الفصل الثالث عشر

الخمر عند أبي نواس١

بعد العهد بيننا وبين أبي نواس، فقد مضت أشهر بيننا وبين آخر مقال، كتبناه عن وصف الخمر في شعره، وما إخالك إلا قد نسيت هذا المقال، كما هو شأن القارئ لما يكتب في صحيفة سيارة، مهما يكن هذا الذي يكتب، سياسة أو أدبًا أو غير السياسة والأدب، وما إخالك إلا نسيت هذا المقال، على أنه لم يكن إلا مقدمة لما نريد أن نقوله موجزين عن خمريات أبي نواس.

فقد رأينا أن أبا نواس كان — بعد الوليد بن يزيد — أشد الشعراء عناية بالخمر وأكثرهم افتنانًا فيها، وأن الناس جميعًا شهدوا له في ذلك بالسبق والتقدم، لم يفضلوا عليه أحدًا من الشعراء، الذين جاءوا قبله أو بعده، ورأينا أن الناس محقون في ذلك، ولكننا رأينا أن معاني أبي نواس في الخمر — على أنها كثيرة مختلفة — يكاد ينالها الإحصاء، ونستطيع أن نقسمها إلى قسمين اثنين:
  • القسم الأول: هذه المعاني الكثيرة، التي كانت تعجب القدماء، وتفتن النقاد منهم، ثم أصبحت لا تعجبنا، أو لا تفتننا على أقل تقدير، كتشبيه الخمر بالعذراء تخطب إلى أبيها الدهقان، وكالإسراف في وصف قدم الخمر وما مر عليها من الأجيال والعصور، وكالافتنان في وصف طعم الخمر وريحها.
  • القسم الثاني: هذه المعاني التي أعجبت القدماء وفتنتهم، وما زالت تعجبنا وتفتننا؛ لأنها لاءمت ذوق القدماء وحياتهم، وما زالت تلائم ذوقنا وحياتنا، ولأنها حببت إلى القدماء شرب الخمر، وما زالت تحبب إلى المحدثين شرب الخمر، وهذه المعاني قليلة في شعر أبي نواس، قليلة في شعر غيره من الشعراء، قليلة في الخمريات قلتها في غير الخمريات، ذلك لأن المعاني التي تتفق على استحسانها العصور المتباعدة، والأجيال المتباينة، قليلة بطبعها في كل فن من فنون الشعر والأدب.

ثم مثلنا في ذلك المقال لهذه المعاني وتلك، وأشرنا إلى أن شعر أبي نواس في الخمر لم يكن هزلًا كله، ولم يكن الغرض منه المجون وحده، أو الإسراف في وصف اللذات، وإنما كان أبو نواس يتخذ الخمر وسيلة إلى شيء من الجد، له خطره في الأدب، ووسيلة إلى شيءٍ آخر من الجد، له خطره في غير الأدب.

كان أبو نواس إذن حين يصف الخمر، أو حين يتغزل، يقصد إلى ما يقصد إليه الشعراء المجيدون من وصف الحس والشعور، وتمثيل العاطفة تمثيلًا صحيحًا ولكنه كان يقصد — مع هذا الشيء المشترك بينه وبين الشعراء — إلى شيئين آخرين، أشرنا إليهما فيما مضى ونعود إليهما اليوم.

كان أبو نواس يريد أن ينهج بالشعر منهجًا جديدًا، لم ينهجه المتقدمون، أو قل: إنهم نهجوه، ولكنهم لم يشعروا بذلك، ولم يتخذوه عقيدة أو مذهبًا في الأدب، كان يريد أن ينهج بالشعر منهجًا يشبه المنهج الذي نريد نحن وأصحابنا أن ننهجه بالكتابة، كان يريد أن يتخذه الشعر لسانًا للحياة الحاضرة، وأن يلائم بين الشعر وبين ذوق الشعراء، والذين يسمعون للشعراء، كان يريد — بعبارةٍ مجملة — أن يعدل عن أساليب القدماء في وصف الأطلال والبكاء عليها، وفي تغني الإبل والشاء، إلى وصف الحياة التي يحياها الشعراء والمستمعون لهم، إيثارًا للصدق وبُعدًا عن الكذب.

