الفصل الرابع عشر

الحاج محيي الدين صاحب الكازينو بالقاهرة رجل قصير بدين لعين (نريد بالنعت الأخير ما هو متعارف من معناه بين الناس عندما يقفون عنده يجرون الياء منه معجبين، فيقولون مثلًا: فلان لعين! ليصفوه بالحذق والمكر والدهاء)، فالحاج محيي الدين إذن قصير بدين لعين! وإنه وإن ارتدى الحرير لَأصْلبُ خُلقًا وخَلقًا من قماش الخيام الإنكليزي، له رأس ككرة المدفع كبير مستدير، تعلوه عمامة خضراء صغيرة، تحتها إذا أقبل جبهة عرصها خدَّاع، وإذا أدبر سامد الرأس تبدو عكنات رقبته تحت تلك العمامة كأمواج النيل أو كغدد الفيل، وهو غليظ الشفتين كذلك وعريض الوجه لحيم، أما أنفه المشوه فيكاد لصغره يضيع في وجهه، وعيناه الصغيرتان الزايغتان تنفران من أنفه، وشاربه المقصوص هو بين ذاك الأنف وتلك الشفة كخيال قضيب بين كهف وكثيب.

وقف الحاج محيي الدين مودعًا السيدة فشيعها إلى الباب تعطفًا وهو يعد سبحته ويسبح الله، ويستغفر الله، ويستعين بالله، ثم عاد إلى مجلسه في زاوية الديوان وحبات الكهرباء الكبيرة تطقطق بين أنامله الصفراء كأنها تردد الصدى لنبضات قلبه، ثم جلس مسترخيًا يبسط ذراعيه، ويزمُّ شفتيه، وقد أنزل العمامة الخضراء حتى حاجبيه، ولسان حاله يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان شريكه عاطف بك جالسًا إلى منضدة يدخن سيكارة ويراقب حركاتِه معجبًا باسمًا، فقال محيي الدين يخاطبه: أخطأت يا أخي أخطأت، فأجابه عاطف بك: أنت أعلم بالجواري وأنا أعلم بالراقصات.

فعمد الحج محيي الدين إلى الأركيلة يسكِّن بها غيظه، ثم قال: ولكنَّ رقصها جميل، أجمل ما رأيت حياتي، رقص جديد، مبتكر، غريب، مدهش، وهو فوق ذلك رقص أدبي تزينه الحشمةُ لا خلاعة في حركاته ولا بذاءة في وقفاته، ولا … فأغرق عاطف بك في الضحك، وقال: أراك تتكلم كشيخ من مشايخ الأزهر، الله، الله! أحامل «النسخات» يحمل على الخلاعات؟! أصاحب «الكازينو» يمسي صاحب كرامات؟ الله، الله! أنت مازح يا محيي الدين، أوَتظن الرقص الأدبيَّ يصلح الأمة؟ أتظنه يسر جيش الاحتلال؟ إذا كنت راغبًا بالجلاء فاعرض على أصحابنا الإنكليز هذه الرقصة، نبه الحزب الوطني إليها.

– لا تعجبني هذه المداعبة منك، فإن رقصًا عاريًا من الخلاعة …

– لا ينفعنا ولا ينفع البلاد، أبناء القاهرة لا يقبلون على مثله وعساكر الإنكليز يفرون هاربين منه، وإن أقبلوا عليه بادئ بَدءٍ فلا يلبثون أن يملوه، رقص هذه الفتاة يخاطب العقل، والمصريون يودِّعون عقولهم في البيت قبل أن يشرفوا «الكازينو» والجندي الإنكليزي، ولكنه سبحانه تعالى لا يُثقل الجنديَّ عقلًا.

– على رأسي رأيك في الجندي، ولكنِّي لست من رأيك في الفتاة؛ فإن في رقصها السحر الحلال، يعبث بالقلوب ولا يستأذن العقول، وما قولك بالراقصات الروميات عندنا؟ فإن رقصهن عارٍ من رغبة الناس من مظاهر الخلاعة، ويكاد يكون بليدًا، ومع ذلك فالإقبال عليهنَّ عظيم.

