الفصل الخامس والثلاثون

عمل دقيق

لا يفوتك ذكر جزئية أو حالة مما يعلق به الريب!
ولكن يا للغبن، يا جو، يا للخسارة!
مسرحية «عطيل» [ترجمة خليل مطران]

جملةٌ واحدة ألمحَ بها السيد جرايس قبل أن يغادر «ر…» هيَّأتني لخطوته التالية.

كان قد قال: «إن مِفتاح حلِّ هذه الجريمة يقدمه الورق الذي كُتِب عليه الاعتراف. اكتشف من أي مكتبٍ أو حافظة اقتُطعت هذه الورقة تحديدًا، وستكتشف مرتكبَ جريمة القتل المزدوجة.»

بالتبعية، لم أشعر بالمفاجأة، عند زيارة منزله، في صباح اليوم التالي، عندما رأيته جالسًا أمام طاولة عليها منضدةُ كتابة خاصة بسيدةٍ وكومة ورق، حتى أخبرني أن هذه المنضدة كانت تخصُّ إلينور. عندئذٍ أبديت اندهاشي. قلتُ: «عجبًا، ألا تزال غيرَ مقتنع ببراءتها؟»

صاح، وهو يُصوب عينَيه تجاه ألسنةِ اللهب: «أوه، بلى؛ ولكن على الإنسان أن يتحلَّى بالدقة. فلا يوجد استنتاجٌ ذو ثقلٍ لم يسبقه تحرٍّ شامل ووافٍ. عجبًا، كنت أفتِّش في متعلقات السيد كلافرينج، مع أنَّ الاعتراف يحمل دليلًا على أنه لم يكن الشخصَ الذي كتبه. لا يكفي أن تبحث عن دليلٍ في المكان الذي تتوقَّع أن تجده فيه. لا بد أن تبحث عنه أحيانًا في مكانٍ لا تتوقَّعه. والآن»، قال، وهو يسحب منضدة الكتابة أمامه، «لا أتوقَّع أن أجدَ هنا أي شيءٍ ذا طابعٍ يدل على الجاني، ولكنَّ ثمة احتمالًا أن أجد شيئًا؛ وهذا أمرٌ كافٍ للمحقق.»

سألته، بينما كان يشرع في تنفيذ نيته بتفريغِ محتويات منضدة الكتابة على الطاولة: «هل رأيت الآنسة ليفنوورث صباح اليوم؟»

أجاب: «نعم؛ لم يكن بإمكاني أن أحصل على ما أريده من دون مقابلتها. وتصرَّفَتْ بمنتهى اللطف، وأعطَتْني منضدة الكتابة بيدَيها، ولم تُبدِ أي اعتراض. من المؤكد أنه كانت لديها فكرة بسيطة عما أبحث عنه؛ ربما ظنَّت أنني كنت أريد أن أتأكد من أنه لم يكن يحتوي على الخطاب الذي قيل عنه الكثير. لكن لم يكن سيُحدث إلا فارقًا طفيفًا، إن كانت قد عرَفَت الحقيقة. إن منضدة الكتابة هذه لا تحتوي على أي شيء نُريده.»

سألته، في قلقٍ تعذر عليَّ كبتُه: «هل كانت على ما يُرام؛ وهل علمت بموت هانا المفاجئ؟»

«أجل، وتأثرت به، كما يمكن أن تتوقَّع منها. لكن دعنا نرَ ما لدينا هنا.» قال هذا، وهو يدفع منضدة الكتابة جانبًا، ويسحب ناحيته كومة الورق التي سبق أن أشرتُ إليها. «وجدت هذه الكومة، كما تراها بالضبط، في درج منضدة المكتبة في منزل الآنسة ماري ليفنوورث في شارع فيفث أفنيو. إن لم أكن مخطئًا، سيمنحُنا مِفتاح اللغز الذي نريده.»

