الفصل السادس والعشرون

السيد الحميري:١ علويون، وعباسيون

اضطرنا ذكر أبان بن عبد الحميد إلى أن نعرض للشعر السياسي في صدر أيام العباسيين، فذكرنا أبان بن عبد الحميد نفسه، ورأينا مذهبه، وكيف كان يتخذ التشيع للعلويين لونًا سياسيًّا، كسادته البرامكة، ثم كيف لم يمنعه هذا أن يكون حربًا على العلويين، كسادته البرامكة أيضًا، ثم ذكرنا هذا الشاعر الذي قصره شعره السياسي على بني العباس، فدافع عنهم وناضل، حتى قتله رجل من شيعة العلويين غيلة، وهو مروان بن أبي حفصة، الذي كان خليقًا أن يكون أموي النزعة، ولكن حبه للمال، وتهالكه عليه، قطع الصلة بينه وبين قديمه، وحمله على أن يقف شعره على من كان بيدهم المال والسلطان.

ونريد اليوم أن نرى شاعرًا سياسيًّا ثالثًا، يختلف كل الاختلاف عن هذين الرجلين، اللذين رأيناهما، فهو لم يكن فارسيًّا، ولا ميالًا إلى الفرس، ولا متصلًا بزعمائهم، ولا متأثرًا بحضارتهم تأثرًا خاصًّا، وإنما هو رجل عربي خالص، لأمه وأبيه، وهو من عرب اليمن، أبوه من حمير، وأمه من الأزد، وهو إسماعيل بن محمد، المعروف بالسيد الحميري.

ليس فارسيًّا ولا متصلًا بأحد من زعماء الفرس، وإذن فلم يكن تشيعه طلاء سياسيًّا كاذبًا، يستر الشعوبية وبُغض العرب، ولم يكن أموي النزعة، بل لم تكن بين أسرته وبين الأمويين صلة مودة، كما كانت الحال بين آل أبي حفصة والمراونة، وإنما كان الأمر على عكس ذلك بالقياس إلى السيد الحميري؛ فإن جده يزيد بن مُفَرِّغ هجا زيادًا وآل زياد، وعرف سجن عبيد الله بن زياد، وكان أبو السيد وأمه من الخوارج الإباضية، فكانا يكرهان الأمويين، كما كانا يكرهان بني هاشم، وكانا يشتمان معاوية، كما كانا يشتمان عليًّا، ومع ذلك فقد كان السيد الحميري شيعة لعلي وأبنائه، ولعل شيعة العلويين لم يظفروا بشاعرٍ مثله في حياتهم السياسية كلها، وقف عليها عمره وجهده، وكاد يقف عليهم مدحه وثناءه، مخلصًا في ذلك كله إخلاصًا لا يشبهه إخلاص، ولم يكن السيد الحميري نفسه يعرف كيف وصل التشيع إليه، بل كان إذا سئل عن ذلك قال: غاصت رحمة الله عليَّ غوصًا، وكان يسمع أبويه يشتمان عليًّا، ويبالغان في شتمه فكان يكره ذلك، ثم صح له مذهبه في التشيع، وظهر منه أبواه على هذا الرأي، فيقال: إنهما همَّا بقتله، فاستجار منهما بعقبة بن سَلْم، فأجاره حتى ماتا، وتم له ميراثهما.

هو إذن يخالف أبان بن عبد الحميد، في أنه لم يكن فارسيًّا ولا ميالًا إلى الفرس، ويخالف مروان بن أبي حفصة، في أنه لم يكن أمويًّا ولا ميالًا إلى بني أمية، ولكنه مع ذلك يوافق الرجلين، في أنه لم يَعِفَّ عن أموال بني العباس، بل تقرب إليهم، وأثنى عليهم، وأنشدهم شعره، وأخذ من أموالهم ما استطاع، مع أنه لم يكن يحبهم ولا يهواهم، وإنما كان هواه مع قومٍ آخرين، هم آل علي.