كان أبو نواس إذن في هذا الشعر المخالف للأخلاق وأصول الفضيلة، محبًّا للأخلاق وأصول الفضيلة، كان يؤثر الصدق وينكر الكذب، ولكن يجب أن تفهم هذا على وجهه، فلم يكن أبو نواس مؤثرًا للصدق؛ لأنه صدق لم يكن واعظًا ولا ناسكًا، لم يكن حكيمًا يبشر بالحكمة، أو فيلسوفًا يدعو إلى الفلسفة، وإنما كان شاعرًا يصدق في شعره، ويحب أن يتحدث إلى الناس بما يفهمونه، فينال منهم موضع الإعجاب والفتنة، كان يحب الصدق حبًّا عمليًّا، أو قل: كان يحب الصدق حبًّا فنيًّا، ولم يكن يدعو إليه؛ لأن الدعوة إليه ترضي الدين، أو ترضي الفضيلة، وإنما كان يدعو إليه؛ لأن الدعوة إليه ترضي الذوق، وترضي الجمال الفني.

وهو لم يكن يدعو إلى تجنب أساليب القدماء في وصف الأطلال والبكاء عليها وحدها، لم يكن يدعو إلى تجنب أساليب القدماء في المعاني فحسب، وإنما كان يدعو إلى تجنب سنة القدماء في المعاني، وفي الألفاظ جميعًا، كان يريد ألا يستعير المُحْدَثون معاني القدماء؛ لأن لهم معانيهم، ولهم حياتهم، وكان يريد ألا يسرف المحدثون في استعارة ألفاظ القدماء؛ لأن لهم ألفاظهم، أي لأن لغتهم تطورت كما تطورت حياتهم، أو لأن حياتهم تطورت، فيجب أن تتطور اللغة لتلائم هذه الحياة.

حدثت معانٍ لم يكن يألفها القدماء، فيجب أن تحدث لهذه المعاني ألفاظ غير الألفاظ التي ألفها القدماء، رقت حاشية الحياة الحديثة، وظهر فيها الترف ولين العيش، فيجب أن تصطنع الألفاظ الرقيقة لهذه الحياة الرقيقة.

ويجب أن نلاحظ هنا شيئين؛ الأول: أن هذا التطور في اللغة واقع على كل حال، سواء أراد الشعراء والكتاب أم لم يريدوه، وآية ذلك ظاهرة في اللغة العربية وغير العربية، فشعر الأمويين ليس كشعر الجاهليين، وإن كان الشبه بين هذين النوعين من الشعر قويًّا، وشعر العباسيين ليس كشعر الأمويين، وقل مثل ذلك في النثر أيام بني أمية وأيام بني العباس، التطور إذن واقع؛ لأنه قانون لا منصرف عنه لأي جماعة من الجماعات، والناس خاضعون لهذا التطور، راضون عنه، ولكن المشقة كل المشقة ليست في خضوعهم له ورضاهم عنه، وإنما هي في «اعترافهم» به، واتخاذه مذهبًا وطريقًا.

وهذا هو الشيء الثاني الذي نريد أن نلاحظه: وهو أن الخلاف بين القدماء والمحدثين، يكاد يكون في «الاعتراف» بالحديث لا في «قبول» الحديث، فالحديث مقبول بطبعه؛ لأنه الحياة، ولكن الاعتراف به شاق؛ لأننا فطرنا على المحافظة والاتصال بالسنن الموروثة.

ومن هنا نفهم أن أبا نواس، كان أشد الناس إلحاحًا في تغيير الأسلوب الشعري، وتجديد اللفظ والمعنى، ونفهم أنه لم يكن وحده مغير الأسلوب الشعري ولا مجدد اللفظ والمعنى، وإنما كان الشعراء المعاصرون له — سواء منهم أنصاره وخصومه — يغيرون الأسلوب الشعري، ويجددون اللفظ والمعنى أيضًا، وكان منهم من يعترف بهذا التغيير، ويرى أنه مشروع، فيمضي فيه، ويحرص عليه، وكان منهم من ينكر هذا التغيير، ويتكلف الفرار منه.