«لكن …»

«لكن هذا الورق مربَّع، بينما الورق المكتوب عليه الاعترافُ كان له حجمُ وشكل الورق التِّجاري، أليس كذلك؟ أعرف ذلك؛ لكنك تتذكَّر أن الورقة المستخدمة في الاعتراف كانت مقصوصة. لنُقارن بين جودة الورق.»

أخرج الاعتراف من جيبه وورقةً من كومة الورق أمامه، وأخذ يُقارن بينهما في تأنٍّ، ثم أعطاني الورقتَين لأُعاينهما. وتبيَّن من نظرةٍ واحدة أنهما متشابهتان في اللون.

قال: «ارفعهما في الضوء.»

فعلت ذلك؛ فكان مظهرُهما متشابهًا تمامًا.

«والآن لنُقارِن السطور.» وبعدما وضعهما على الطاولة، طابق حافتَي الورقتَين معًا. كانت السطور في الورقة الأولى تنطبق على سطور الورقة الأخرى؛ وبذلك حُسِمَت تلك المسألة.

بات انتصاره مؤكدًا. وقال: «كنت مقتنعًا بذلك. من اللحظة التي فتحت فيها الدرج ورأيت هذا الكمَّ من الورق، عرَفت أن النهاية قد حانت.»

اعترضت، مدفوعًا بنزعتي القتالية القديمة: «لكن، ألا يوجد أيُّ مجالٍ للشك؟ هذه الورقة من أكثر الأنواع شيوعًا. كل عائلة في هذه المنطقة قد يكون لديها عيناتٌ من تلك الورقة في مكتبتها.»

قال: «الأمر ليس هكذا. الورقة بحجم ورَق الخطابات، وقد قُصت. السيد ليفنوورث كان يستخدمها في كتاباته، وإلا أشك أنه كان سيعثر عليها في مكتبته. لكن، إن كنت لا تزال متشككًا، لنرَ ما بإمكاننا أن نفعل»، ثم هبَّ واقفًا، وحمل الاعترافَ إلى النافذة، وأخذ ينظر إليه بهذه الطريقة وتلك، وفي النهاية بعدما اكتشف ما كان يُريده، عاد، ووضعه أمامي، وأشار إلى أحد السطور الذي كان يبدو جليًّا أن حبره كان أثقلَ من باقي السطور، وسطر آخر كان باهتًا للغاية لدرجة أنه كان يصعبُ تمييزه. قال: «عادةً ما يتكرَّر مثلُ هذه العيوب في عددٍ من الصفحات المتتالية. إن كان بإمكاننا أن نعثر على الرِّزمة التي تتكوَّن من ١٢ ورقة والتي أُخِذَت منها هذه الورقة، قد أُقدم لك دليلًا سيُبدِّد أيَّ شك»، وأخذ الرِّزمة التي كانت أعلى الورق، وأخذ يعدُّ صفحاتها سريعًا. فلم يجد فيها سِوى ثماني ورَقات. فقال: «ربما أُخذت من هذه الرزمة.» لكن، عندما أمعنَ النظرَ في السطور، وجد أنها متمايزةٌ بشكلٍ موحَّد. ثم صدر من بين شفتَيه: «همم! ذلك لن يُجدِيَ نفعًا.»

كان الورق المتبقِّي، ١٢ أو نحو ذلك من الرِّزَم، يبدو أنه لم يُمَس. نقر السيد جرايس بأصابعه على الطاولة وظهرَت تقطيبةٌ على وجهه. صاح معربًا عن رغبةٍ شديدة: «يا له من شيء جميل، إن أمكنَ فعله!» وفجأةً رفع إليه رِزمة الورق التالية. وقال، وهو يدفعها ناحيتي، ويرفع رِزمةً أخرى: «عُدَّ الورق.»

فعلتُ كما أُمِرت. وقلت: «اثنتا عشرة.»

أخذ يعدُّ ما معه من الورق ثم وضعه على الطاولة. فصاح: «استمِرَّ في عدِّ باقي الورق.»