على أن أمر السيد الحميري يخالف أمر صاحبيه من هذه الناحية أيضًا؛ فهو فيما بينه وبين نفسه لم يأثم حين مدح العباسيين، وظفر بجوائزهم، وهو لم يقل كما قال أبان بن عبد الحميد: لا أستحل ذلك، ثم استحله، وإنما كان السيد الحميري يستحل ذلك، كان يستحل أن يظهر غير ما يضمر، وأن يمدح بني العباس بلسانه، ويلعنهم في قلبه، فيظفر بمالهم، ويتقي شرهم، كان يستحل ذلك كما كانت تستحله عامة الشيعة، الذين كانوا يقولون بمذهب التقية، ويستبيحون لأنفسهم أن يروا في السياسة والدين رأيين، رأيًا تجاريًّا، إن صح هذا التعبير، يصطنعونه فيما بينهم وبين الناس، ليعيشوا ويأمنوا، ويستمتعوا بلذات الحياة والأمن، ورأيًا آخر يخفونه على الناس جميعًا إلا أنصارهم وأولياءهم، وهو الرأي الذي يصطنعونه فيما بينهم وبين الله، وعلى هذه السيرة سارت الشيعة العلوية أيام الأمويين، وعليها سارت أيضًا أيام العباسيين، وهي معقولة، ممكنة التفسير؛ فقد لقيت شيعة علي من الاضطهاد وألوان المحن أيام بني أمية، ما لم يلقه حزب سياسي آخر، إذا استثنينا الخوارج، على أن المقارنة بينهم وبين الخوارج من هذه الناحية لا معنى لها، وكانت شيعة علي من وجوه الناس وأشرافهم، وذوي الثروة والمكانة فيهم، فلم يكن لهم بد من أن يداروا الناس ويتقوهم، ليحتفظوا بثرائهم ومكانتهم، حتى إذا سنحت لهم الفرص، أو برقت لهم بارقة أمل نهضوا لحقهم، فطالبوا به، ودافعوا عنه، وعلى هذا النحو استطاع الكُمَيْت بن زيد، وهو الشاعر الذي يمكن أن يوضع مع السيد الحميري، أن يمدح بني أمية، ويفيد من أموالهم، وعلى هذا النحو استطاع «كثيِّر» أيضًا أن يمدح الأمويين، ويصيب من جوائزهم، بل على هذا النحو استطاع «الفرزدق» أن يضمر ميله إلى العلويين، ويكتمه كتمانًا، وأن يقصر مدحه أو يكاد يقصره على الخلفاء من بني أمية.

فليس غريبًا أن نرى السيد الحميري يمدح بني العباس، ويتقرب إليهم، مع أنه كان من غلاة العلويين، الذين أسرفوا في علويتهم، حتى تجاوزوا بها كل حد، كان السيد الحميري علويًّا غاليًا، وكان من الرافضة، وقد جنى عليه غلوُّه ورفضه هذان جناية عظيمة، هي التي تعنينا، وإن كانت لم تعنه، ولم تنل منه، ذلك أنه عاش عيشة هادئة مطمئنة، فلم ينله أذى، ولم يتعرض لخطر، بل استمتع من نعيم الحياة بكثير، ولكن رفضه وغلوه بغَّضا شعره إلى الناس، وحملاهم على أن يعرضوا عنه الإعراض كله، إما لأنهم كانوا يكرهون أن يرووا شتم أبي بكر وعمر وغيرهما من أصحاب النبي وأزواجه، وإما لأنهم كانوا يخشون السلطان إن رووا ذلك أو تناقلوه، ومهما يكن من شيء؛ فقد كان السيد الحميري أحد الشعراء الذين عرفوا بكثرة الشعر، ولم يتقدمهم في ذلك أحد، في جاهلية أو إسلام، وهم بشار، وأبو العتاهية، والسيد، فأما بشار فقد ذهب شعره، لما كان فيه من زندقة ومجون وكفر، وأما أبو العتاهية فقد حُفظ له ديوانه، لما كان فيه من زهد وورع ودين، وأما السيد فقد ذهب شعره، لما كان فيه من شتم السلف، والطعن عليهم، والإسراف في الزراية بهم، ولقد احتاط أبو الفرج احتياطًا شديدًا، وتحرَّج تحرجًا عظيمًا، في رواية ما روي من أخباره وأشعاره القليلة، ولو استطاع لأعرض عن ذلك إعراضًا، وكان الرواة وأئمة اللغة يتحرجون من شعره، ويختلسون الفرص اختلاسًا يتلون فيها شيئًا من شعره، خفية دون أن يظهر عليهم الناس، وكان منهم من يأسف ويأسى؛ لأنه فيما بينه وبين نفسه يُكبر هذا الشاعر، ويقدر شعره، ولكنه لا يستطيع، لخوفٍ أو لدين، أن ينزله منزلته الصحيحة من الشعراء، كان الأصمعي يقدمه على طبقته، لولا إسرافه في شتم السلف، وكذلك كان أبو عبيدة، وكذلك كان غيرهما من الرواة الذين عاصروهما.

