقرَّت السيدة بيلدن، حسَب كلامك، أن هانا أخبرتها، عند دخولها المنزل، أن ماري هي مَن أرسلَتْها إلى هنا. لكن في هذه الوثيقة، تُقرُّ هانا بأن مَن أرسلها هو الرجل ذو الشارب الأسود.»

«أعرف؛ ولكن ألَا يمكن أن يكون الاثنان مشتركَين في الفعل؟»

قال: «بلى؛ ولكن الموقف يكون دومًا مريبًا، عندما يوجد تضاربٌ بين الإقرار المكتوب والمنطوق لأحد الأشخاص. لكن لماذا نقف هنا ونُضيع الوقتَ، بينما من المحتمل لكلماتٍ قليلةٍ من السيدة بيلدن، التي تتحدث عنها كثيرًا، أن تحسم الأمر برُمته؟!»

كرَّرت: «كلمات قليلة من السيدة بيلدن.» وأضفت: «لقد أخذتُ منها آلاف الكلمات اليوم، وأجد أن القضية ليسَت أقربَ إلى أن تُحسم مما كانت عليه في البداية.»

قال: ««أنت» مَن فعل، أما أنا فلم أفعل. اطلب منها الحضور إلى هنا، يا سيد ريموند.»

نهضتُ. وقلت: «ثمة أمر واحد قبل أن أذهب. ماذا لو كانت هانا قد عثرَت على هذه الورقة مقصوصةً، كما هي الآن، واستخدمَتها من دون أن تُفكر في أن ذلك قد يثير الشكوك؟!»

قال: «أها! هذا تحديدًا ما سنكتشفه.»

كانت السيدة بيلدن في حالة من نفاد الصبر عندما دخلتُ غرفة الجلوس. متى ظننت أن محقِّق الوفيَات سيأتي؟ وماذا كان تصوُّري عمَّا سيفعله هذا المحقق معنا؟ كان من المخيف أن تظلَّ وحدها هناك تنتظر شيئًا لا تعرف طبيعته.

هدَّأتُ من روعها قدرَ الإمكان، وأخبرتُها أن المحقق لم يُبلغني بعدُ بما يمكنه فعله؛ إذ كان لديه بعضُ الأسئلة التي يودُّ أن يطرحها عليها أولًا. سألتها إن كانت تسمح بأن تأتيَ لتقابله. فنهضَت في خفَّةٍ. فأي شيءٍ كان أفضل من الترقُّب في قلق.

استقبل السيد جرايس، الذي كان خلال مدة غيابي القصيرة قد عدَّل حالته المزاجية من الصرامة إلى الرحمة، السيدةَ بيلدن استقبالًا لطيفًا مهذبًا ربما يستهوي سيدةً مثلها تعتمد على حسن ظن الآخرين.

صاح، وهو ينهض جزئيًّا بأسلوبِه الحماسيِّ ليُرحب بها: «آه! ها هي السيدة التي حدَثَت في منزلها تلك الواقعةُ البشعة.» وسألها: «أيمكنني أن أطلبَ منكِ الجلوس؛ إن جاز لغريبٍ أن يسمح لنفسه بأن يدعوَ سيدةً إلى أن تجلس في منزلها؟»

قالت، لكن بنبرةٍ حزينة أكثرَ من كونها عدائية؛ إذ كان لكياسته وقعٌ كبير عليها: «لم يعُد يبدو كمنزلي.» وأضافت: «فأنا هنا أُعامل مثل السجينة؛ آتي وأذهب، أصمت وأتكلَّم، حسبما يُطلَب مني؛ وكل هذا بسبب إنسانةٍ تعيسة، استقبلتُها لدوافع لا تمتُّ إلى الأنانية بِصلة، وتصادف أن تموت في منزلي!»

صاح السيد جرايس: «فعلًا! هذا ظلمٌ بَيِّن. لكن ربما يمكننا أن نُصحِّح الأمور. لديَّ من الأسباب ما يجعلني أُصدق أنه بإمكاننا أن نفعل ذلك. فموتها المفاجئ يجب أن يُفَسَّر سببه بسهولة. قلتِ إنه لا يوجد لديكِ أيُّ سمٍّ في المنزل؟»

«لا، يا سيدي.»