عددتُ الورق في الرزمة التالية؛ فكان اثنتَي عشرة ورقة. وعَدَّ الورق في الرزمة التالية، ثم توقف. «إحدى عشرة!»

فاقترحت: «عُدَّ ثانيةً.»

عَدَّ ثانيةً، ثم وضعها جانبًا في هدوء. وقال: «أخطأت العد.»

لكن هِمَّته لم تفتر. فأخذ رزمةً أخرى، وأخذ يعدُّها بالطريقة نفسِها؛ لكن بلا جدوى. وبتنهيدةِ يأسٍ، طرح الورق على الطاولة ورفع بصرَه لأعلى. صاح قائلًا: «ماذا؟ ما الأمر؟»

قلت، وأنا أضعُ الورق في يده: «لا يوجد سوى إحدى عشرةَ ورقة في هذه الرزمة.»

انتقلَت الحماسةُ التي أبداها لتوه إليَّ. بالرغم من الإرهاق الذي كنتُ أشعر به، لم أستطع أن أقاوم حماسته. صاح قائلًا: «جميل! جميل! انظر! السطر الباهت في الداخل، والسطر الثقيل الحبر في الخارج، وكلاهما في ترتيبٍ متوافق بدقةٍ مع ترتيب السطور في ورقة هانا. ما رأيك الآن؟ أثَمة ضرورةٌ لأي دليل آخر؟»

أجبتُه: «إن أكثر الناس تشككًا لا بد أن يستسلمَ أمام هذا.»

في تصرفٍ يبدو مراعاةً لمشاعري، أشاح بجسده. وقال: «حقيقٌ عليَّ أن أُهنِّئ نفسي، بصرف النظر عن عظمة الاكتشاف الذي توصَّلت إليه. اكتشافٌ دقيق، دقيق إلى أبعدِ ما يكون، ومفحِم جدًّا. أقرُّ أنني أنا نفسي مذهول من دقَّتِه. لكن أي امرأة هذه!» صاح بهذا فجأة، بنبرةِ إعجاب شديد. «يا لعقلها! يا لدهائها! يا لبراعتها! أعترفُ أنه من المؤسف أن تُوقِع بامرأةٍ فعلت أمرًا بهذه البراعة … اقتَطَعَت ورقةً من آخر صفحاتٍ في الكومة، وقصَّتها لتأخذ شكلًا مختلفًا، ثم؛ إذ تذكرَت أن الفتاة لا يُمكنها الكتابة، كتبَت ما تريد أن تقوله بخطٍّ رديء يصعب فهمه، كخطِّ هانا. ممتاز! وكان سيغدو كذلك، لو كانت هذه القضية في عُهدة أي رجل غيري.» وبكل الحيوية والبريق اللذَين فاضَت بهما حماسته، نظر إلى النجفة أعلاه كما لو كانت رمزًا مجسِّدًا لألمعيته.

تركتُه يواصل كلامه، وغرقت في حالةٍ من اليأس.

سأل حينها: «أكان بإمكانها أن تفعل أيَّ شيء أفضلَ من ذلك؟ وهي مُراقَبة ومقيَّدة، هل كان بإمكانها أن تفعل أي شيء أفضلَ من ذلك؟ لا أظن ذلك؛ فحقيقة أن هانا كانت تتعلَّم الكتابةَ بعدما غادرت كانت نقطةً حاسمة. لا، لم يكن بإمكانها أن تحتاطَ لذلك الحدث الطارئ.»

عندئذٍ قاطعتُه، فلم أعد أحتمل أكثرَ من ذلك: «سيد جرايس، هل قابلتَ الآنسة ماري ليفنوورث صباحَ اليوم؟»

«لا، لم يكن ضمن مخطَّطي الحاليِّ أن أفعل ذلك. وفي الواقع، أشك أنها كانت تعلم أنني كنتُ في منزلها. إن الخادمة التي لديها مَظلَمة تكون مُساعِدةٌ قيمة جدًّا لمحقِّق. وبوجود مولي إلى جانبي، لم أحتجْ إلى أن أُلقيَ التحية على سيدة المنزل.»