ولعلك تتساءل عن مصدر هذا الخوف العظيم، الذي كان يشتمل على الناس إذا ذكر السيد الحميري أو شعره، والذي كان يحمل أصدقاء الشاعر والمعجبين به، على أن يتناقلوا شعره سرًّا فيما بينهم، فمصدر هذا الخوف شيئان: أحدهما الدين، والآخر السياسة، وما رأيك في رجلٍ لم يدع نقيصة من النقائص، ولا مأثمة من المآثم، ولا لونًا من ألوان العيب، إلا رمى بها خيرة المسلمين وسلفهم الصالح، لا يستثني من هؤلاء جميعًا إلا بني هاشم وشيعتهم؟! فأما أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من أصحاب النبي، مهاجرين وأنصارًا، فلم يسلموا من لسانه، ولم يأمنوا من ذمه ونعيه، أفتظن أن أولئك المسلمين الذين كانوا يعيشون أيام المنصور والمهدي، على قرب عهدهم بالسلف، وشدة حرصهم على تكريمه وتعظيمه، كانوا يستطيعون أن يرووا هذا الشعر أو يسمعوه، دون أن يأخذهم الألم، وينالهم الاشمئزاز، ويصيبهم شيء من الحرج في دينهم، يصرفهم عن هذا الشعر صرفًا؟!

أما السياسة فقد أريد أن أنتهز هذه الفرصة، لأبين لك مقدار البغض والعداء اللذين كانا يفصلان بين آل العباس وآل علي، أيام السيد الحميري، وليس أدل على ذلك، ولا أنطق به، ولا أبلغ في وصفه، من هاتين الرسالتين اللتين تبادلهما المنصور ومحمد بن عبد الله بن الحسين العلوي حين خرج بالمدينة، هاتان الرسالتان اللتان أرويهما على طولهما، تصفان لك هذا العداء الشديد، الذي كان يقسم بني هاشم قسمين: قسمًا يوالي العباسيين، وقسمًا يوالي العلويين، وهما على هذا تبينان لك شيئًا آخر أشرت إليه في فصل مضى، وهو النظرية السياسية والدينية التي كان يعتمد عليها العباسيون في إقامة ملكهم، والتي دافع عنها مروان بن أبي حفصة، ودافع عنها أبان بن عبد الحميد، والنظرية السياسية الدينية التي كان يعتمد عليها العلويون في المطالبة بحقهم، والتي قامت عليها الثورات وسفكت من أجلها الدماء، واستغلها الفرس لأهوائهم وشهواتهم السياسية.

لما خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، كتب إليه المنصور يرغبه ويرهبه، ويخوفه عاقبة الخروج والبغي، ويبذل له الأمان إن تاب وعاد إلى رأي الجماعة.

فكتب إليه محمد بن عبد الله هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد عبد الله المهدي، إلى عبد الله بن محمد: طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت عليَّ، فإن الحق حقنا، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليًّا كان الوصي، وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!

ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا، وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أم رسول الله فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم، إن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد ومن السلف أولهم إسلامًا علي، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة، وأول من صلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة، سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشمًا ولد عليًّا مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسنًا مرتين، وإن رسول الله ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط بني هاشم نسبًا، وأصرحهم أمًّا وأبًا، لم تُعْرَقْ فيَّ العجم، ولم تتنازع فيَّ أمهات الأولاد، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لي في النار؛ فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابًا في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار، ولك الله علي إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي، أن أُؤَمنك على نفسك ومالك، وعلى كل أمر أحدثته، إلا حدًّا من حدود الله، أو حقًّا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالًا قبلي، فأي الأمانات تعطيني؟! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم؟!

فانظر إلى هذا الكتاب كيف عرض فيه محمد بن عبد الله نظرية العلويين السياسية والدينية، وهي أنهم ورثوا الخلافة عن النبي؛ لأن أباهم كان وصي النبي، ولأن أمهم بنت النبي، وما كان لغيرهم أن يلي الخلافة وهم أحياء، ثم انظر كيف افتخر بمكانه من النبي في الإسلام والجاهلية، وبهذه الكرامة التي خص الله بها أهل البيت، وكيف ذكر أنه ابن خير الأخيار، وخير الأشرار، وخير أهل الجنة، وخير أهل النار، يريد أبا طالب، الذي مات ولم يسلم، فيروى أنه أقل أهل النار عذابًا، ثم انظر كيف كان ختم كتابه بهذا التعبير، يصف فيه المنصور بأنه نقض العهد، وخان الذمة مع قوم آمنوه، فقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن.

وكان وقع هذا الكتاب شديدًا في قصر المنصور؛ فقد انتدب الكتاب والأمراء للرد عليه، وأبى المنصور إلا أن يرد بنفسه، فكتب هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتُضِلَّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعَصَبة والأولياء؛ لأن الله جعل العم أبًا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن، كانت آمنة أقربهن رحمًا، وأعظمهن حقًّا، وأول من يدخل الجنة غدًا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه، لما مضى منهم، واصطفائه لهم.

وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها؛ فإن الله لم يرزق أحدًا رزق الإسلام، لا بنتًا ولا ابنًا، ولو أن أحدًا رزق الإسلام بالقرابة، رزقه عبد الله، أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله عز وجل: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ولقد بعث الله محمدًا عليه السلام وله عمومة أربعة؛ فأنزل الله عز وجل: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فأنذرهم، ودعاهم، فأجاب اثنان، أحدهما أبي، وأبى اثنان: أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينه وبينهما إلًّا ولا ذمة ولا ميراثًا.

وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابًا، وابن خير الأشرار، وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمنٍ يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.

أما من فخرت به من فاطمة أم علي، وأن هاشمًا ولده مرتين، ومن فاطمة أم حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبي ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله لم يلده هاشم إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة، وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبًا، وأصرحهم أمًّا وأبًا، وأنه لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرًّا، وانظر ويحك أين أنت من الله غدًا؛ فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسًا وأبًا، وأولًا وآخرًا، إبراهيم ابن رسول الله وعلى ولد ولده، وما خيار بني أبيك خاصة، وأهل الفضل منهم، إلا بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله أفضل من علي بن حسين، وهو لأم ولد، ولهو خير من جدك حسين بن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وجَدَّتُه أم ولد، ولهو خير منك.