– لأنهن إفرنجيات يا أخي يا محيي الدين، نفاية الإفرنج هي أعلاق في ذي البلاد، خرز أوروبا هو في نظر المصريين بل الشرقيين درر غوالٍ، صلِّ على النبيِّ! ولا يفوتنَّك أن الراقصات الروميات لا يكسفن «البلديات» عندنا، كلهنَّ — إفرنجيات ومصريات — من طبقة واحدة فنًّا وعقلًا وحسنًا، وإن شئت قل: من طبقة وسطى أو واطية في الفن والعقل والحسن، وجمهور الناس من ذي الطبقة، أما الخاصة فحسبهم ليلة واحدة من الرقص الأدبي في السنة، حسبهم «البالو» الخديوية، لا، لا، لا وسط عند هذه الفتاة الناصرية ولا وسط في نصيب مديرها منها.

فرفع الحاج العمامة فوق جبينه عجبًا وهو يزلق بنظره عاطف بك الذي استمر يتكلم غير حافل، فقال مكملًا الجملة: فإما أن تكسره وإما أن تغنيه، فلاح الارتياح إذ ذاك في وجهه، وقال: ولماذا لا نختبرها أسبوعًا واحدًا أو أسبوعين؟ إذا كنا لا نقدم لأبناء بلدنا الجميلَ من الفن فكيف لهم بمعرفته؟ وليس من العدل أن نحكم عليهم بفساق الذوق قبل أن نختبر ذوقهم.

– أنا عالم يا محيي الدين بما يجول في صدرك، صلِّ على النبيِّ! ولكن ظهور الناصرية على مسرح «الكازينو» يغير خطتنا تمامًا، فنفقد الزبائن الذين لا يروقهم غير رقص اﻟ … الرقص الذي يخاطب الحواسَّ بالقلم العريض، وجيش الاحتلال في البلاد يزداد يومًا فيومًا، ولا نعلم ما نكسب من الطبقة الراقية، لو كنت مدير «تياتر» في أوربا لما ترددت والله ترددي الآن، فلا أنكر أن في منشأ الفتاة وفي فنِّها وجمالها وطموحها وهوسها ما يسترعي الأنظار، لست بجاهل عالم التمثيل في أوروبا، ولقد أحطت علمًا بطرق المدراء هناك وحيلهم، وكأني بأحدهم وقد حظي بلقاء هذه الفتاة الناصرية، وأدرك السرَّ في أمرِها وفنِّها يعلن عنها بالخطِّ العريض، فيقول: الناصرة منذ ألفي سنة والناصرة اليوم مهد الدين ومهد الرقص، مريم الناصرية ترقص رقصة المريمات في أسبوع الآلام! ولكن بلادنا بلاد إسلامية، فلا ذاك الدين قبلت ولا ذا الرقص تقبل اليوم.

– أنت مخطئ في ظنك، عليَّ الخسارة أثناء أسبوعين نختبر الناصرية ورقصها، عليَّ وحدي.

– ليست جارية تتاجر بها يا محيي الدين، وقد ظهر لي من حديثها ونظراتها أنها صعبة المراس حادة المزاج.

– على عاتقي أمرها.

– وإذا مثلت لك السماويات في رقصها …

– والجَهنميَّات أيضًا فأنا المسئول.

– وأنا قابل، ليكن ما تشاء، وإن شئت أن تدخلها حريمك بعد أن تمتحنها في «الكازينو».

– دعنا من ذا الهذر يا أخي.

– بل هذا جِدٌّ منِّي، فقد أهنتها في حديثك فاغرورقت عيناها وهذا دليل واضح أنها أحبتك، عشقتك.

– أنا أعلم بحيل اللقيطات الشريدات.

– نعمتَ بعلمك.

•••

أما مريم فعادت إلى منزلها بعد أن قابلت صاحب «الكازينو» ومديرها؛ لتفتش عن الكتاب الذي أعطتها إياه مدام لامار إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الفرنساوي في القاهرة، وكانت قد أهملت هذا الكتاب؛ لأنها لم تشأ أن ترجع إلى الخدمة في البيوت وآلت على نفسها وإن كُسرت في باريس أن تفوز في مصر، فزارت عند وصولها الكازينو لتشاهد ما هو معروض على مسرحها فتعرف محلَّها من الإعراب فيها، فسرَّها ما شاهدت وساءها معًا، وقالت وهي خارجة: ها هنا رزقي، ها هنا بداءة حياتي الفنية، ها هنا فوزي، ولكنها أقرَّت لنفسها بعد المقابلة في اليوم الثاني أن لم تزل الأحلامُ تخدعها، وكانت تظن أن مدراء التياترات في مصر أسهل مراسًا منهم في باريس، ولم يخطر في بالها أنهم أكثر تعنتًا وأقل أدبًا ومعروفًا، فقالت تخاطب نفسها وهي تفتش في حقيبتها عن كتاب مدام لامار: وماذا يهمُّ إذا المدير فحص الراقصة كما لو كانت جاريةً معروضة في سوق النخاسة، أو جسَّها كما لو كانت شاةً، أو أمرها أن تمثل أمامه عاريةً، فهو لا يُهينها ولا يحتقرها إذا كانت يتيمة أو بائسة مثلي، وهنا في بلادي يهينني المدير ويشيعني إلى الباب، لو استطعت والله لذبحته! لذبحته! ابن ستين كلب يعيرني بأصلي — أصلي! أصلي؟