سألت، بعد لحظة صمتٍ أخرى من تهنئة الذات من جانبه، ومن ضبط النفس المستميتِ من جانبي: «سيد جرايس، ما الذي تنوي فعله الآن؟ لقد تتبعتَ مِفتاح اللغز حتى نهايته ورضيتَ بما وصلتَ إليه. ومعلومةٌ كهذه هي مقدمةٌ للعمل.»

أجاب، ذاهبًا إلى مكتبه الخاص، ومُحضِرًا صندوقَ الأوراق الذي لم تتوفَّر لنا الفرصةُ لنتفحَّصه ونحن في منتجع «ر…»: «همم! سنرى. لنفحصْ هذه الأوراقَ أولًا، ولنرَ إن لم تكن تحوي إشارةً ربما تُفيدنا.» وأخرج ١٢ أو أكثرَ من الأوراق المتفرقة التي قُطِعَت من دفتر مذكرات إلينور، وبدأ يُقلِّب فيها.

بينما كان يفعل ذلك، انتهزتُ الفرصة لأُعاين محتويات الصندوق. وجدتها مطابقةً تمامًا لما ساقَتْني السيدة بيلدن إلى توقُّعه … شهادة زواجٍ بين ماري والسيد كلافرينج وستة خطابات أو أكثر. وبينما كنت أُلقي نظرةً على الورقة الأولى، صدر من السيد جرايس صيحة تعجبٍ قصيرةٌ جعلَتْني أنتفض رافعًا بصري.

صحت: «ما الأمر؟»

ألقى في يدي أوراقًا من مذكرات إلينور. قال: «اقرأ. أغلبها تَكرار لما سمعتُه بالفعل من السيدة بيلدن، لكنه يُروى من وجهة نظرٍ مختلفة؛ لكن ثَمة فقرة واحدة في هذه الأوراق، إن لم أكن مخطئًا، تفتح المجالَ لتفسيرٍ لواقعة القتل هذه بطريقة لم نُفكر فيها من قبل. اقرأ من البداية؛ فلن تجدها مملَّة.»

مملَّة! مشاعر إلينور وأفكارها أثناء ذلك الوقت العصيب، مملَّة!

مستجمعًا قوتي لأتمالكَ أعصابي، بسطتُ الأوراق بترتيبها وبدأت:

««ر…» ٦ يوليو …»

أوضح السيد جرايس: «لاحظ أن ذلك بعد يومَين من وصولهم إلى هناك.»

«… اليوم عند الشرفة قُدِّم إلينا سيدٌ محترمٌ لا يمكنني أن أمنع نفسي من أن أحكيَ عنه؛ أولًا، لأنه أكثر مثالٍ نموذجي رأيته في حياتي على الجمال الذكوري؛ وثانيًا، لأن ماري، التي عادةً ما تكون كثيرةَ الكلام في النواحي الخاصة بالرجال، لم يكن لديها شيءٌ لتقولَه عندما سألتها، على انفرادٍ في غرفتنا، بخصوص تأثير هيئة ذلك الرجل وحديثه عليها. ربما تكون ثمة علاقة بين هذا وكون الرجل إنجليزيًّا؛ فكراهية عمي لأي شخصٍ من تلك الدولة كانت معروفةً لها كما هي معروفة لي. لكنني بطريقةٍ ما لا يمكنني أن أقتنع بهذا. فتجربتها مع تشارلي سامرفيل جعلَتْني متشكِّكة. ماذا لو أن القصة التي وقعت الصيفَ الماضيَ تكررت هنا، وبطلها هذه المرةَ رجلٌ إنجليزي! لكن لن أسمحَ لنفسي بأن أفكِّر في مثل هذا الاحتمال. سيعود عمي في غضون أيامٍ قليلة؛ ولهذا فإن أيَّ تواصلٍ مع شخصٍ، رغم محاولته أن يلقى قَبولًا، من عائلة أو نسبٍ يستحيل علينا الارتباط به، لا بدَّ حتمًا أن يتوقف. أشك أني كنت سأُعيد التفكير في كل ذلك مرةً ثانيةً لو لم يُظهِر السيد كلافرينج، عند تقديمه إلى ماري، مثلَ هذا الإعجاب الشديد والعفوي.