أما قولك: إنكم بنو رسول الله فإن الله تعالى يقول في كتابه: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورِّث بها؟! ولقد طلب بها أبوك بكل وجه، فأخرجها نهارًا، ومرَّضها سرًّا، ودفنها ليلًا، فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين، أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون، وأما ما فخرت به من علي وسابقته؛ فقد حضرت رسول الله الوفاة، فأمره غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلًا بعد رجل، فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم، دفعًا له عنها، ولم يروا له حقًّا فيها، أما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان، وقُتل عثمان وهو له مُتَّهِم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده، ثم طلبها بكل وجه، وقاتل عليها، وتفرق عنه أصحابه، وشك فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكَّم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن، فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالًا من غير ولائه ولا حِلِّه، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه، وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين بن علي على ابن مَرْجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم، وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم، وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء من المحامل، كالصبي المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم، فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا ذكرنا أباك وفضلناه، للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلمًا منهم، مجتمعًا عليهم بالفضل، وابتلي أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه، كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له، وذكَّرناهم فضله، وعنَّفناهم وظلمناهم بما نالوا منه.

ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فما نزل عنها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة، فلم يتوسل عمر إلى ربه، ولم يتقرب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله، وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبقَ أحد من بني عبد المطلب بعد النبي غيره، فكان وارثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم، فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبقَ شرف ولا فضل في الجاهلية ولا إسلام، في دنيا ولا آخرة، إلا والعباس وارثه ومورثه، وأما ما ذكرت من بدر؛ فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم، للأزمة التي أصابته، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهًا لمات طالب وعَقيل جوعًا، ولَلَحق جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطمعين، فأذهب عنكم العار والسُّبة، وكفاكم النفقة والمئونة، ثم فدى عقيلًا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد عُلناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وحُزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم، فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا إلا نفسكم، والسلام عليك ورحمة الله.

الطبري، جزء تاسع

أترى إلى المنصور كيف استطاع أن يهدم مفاخر ابن عمه، وأن يقيم على أنقاضها مفاخر العباسيين، ثم أترى إلى نظرية العباسيين في خلافتهم، هذه التي تقوم على أن العم أحق بالوراثة من البنت، وعلى أن العباس قد ورث النبي، فأبناؤه يرثونه، وعلى أن بني علي قد نزلوا عن حقهم في الخلافة حين باعها الحسن من معاوية بخرقٍ ودراهم، وهو نفس الكلام الذي كان يردده مروان بن أبي حفصة وأبان بن عبد الحميد، وغيرهما من الشعراء السياسيين لبني العباس، فالمنصور هو الذي وضع هذه النظرية، واحتج لها بالفقه والسنة، وجعلها مذهبًا سياسيًّا ودينيًّا ناضل عنه الشعراء.

ثم انظر إليه كيف عبر العلويين نكرانهم للجميل، وكفرهم للنعمة؛ فقد نهض بنو العباس يثأرون لهم، ويطلبون بدمائهم، حتى أدركوا الثأر، ومحوا العار، وأذلوا دولة بني أمية، فلم يروا من أبناء عمهم إلا عقوقًا وجحودًا.

ولسنا نريد أن نحكم بين العباسيين والعلويين في هذه القضية؛ فذلك شيء لا يعنينا الآن، وإنما نريد أن نمثل العداء الذي كان بين هاتين الأسرتين، ونحسب أن هذين الكتابين يمثلانه تمثيلًا قويًّا، وأنت تعلم أن الحرب اتصلت بين المنصور ومحمد هذا، حتى قتل محمد في المدينة، وقتل أخوه إبراهيم في البصرة، وكل هذا يبين لك إلى أي حدٍّ كان الناس يخافون من رواية الشعر الذي يدافع عن العلويين، ويؤثرهم على غيرهم بالخلافة، في ظل رجل قوي كالمنصور.

على أن شاعرنا السيد الحميري، لم يكن من أنصار الحسن والحسين، أو بعبارة أصح لم يكن من أنصار ولد الحسن والحسين، وإنما كان من الكَيْسانية، الذين كانوا ينصرون الابن الثالث من أبناء علي، محمد بن خولة الحنفية، والذين كانوا يدينون بأنه لم يمت، وإنما تغيب عن الناس، واحتجب عنهم حينًا، وسيعود فيملأ الأرض عدلًا، كما مُلئت جورًا، فلم يكن على السيد الحميري بأس أن يمدح بني العباس، ويتقرب منهم، ما دام صاحبه محمد ابن الحنفية لم يعد من غيبته بعد.

