الفصل التاسع والثلاثون

عاقبة جريمة مروعة

دع لله عقابَها، وللأَشْوَاكِ التي تنمو في صدرها، يألُوهَا وَخْزًا، وإيلامًا.

مسرحية «هملت» [ترجمة خليل مطران]

لأنها حصيفةٌ متبصرة، على ما أستخلص؛ ولأنها جميلة، على ما أرى؛ ولأنها مخلصة، على ما تبيَّنت؛ فبالنظر إلى كونها عاقلةً حسناءَ طاهرة، قد أقررت منزلتها في قلبي مدى العمر.

مسرحية «تاجر البندقية» [ترجمة خليل مطران]

صِحتُ، بينما كنتُ أتَّجه إليها: «إلينور! هل أنتِ مستعدَّة لسماع أخبارٍ سارَّةٍ جدًّا؟ أخبار ستُضفي بهجةً على تلك الوجنتَين الشاحبتَين وستُعيد إلى تلك العينَين بريقَهما، وستجعل حياتكِ مُفعَمةً بالبهجة والأمل مرةً أخرى؟ أخبريني»، ألححتُ، وأنا أميل نحوها حيث كانت تجلس؛ إذ كانت على وشك أن تفقدَ وعيها.

قالت بتلعثُم: «لا أعرف، أخشى أن يختلفَ تصوُّرك عن الخبر السارِّ عن تصوُّري له. لا يوجد خبرٌ سار إلا …»

سألتُ، آخذًا يدَيها بين يدَي بابتسامةٍ لا بد أنها قد بعثَت في نفسها طُمأنينةً؛ إذ كانت ابتسامةً تعكس سعادةً غامرة: «ماذا؟ أخبريني؛ لا تخافي.»

لكنها كانت خائفةً بالفعل. فحِملها المريع كان قد أثقلَها طويلًا حتى أصبح جزءًا من كِيانها. كيف لها أن تُدرك أن الأمر بُني على خطأ، وأنه لم يَعُد ثَمة سببٌ يدعوها إلى أن تخشى الماضيَ، أو الحاضر، أو المستقبل؟

لكن لمَّا عرَفت بالحقيقة؛ ولمَّا أوضحت لها، بكل ما أوتيتُ من الحماس والكِياسة، أن شُكوكها لم يكن لها أيُّ أساسٍ من الصحة، وأن ترومان هارويل، وليس ماري، كان هو المسئولَ عن أدلة الجريمة التي كانت قد دفعَتها إلى أن تنسب إلى ابنة عمِّها جُرمَ مقتلِ عمها، كانت كلماتها الأولى توسلًا أن تؤخَذ إلى مَن كانت قد ظلمتها كثيرًا. «خُذني إليها! يا إلهي! خذني إليها! لا يمكنني أن ألتقطَ أنفاسي أو أُفكر حتى أجثوَ على ركبتي وأسألَها أن تعفوَ عني. يا إلهي، كم كان اتهامي ظالمًا! كان اتهامي ظالمًا!»

وإذ رأيتُ الحالة التي كانت عليها، ارتأيتُ أن من الحكمة أن أُجاريَها. ولهذا، أحضرتُ عربةً، وتوجهت معها إلى منزل ابنة عمها.

صاحت، بينما كنَّا نمضي في الطريق: «ماري لن تتقبَّلني؛ لن تنظر إليَّ حتى؛ وستكون مُحقةً في ذلك! إهانة مثل هذه لا يمكن أن تُغتفر أبدًا. لكن الرب يعلم أنني ظننتُ أني مُحقة في شكوكي. لو كنتَ تعرف …»

قاطعتُها: «أعرف ذلك قطعًا. لكن ماري تُقر بأن الأدلة الظرفية ضدها كانت دامغةً جدًّا، كانت هي نفسها مذهولة، تتساءل إن كان يمكن أن تكون بريئةً مع تلك الأدلة ضدَّها. لكن …»

«انتظر، يا إلهي، انتظر؛ هل قالت ماري ذلك؟»

«أجل.»

«اليوم؟»

«أجل.»

«لا بد أن ماري تغيَّرت.»

لم أُجِبْ؛ أردتُها أن ترى بنفسها مدى ذلك التغيير. لكن عندما توقفَت العربة، بعد بِضع دقائق، وأسرعتُ معها إلى داخل المنزل الذي كان شاهدًا على الكثير من البؤس، كنت مهيَّأً بصعوبةٍ لأرى الاختلافَ في ملامح وجهها الذي كشفَته إضاءةُ الردهة. كانت عيناها لامعتَين، ووجنتاها متألقتين، وحاجباها مرفوعين وقد زال عنهما الحزن؛ وسرعان ما ذاب جليدُ اليأس في إشراق شمس الأمل.

كان توماس، الذي كان قد فتح البابَ، سعيدًا سعادةً غامرة لرؤية سيدتِه مجددًا. قال: «الآنسة ليفنوورث في غرفة الجلوس.»

أومأتُ برأسي، ثم ملاحظًا أن إلينور لم تستطع أن تتحركَ خطوةً بسبب الاضطراب، سألتُها عما إذا كان بوُسعها أن تدخل على الفور، أو تنتظر حتى تُصبح أكثر هدوءًا وتماسكًا.

«سأدخل على الفور؛ لا أطيق الانتظار.» ثم انسلَّت من قبضة يدي، واجتازت الممرَّ ووضعت يدها على ستارة غرفة الجلوس، وعندئذٍ أُزيحت فجأةً من الداخل وخرجت ماري.