٨ يوليو. القصة القديمة على وشك أن تتكرَّر. فماري لا تستسلم فحسب لملاطفاتِ السيد كلافرينج، بل تُشجِّعها. اليوم جَلَسَتْ ساعتَين على البيانو تُغني له أغانيَها المفضلة، والليلة … لكني لن أدوِّن كل حدثٍ تافهٍ تقع عيني عليه؛ فالأمر لا يليق بي. لكن، كيف لي أن أغضَّ الطرْف عندما تصبح سعادة كثيرين ممن أحبهم على المحك؟!

١١ يوليو. إن لم يكن السيد كلافرينج وقع تمامًا في حب ماري، فإنه أوشك على ذلك. فهو رجلٌ وسيم، ووَقور ولا يصحُّ التلاعب به بهذا الأسلوب المستهتر.

١٣ يوليو. جمال ماري ينضر كالوردة. كانت متألقةً تألقًا باهرًا الليلة في اللونَين القرمزي والفِضِّي. أظن أن ابتسامتها كانت أعذبَ ابتسامة رأيتها على الإطلاق، وأثق أن السيد كلافرينج يتفق معي في هذا قلبًا وقالبًا؛ فلم يُبعد ناظرَيْه عنها الليلة مطلقًا. لكن ليس من السهل أبدًا أن أطَّلع على ما في قلبها. ما أنا متأكدة منه، هو أنها لم تبدُ على الإطلاق غيرَ مباليةٍ بوسامته، وإحساسه القوي، وحبه المتفاني. لكن ألم تخدعنا وتجعلنا نظن أنها كانت تحب تشارلي سامرفيل؟ أخشى أنَّ، في حالتها، تورد الوجه والابتسام قليلُ الأهمية. أليس من الحكمة أن أقول في مثل هذه الظروف، إنني أرجو ذلك؟

١٧ يوليو. يا لَقلبي! جاءت ماري إلى غرفتي مساء اليوم، وأفزعَتْني تمامًا لمَّا هوَتْ إلى جانبي وخبَّأت وجهها في حجري. تمتمت: «إلينور، إلينور!» وهي ترتجف بما تراءى لي أنه بكاءُ فرحٍ شديد. لكن عندما حاولت جاهدةً أن أرفع رأسها إلى صدري، تفلتَت من ذراعيَّ، وسحبت نفسها لأعلى لتستمسكَ بموقفها القديم من الكبرياء المتحفظ، ورفعتْ يدَيْها كما لو أنها تأمرني بالصمت، ثم انصرفت بعجرفةٍ من الغرفة. لا يوجد سوى تفسيرٍ واحد لهذا. أن السيد كلافرينج قد عبَّر عن مشاعره؛ ولهذا يغمرها شعورٌ ببهجةٍ طائشة، حالما تظهر لأول مرةٍ تجعل المرء غيرَ عابئٍ بوجود حواجز كان يراها حتى تلك اللحظة لا تُخترق. متى سيأتي عمي؟

١٨ يوليو. لم أكن أظنُّ وقتما كتبتُ ما سبق أن عمي كان في المنزل بالفعل. جاء على غير المتوقَّع في القطار الأخير، ودخل غرفتي وأنا أضع مذكراتي جانبًا. كان يبدو عليه الحزن قليلًا، فضمَّني بين ذراعَيْه ثم سألني عن ماري. فأحنيت رأسي، ولم أستطع أن أمنعَ نفسي من التلعثم وأنا أُجيب بأنها في غرفتها. وفي الحال دق حبه ناقوس الخطر، فتركني، وأسرع إلى غرفتها، وعلِمتُ فيما بعدُ أنه دخل عليها فوجدها تجلس شاردةَ الذهن أمام تسريحتها وفي إصبعها خاتمُ عائلة السيد كلافرينج. لا أعرف ما حدث بعد ذلك. أخشى أنه مشهدٌ تعيس؛ إذ إن ماري متوعكةٌ صباح اليوم، وعمي في كآبةٍ وعبوسٍ بالغَين.