وقع هذا أيام أبي نواس، ووقع هذا في القرن السابع عشر الفرنسي، ووقع هذا في كل عصر من العصور التي تطورت فيها الأمم، وتطورت فيها اللغات أيضًا.

كان أبو نواس إذن يطالب الشعراء بأن يكونوا صادقين، غير منافقين مع أنفسهم، وانظر إلى طريقته في الدفاع عن رأيه، وأخذ الناس بهذا الرأي:

عَاج الشَّقِيُّ عَلَى رَسْمٍ يُسَائِلُهُ
وَعُجْتُ أَسْأَلُ عَنْ خَمَّارةِ الْبَلَدِ
يَبْكِي علَى طَلَل المَاضِينَ مِنْ أَسَدٍ
لا دَرَّ دَرُّكَ قُلْ لِي مَنْ بَنُو أَسدِ
وَمَنْ تَمِيمٌ وَمَنْ قَيْسٌ وَلَفُّهُمَا
لَيْسَ الْأَعَارِيب عِنْدَ اللهِ مِنْ أَحدِ
لا جَفَّ دَمْعُ الَّذِي يبْكِي عَلَى حَجَرٍ
وَلا صَفَا قَلْبُ مَنْ يَصْبُو إِلَى وَتِدِ
كَمْ بَيْنَ نَاعِتِ خَمْرٍ فِي دَسَاكِرِهَا
وَبَين باكٍ عَلَى نُؤْىٍ وَمُنْتَضَدِ
دَعْ ذَا عدِمْتُك واشْرَبْهَا مُعَتَّقَةً
صفْراءَ تَفْرُقُ بَينَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ
مِنْ كَفِّ مُضْطَمِرِ الزُّنَّارِ مُعْتَدِلٍ
كأَنَّهُ غُصْنُ بَان غَيْرُ ذِي أَوَدِ
أَمَا رأَيْتَ وجُوه الْأَرْضِ قَدْ نَضَرتْ
وَأَلْبَسَتْهَا الزَّرَابِي نَثْرة الْأَسدِ
حَاكَ الرَّبِيعُ بِهَا وَشْيًا وجَلَّلَهَا
بِيَانِعِ الزَّهْرِ مِنْ مَثْنَى وَمِنْ وَحَدِ

فانظر إليه، كيف آثر العنف في خطاب خصمه، فأسرف في ذم القديم، والنعي على من يتكلفه، وأسرف في مدح الجديد، والحث عليه، وانظر إلى تبرمه بأسد، ومن يبكي على أسد، وإلى ذمه لتميم وقيس والعرب كافة، ثم انظر إليه كيف يحقر هذا القديم، ويرفع من شأن الجديد، ويأخذ الناس بأن ينظروا إلى ما حولهم، من جمال الطبيعة، فيألفوه ويصفوه، ولا يشغلوا عن رياض العراق وجناته، بطلول الجزيرة العربية وصحاريها، ومثل هذا الشعر كثير في خمريات أبي نواس، كثير في غير الخمريات أيضًا، يكفي أن ترجع إلى ديوانه، لتقنع منه بما تريد.

هذا أحد الشيئين اللذين كانا يقصد إليهما أبو نواس، حين يَفْتَنُّ في وصف الخمر واللذة.

والشيء الآخر: مذهبه في الحياة لا في الأدب، وذكرناه كثيرًا، فسخط الناس وأشفقوا، وغلا بعضهم في السخط والإشفاق، حتى ظن بنا أنا نأتمر بالدين والعادة والخلق، حين لم نكن نفكر إلا في شيءٍ واحد، هو التاريخ، هذا الشيء الذي نريد اليوم أن نمر به مسرعين، هو المجون؛ فقد كان أبو نواس مجددًا في كل شيء، مجددًا في الشعر، ومجددًا في الحياة، ويقيننا نحن أن أبا نواس لم يكن مجددًا وحده، وإنما كان أهل عصره كلهم مجددين أيضًا.