«وإن الفتاة لم تخرج من المنزل مطلقًا؟»

«مطلقًا، يا سيدي.»

«ولم يأتِ أي أحدٍ إلى هنا من قبل لمقابلتها؟»

«لا أحد، يا سيدي.»

«ومن ثَمَّ لم يكن بإمكانها أن تُحضر أيَّ شيءٍ مثل هذا إذا كانت تريد ذلك؟»

«لا، يا سيدي.»

فأضاف بلطفٍ: «إلا إذا كان معها عندما جاءت إلى هنا؟»

«لا يمكن أن يكون ذلك قد حدث، يا سيدي. فهي لم تأتِ بأي حقيبة؛ أما عن جيبها، فأعرف كل ما كان بداخله؛ لأني ألقيتُ نظرةً على ما فيه.»

«وماذا وجدتِ فيه؟»

«نقود ورقية، أكثر مما يمكنك أن تتوقع أن تحمله فتاةٌ مثلها، وبعض السنتات، ومنديل عادي.»

«حسنًا، إذن، ثبُت أن الفتاة لم تمُتْ بالسم؛ إذ إنه لم يكن يوجد أيٌّ منه في المنزل.»

قال ذلك بنبرةٍ مقتنعةٍ جدًّا حتى إنها انخدعَت بها.

قالت وهي ترمقني بنظرة انتصار: «ذلك ما أخبرتُ به السيد ريموند.»

فتابع قائلًا: «لا بد أنها كانت تُعاني من علةٍ في القلب، أتقولين إنها كانت بصحة جيدة أمس؟»

«أجل، سيدي؛ أو كانت تبدو كذلك.»

«لكنها لم تكن سعيدة؟»

«لم أقل ذلك؛ كانت سعيدة للغاية، يا سيدي.»

قال: «ماذا، يا سيدتي، هذه الفتاة؟» وهو يرمقني بنظرةٍ. وتابع: «لا أفهم ذلك. أظن أن قلقها على مَن تركتهم في المدينة كان كفيلًا بأن يجعلها أبعدَ ما تكون عن السعادة.»

أجابت السيدة بيلدن: «أنت محق؛ لكنها لم تكن كذلك. على العكس، لم تبدُ قلقةً عليهم على الإطلاق.»

«ماذا! ولا على الآنسة إلينور، التي، بحسب الصحف، تقفُ في وضعٍ سافرٍ أمام العالم؟ لكن لعلها لم تكن تعرف أيَّ شيء عن ذلك … أقصد عن وضع الآنسة إلينور؟»

«لا، كانت تعرف، لأني أخبرتها. كنت في غاية الذهول لدرجة أني عجزتُ أن أحتفظ بالأمر لنفسي. كما ترى، كنت دائمًا أنظر إلى إلينور على أنها أسمى من أن تُلام، وصُدِمتُ من أن أرى اسمها يُذْكَر فيما يخص القضية، فذهبتُ إلى هانا وتلوتُ عليها المقال، وراقبتُ وجهها لأرى كيف استقبلت الأمر.»

«وكيف استقبلته؟»

«لا يمكنني أن أجزم. نظرَت إليَّ وكأنها لم تفهم؛ وسألتني لِماذا أقرأُ عليها مثل هذه الأخبار، وأخبرتني أنها لا ترغب في سَماع المزيد؛ وأنني كنت قد وعدتها بألا أزعجها بأي شيء عن هذه الجريمة، وأني إذا تابعتُ في ذلك فلن تُنصت لي.»

«همم! وماذا أيضًا؟»

«لا شيء سوى ذلك. وضعت يديها على أذنيها وقطبت جبينها بأسلوبٍ متجهم، فغادرتُ الغرفة.»

«متى كان ذلك؟»

«منذ ثلاثة أسابيع تقريبًا.»

«ولكن هل أثارت الموضوعَ منذ ذلك الوقت؟»

«لا، يا سيدي؛ ولا مرة.»

«ماذا! ألم تسأل عما سيفعلونه مع سيدتها؟»

«نعم، يا سيدي.»

«هل أظهرَت، مع ذلك، أن شيئًا ما كان يُسيطر على عقلها … خوف، أو وخز ضمير، أو قلق؟»

«لا، يا سيدي، على النقيض، كانت معظمَ الوقت تبدو وكأنها شخص يُخفي سعادته.»