عصر ذلك اليوم. صرنا أسرةً تعيسة! لم يكتفِ عمي برفض التفكير ولو للحظةٍ واحدة في طلب ارتباط ماري بالسيد كلافرينج، وإنما تمادى ليطلبَ منها أن يخرج من حياتها فورًا ومن دون شروط. جاءني هذا الخبر بأكثرِ الطرق إيلامًا للنفس. كنتُ أدرك الوضع الذي عليه الأمور، لكني كنت ثائرةً سرًّا في داخلي على تحاملٍ بدا أنه كُتِب أن يفرق بين شخصَين مناسبَين لبعضهما البعض، فسعيتُ لمقابلة عمي هذا الصباحَ بعد الإفطار، وحاولت أن أُؤازر قضيتهما. لكن كاد أن يُوقفني في الحال بتعليقه: «أنتِ يا إلينور آخِرُ مَن يجبُ أن يسعى لدعم هذه الزِّيجة.» ارتجفتُ خوفًا، وسألته عن السبب. فقال: «لأنه بإقدامكِ على ذلك، فإنكِ تعملين كُليًّا لمصلحتك.» ازداد ارتباكي، فتوسلت إليه أن يوضحَ ما قاله. فقال: «أقصد أنه إذا عصَتْني ماري بزواجها من هذا الإنجليزي، فسأحرمها من الإرث، وسأضع اسمكِ بدلًا منها في وصيتي وكذلك في نصيبها من حبِّي.»

لوهلةٍ كان كل شيءٍ يتمايل أمام عينيَّ. رجوته: «لن تجعلني أشقى أبدًا هكذا!» فقال: «سأجعلكِ وريثتي الشرعيةَ، إن أصرَّت ماري إصرارها الحالي»، ودون كلمةٍ أخرى انصرف من الغرفة غاضبًا. ماذا بيدي أن أفعلَ سوى أن أخرَّ على ركبتي وأصلي! من بين كل ما في هذا المنزل البائس، أنا الأكثر بؤسًا. أحلُّ محلَّها! لكن لن أُضطرَّ إلى فعل ذلك؛ وستبتعد ماري عن السيد كلافرينج.»

صاح السيد جرايس: «هاك! ما رأيك في ذلك؟ ألم يُصبح واضحًا بما يكفي دافعُ ماري لارتكاب جريمة القتل هذه؟ لكن أكمل؛ لنسمعْ ما حدث بعد ذلك.»

أكملت، وقلبي مكروبٌ. جاء الإدخال التالي مؤرخًا في ١٩ يوليو، وورد فيه ما يلي:

«كنت مُحقَّة. بعد مجاهَدةٍ دامت طويلًا مع إرادة عمي التي لا تُغلَب، وافقت ماري على أن تُخرِج السيد كلافرينج من حياتها. كنتُ في الغرفة عندما أعلنت عن قرارها، ولن أنسى نظرة الفخر المفعَمة بالرضا التي نظر بها عمُّنا وهو يضمُّها إلى ذراعَيْه ويُناديها بأنها هي قلبه الحقيقي. كان معتادًا كثيرًا وبوضوحٍ على هذا الأمر، ولم أملك إلا أن أشعرَ بارتياحٍ شديدٍ لانقضاء هذا الأمر بصورةٍ مُرْضية. لكن ماري؟ ما ذلك الشيء في أسلوبها الذي يَبث في نفسي إحباطًا مبهمًا؟ ليس بوسعي أن أجزم. كل ما أعرفه هو أنني شعرت بانقباضٍ شديدٍ يتملَّكني عندما أدارت وجهها إليَّ وسألَتْني إن كنتُ سعيدةً الآن. لكنني تغلَّبت على مشاعري وبسطت لها يدي. لكنها لم تُصافحها.

