مُقدمة

وإِنَّما أُسمي هذه الأسطر مُقدِّمَة؛ لأنَّ النَّاس تَعَوَّدُوا تَسْمِية مِثلها مِثْلَ هذا الاسم؛ فليست هي في حقيقة الأمر مُقدمة، وما كان مثل هذا السفر ليحتاج إلى مُقَدِّمة، وقد قرأ الناسُ فصوله كلها في «السياسة» و«الجهاد» فهم يعرفونها بأنفسهم، ولا يَحْتَاجُون إلى أنْ يُقَدِّمَهَا إليهم أحدٌ، وَمَا كانَ هذا السفر ليحتاج إلى مُقدمة وأنت لا تكادُ تقرأ فصلًا من فصوله إلَّا وجدت فيه مقدمته الخاصة.

ما كان هذا السِّفر ليحتاج إلى مُقدمة فأنا أُسميه سفرًا لا لشيء إلا لأنه مُجلد يجمع طائفة من الصُّحف قد ضُمَّ بعضها إلى بعض، فأنت تستطيع أن تُسميه سفرًا، وأنتَ تَسْتَطِيعُ أنْ تُسميه كتابًا؛ لأنَّ هذه التَّسْمِيةَ صَحِيحَة صادِقَةٌ من الوجهة اللغوية الخالصة، وهي إنْ صَحَّت وصَدقت من هذه الوِجْهة فهي ليست صحيحة ولا صادقة بالقياس إلى الصورة التي أتصورها لما أسميه بحق سفرًا أو كتابًا.

ليست هذه الصحف التي أقدمها إليك سفرًا ولا كتابًا كما أتصور السفر والكتاب؛ فأنا لم أتصور فصوله جملة، ولم أرسم لها خطة مُعَيَّنة ولا بَرْنَامَجًا واضحًا قبل أنْ أَبْدَأ في كتابتها، وإنما هي مباحث مُتفرقة كتبت في ظروف مختلفة وأيام مُتقاربة حينًا ومُتباعدة حينًا آخر، فلستَ تَجِدُ فيها هذه الفكرة القوية الواضحة المُتَّحدة التي يَصْدُر عنها المؤلفون حين يؤلفون كتبهم وأسفارهم، بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا فأحدثك في غير تحفظٍ ولا احتياط أني مهما أكُن قد تكلفت في هذه الفصول من جهدٍ ومشقة؛ فإني لم أُعْنَ بها العناية التي تليق بكتاب يعده صاحبه ليكون كتابًا حقًّا، إنما هي فصول كانت تنشر في صحيفة سَيَّارة ليَقْرَأها النَّاسُ جَمِيعًا فينتفع بقراءتها من ينتفع، ويتفكه بقراءتها من يتفكه، ولم يكن بد لكتابتها من أن يُتَجَنَّب التَّعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي، إذ كانت الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا.

ولقد يكون من الحق عليَّ لنَفْسِي وللأدَبِ ولقُرَّاء هذه الفُصول أنْ أَعْتَرِفَ بأنِّي ما كَتَبْتُ منه فصلًا إلا وأنا أعلم أنَّه شديد النَّقص، مُحتاج إلى استئناف العِناية به والنظر فيه، وأنا أقدر أن سيتاح لي من الوقت وفراغ البال ما يُمكنني من استئناف تلك العناية وهذا النظر، حتى إذا فرغت منه ونشرته السِّياسَةُ أو الجِهَادُ عرضتُ لغيره في مثل هذه الحال العقلية التي عرضت له فيها؛ مُعتزمًا أن أستأنف العِنَاية به والنظر فيه، مُستحييًا أنْ أُقدمه إلى النَّاس على ما فيه من نقص وحاجة إلى الإصلاح.