صاح السيد جرايس، وهو يرمقني بنظرةٍ جانبية: «ولكن، ذلك كان غريبًا وغير طبيعي. لا أجد له مبررًا.»

«ولا أنا، يا سيدي. اعتدت أن أفسره بأن أظن أنَّ مشاعرها قد تبلدت، أو أنها كانت أغبى من أن تفهمَ خطورةَ ما حدث؛ لكن بعدما تمكنت من التعرف عليها بشكل أفضل، غيرت رأيي شيئًا فشيئًا. كان ثمة قدرٌ كبير جدًّا من المنهجية في فرحها مما ينفي أن تكون كذلك. لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أرى أنه كان أمامها مستقبلٌ تستعدُّ له. لأنها، على سبيل المثال، سألتني ذات مرة إن كنتُ أظن أن بإمكانها أن تتعلمَ العزف على البيانو. وفي النهاية توصلتُ إلى استنتاج مفاده أنها كانت قد وُعِدَت بمبلغٍ من المال إن هي تكتمَت على السر الذي اؤتُمِنَت عليه، وكنت سعيدةً باحتمال أن تكون قد نسيت الماضي المروِّع، وكل ما كان له صلةٌ به. على كل حال، كان ذلك هو التفسير الوحيد الذي استطعتُ أن أتوصل إليه لمثابرتها بوجه عام ورغبتها في تحسين حالها، أو لابتسامات الرضا التي كنت ألمحها من حين لآخر تتسلَّل إلى وجهها عندما لم تكن تعرف أني كنت أنظر إليها.»

أجزم بأنه لا يوجد مثيلٌ للابتسامة التي تسللت إلى وجه السيد جرايس في تلك اللحظة.

واصلت السيدة بيلدن حديثها: «كان كلُّ هذا هو ما جعل موتها صدمة لي. لم أستطع أن أُصدق أن هذه الإنسانة المرحة والطيبة يمكن أن تموت هكذا، في ليلة واحدة فحسب، دون أن يدريَ أي أحد بأي شيء عما حدث. لكن …»

قاطعها السيد جرايس: «انتظري لحظة. تحدثتِ عن محاولاتها أن تُحسن من نفسها. ماذا تقصدين بذلك؟»

«رغبتها في أن تتعلم أشياء لم تكن تعرفها؛ على سبيل المثال، أن تتعلم الكتابة والقراءة. لم يكن بإمكانها سوى أن تكتب حروفًا متفرقةً من دون إتقان لمَّا جاءت إلى هنا.»

أظن أن السيد جرايس كان سينتزع قطعةً من ذراعي، عندما أمسك به بقوة.

«لمَّا جاءت إلى هنا! هل تقصدين أن تقولي إنها تعلمت الكتابة عندما كانت معكِ؟»

«أجل، سيدي؛ اعتدت أن أُصحح ما تنسخه و…»

قاطعها السيد جرايس، مخفضًا صوته ليبدوَ أكثرَ مهنية: «أين هذه النسخ؟ وأين محاولاتها في الكتابة؟ أريد أن أرى بعضًا منها. ألا يمكنُكِ أن تُحضريها لي؟»

«لا أعرف، يا سيدي. كنت أتخلص منها دائمًا بمجرد أن ينتهي الغرضُ منها. لم أحبذ أن توجد مثل هذه الأشياء حولي. لكني سأذهب لأرى.»

قال: «افعلي ذلك من فضلكِ؛ وسآتي معكِ. أريد أن ألقيَ نظرةً على الأشياء في الأعلى، على أي حال.» ودون مبالاة بقدمَيْه المصابتَين بالروماتيزم، نهض وتهيَّأ لمرافقتها.

قلتُ بصوتٍ هامس، وهو يمر بجانبي: «الأحداث تزداد إثارةً.»

كان من شأن الابتسامة التي منحها لي ردًّا على ما قلتُه أن تجنيَ له ثروة مثل ممثلٍ مسرحي يؤدي دور الشيطان.

لم أنطق بشيء طوالَ العشر الدقائق من القلق التي تحمَّلتُها في غيابهما. وفي نهاية تلك المدة عادا وأيديهما مليئة بصناديق ورق، ألقوها على الطاولة.