ثم نستطيع أن نميز هذا الشاعر بخصلةٍ لم نرها في شاعر من الذين تحدثنا عنهم قبل اليوم، وهي أنه كان سخيفًا ضعيف العقل، شديد الإيمان بالخرافات والأوهام ويظهر أن هذه الخصلة جاءته من مذهبه نفسه في الرَّجعة، فقد أسرف في هذا المذهب، كما أسرف في مدح العلويين، والإيمان بهم، حتى وصفهم من الخير والكرامة بما يُقبل وما لا يقبل، فكان كل خير يمكن أن ينسب إلى العلويين، رضيه العقل أو لم يرضه، وكان كل شر يمكن أن ينسب إلى خصوم العلويين، رضيه العقل أو لم يرضه، وكان يكفي أن يسمع رجلًا من أهل القصص ورواة الأساطير، يروي كرامة من الكرامات، يضيفها إلى أحد العلويين، حتى ينظم فيها قصيدة طويلة جيدة، ويتخذ هذه القصيدة وسيلة إلى ذم السلف، والنعي عليه.

وخصلة أخرى تقربه من الزنادقة الذين عاصروه، ولكنها تجعل الصلة بينه وبينهم ضعيفة واهية في الوقت نفسه، وهي أنه كان يستبيح ضروبًا من اللهو المنكر، ويسرف في شرب الخمر، وغير ذلك من ألوان العبث، لا لأنه كان يجحد الدين أو يزدريه، بل لأنه كان يُدِل على صاحب الدين. كان يحب النبي وآله، ويمنحهم مودته ونصره، ويعتقد أنهم سيعرفون له ذلك، وسيشفعون له في ذنوبه وآثامه، لما قدم بين يديه من مدح العلويين، ونصرهم على خصومهم، وكان بنو هاشم وبنو علي خاصة يُطمعونه في ذلك، ويعترفون له به، فإذا ذكر لهم أنه يلهو ويشرب الخمر، قالوا: وأي ذنب يعظم على الله أن يغفره لرجل من أنصار أهل البيت؟! بل قال أحدهم: إن مَن أحب آل علي لم تزلَّ له قدم إلا ثبتت له أخرى، وعلى هذا كان السيد الحميري يلهو آمنًا في دينه ودنياه، يعتمد في دينه على العلويين، ويعتمد في دنياه على العباسيين، يقدر أن العلويين سيشفعون له عند الله، ويعلم أن العباسيين يتقون شره، ويؤثرون مدحه على هجائه، وكان من معاصريه من يكره ذلك، ويمقته كل المقت، ويضمر للسيد عداء وحقدًا لا يعدلهما عداء ولا حقد، ومن هؤلاء سوَّار بن عبد الله العنبري، قاضي البصرة للمنصور، فقد كان العداء بينه وبين السيد شديدًا، وكان قد أجمع ألا يقبل للسيد شهادة، وكان قد سعى بالسيد عند المنصور غير مرة، وكان السيد قد هجاه، فأسرف في هجائه، فشكا ذلك إلى المنصور، فنهاه عنه، وأمره أن يذهب إلى القاضي، فيعتذر إليه، وأبى القاضي أن يقبل معذرته، فاستأنف السيد الهجاء، وألح فيه، ويقال: إن سوارًا أعد شهودًا على السيد بالسرقة، ليقطع يده فعلم السيد ذلك، فجزع وفزع إلى المنصور، فعزل المنصور سوارًا من القضاء للسيد أو عليه، ولم يلبث سوار أن مات، فتبعه السيد بعدائه وبغضه وهجائه، وتستطيع أن تقرأ هجاء السيد لسوار في الأغاني؛ فهو كثير، لا أروي منه شيئًا؛ لأني قد أطلت، بل لست أروي من شعر السيد إلا أبياتًا تمثل لك مذهبه الشعري، على أني أعتقد أن السيد لا يمتاز عن غيره من الشعراء من الوجهة الفنية إلا بشيئين اثنين:
  • أحدهما: الإكثار الذي لم يشاركه فيه إلا بشار وأبو العتاهية؛ فقد زعم الرواة أن قصائده في آل علي كادت تبلغ الثلاثة الآلاف.
  • والآخر: أنه كان سهلًا مطبوعًا، شديد النفرة من الغريب، وقد سئل عن ذلك، فأجاب بأنه يؤثر أن يقول كلامًا يفهمه الناس، على أن يقول كلامًا يُعْجَب به الرواة، وهذا طبيعي بالقياس إلى شاعرٍ سياسي، يدافع عن حزب مضطهد، كالسيد الحميري؛ فهو لا ينظم شعره للخاصة وحدهم، وإنما ينظمه للعامة، الذين يريد أن يتخذ منهم أنصارًا.

