حدث … ولكن

الْتَقى الأصدقاء الأربعة، «تختخ» و«عاطف» و«نوسة» و«محب» في المساء … وعرض «تختخ» ما وصَل إليه من استنتاجات، والخُطة التي رسمها لمراقبة منطقة الهرم، فتحمَّسوا، ولكن «نوسة» قالت بعد قليلٍ: ولكن المنطقة ليس بها هرمٌ واحد، بل ثلاثة أهرامات … فهل ستُراقبون هرمًا واحدًا أو ثلاثة أهرامات؟

ابتسم «تختخ» لها ابتسامةً مشجِّعة وقال: معك كل الحق … ولكن ما دامت هناك ثلاثة أهرامات ونحن ثلاثة … فسيُراقب كلٌّ منا هرمًا، وستَبقين أنتِ هنا يا «نوسة» … فلست أُحبُّ لكِ أن تتعرَّضي للمخاطر في الليل …

وافقت «نوسة» آسفةً، ومضى «تختخ» يقول: الْزَمي حُجرتك ولا تُغادريها لأي سبب.

قُرْب منتصف الليل كان الأصدقاء الثلاثة يستقلُّون «تاکسي» إلى منطقة الأهرام وقد استعدُّوا لمغامرة الليل المجهولة، ووزَّعوا أنفُسهم على الأهرامات الثلاثة … «عاطف» عند الهرم الأصغر … هرم «منقرع»، و«محب» عند الهرم الثاني … هرم «خفرع»، وتوقَّف «تختخ» عند الهرم الأكبر … هرم «خوفو»، ثم اختار صخرةً عاليةً جلس عندها.

كان الاتفاق أن ينتظروا حتى منتصف الليل تمامًا ثم بعده بربع ساعة، فإذا لم يحدُث شيءٌ يبدأ «تختخ» السير إلى حيث يوجد «محب» و«عاطف» … وكانوا كما يحدُث في الحرب، قد ضبطوا ساعاتهم الثلاثة بعضها على بعض حتى تنضبط المواعيد معًا.

على بُعد نحو ۱۰۰ متر جلس «عاطف» وحيدًا ينظر إلى الهرم الذي بُنِي منذ آلاف السنين وهو يفكِّر … من أين تأتي الإشارات الضوئية؟ من الهرم ذاته؟ أم بعيدًا عن الهرم؟ وماذا يفعل في هذه اللحظة؟ إنهم لم يتَّفقوا على خطةٍ معيَّنة، وتركوا لكل واحد حريةَ التصرف، على أن تكون وسيلة الاتصال هي مسدَّس الصوت الذي يحمله كلٌّ منهم … وكانوا قد اشترَوها منذ فترة ولم يستعملوها. كان «عاطف» يضع المسدس في جيبه، ويُحسُّ كأنه مسدَّس حقيقي، وليس مجرَّد أداة لإصدارِ صوتٍ مرتفع يُشبه صوت طلقات الرصاص، ولكن لا يُطلِق شيئًا … وفي جيبه الأعلى البطارية لإطلاق الإشارات إذا كان ذلك مُمكِنًا.

ولم تبدُ حول الهرم الأصغر أية حياة … كانت المنطقة صامتةً مُظلِمة، لا يُضيئها إلا النجوم البعيدة، وبعض أضواء السيَّارات التي تلمع وتختفي عند مُنحنَيات الطريق إلى «صحاري سيتي».

عند الهرم الثاني جلس «محب» والأفكارُ نفسها تدور بخاطره …

عند الهرم الثالث جلس «تختخ» … ولم يكُن المكان حول هذا الهرم مُوحِشًا؛ فقد كانت هناك سياراتٌ تحمل السهرانين في هذه المنطقة التي لا تنام. وكانت بعض هذه السيارات تقف قريبًا من «تختخ»، وكان يُراقبها جيدًا؛ فقد تكون إحداها السيارة الزرقاء التي يبحثون عنها. وكان كل ما يُمكِنه من معرفتها على هذا البُعد … أنها تنقص طاسة. وفجأةً خُيِّل إليه أنه يرى ضوءًا يلمع عند قاعدة الهرم، فوقف، ولكن الضوء كان لسيارةٍ تدور حول الهرم ثم تمضي.