علَّق السيد جرايس قائلًا: «ورق الكتابة الموجود في المنزل؛ كل قصاصة وأنصاف الورق التي يمكن العثور عليها. لكن، قبل أن تُعاينَها، انظر إلى هذه الورقة.» ثم أخرج ورقة فولسكاب مائلة إلى الزرقة، مكتوبًا عليها عشراتُ العبارات التي كانت تُحاكي العبارة التي عفا عليها الزمن التي تقول: «كن صالحًا وستعيش سعيدًا»؛ وعبارتي «الجمال باطل» و«المعاشرات الرَّديَّة تُفسد الأخلاق الجيدة.»

«ما رأيك في هذا؟»

«مكتوبٌ بإتقانٍ ووضوح شديد.»

«هذا أحدثُ ما كتبته هانا. النماذج الوحيدة التي يمكن العثورُ عليها لكتابتها. لكنها لا تُشبه الخطَّ الرديء الذي رأيناه، صحيح؟»

«لا.»

«تقول السيدة بيلدن إن هذه الفتاة تعلمت الكتابة بهذا القدر من الإجادة منذ أكثرَ من أسبوع. كانت تفتخر جدًّا بذلك، وكانت تتحدث باستمرارٍ عن كم كانت ذكية.» مال ناحيتي، وهمس في أذني: «هذا الاعتراف الذي في يدَيْك لا بد أنه كُتب بغير إجادةٍ منذ مدة، إن كانت هي مَن كتبته.» ثم قال بصوتٍ عالٍ: «لكن لنُلقِ نظرةً على الورق الذي كانت تستخدمه لتكتب عليه.»

أسرع بفتح أغطيةِ الصناديق التي وُضعت على الطاولة، وأخذ الورق المتفرق الذي كان موضوعًا بالداخل، وبعثره أمامي. اتضح من النظرة الأولى أن الورق كلَّه كان ذا جودةٍ مغايرة تمامًا لما في الورق المستخدَم في كتابة الاعتراف. فقال: «هذا هو كل الورق الموجود في المنزل.»

سألتُ، ناظرًا إلى السيدة بيلدن، التي كانت تقف أمامنا في حيرةٍ نوعًا ما: «هل أنتِ متأكدةٌ من ذلك؟ ألم يكن هناك ورقةٌ واحدة موجودة في مكانٍ ما، فولسكاب أو شيء من هذا القبيل، ربما حَصَلَت عليه واستخدمَتْه من دون علمك؟»

«لا، يا سيدي؛ لا أظن ذلك. لم يكن لديَّ سوى هذه الأنواع؛ إضافةً إلى أن هانا كان لديها كومةٌ كاملة من ورقٍ مثل هذا في غرفتها، فلم تكن بحاجةٍ إلى أن تبحثَ هنا أو هناك عن أي أوراق متناثرة.»

قلت، وأنا أُريها الجزءَ الفارغ من ورقة الاعتراف: «لكنكِ لا تعلمين ما قد تفعله فتاةٌ مثل هذه. انظري إلى هذه الورقة. أمن الممكنِ أن تكون ورقةٌ كهذه قد جاءَت من مكانٍ ما في هذا المنزل؟ دقِّقي النظر فيها؛ فالأمر خطير.»

«لقد فعلتُ، وأؤكد، لا، لم يكن لديَّ مطلقًا مثلُ هذه الورقة في منزلي.»

تقدَّم السيد جرايس تجاهي وأخذ الاعترافَ من يدي. بينما كان يفعل ذلك، همس إليَّ: «ما رأيك الآن؟ أما زالت توجد احتمالاتٌ كثيرة أن تكون هانا هي من كتبت هذه الوثيقة المهمة؟»

هزَزتُ رأسي نفيًا، بعد أن اقتنعت أخيرًا؛ لكن بعد لحظة أخرى استدرتُ وهمست إليه قائلًا: «لكن، إن لم تكن هانا هي من كتبتها، فمن؟ وكيف وصلت إلى المكان الذي عُثر عليها فيه؟»

قال: «هذا تحديدًا ما تبقى لنا أن نكتشفه.» وبدأ من جديدٍ يُوجِّه سؤالًا تلو الآخَر بخصوص حياة الفتاة في المنزل، ولم تكن الإجابات التي تلقَّاها تنحو إلا إلى إظهار أنه لم يكن من الممكن أن تكون قد أحضرَت الاعترافَ معها، فضلًا عن أن تتسلَّمه من مبعوثٍ سري. ما لم نتشكَّك في كلام السيدة بيلدن، فإن اللغز بدا صعبَ الفهم، وكنت على شفا أن أيئسَ من النجاح في حله، عندما مال السيد جرايس ناحية السيدة بيلدن، موجهًا لي نظرةَ ارتياب، وقال:

«سمعتُ أنكِ تسلمتِ خطابًا من الآنسة ماري أمس.»