والأيامُ تَمْضِي والظروفُ تَتَعاقَبُ مُختلفة مُتباينة أشد الاختلاف وأعظم التباين، ولكنها مُتفقة في شيءٍ واحدٍ هو أنها كانت تحول دائمًا بيني وبين ما كنتُ أُريدُ من تجديد العناية، واستئناف النظر؛ وأيُّ الكتَّاب، وأي الباحثين لا يشكو مثل هذا في مثل هذه الأيام التي نعيش فيها؟! أليس كل الناس يحس في هذه الأيام كأنَّ شيئًا قد طَرَأَ على حَرَكَة الزَّمان فأفسد نِظَامَهَا وغَيَّر اطرادها، فهي مُسرعة إلى حدٍّ لم نعهده من قبل ولا نستطيع معه أن ندبر أمورنا، ونقدر حياتنا وحاجاتنا كما نُحِبُّ ونَهوى، حركة الأيَّام أسرع من حركة النفوس، حتى لقد يُخَيَّل إليَّ أنَّ اليومَ في هذا العصر لا يكادُ يعدل ساعات من أيامنا تلك التي قضيناها قبل أنْ تطرأ على مصر هذه الطوارئ السياسية التي تغير فيها كل شيء.

لم أفرغ إذن لهذه الفصول كما يفرغ المؤلف لكتاب، ولم أُعْنَ إذن بهذه الفصول كما يُعنى الباحثُ المُحقق ببحث علمي وأدبي قيِّمٍ، ومع هذا فقد لقيت منَ النَّاس رضًا وصادفت من نُفوسهم هوى، فرَغِبوا إليَّ في أن أَضُمَّ بعضَها إلى بعضٍ وأَجْمَعَها في كتابٍ مُنفرد يمكن حفظه، والتصرُّف به، على غير ما تحفظ الصحف السيارة ويتصرف بها.

ولقد أعرضت عن هذه الرغبة حينًا لا لشيء إلا لأني كنت أرجو أن تُتِيحَ لي الأيامُ شيئًا من فراغ البال، يُمكنني من استئناف النَّظر في هذه الفصول وتهيئتها للجمع والنَّشر، ولكنَّ الأيام لم تُتِح لي ما كنتُ أرجو وما أحسب أنَّها ستتيحه لي قبل أمدٍ بعيد، وأخذ الناس يلحون عليَّ، وتجاوز بعضهم الإلحاح إلى اللوم، فكتب إليَّ ينكر عليَّ أني أذنت بجمع القصص التمثيلية في كتاب، وأبطأت في جمع أحاديث الأربعاء، ويسألني أكان مصدر هذا ازدراء للأدب العربي وإسرافًا في حبِّ الأدب الأجنبي؟ كلا يا سيدي الأستاذ! إنما كان هذا ضنًّا بالأدب العربي وإكبارًا له أن تُنشر فيه فصول ناقصة شديدة الحاجة إلى الإصلاح، وإذ كنتم قد ألححتم من جهة، وأبت الظروف عليَّ ما كنت أريد من جهة أخرى، فدونكم هذه الفصول كما كتبت وكما نَشَرَتْها السياسة، لم أغير فيها حرفًا، ولم أُضف إليها شيئًا، ولم أصلح مما فيها من الخطأ قَليلًا ولا كثيرًا، قد نَشَرَتْها صحيفةٌ سيارةٌ فأصبحتْ حقًّا لكم فأنا أرد إليكم هذا الحق ولست أسألكم إلا شيئًا واحدًا: وهو ألا تنظروا إليها نظركم إلى كتاب في الأدب العربي قد فرغ له صاحبه وعني بتحقيقه وتمحيصه.

قلتُ: إنَّ هذه الفصول ليستْ مُتَّصلة ولا مُلتئمة ولا خَاضِعَة لهذه الفِكرة المُتَّحدة التي يصدر عنها المؤلفون في تأليف كتبهم، ومع ذلك فقد صدرت هذه الفصول عن كاتب واحد، وذهب فيها هذا الكاتب مَذْهبًا واحدًا، وقصد بها إلى غرضٍ واحد، فهي مُتَّحِدَة مُؤتلفة مهما تَخْتَلِف ومهما تنقصها هذه الفكرة الواضحة المُنَظَّمة المُتَّحدة، فروح الكاتب فيها واضح بيِّن، ومذهب الكاتب فيها ظاهر جلي، وغرض الكاتب فيها لا يحتاج إلى أن يدل عليه، بل اشتركت فيه الدولتان العباسية والأموية، وهي لا تكاد تتجاوز طائفة بعينها من هؤلاء الشعراء، وهم أصحاب المُجون والدعابة وطلاب اللهو واللذة، وهي لا تكاد تتجاوز ناحية بعينها من نواحي هؤلاء الشعراء جميعًا هي ناحية مجونهم وإسرافهم، وما كان لذلك من أثرٍ في حياتهم العقلية، وما كان بين ذلك وبين الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك البيئة من صلة.