والفرق بين أبي نواس وغيره من معاصريه، أنه كان يريد أن يحمل هؤلاء المعاصرين على أن يعترفوا بحياتهم، ولا يكذبوا على أنفسهم، فإذا كانوا قد نبذوا القديم واجتنبوه في واقع الأمر، فمن الحق عليهم ألا يخفوا هذا ولا يفروا منه؛ فهو إذن في قضية المجون، يسلك نفس الطريق التي يسلكها في قضية الأسلوب الأدبي، يرى أن هناك تطورًا واقعًا، وأننا خاضعون لهذا التطور، وأننا ننكر هذا التطور، ولا ننكر خضوعنا له، وإنما نؤمن به إيمانًا، ونعترف به اعترافًا، وحجته في ذلك أن هذا سبيل الصادقين، وأنك قد تستطيع أن تخفي ما تشاء على من تشاء، ولكنك لن تستطيع أن تخفي على الله شيئًا، والله وحده هو الذي يجب أن تصدقه في سرك وجهرك، فإذا اجترأت على معصية الله ومخالفة حدوده، فما يعنيك أن يقول الناس فيك؟! وانظر هذه الأبيات:

… … … … …
… … … … …
لا تَسْقِنِي إِنْ كُنْتَ بِي عالِمًا
إِلَّا الَّتِي أَضْمَرْتُ فِي صدْرِي
هَاتِ التِي تَعْرِفُ وَجْدِي بِها
واكْنِ بِما شِئْتَ عَنِ الخَمْرِ
يا حَبَّذَا الجهْرُ بِأَمْرِ الصِّبَا
مَا كُنْتَ مِنْ رَبِّكَ في سَتْرِ

هو إذن مقتنع بوجوب العدول عن القديم، والاعتراف بالجديد، وهو شديد الاقتناع، قد يتكلف في سبيله ما يتكلفه المقتنعون، من الإسراف والتعصب والخروج عن الطور، وانظر إلى هذه الأبيات، التي لم يحفل فيها أبو نواس بقاعدة دينية أو خلقية، وإنما اتخذ الإباحة والصراحة مذهبًا وسبيلًا:

أَلا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِي الخَمْرُ
وَلا تَسْقِنِي سِرًّا إِذَا أَمْكَنَ الجَهْرُ
فَعَيْشُ الفَتَى فِي سَكْرَةٍ بعْدَ سَكْرةٍ
فَإِن طَالَ هذَا عِنْدَهُ قَصرَ الدَّهْرُ
ومَا الْغَبْنُ إِلَّا أَنْ تَرَانِيَ صَاحِبًا
وَلا الْغُنْمُ إِلَّا أَنْ يُتَعْتِعَنِيَ السُّكْرُ
فَبُحْ بِاسْمِ منْ أَهْوَى ودَعْنِي مِنَ الْكُنَى
فَلا خَير فِي اللَّذَّاتِ مِنْ دُونِهَا سِتْرُ
وَلا خَيرَ فِي فَتْكٍ بِغَيرِ مَجَانَةٍ
وَلا فِي مُجُونٍ لَيْس يَتْبَعُهُ كُفْرُ

ولا تحسبن أبا نواس شاذًّا في هذا أو منتحلًا إياه انتحالًا، وإنما هو أثر البيئة فيه، وهو نفسه يحدثنا بهذا، فيقول:

وقائِلٍ هلْ تُرِيدُ الحَجَّ قُلْتُ لَهُ
نَعمْ إِذَا فَنِيَتْ لذَّاتُ بَغْداذِ
أَمَّا وَقُطْرُبُّلٌ مِنْها بِحَيْثُ أَرَى
فَقُنَّةُ الْفَرْكِ مِنْ أَكْنَافِ كَلْوَاذِ
فَالصَّالِحِيَّةُ فَالْكَرْخُ التي جمَعَتْ
شُذَّاذَ بغْدَاد مَا هُمْ لِي بِشُذَّاذِ
فكَيْف بِالحجِّ لِي مَا دمْتُ مُنْغَمِسًا
… … … … …
وَهَبْكَ مِنْ قَصْفِ بَغْدَادٍ تُخَلِّصُني
كَيْفَ التَّخَلُّصُ لي منْ طَيْرِ ناباذِ

ويقول بعد أن حج:

قَالُوا تَنَسَّكَ بَعْدَ الحَجِّ قُلْتُ لَهُمْ
أَرَى وأَرْجُو وَأَخْشَى طَيْرَ ناباذَا
أَخْشى قُضَيِّب كَرْمٍ أَنْ يُنازِعَني
رَأسَ الْقِطَارِ وإِنْ أَسْرَعْتُ إِغْذَاذَا
مَا أَبْعَدَ النُّسْكَ مِنْ قَلْبٍ تَقسَّمَهُ
قُطْرُبُّلٌ فَقُرَى بُنَّى فَكَلْوَذَا
فَإِنْ سَلِمْتُ، وَمَا قَلْبِي عَلَى ثِقَةٍ
مِنَ السَّلامَةِ لَمْ أَسْلَمْ بِبَغْدَاذَا
مَا شِئْتُ مِنْ بَلَدٍ دَانٍ مَنَازِهُهُ
… … … … …
وقْحًا تَوَاصَوْا بِترْكِ الْبِرِّ بَيْنَهُمُ
تَقُولُ ذَا شَرُّهُمْ بَلْ ذَاكَ بَلْ هذَا
لَيْسُوا كَقَوْمٍ إِذَا حَاذَيْتَ مَجْلِسهُمْ
أُنْفِذْتَ بِالتَّرْكِ وَالْأَركَانِ إِنْفَاذَا
هُنَاكَ لا نَتَخَطَّى الْأُذْنَ لائِمَةٌ
وَلا تَرَى قَائِلًا مَنْ ذا وَلا مَاذَا

فقد رأيت مما روينا، أن أبا نواس لم يبتدع مذهبه في القديم، ولا في المجون ابتداعًا، ولم يتكلفه تكلفًا، وإنما عاش في عصر وبيئة، كانا يضطرانه إلى أن يرى هذا الرأي، وينهج هذا المنهج، وكل الفرق بينه وبين خصومه وأنصاره — كما قلنا — أنه كان صريحًا يؤثر الاعتراف بحياته التي يحياها، على التستر والتكتم، ولسنا نقول: إنه مصيب، ولسنا نقول: إنه مخطئ؛ فقد يختلف الناس في أن الصراحة خير أو شر، إذا كان موضوعها الإثم والمجون، وليس يعنينا أن تكون صراحة أبي نواس شرًّا أو خيرًا، وليس يعنينا الآن إثم أبي نواس أو مجونه، أو بغضه للقديم وحبه للحديث، ليس يعنينا شيء من هذا في نفسه، فنحن لا نتخذ أبا نواس قدوة ولا إمامًا، ولا نعتقد أن أبا نواس يصلح قدوة أو إمامًا في ضروب الحياة المختلفة، وإنما نحن نذهب مذهب المؤرخ، ويخيل إلينا أن هذا البحث على إيجازه، ينتج لنا أن شعر أبي نواس في الخمر على ما فيه من جمال فني يعجب الأدباء والنقاد، كان يرمي إلى غرضين اثنين: الاعتراف بالجديد في الأدب، والاعتراف بالجديد في الحياة، بل نستطيع أن نوجز فنقول: كان شعر أبي نواس كله، رفضًا للقديم في كل شيء، وكلفًا بالجديد في كل شيء.

والآن وقد عرفنا فلسفة أبي نواس في الخمر، لا ينبغي أن ننصرف عن هذا البيت من شعره، دون أن نشير إلى ما له من المقطوعات، والقصائد التي تنظر إليها في نفسها النظر الفني الخالص، فلا تستطيع إلا أن تعجب بها وترضى عنها، فتقرأها، وتقرأها، وتميل إلى حفظها، وتميل إلى أن تسمعها في الغناء.

كثير جدًّا هذا النوع من شعر أبي نواس في الخمر، وكأنه كان يريد حين يضع هذه المقطوعات أن تتخذ للغناء والتلحين، تمجيدًا للخمر، وتأييدًا لمذهبيه في الأدب والمجون، فأنت تذكر همزيته المشهورة:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وتذكر أني قد حللتها في غير هذا المكان، وتذكر قصيدته الأخرى:

أَعَاذِلُ أَعْتَبْتُ الْإِمَام وَأَعْتَبَا
وأَعْرَبْتُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ وَأَعْرَبَا

وانظر إلى هذه القصيدة، وقد كان فيها جدال بينه وبين مسلم بن الوليد:

ذَكَرَ الصَّبُوحَ بِسُحْرَةٍ فَارْتَاحا
وَأَمَلَّهُ دِيكُ الصَّبَاحِ صِيَاحَا
أَوْفَى عَلَى شَرَفِ الجِدَارِ بِسُدْفَةٍ
غَرِدًا يُصفقُ بِالجَنَاحِ جَنَاحَا
بَادِرْ صَبَاحَكَ بِالصَّبُوحِ وَلا تَكُنْ
كَمُسَوِّفينَ غَدَوْا عَلَيْكَ شِحَاحَا
وَخَدِينِ لَذَّاتٍ مُعَلِّل صاحِبٍ
يَقْتَاتُ مِنْهُ فُكاهَةً وَمُزَاحَا
نبَّهْتُهُ واللَّيْلُ مُلْتَبسٌ بِهِ
وَأَزَحْتُ عَنْهُ نِقَابَهُ فَانْزَاحَا
قَالَ ابْغِنِي المِصْبَاح قُلْتُ لَهُ ائَّتِدْ
حسْبي وَحَسْبُكَ ضَوْءُهَا مِصْبَاحَا
فَسَكَبتُ مِنْهَا في الزُّجاجةِ شَرْبَةً
كَانَتْ لَهُ حَتَّى الصَّبَاحِ صَبَاحَا
مِنْ قَهْوَةٍ جَاءَتْك قَبْلَ مِزَاجِهَا
عُطُلًا فَأَلْبَسَهَا المِزَاجُ وِشَاحا
شَكَّ الْبِزالُ فُؤَادَهَا فَكأَنَّمَا
أَهْدَتْ إِلَيْكَ بِريحهَا تُفَّاحَا
صَهْبَاءُ تَفْتَرِسُ النُّفوسَ فَمَا تَرَى
مِنْهَا بِهِنَّ سِوَى السُّبَاتِ جِراحَا
عمِرَتْ يُكَاتِمُكَ الزَّمَانُ حَدِيثَهَا
حتَّى إِذَا بَلَغَ السَّآمَةَ بَاحَا

وانظر إلى هذه المقطوعة، التي تكلف أبو نواس فيها البديع، فأحسن التكلف:

عَاذِلي في الْمُدَامِ غَيْرَ نَصِيحِ
لَا تَلُمْني عَلَى شَقِيقَةِ رُوحي
لَا تلُمْني عَلَى التي فَتنَتْنِي
وأَرَتْني الْقَبِيحَ غَيْرَ قَبيحِ
قَهْوَةُ تَتْرُكُ الصَّحِيحَ سقِيمًا
وَتُعِيرُ السَّقِيمَ ثَوْبَ الصَّحِيحِ
إِنَّ بَذْلي لَهَا لَبَذْلُ جَوَادٍ
واقْتِنَائِي لَهَا اقْتِنَاءُ شَحِيحٍ

وانظر إلى هذه الأبيات، التي لا يشك قارئها أنها قيلت أمس أو اليوم؛ لأنها تصف شيئًا مما نحن فيه، وأحسب أنها ستظل جديدة على الدهر:

تَفْتِيرُ عَينَيْكَ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّكَ تَشْكو سَهَرَ الْبَارِحَهْ
عَلَيكَ وَجْهٌ سَيِّئ حَالُهُ
مِنَ لَيْلَةٍ بِتَّ بِهَا صَالِحَهْ
وَنَفْحَةُ الْخَمْرِ وَأَنْفَاسُهَا
وَالْخَمْرُ لا تَخْفَى لَها رَائحَهْ
وَغَادَةٌ هارُوتُ فِي طَرْفِهَا
وَالشَّمْسُ فِي مَفْرقِهَا جَانِحَهْ
تَسْتَقْدِحُ العُودَ بِأَطْرَافِهَا
وَنَعْمَهُ فِي كبِدِي قَادِحَهْ

وانظر إلى هذه الأبيات أيضًا، وحدثني، أليست وضعت لتغنى:

أَلْهُ بِالْبِيضِ الْمِلاحِ
وَبِقَيْنَاتٍ وَرَاحِ
لَا يَصُدَّنَّكَ لَاحٍ
هُوَ عَنْ سُكْرِكَ صَاحِ
لَيْسَ لِلْهَمِّ دَوَاءٌ
كاغْتَبَاقٍ واصْطِبَاحِ
فَلَعَمْرِي مَا يُدَاوَى الـْ
ـهَمُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ

ولو أني أردت أن أروي لك كل ما يعجب من هذا الشعر لما فرغت، ولكني أريد أن أختم هذا الفصل بقصيدةٍ كلها جد، وقد أعجب بها العلماء والنقاد في القرن الثالث؛ لأن أبا نواس عرض فيها للوصف فأجاده، وأحسنه إحسانًا عظيمًا، وأعجب بها أنا؛ لأن أبا نواس أراد أن يبكي الأطلال والديار فبكاها، ولكنه لم يبك أطلال البادية، وإنما بكى أطلال الحاضرة، لم يبك أطلال حي ارتحل، وإنما بكى أطلال الشرب وأصحاب اللهو، بعد أن فرغوا من لهوهم، وانصرفوا عن ملهاهم، فتركوا فيه ما ترك أمثالهم من الآثار، فأبو نواس لا يذكر الخيمة ولا النؤي ولا الوتد، وإنما يذكر ما ستسمع:

وَدارِ نَدَامَى عَطَّلُوهَا وَأَدْلَجُوا
بهَا أَثَرٌ مِنْهُمْ جَدِيدٌ وَدارِسُ
مَسَاحِبُ مِنْ جَرِّ الزِّقاق عَلَى الثَّرَى
وَأَضْغاثُ رَيْحانٍ جَنِيٌّ ويَابِسُ
حَبَسْتُ بِهَا صَحْبي فَجَدَّدْتُ عَهْدَهُمْ
وَإِنِّي عَلَى أَمْثَالِ تِلكَ لَحَابِسُ
وَلَمْ أَدْرِ مِنْهُمْ غَيْرَ مَا شَهدَتْ بِهِ
بِشَرْقيِّ سَاباطَ الدِّبَارُ البَسَابِسُ
أقمنا بها يومًا ويومين بعده
ويومًا له يَوْمُ التَّرَحُّلِ خَامِسُ
تُدَارُ عَلَيْنَا الْكَأْسُ فِي عَسْجدِيَّةٍ
حَبَتْهَا بِأَنْوَاعِ التَّصَاوِيرِ فارِسُ
قَرَارَتُهَا كِسْرَى وَفي جَنَبَاتِهَا
مَهًى تَدَّرِيهَا بِالْقِسِيِّ الْفَوَارِسُ
فَلِلْخَمْرِ مَا زُرَّتْ عَلَيْهِ جُيُوبُهَا
وَلِلْمَاءِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلانِسُ

أرأيت إلى هذه الآثار التي تركها جر الدنان؟ أرأيت إلى هذا الريحان جنيه ويابسه؟ هذه هي أطلال أبي نواس، ثم أتحس في هذه القصيدة شيئًا من الميل إلى الفرس والإعجاب بهم، والحنين إلى عهدهم القديم؟! ثم أترى وصف الكأس وما فيها من صورة، وتقسيم هذه الصورة بين الخمر ومزاجها؟! ثم انظر إلى هذا البيت الذي يبتدئ به أبو نواس إحدى قصائده، وانظر إلى ما فيه من هذه السخرية العصرية بأصحاب الأطلال والباكين عليها، بامرئ القيس وأصحابه:

قُلْ لِمَنْ يَبكِي علَى رَسْمٍ دَرَسْ
واقِفًا مَا ضَرَّ لَوْ كانَ جلَسْ
تَصِفُ الرَّبْعَ وَمَنْ كانَ بِهِ
مِثْلَ سَلْمَى وَلُبَيْنَى وَخَنَسْ
اتْرُكِ الرَّبْعَ وسَلمَى جَانِبًا
وَاصْطَبِحْ كَرْخِيَّةً مِثلَ الْقَبسْ

هذه طائفة من شعر أبي نواس في الخمر، لم نتكلف اختيارها، ولا نشك في أن لأبي نواس خيرًا منها، ولكننا أطلنا في هذا الباب، فلننتقل منه إلى الغزل في الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢٦ ذي القعدة ١٣٤١ / ١١ يونيو سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