«أجل، يا سيدي.»

واصل كلامه، وهو يُريها إياه: «هذا الخطاب؟»

«نعم، يا سيدي.»

«والآن أريد أن أسألكِ سؤالًا. أكان الخطاب، كما ترينه، هو الشيءَ الوحيد في الظرف الذي جاء فيه؟ ألم يكن مرفقًا معه خطابٌ لهانا؟»

«لا، سيدي. لم يكن يوجد أي شيء يخصها في ظرفي؛ وإنما كان لديها ظرفٌ أمس. جاء مع نفس البريد الخاص بي.»

صِحنا معًا: «هانا تلقت خطابًا! وفي البريد؟»

«أجل؛ لكنه لم يكن موجهًا لها. بل كان …»، رمقَتْني بنظرةٍ تفيضُ باليأس وأضافت: «موجهًا لي. كان مميزًا بعلامةٍ محددةٍ في طرف الظرف فعرَفتُ أن …»

قاطعتُها: «يا إلهي! أين هذا الخطاب؟ ولماذا لم تتحدَّثي عنه من قبل؟ إلامَ ترمين بأن تتركينا نتخبَّط هنا في الظلام، بينما قد تضعنا نظرةٌ إلى هذا الخطاب على الطريق الصحيح في الحال؟»

«لم يخطر بذهني أيُّ شيءٍ عنه حتى هذه اللحظة. لم أكن أعلم أنه بهذه الأهمية. أنا …»

لكنني عجزتُ عن أن أسيطر على نفسي. فسألتها قائلًا: «سيدة بيلدن، أين هذا الخطاب؟» واستطردت أسأل: «هل هو معكِ.»

قالت: «لا، أعطيته للفتاة أمس؛ ولم أرَه منذ ذلك الحين.»

قلت: «لا بد أنه في الأعلى، إذن. لنلقِ نظرةً أخرى.» ثم أسرعت ناحية الباب.

قال السيد جرايس ممسكًا بمرفقي: «لن تعثر عليه. لقد بحثت. ولم يكن يوجد أيُّ شيء سوى كومة من الورق المحترق في ركن الغرفة.» وسأل السيدة بيلدن: «على أي حال، ماذا قد تكون فحوى هذا الخطاب؟»

«لا أعرف، يا سيدي. لم يكن لديها أيُّ شيء لتحرقه إلا إذا كان ذلك الشيء هو الخطاب.»

تمتمت، مسرعًا لأعلى ومحضرًا الطَّست وما فيه لأسفل: «سنرى ذلك. إن كان الخطاب هو ذاك الذي رأيته في يديكِ عند مكتب البريد، فكان في ظرفٍ أصفر.»

«أجل، سيدي.»

«تحترق المظاريف الصفراء بشكلٍ يختلف عن الورق الأبيض. لا بد أن أتمكنَ من تمييز الاحتراق الناشئ عن ظرفٍ أصفر عندما أراه. للأسف، لقد أُحرِق الخطاب؛ ها هنا قُصاصة من الظرف»، وأخرجت من وسط كومة من القصاصات المتفحمة وريقاتٍ صغيرةً أقلَّ احتراقًا عن باقي الورق، ورفعتها لأعلى.

قال السيد جرايس، وهو يضع الطست جانبًا: «لا فائدة من أن نبحثَ هنا على ما كان يحتوي عليه الخطاب. سنُضطرُّ إلى أن نسألك، يا سيدة بيلدن.»

«لكني لا أعرف. كان الخطاب موجهًا لي، وهذا أمرٌ مؤكَّد؛ لكن هانا أخبرتني، لمَّا طلبت مني أن أعلمها الكتابة، أنها تنتظر ذلك الخطاب، لهذا لم أفتحه عند وصوله، وإنما أعطيتُها إياه كما كان.»