٢٦ يوليو. يا لطول الأيام! ما زالت ظلال محنتنا الأخيرة مخيِّمة على نفسي؛ لا يمكنني أن أتخلص منها. يبدو أنني أرى وجهَ السيد كلافرينج اليائس أينما ذهبت. كيف تُحافظ ماري على بهجتها؟ إذا لم تكن تُحبه، أظن أن الاحترام الذي لا بد أن تُكِنَّه مراعاةً لخيبة أمله سيمنعها عن الهزل على أقلِّ تقدير.

غادر عمي مرةً أخرى. لم يكن أي شيءٍ يمكن أن أقوله كافيًا لإبقائه.

٢٨ يوليو. انكشف الأمر كله. انفصلَت ماري شكليًّا فقط عن السيد كلافرينج؛ لكنها لا تزال متعلقةً بفكرة أنها يومًا ما سيجمعها الزواج بالسيد كلافرينج. انكشفت الحقيقة لي بطريقةٍ غريبةٍ لا داعيَ لذكرها هنا؛ وأكدتها ماري بنفسها. أقرَّت: «أحبُّ هذا الرجل، ولا أنوي أن أبتعد عنه.» فسألتها: «ولماذا لم تُخبري عمكِ بهذا؟» فاقتصرَتْ إجابتها على ابتسامةٍ قاسيةٍ وردٍّ مقتضب: «أترك ذلك لكِ.»

٣٠ يوليو. منتصف الليل. كنت منهَكةً تمامًا، لكن قبل أن يبرد الدمُ في عروقي سأكتب. ماري أصبحَت زوجة. عُدت لتوي من المشهد الذي رأيتها فيه تمنح يدَها إلى هنري كلافرينج. من الغريب أنني أقوى على الكتابة دون أن أرتجف بينما تفيض روحي امتعاضًا واشمئزازًا. لكن سأسرد الحقائق. بعد أن تركتُ غرفتي دقائقَ معدودةً صباحَ اليوم، رجعت لأجد على تسريحتي رسالةً قصيرةً من ماري تُخبرني فيها بأنها ستذهب لتأخذَ السيدة بيلدن في نزهةٍ ولن تعودَ إلا بعد ساعات. كنت مقتنعةً أنها كانت في طريقها لمقابلة السيد كلافرينج؛ لأن لديَّ من الأسباب ما يدعوني لذلك، فلم أتوقَّف إلا لأرتديَ قبعتي …»

توقفَت المذكرات عند هذا الحد.

أوضح السيد جرايس: «من المحتمل أن ماري قاطعَتْها عند هذه النقطة. وصلنا إلى الشيء الوحيد الذي كنا نريد أن نعرفه. هدَّد السيد ليفنوورث بأن يستبدل بماري إلينور إن أصرَّتْ على الزواج خلافًا لرغبته. وقد فعلتها وتزوجَت، وحتى تتجنبَ توابعَ فعلتها …»

أجبتُ، وأنا مقتنع أخيرًا: «لا تقل المزيد. الأمر واضحٌ وضوح الشمس.»

نهض السيد جرايس.

تابعت، محاولًا أن أتشبَّث بالعزاء الوحيد الذي بقي لي: «لكن كاتبة هذه الكلمات نجَت. لن يجرُؤَ أيُّ شخصٍ يقرأ هذه المذكرات على أن يُلمِّح بأنها قادرةٌ على ارتكاب جريمة.»

«بالتأكيد لا؛ فالمذكرات تحسم تلك المسألةَ على نحوٍ قاطع.»

حاولت أن أكون رجلًا مخلصًا بما يكفي لأن أُفكر في ذلك ولا شيء سواه. وأن أفرح بنجاتها، وأدع أي تفكير آخرَ يمضي؛ لكني لم أُفلح في هذا. تمتمتُ: «لكن ماري، ابنة عمها، وأختها تقريبًا، قد ضاعت.»