وقفت مريم فجأة تسائل نفسَها فأبكاها السؤال، ذكرت لأول مرةٍ أبويها فحرقتها الذكرى، خنقتها العبرات، وقد يستغرب القارئ قولنا: إنها لم تذكر أبويها حتى الآن، وقد نكون أخطأنا التعبير، لما كانت مريم في الدير أدركت غامض أصلها ولكنها أقامت هناك وكثيرات مثلها فلم تبالي ولم تذكر والديها شوقًا وحنانًا، وبعد أن خرجت من الدير أقامت في بيت مبارك وفي ظل القس جبرائيل خلية البال، مشتتة الآمال، فلقيت من الإعزاز ما أشغل نفسها عن الإكرام، ومدام لامار لكرمٍ في أخلاقها تجاهلت ما أدركته من أصل الفتاة لكي لا تهينها ولا تذلها، وكذلك نجيب مراد فلم يفه مرةً بكلمة يُشْتمُّ منها معرفةُ ما يُحزن مريمَ ذكرُه، ولا سُئلت مرةً في باريس عن أصلها ولا نظر أحد إليها شذرًا وازدراءً.

وأما الآن فصاحب الكازينو المعجب بفنِّها وبحسنها وبمواهبها يخشن لها الكلام في أول مقابلة، وينظر إليها نظرة الازدراء، وقد مازجه السرور والرضا كأنه يقول: أنتِ في قبضتي ولا بأس بك. فأدركت لأول مرة أن من الرجال من ينظرون إليها كأنها غنيمة باردة، فساحت بها الأفكار إلى باريس ثانيةً فجمعتها هناك بنجيب مراد؛ ذاك الذي أحبها كما تحب الفراشةُ الزهورَ أو الفارسُ الجيادَ، فجعلت تقابل بين الاثنين وتقول: شتَّان بين من يخدع فتاةً ويكرمها ومن يهينها ويخدعها، شتَّان بين أديب دقيق الحيل كريم النفس، وجلفٍ غليظِ الرقبة غليظ الشفتين، كرهتُه لأوَّل نظرةٍ قبل أن يفوه بكلمة، وبعد أن تكلم وددته ميتًا عند قدميَّ، ميتًا ميتًا، سيعلم ابن الكلب:

إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي

أوَلا يحقُّ للفتاة البائسة مثلي أن تتمثَّل بقول الشاعر كالفتيان؟

لا تقل أصلي وفصلي أبدًا
إنما أصل الفتى ما قد حصل

وأصل الفتاة أيضًا، أصل الفتاة أيضًا ما قد حصلت.

وهذا ينبغي أن يكون، ولكنَّ الكائن اليوم غير ذلك، وإن عقيدة الناس الاجتماعية بمريم وأمثالها لمثل عقائدهم الدينية قديمة العهد، كثيرة العهود والقيود، والمتمردون عليها ينفعون المجتمع الإنسانيَّ وقلَّما يسعدون.