«لكنك، بقيتِ بجانبها حتى تُشاهديها وهي تقرؤه، صحيح؟»

«لا، سيدي؛ كنت في اضطراب شديد. فالسيد ريموند كان قد وصل حينها ولم يكن لديَّ وقتٌ حتى أفكر فيها. كما أن خطابي كان يُزعجني.»

«لكنكِ بالطبع سألتِها بعض الأسئلة عنه قبل أن ينقضيَ اليوم؟»

«أجل، يا سيدي، لمَّا صعدت لأعلى بالشاي؛ لكن لم يكن لديها أيُّ شيء تقوله. عندما تشعر هانا بالسعادة، من الممكن أن تمتنعَ عن الكلام مثل أي شخص عرفته من قبل. لم تعترف حتى أنه كان من سيدتها.»

«آه، أتعتقدين أنه كان من الآنسة ليفنوورث؟»

أضافت متمعِّنةً في التفكير: «عجبًا، أجل يا سيدي؛ ماذا أيضًا كان بوسعي أن أُفكر فيه، وأنا أرى تلك العلامة في طرَفِ الظرف؟ رغم، أنني متأكدة، أنه ربما يكون مَن وضعها هو السيد كلافرينج.»

«قلتِ إنها كانت سعيدةً بالأمس؛ أكانت على الحالة نفسِها بعد أن تسلَّمت الخطاب؟»

«نعم، يا سيدي؛ حسبما تبيَّن لي. لم أمكث معها مدةً طويلة؛ إذ كنت أشعر بضرورة أن أفعل شيئًا في الصندوق الذي كان في عهدتي … ولكن لعل السيد ريموند أخبرك بالفعل؟»

أومأ السيد جرايس برأسه.

«كانت أمسيةً منهِكة، وأخرجت أمر هانا من رأسي تمامًا، ولكن …»

صاح السيد جرايس، وهو يشير لي إلى أحد الأركان، فهمس: «انتظر! هنا يأتي دور رواية «كيو». بينما كنتَ خارج المنزل، وقبل أن تعود السيدة بيلدن لترى هانا، لمح الفتاة تميل على شيء في ركن غرفتها من المرجح جدًّا أن يكون الطست الذي عُثر عليه هناك. وبعدها، رآها تبتلع، في مرحٍ شديد، جرعةً من شيء من قطعة ورق. أكان ثمة أيُّ شيء آخر؟»

قلتُ: «لا.»

صاح، عائدًا إلى توجيه حديثه إلى السيدة بيلدن: «عظيم، إذن. لكن …»

«لكنني لما صعدت لآوي إلى السرير، خطرت الفتاةُ ببالي، فذهبت إلى بابها وفتحته. كان الضوء مطفأً، وبدَت نائمة؛ ولهذا أغلقت الباب مرة أخرى وخرجت.»

«من دون أن تتحدثي إليها؟»

«أجل، سيدي.»

«هل لاحظتِ كيف كانت راقدة؟»

«ليس تحديدًا. أظن أنها كانت نائمة على ظهرها.»

«في وضع شبيهٍ بالوضع الذي عُثِر عليها فيه صباح اليوم؟»

«أجل، يا سيدي.»

«أهذا كل ما يمكنكِ أن تُخبرينا به، سواءٌ عن خطابها أو عن وفاتها الغامضة؟»

«هذا كل شيء، يا سيدي.»

انتصب جسد السيد جرايس.

قال: «سيدة بيلدن، هل بإمكانكِ أن تتعرفي على خط السيد كلافرينج إذا رأيتِه؟»

«أجل.»

«وخط الآنسة ليفنوورث؟»

«أجل، يا سيدي.»

«والآن، أيُّ الخطَّين كان على ظرف الخطاب الذي أعطيتِه لهانا؟»

«ليس بوسعي أن أجزمَ بذلك. فالكتابة كانت مموهة وربما كانت بخط أيٍّ منهما؛ لكني أظن …»

«ماذا؟»

«أنه كان يُشبه خطَّها أكثر من خطه، رغم أنه لم يكن يبدو كخطها أيضًا.»