وانظر إلى هذه الأبيات يذكر فيها قبر الحسين:

امْرُرْ على جَدَث الحُسَيـْ
ـنِ فقل لأَعظمه الزكيَّه
أَأَعْظُمًا لا زلت من
وطْفاء ساكبة رَويَّهْ
وإِذا مررتَ بقبرهِ
فأَطِل به وَقْفَ المطيَّهْ
وابكِ المُطَهر للمطهـَّ
ـر والمطهَّرَة النَّقِيَّهْ
كبكاءَ مُعْوِلةٍ أَتتْ
يومًا لواحدها المنيَّهْ

وانظر إلى هذه الأبيات، التي بعث بها إلى المهدي، يسأله ألا يعطي آل أبي بكر وعمر من مال الدولة:

قل لابن عَبَّاسِ سمي محمد
لا تُعْطِيَنَّ بني عَدِيٍّ دِرْهما
احْرِمْ بني تَيْمِ بن مُرَّةَ إِنَّهُمْ
شَرُّ البريَّةِ آخرًا ومقدَّما
إِنْ تُعْطِهِمْ لم يشكروا لك نعمة
ويكافئِون بأَن تُذَم وتُشْتَما
وإِن ائتمنتهمْ أو استعملتهمْ
خانوك واتخذوا خَراجك مَغنما
ولئن مَنَعتَهُم لقد بدءُوكُمُ
بالمَنْع إِذا ملكوا وكانوا أَظْلما
مَنَعوا تُراثَ محمَّدٍ أَعمامه
وبنيه وابنته عديلةَ مَريمَا
وتآمروا من غير أَن يستخلِفوا
وكفى بما فعلوا هنا لك مَأْثَما
لم يشكروا لمحمدٍ إِنعامَه
أَفيشكرون لغيره إِن أَنْعما
واللهُ مَنَّ عليهمْ بمحمدٍ
وهداهُم وكسا الجَنُوب وأَطْعما
ثم انْبَرَوْا لوصيِّهِ ووليِّهِ
بالمُنْكَرات فجرَّعوه العَلْقَمَا

وانظر إلى هذه الأبيات يهنئ بها أبا العباس السفاح:

دونكموها يا بني هاشم
فجدِّدوا من عهدها الدارِسَا
دونكموها لا علا كعبُ منْ
كان عليكم مُلْكَها نافِسا
دونكموها فالبسوا تاجَها
لا تعدَموا منكم له لابسَا
لو خُيِّر المِنْبَر فُرْسانَه
ما اختار إِلَّا منكم فارسَا
قد ساسها قبلكُم ساسةٌ
لم يتركوا رطْبًا وَلا يابسا

والآن وقد فرغنا من شعراء المجون والسياسة في هذا العصر، فسنحدثك عن شعراء آخرين لم يسلكوا في شعرهم مجونًا ولا سياسة، وإنما ذهبوا مذهب غيرهم من الشعراء.

١  نُشرت بالسياسة في ٢١ ذو القعدة سنة ١٣٤٢ / ٢٥ يونيو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