نوَّرت نفس مريم في بلاد الجليل فاستمدَّت حياةً من تربة رباها، وهواء حقولها، ومياه عيونها، وسماء بحيرتها، وجمال مروجها، وأريج أحراجها، فكانت وردةً بريةً سماويةً تليق أن يزين بها الناسك مذبح إلهه، ونفس مريم التي بدأت تنوِّر في المدن في معترك الحياة ترويها مياه الاجتماع الآسنة ويغذيها هواء التمدُّن الفاسد جعلت تنمو كزهرة الأزاليا كبيرةً، قويةً، قانيةً، شديدة ساقها، متينة بتيلاتها، قليل — وا أسفاه — عبيرها، وقد أثرت فيها الخيبة أكثر من سواها، فغيَّرت الجفوة طباعها، وضاعف الفشل نمو الأزاليا في قلبها، فقد كانت مستهترة في حبها، مستهترة كوردة الحقل لا تروعها هبوب الرياح، ولا ظلمات الليالي، فأصبح قلبها كالأزاهر الجوية التي نصونها تارةً من نور الشمس وتارةً من الظل وطورًا من الهواء، أدركت مريم هذه الحقيقة ولم تدرك بعد كيفية العمل بها، فتعرض أزاهر نفسها إلى الشمس وإلى الظل وإلى الهواء في الأوقات اللازمة النافعة، ولا مشاحة أن العمل جهلًا أسهل من العمل علمًا، وقد يَشفي هذا حينًا ويسعد ذاك أحيانًا، وأن تحب الفتاة وتستسلم خير لها من أن تحب وتتردد، وأن عذابها وهي تحب راغبة طائشة لأقل منه وهي تحب خائفة مرتابة محتقرة كارهة، والحق يقال أنْ قد دخلت مريم في هذا الطور المحزن من أطوار الحب، ولم ترفع فوق مدارجه السوداء غير واحد في العالم هو القس جبرائيل — ربي! وهل القسُّ جبرائيل أبي؟ وهل يحب الأب ابنته أكثر من حب الراهب فتاة لقيطة؟ أيستطيع أن يزيد أبي على ما أسلفني القس جبرائيل من الصنع الجميل والمعروف والإحسان؟ بل لو كان أبي عالمًا بي وبسقوطي تلك السقطة المهلكة أكان ينقذني يا ترى من البلاء والعار؟ أيرعاني أبي ويكرمني ويحبني كما رعاني القس جبرائيل وأكرمني وخدمني وأحبني؟ لا أظن ذلك، لا، لا، بل كان يطردني من بيته لو علم بذنبي الذي هو ذنب غيري، ويلاه! ما أمرَّ الحياةَ! الحق معك يا قس جبرائيل الحق معك.

وأخذت الذخيرة وطفقت تقبلها وتبكي.

– أبي، أبي، أين أنت تحميني من الذئاب البشرية؟ آه يا قس جبرائيل حبذا أنت قريبًا، لا، لا، مستحيل أن يكون أبي، فلو كان ما رمى بولدي في البحيرة، ولدي! وهل أنا أعلم بتصاريف الزمان وأسرار التقادير من حمام البحيرة وأسماكها؟ لا تكره شيئًا لعله خير، أنا الآن أسعى لنفسي وأكاد أهلك جوعًا، ولدي! لقد أغناه الله من شقاء الحياة، ووالدي؟ ما لي ووالدي فلا شك أنه أجرم على أمي كما أجرم عليَّ، قد تكون أمي خدعت كما خُدعت، وأُذِلَّتْ كما أذللت، وشقيت كما شقيت، أواه! أمي أين أنتِ الآن؟ أفي عالم الأحياء أنتِ أم في عالم الأموات؟ أمي ليتك قربي تأخذين بيدي الآن، ترشديني، تسليني، تدفئين نفسي، تجبرين قلبي الكسير، تشفين غليلي بقبلاتك وبكلماتك، تعلميني الكلمة التي فيها صيانة عرضي وصيانة اسمك.

قضت مريم تلك الليلة أسيرة الهموم والأحزان، فخلعت ثيابها وهي تحن شوقًا إلى أمها، وأطفأت القنديل وهي تلعن من أهانها.

وفي تلك الليلة حلمت حلمًا رأت فيه أمها وسمعتها تقول: اخرجي من القاهرة، عودي إلى فلسطين، أقيمي في ظل القس جبرائيل. ولكنه حلم من الأحلام فلم تحفل به، ونهضت صباح اليوم التالي ترتدي ثيابها لتذهب إلى البنك الفرنساوي تطلب مقابلة جمال الدين باشا، فقد وطَّنت النفس على أن تقيم في القاهرة ولو خادمةً في بادئ أمرها أو معلمة أو مربية، أقلعت مكرهة من جون الأمال تسلم إلى الحاجة شراعها، وهي تعلل النفس بالعود القريب، والفوز العجيب، وأما الآن وقد نفد مالها فلا بد من السعيِّ في غير السبيل؛ سبيل المجد، وقد ينفعها الآن كتاب التوصية الذي بيدها، وبين هي خارجة من منزلها تقصد البنك الإفرنسي الْتَقت في الباب بصاحب الكازينو الحاج محيي الدين فوقفت سامدة الرأس مدهوشة.

– أريد مقابلتك يا ست مريم.

– تفضل.