بابتسامةٍ، طوى السيد جرايس الاعترافَ في يده ووضعه في الظرف الذي كان قد عُثِر عليه بداخله. وقال: «هل تتذكرين حجمَ الخطاب الذي أعطيتِها إياه؟»

«أه، كان كبيرًا، كبيرًا جدًّا، من أكبر الأحجام.»

«وسميكًا؟»

«بالضبط؛ سَميكًا بما يكفي ليتسع لخطابَين.»

«كبير بما يكفي وسميك بما يكفي ليحتويَ على هذا؟» واضعًا أمامها الاعترافَ مطويًّا وبداخل الظرف كما كان.

نظرَت إلى الخطاب في ذهول وفزع: «أجل، سيدي، كبير بما يكفي وسميكٌ بما يكفي ليحتويَ على ذلك.»

جالَت عينا السيد جرايس، اللتان كانتا تلمعان كالألماس، في الغرفة واستقرَّت أخيرًا على ذبابةٍ لحظةَ عبورها على كُم معطفي. فهمس إليَّ، بصوتٍ خافت: «هل تحتاج إلى أن تسأل الآن، أين وممَّن جاء هذا الاعتراف؟»

•••

سمح لنفسه بأن يحظى بلحظة انتصار صامتة، ثم نهض، وبدأ يطوي الأوراقَ التي كانت على الطاولة ويضعها في جيبه.

سألته، وأنا أدنو منه مسرعًا: «ماذا ستفعل؟»

أخذني من ذراعي وقادني عبر الممر إلى غرفة الجلوس. قال: «سأعود إلى نيويورك، وسأتابع هذا الأمر. سأكتشفُ من أين جاء السمُّ الذي قَتل هذه الفتاة، ومَن صاحب اليد التي زوَّرت الاعترافَ بهذا الأسلوب الرديء.»

قلتُ، بعدما أفقدني كلُّ هذا توازني إلى حدٍّ ما: «لكن «كيو» ومحقق الوفيات سيحضران إلى هنا بعد قليل، ألن تنتظر حتى تُقابلهما؟»

«لا، خيوطٌ كتلك التي أُعطيت هنا لا بد من تتبعها والأثرُ واضح؛ لا أستطيع الانتظار.»

قلت، بينما كانت خطواتُ أقدامٍ في الخارج تعلن أن شخصًا ما يقف عند الباب: «إن لم أكن مخطئًا، فقد وصلا بالفعل.»

أقرَّ بذلك، مسرعًا ليسمح لهما بالدخول: «هذا صحيح.»

من منطلق الخبرة العامة، كان لدينا من الأسباب ما يجعلنا نتوجَّس من أن ثمة عقبةً مباشرة قد توضع أمام جميع الإجراءات التي سنتخذها من جانبنا، بمجرد دخول محقق الوفيات إلى المشهد. لكن من دواعي السرور لنا وللمصلحة التي على المحك، أنه ثبت أن د. فينك، محقق وفيَات «ر…» رجل حكيم. لم يحتجْ إلا إلى أن يسمع القصة الحقيقية للقضية ليتبيَّنَ له في الحال أهميتُها وضرورة اتخاذ أكثر الإجراءات حيطةً فيها. علاوة على ذلك، كنوعٍ من التعاطف مع السيد جرايس، على الرغم من أنه لم يكن قد قابله مطلقًا قبل ذلك، أعرب عن استعداده أن يُشاركنا خططنا، إذ لم يقترح فحسب أن يسمح لنا باستخدام مثل هذه الأوراق مؤقتًا كما شئنا، بل وعدنا باتخاذ ما يلزم من الإجراءات الرسمية لاستدعاء هيئة المحلَّفين، وإجراء تحقيق على النحو الذي يمنحُنا متَّسَعًا من الوقت للتحريات التي اعتزمنا إجراءها.

لذلك كانت مدة التأخير قصيرة. تمكن السيد جرايس من أن يستقلَّ قطار الساعة السادسة والنصف المتجه إلى نيويورك، وكان عليَّ أن ألحقَ به في قطار الساعة العاشرة مساءً، بعد انتهاء كل ما حدث في تلك المدة الفاصلة، من استدعاءٍ لهيئة المحلَّفين، وطلبِ تشريح الجثة، والإرجاء النهائي للتحقيق حتى الثلاثاء القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