دسَّ السيد جرايس يدَيه في جيوبه، ولأول مرة، أظهر دليلًا على اضطرابٍ خفيٍّ بداخله. قال: «نعم، أخشى أن حياتها ضاعَت؛ أخشى حقًّا من ذلك.» ثم بعد تَوَقف، شعرت أثناءه بتشوُّقٍ معين إلى أملٍ غامض، تمتم قائلًا: «يا لها من إنسانةٍ فاتنةٍ أيضًا! هذا أمرٌ مؤسف، أمر مؤسف بكلِّ تأكيد! أُقر، بعدما اتضح الأمر، أنني بدأتُ أشعر بالأسف أننا نجحنا في ذلك بجدارة. أمر غريب لكنَّه حقيقي. لو أن ثمة مهربًا ولو صغيرًا من هذا. ولكن لا يوجد مهرب. فالأمر واضحٌ وضوح الشمس.» نهض فجأةً، وبدأ يذرع الغرفةَ جَيئةً وذَهابًا مستغرقًا في تفكيرٍ عميق، ومسددًا نظراته هنا، وهناك، وفي كل مكان، باستثنائي، مع أني مقتنعٌ الآن، مثلما كنت حينها، أن وجهي كان الشيءَ الوحيد الذي رآه.

سأل، بعد أن توقَّف أمام حوضٍ بداخله سمَكتان أو ثلاث سمكات تعيسات يسبحْنَ في بطءٍ بداخله. «هل سيُؤسفك بشدة، يا سيد ريموند، إذا أُلقيَ القبض على الآنسة ماري ليفنوورث بتهمة القتل؟»

قلت: «نعم، سيؤسفني ذلك؛ سيحزنني ذلك بشدة.»

قال، في ظل غيابٍ مريبٍ لنبرة الحسم المعتادة منه: «لكن لا بدَّ من فعل ذلك. بصفتي مسئولًا أمينًا، أُودِعَت فيَّ ثقةٌ أن أُقدم إلى السلطات المختصة قاتل السيد ليفنوورث، ولا مفر من أن أفعل ذلك.»

من جديدٍ أثار أسلوبه المميزُ هذا ذلك الشوقَ الغريب إلى الأمل الكامن في قلبي.

«ثم سُمعتي كمحقِّق! لا بد حتمًا أن أضع ذلك في الاعتبار. لست ثريًّا ولا مشهورًا جدًّا حتى يكون بوسعي التغاضي عن كل ما يجلبه لي نجاحٌ مثل هذا. لا، مع كونها جذَّابة، لا بد أن أدفع سير الأمور إلى الأمام.» لكن حتى بينما كان يقول هذا، أصبح أكثرَ إمعانًا في التفكير، وظل يُحدِّق إلى أسفل في الأعماق الحالكة لهذا الحوض البائس أمامه بإصرار توقعتُ معه أن ترتفع هذه السمكات المذهلة من الماء وتُبادله النظر. ماذا كان يدور في ذهنه؟

استدار بعد مدةٍ قصيرة، وقد ذهبَت عنه الحيرة تمامًا. قال: «سيد ريموند، تعالَ إلى هنا مرةً أخرى في الساعة الثالثة. سيُصبح تقريري جاهزًا حينها لعرضه على رئيس الشرطة. أريد أن أعرضه عليك أولًا، فلا تخذلني.»

ثَمة شيءٌ كان مكبوتًا في أسلوبه، فلم أستطع أن أمنعَ نفسي من المجازفة بسؤالٍ واحد. فسألته: «هل حسمت أمرك؟»

أجاب، لكن بنبرةٍ غريبة، وبإيماءةٍ غريبة: «نعم.»

«وهل ستُقدِم على عملية إلقاء القبض التي تحدثتَ عنها؟»

«تعالَ في الساعة الثالثة!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