– أعلى الرصيف؟ أفي الشارع تقابلين من يحمل إليك الأخبار السارة؟

– أوَمثلك يحمل إلى مثلي أخبارًا سارة؟

– لا تؤاخذيني، فقد بدر منِّي البارحَ ما أسفت له.

– عذرك مقبول، وماذا عندك غير الاعتذار؟ ماذا تريد؟

– أريد صالحك.

– كثرَّ الله خيرك، صالحي الآن بيدي، وهمَّت مريم بالذهاب.

– كلمة واحدة لأبرهن لك في الأقل على حسن نيتي ورغبتي في قضاء حاجتك، وفي خدمتك.

فوقفت إذ ذاك مريم كأنْ خطر لها خاطر غيَّر لهجتها وخطتها.

– تفضل، تكلم.

فمال الحاج محيي الدين برأسه ينظر إليها متبرمًا ويشير باسطًا ذراعيه إلى الباب.

– لا حول ولا … تفضل!

فمشى الحاج في الزقاق وراءها فوقفت أمام الباب؛ باب غرفتها ففتحته وهي تقول: تفضل، ادخل واجلس ريثما أجيئك بعلبة السكاير.

– لا لزوم للسيكارة يا ست مريم.

فلم تحفل مريم برجائه بل ذهبت تسر إلى البربري خادم البيت كلمةً وعادت تقدم إلى ضيفها سيكارة، وتقول: أرجوك أن تجلس، وظلت هي واقفة قريب الباب المفتوح.

– اعلمي يا ست مريم أنني معجب بك وبرقصك وبمواهبك، وأحب من صميم قلبي أن تظهري عندنا في الكازينو، وقد تباحثت وشريكي في شأنك بعد رجوعك.

وسكت فجأة يحدجها بناظريه، فابتسمت مريم شاكرة.

– وسيكون لكِ ما ترغبين إذا …

ووقف إذ ذاك الحاج محيي الدين يخطو نحو مريم خطواتٍ أدركت سرَّها، فلاقته بكرسيٍّ تقدمها ملاطفة وتقول: تفضل اجلس فأزاح الحاج الكرسي وتقدم نحو الباب ليرمي سيكارته خارجًا، فأدهشته مريم إذ أسرعت إلى الباب وهي تقول: أرجوك، لا تكلف نفسك، أنا أغلق الباب.

وغلقت مريم الباب ووقفت في وسط الغرفة تنظر إلى الزائر ولا تُبدي حراكًا، فدنا منها معجبًا بهذه الحركة وهذا اللطف وقبض على يدها بيسراه، يداعب بيمناه خدها.

فأحسَّت مريم كأنَّ علقات تسرح في وجهها ولكنها وقفت متجلدة كالتمثال.

– لا تخافي، أنا صديقك، وستكونين في «الكازينو» تحت رعايتي فلا يعتريك ريب من ذلك.

فتجلَّدت مريم وهي تحاول إخفاء اضطرابها وقالت ملاطفةً: هذا جميل منك.

وقرع إذ ذاك البابَ قارعٌ، فتظاهرت بالرعب وبعدت عنه تتنفس سرًّا الصعداء، فعاد الحاج محيي الدين إلى الديوان يشعل سيكارة.

فتحت مريم الباب، فدخل الخادم قائلًا: رسول من البنك الفرنساوي يقول: إن المدير يقابلك اليوم الساعة العاشرة إفرنجية.

– ويلي! قد فات الوقت، اعذرني يا سيدي محيي الدين، اعذرني اليوم، لي عند المدير حاجة تقضي عليَّ أن أقابله حالًا.

ومدت إليه يدها غانجة باسمة فصافحها ثم ربتها، وخرجت وإياه يتحدَّثان في ما يختص بظهورها على مسرح الكازينو وبراتبها، ثم ودَّعها عند الباب قائلًا: سأراك غدًا فتوقعين على الوثيقة.

– غدًا إن شاء الله أتشرف بزيارتكم في «الكازينو».

– لا بل أنا أتشرف بزيارتك والوثيقة في جيبي.

– كما تريد، أتوقع قدومك صباحًا في مثل هذا الوقت.

وافترق الاثنان وكلاهما راضٍ بما كان، ولم يكن سرور مريم بما انقلب في تيار حظِّها أشدَّ من سرور الحاجِّ بما ظنه فوزًا في غزوته الأولى، ولكن الفتاة جعلت تفكر في حيلة أخرى تخلصها من مخلصها إلى أن يتم لها ما تريد؛ إلى أن تستلم الوثيقة منه، ولم يضطرها الأمر إلى كثير تفكير؛ لأن خبرتها في باريس تلبي الآن طلبها.