عند الهرم الأول وقَعت المغامرة، ولكن ليس كما توقَّع المغامرون الثلاثة … كان «عاطف» ينظر إلى ساعته وعقربُ الدقائق يقترب ويقترب من الساعة الثانية عشرة … ثم تَعانَق العقربان في منتصف الليل بالضبط، وكان نظره يجوس في الظلام في انتظار الإشارة الضوئية … ولكن الثواني … ثم الدقائق تمضي بدون أن يتحقق شيء، لا إشارات ولا أضواء … وتمرُّ دقائق أخرى بدون أن يحدُث ما توقَّعوا … وبقيت دقائق ليتحرَّك كلٌّ منهم من مكانه.

وأحسَّ «عاطف» فجأةً بأقدامٍ سريعةٍ حوله … لم يكُن في إمكانه أن يسمعها قبل أن تقترب بسبب الرِّمال … وقبل أن يُفِيق من دهشته كان رجلان قد انقضَّا عليه، وشلَّا حركته، وأغلقا فمه … ثم ظهر رجلٌ ثالث من خلف صخرة قريبة، واقترب بهدوء منهم.

كان الصمت مخيِّمًا على المكان، والرجال الثلاثة في ملابسهم السوداء كالأشباح … وكان لوَقعِ المفاجأة أثرُها على «عاطف» … فلم يُبدِ أية مقاومة … وقال أحد الرجلَين: لا تُحاول الصِّياح؛ فلن يسمعك أحد، وسنضطرُّ إلى القضاء عليك … إن المطلوب منك أن تُجيب عن بضعة أسئلة بصراحة …

وكان الرجل الثالث قد وقف أمامهم، وتحدَّث مع أحد الرجلين بالإنجليزية، وفهِم «عاطف» ما يقول … كان يطلب من الرجل أن يرفع يده من على فمه ويدعه يتحدث. وارتفعت القبضة القوية من على فمه وقال الرجل: ماذا تفعل هنا؟

كان قلبه يدقُّ سريعًا، وأنفاسه مُتلاحقة من أثر المفاجأة فلم يرُد، وأحسَّ بأحد الرجلين يلوي ذراعه بعنف ويقول له: انطِق!

ردَّ «عاطف» والآلام تعتصر ذراعه: لا شيء … إنني أتنزَّه!

ازداد ضغط الرجل على ذراعه، وأحسَّ «عاطف» بالنيران تَفتِك بعظامه، وسمِع الرجل يسأله: أجِب، ماذا تفعل هنا؟

ردَّ «عاطف» بصوتٍ لاهث: قلت لك أتنزَّه!

الرجل: لا تكذب … لقد حصلتم على معلومات من الطائر عن هذا المكان … فما هي هذه المعلومات؟!

عاطف: لا أعرف.

وزاد الضغط، وأحسَّ «عاطف» كأنه وقَع في آلةٍ وحشيةٍ تقتله، وانسال العَرق غزيرًا يغطِّي جسمه … وقال الرجل: كيف استطاعت الفتاة أن تجعل الطائر يتكلم؟! قُل لنا ونحن نُطلِق سراحك فورًا.

كان «عاطف» قد بدأ يذهب في غيبوبة من فرط الألم … وكان يُقاوم على أمل أن يحضُر «تختخ» و«محب»؛ فلا بد أن المُهلة قد انتهت، وهما في الطريق إليه … وبين اليقظة والإغماء سمِع أحبَّ الأصوات إلى قلبه … صوت البومة التي يُطلِقونه في الظلام … وسمِع رجلًا يقول له: انطق وإلا قتلناك … ما الذي جعل الطائر يتحدث؟

لم يردَّ «عاطف»، ثم سمع صوت سيارة تقترب، وبدأت أضواؤها تغمر الرجال الثلاثة، واستطاع «عاطف» أن يرى بسرعةٍ خاطفة — وبين الإغماء واليقظة — وجه الرجل الثالث الذي يقف أمامه … كان وجهًا قاسيًا جامدًا كالصنم … كأنه منحوت من الصخر أو الخشب الصَّلد … تُخفي النظَّارات السوداء عينَيه … وخُيِّل إليه أنه يرى خلف النظَّارات نظرة ثُعبان … نظرةً ذكَّرَته بشيء … ثم سمِع صوت طلقة مسدَّس، وشعر بضربةٍ وحشيةٍ تنزل على رأسه، ثم سقط على الأرض مُغمًى عليه!