«ماري!»

«إلينور!»

كان رنين صوتَيهما يحكي كل شيء. ولم أحتج إلى أن أُلقيَ نظرةً عليهما حتى أعرف أن إلينور كانت جاثيةً عند قدم ابنةِ عمها، وأن ابنة عمها قد رفعَتها في شيءٍ من الفزع. لم أحتج إلى أن أسمع: «إن الذنب الذي اقترفتُه بحقكِ كان عظيمًا جدًّا، لا يمكنكِ أن تسامحيني!» تبعه بصوتٍ خفيض: «إن إحساسي بالخزي كفيلٌ أن يحملني على أن أغفرَ أي شيء!» حتى أعرف أن ظلال الفُرقة الأبديَّة بينهما قد تَبَدَّدت كغيمةٍ، وأن المستقبل كان يحمل لهما أيامًا مشرقةً مفعَمة بالمودة والثقة المتبادَلة.

ومع ذلك عندما سمعت، بعد نصف الساعة أو أكثر، بابَ غرفة الاستقبال، التي كنتُ قد انزويتُ فيها، يُفتَح بنعومة، ورافعًا ناظِرَيَّ لأعلى، رأيتُ ماري واقفةً عند عتبة الباب، ونورُ تواضعٍ صادق يشع على وجهها، أعترف أنني فوجئتُ من اللين الذي طرأ على جمالها المتغطرِس. فغمغمتُ في داخلي: «نِعم الخزيُ الذي يُزكِّي النفس»، ومتوجهًا إليها، بسَطتُ يدي باحترامٍ وتعاطف لم أحسب مطلقًا أني سأشعر بهما ناحيتها مرةً أخرى.

بدا أن هذا التصرف قد أثَّر فيها. فتورد وجهُها بشدة، وأقبلَت ووقفت بجانبي. وقالت: «أشكرك. أشعر بامتنانٍ شديد؛ لم أُدرك أبدًا مدى هذا الامتنانِ حتى الليلة؛ ولكن أعجزُ عن التعبير عنه الآن. ما أرغب فيه هو أن تدخل وتُساعدني في إقناع إلينور أن تقبل هذه الثروةَ مني. فهي لها، كما تعرف؛ أُوصِيَت بأن تكون لها، أو كانت ستُصبح لها لو …»

قلتُ، في خوفٍ أثاره هذا الطلبُ مني بشأن تلك المسألة: «انتظري. هل تدبَّرتِ هذا الأمر جيدًا؟ هل غرضكِ المحدد أن تنقلي ثروتكِ إلى ابنة عمكِ؟»

كانت نظرتها كافيةً من دون أن تهمس بالسؤال الذي قالته بعدها: «أه، كيف تسألني بعد كل هذا؟»

كان السيد كلافرينج جالسًا بجانب إلينور عندما دخلنا غرفةَ الجلوس. وقف في الحال، وانتحى بي جانبًا، وقال بجِدٍّ:

«قبل أن تنقضيَ روح الاحترام التي تسود بيننا في تلك الساعة، اسمح لي، يا سيد ريموند، أن أقدم إليك اعتذاري. بين يدَيك وثيقةٌ لم يكن من المفترض أن تُفرض عليك أبدًا. كان تصرُّفي، المبني على خطأ، تصرفًا مهينًا أندم عليه أشد الندم. إن كان بإمكانك أن تُسامحَني، مراعاةً منك للعذاب النفسيِّ الذي كنتُ أقاسيه في ذلك الوقت، فسأشعر أنني مَدينٌ لك إلى الأبد؛ وإن لم …»

«سيد كلافرينج، حَسبُك هذا. إن ما جرى في ذلك اليوم هو أمرٌ يعود إلى الماضي الذي، لسببٍ ما، قرَّرتُ أن أنساه في أسرع وقتٍ ممكن. المستقبل يُبشر بخيرٍ كثيرٍ لنا فلا حاجة إلى أن نُطيل الحديث عما سلف من أيام الشقاء.»

وبنظرة تعكس فهمًا وصداقةً متبادلَين أسرعنا لننضمَّ إلى السيدتين.

أما عن الحديث الذي دار بعد ذلك، فلا داعيَ إلا أن أذكر نتيجته. إذ ظلَّت إلينور متشبثةً برفضها للثروة الموصومة بجُرمٍ، اتُّفِق في النهاية على أن تُكَرَّس لإنشاء ودعم مؤسسةٍ خيرية ذات حجمٍ يكفي لتعودَ بنفعٍ ملموسٍ على المدينة وفُقرائها البائسين. وبعد أن استقرَّا على ذلك، اتجه تفكيرنا إلى أصدقائنا، لا سيما إلى السيد فيلي.

قالت ماري: «يجب أن يعرف. لقد حزن علينا كأبٍ لنا.» وبإحساسها بالندم، كانت ستتولَّى هذه المهمة غيرَ السعيدة المتمثلةَ في إخباره بالحقيقة.

لكن إلينور، بكرمها المعتاد، لم تُصْغ لذلك. وقالت: «لا، يا ماري، لقد عانيتِ بما يكفي. أنا والسيد ريموند سنذهب إليه.»

وتركناهما هناك، وعلى وجهيهما ضوءٌ يعكس أملًا وثقةً متزايدَين، وخرجنا مرةً أخرى إلى الليل، وكذلك إلى حُلمٍ لم أُفِق منه أبدًا، مع أن بريق عينَيها العزيزتين كان منارةَ حياتي شهورًا كثيرةً سعيدة ومبهجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