ولعلك تذكر — وإن كنت قد نسيت فستذكر — أن النتيجة الواضحة التي انتهت إليها هذه الفصول كلها هي أنَّ هذا العصر، الذي انْحَلَّت فيه الدولة الأموية، وقامتْ فيه الدولة العباسية، قد كان عصر شك وعبث ومجون، أو كان الشك والعبث والمجون أظهر مُميزاته.

وأنا أعلم أن هذا لم يعجب الناس ولن يُعجبهم، وأنا أعلم أنَّهم كرهوا وسيكرهون أنْ يعمد كاتب إلى مثل هذه الناحية من نواحي الأدب العربي؛ فيدرُسها درسًا مُفَصَّلًا ويُظهر الناس على دقائقها وأسرارها، ولكني مع ذلك عمَدتُ إليها متى أتيح لي ذلك؛ لأني أعلم أن حياة القدماء كلها ملك للتاريخ، وأن درس هذه الحياة كلها نافع للمؤرخ والأديب بل واجب عليهما، وأنَّ من الإثم وتعمد الجهل أن نتكلف إخفاء ناحية من النواحي الأدبية ربما كانت أحق من غيرها أن تُدرس ويُعنى بها الباحثون، وما كان لي، ولن يكون لأحدٍ من الباحثين الذين يُقَدِّرون العلمَ وكرامته، أنْ نُغير التاريخ، أو أنْ نُظهر عصرًا من عصور الأمة العربية على غير ما كان عليه.

فنحن لم نخلُق أبا نُوَاس وأصحابه، ونحن لم نُلهمهم اللهو والمجون، ونحن لم نبعثهم على العبث وطلب اللذة، ولكننا وجدناهم كذلك فكُنَّا بين اثنين: إمَّا أنْ نجهلهم، وإما أنْ نَعلمهم، فآثرنا الثانية على الأولى واعتقدنا أن العلم خير من الجهل، وأنَّ الصواب خير من الخطأ، وأنَّ الشجاعة في التاريخ خير من الجبن فيه.

ونحن نعلم حق العلم أن ليس على عقول الناس ولا أخلاقهم خطر من مثل هذه المباحث الأدبية، فالناسُ لم ينتظروا لهو أبي نُوَاس وأصحابه ليعرفوا اللهو، والناس لم ينتظروا هذه الفصول وأمثالها ليعرفوا العبث، ونحنُ لم نكتب هذه الفصول وأمثالها لنحبِّبَ العَبَثَ إلى النَّاس ونُرَغِّبهم فيه؛ فإنَّ في ظروف هذه الحياة التي نحياها مُرَغِّبات في اللهو ومُحَرِّضات على العبث أقوى وأبلغ من لهو أبي نُوَاس، وعبث «مطيع» و«حماد».

قُلْ ما شئت في هذه الفصول، فلن تستطيع أن تنكر أن لها نتيجتين قيمتين؛ الأولى: أنها جلت ناحية من نواحي تاريخ الأدب العربي لم تكن واضحة ولا بَيِّنة، وليس هذا بالشيء القليل. الثانية: أن فيها ضربًا من مناهج البحث أحسب أنَّ الأدباء لو يفهمونه لاستطاعوا أنْ يستغلوا هذه الكنوز القَيِّمة التي لا تَزَالُ مَجْهُولة، والتي نشأ من جهل الناس إياها غضهم من الأدب العربي، وانصرافهم عنه في أنفة وازدراء.

إن الذين يزدرون الأدب العربي، ويغضون منه، يجهلون منه هذا الأدب جهلًا مُنكرًا، وما كان لمن جهل شيئًا أن يحكم عليه.

فكرتُ في هذا كله حين ألح عليَّ المُلحون في نشر هذه الفصول؛ فانتهيتُ إلى أن أذنت بنشرها كما هي، وأنا أرجو أن يكون لها ما أطمع فيه من أثر في فهم الأدب العربي وكتابة تاريخه.

طه حسين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