كانت السيارة قد اقتربت، وحضر «تختخ» و«محب» المشهد الأخير من عملية التعذيب التي تعرَّض لها «عاطف،» فأطلق «تختخ» من مسدَّس الصوت طلقةً ظنَّها الرجال الثلاثة طلقة مسدَّس، فأسرعوا يَجْرون في الظلام … وأسرع «تختخ» إلى «عاطف» … أما «محب» فقد استخدم عضلات ساقَيه القويتَين في الانطلاق خلف الرجال الثلاثة … لقد نسِي واجب الحذر في هذا الموقف، وطار كالفهد خلفهم، واستطاع أن يلحق بواحد مهم، وقفز في الهواء ثم ألقى بنفسه عليه.

سقطا معًا على الأرض … ثم وقفا وانطلقت من ذراع «محب» لكمةٌ قويةٌ نزَلت على وجه الرجل كالصاعقة … وسقط الرجل على الأرض، وانحنی «محب» عليه ورفعه ليضربه مرةً أخرى … ولكن في تلك اللحظة هوَت على رأسه ضربةٌ قوية، ودار حول نفسه وسقط على الأرض!

كان «تختخ» قد استطاع إفاقة «عاطف»، وسمِعا غير بعيد عنهما صوتَ الصِّراع الدائر، فاتَّجها مُسرِعَين إلى مكانه … ولكن الرجال الثلاثة كانوا قد اختفَوا في الظلام … وعلى ضوء بطاريتهما شاهَدا جسم «محب» على الأرض فانحنيا عليه، واقترب «تختخ» منه يستمع إلى دقَّات قلبه، وتنفَّس الصُّعَداء عندما وجده ما يزال يدقُّ … وقال «تختخ»: هناك صوت سيارة تدور … إنها سيارة الجواسيس، فلنُحاول أن نلحق بها …

محب: كيف؟

تختخ: السيارة التي أضاءت لنا الطريق … يبدو أن أصحابها قد رأوا ما حدَث؛ فهي تقف مكانها مُضاءةَ الأنوار … هيَّا بنا إليها!

حمَل «تختخ» و«عاطف» «محب» بينهما إلى السيارة سريعًا، ووجدوا صاحبها شابًّا صغيرًا، فشرح له «تختخ» بسرعةٍ ما حدَث، وأشار إلى اتجاه السيارة الهاربة … وانطلقت السيارة الثانية كالسهم خلف السيارة التي كانت قد سبقتها بمسافة … ولكنهما كانا يُشاهدان أضواءها الخلفية الحَمراء، وهي تتلوَّى بين الصخور وكُثْبان الرمال … وزاد السائق الشابُّ من سرعته، وأخذ جسم السيارة يضجُّ بالأصوات وهي تُتكتِك على الأرض مُنطلقةً خلف السيارة الكبيرة.

كانت السيارة الكبيرة أسرع … ولكن الشابَّ كان مُتحمسًا للمطاردة، وبدأت المسافة تقترب بين السيارتَين سريعًا.

وكانت ذراع «عاطف» ما زالت تؤلِمه، ولكنه كان يركِّز انتباهه على السيارة التي أمامه … وفجأةً صدَر صوت انفجار من إحدى عجلات السيارة الصغيرة، وأفلتت عجلة القيادة من يد الشاب، وانحرفت السيارة بهم وكادت تنقلب، والشابُّ يُحاول بكل ما أُوتيَ من مهارةٍ أن يُوقِفها … ودارت السيارة حول نفسها ثم ترنَّحت ووقف أمام صخرة كبيرة كادت أن تصطدم بها … ونزل الثلاثة ومعهم الشاب، ووجدوا أنهم كانوا على بُعدِ سنتيمتراتٍ قليلة من هاويةٍ سحيقة!

قال الشاب: ما هي الحكاية بالضبط؟! إنني لم أفهم إلا أنكم تريدون مطاردة هذه السيارة، فلماذا؟

تختخ: إنها حكايةٌ طويلة … أهَمُّها أن هؤلاء الرجال مطلوبٌ القبض عليهم بتهمة القتل.

الشاب: خسارةٌ أننا لم نلحق بهم!

تختخ: شكرًا لك على كل حال، وأقدِّم لك نفسي، أنا «توفيق»، وهذا «محب» و«عاطف»، ونحن من المعادي.

قال الشابُّ الذي بدَت لهجته غير مِصرية: أنا «فريد» من لبنان.

قال تختخ: سنُساعدك في إبدال العجلة التالفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