ولما جاء الحاج محيي الدين صباح اليوم الثاني دُهش لوجود رجلٍ آخرَ عند مريم، فطمأنت باله قائلةً بعد أن رحبت به: حضرته مدير المقاولات.

– صحيح، صحيح، لقد فاتني أمره.

وجلس على الديوان يعد سبحته ويستغفر الله، ثم استخرج من جيبه الوثيقة فقدَّم منها نسخة إلى مريم لتوقِّع عليها ففعلت، ثم وقَّع عليها مدير المقاولات وأعادها إلى محيي الدين، فقدَّم إليها نسخة أخرى وقد وقَّع عليها هو وشريكه، وبعد إنجاز العمل جاء الخادم بالقهوة والسكاير، وجلست مريم تحدِّث زائريها بما رأته من جمال مصر، ثم قال مدير المقاولات وهو ينظر إلى ساعته: إذا أحببت أن أشيَّعك إلى البنك يا ست مريم فالوقت قد حان، تفضلي.

– قد فاتني ذلك، أشكرك لتذكيرك إياي، ولكني لا أكلفك …

فقاطعها المدير قائلًا: ليس في الأمر ثقلة، فإن مكتبي في تلك الناحية والعربة تنتظرني.

– لا تؤاخذني يا سيدي محيي الدين، يظهر أنَّ حاجةً في البنك بهذه البلد لا تُقضى بيوم أو بيومين، وقد وعدت المدير أن أقابله اليوم أيضًا.

ولبست مريم قبَّعتها وعمدت إلى شمسيتها تتكئ عليها وتقول:الأمر هام جدًّا يا سيدي، ولا أعلم كيف أكفر عن سوء أدبي، يا للفضيحة ويا للعار! عذرًا أرجوك، فالعذر من شيم الكرام، وغدًا أقابلك إن شاء الله.

فاضطرب الحاج محيي الدين ولم يفه بكلمة جوابًا، ولكنه أخذ يد مريم الممدودة إليها فصافحها، وأحس بنظرة من نظراتها تخرق كالشرارة فؤاده، فزادت بنار وجده اضطرامًا.

وفي ذاك الأسبوع كانت تذهب مريم إلى الكازينو كلَّ يوم لتتمرن على الرقص، وكانت تلجأ إلى أدق الحيل لتتخلَّص من أشراك الحاج محيي الدين، أما عاطف بك فأحسن معاملتها وبالغ بإكرامها، وأشار عليها أن تغير اسمها؛ لأن مريم اسم عاديٌّ، بل اسم مسيحيٌّ، ولا يستوقف الأنظار، ولا يليق براقصة، فاقترح عليها اسم «غصن البان» فقبلت مريم الاقتراح.

وبينا هي عائدة إلى منزلها بعد ظهورها على مسرح الكازينو الليلة الأولى، لاح لها قرب بابها شخص، تحققت من عمامته الخضراء ورأسه الكبير أنه الحاج محيي الدين، وكان قد سبقها إلى منزلها تلك الليلة ولبث ينتظر قدومها، فأمرت الحوذيَّ من ساعتها أن يستمر سائقًا، فمرَّتِ العربة مسرعةً أمام بابها وهي متوارية فيها يحجب «الكبوت» وجهها، فلم يرها الحاج المطارد، وظلَّ ينتظر في قهوة قربَ ذاك المنزل حتى الساعة الأولى بعد نصف الليل، فعاد بعدئذٍ إلى بيته يصر أسنانه غيظًا ويقول: أبنت بنت الكلب تخدعني؟ أتصدني وترغب بغيري؟ أتتفلَّت من يدي فتعلق على دبق الأوغاد؟ فلا شك أنها في إحدى الحانات الآن تشارب وتداعب أجلافَ جيش الاحتلال، بنت ستين كلب! ستندم والله على فعلتها! ستندم ولا ينفعها الندم.

أما مريم وإن أزعجتها مباغتة الحاج فلم ترعها، ولا اعترضت سرعة خاطرها، ولا أفسدت عليها صفاء نفس ذاقت لأوَّل مرَّة لذةَ الفوز في سعيها. ولما سألها الحوذيُّ: إلى أين يا ست؟ بعد أن اجتازتِ العربةُ الشارعَ المقيمة فيه أجابته على الفور: إلى الجيزة، إلى الأهرام.

ورضيت بعد الفكرة ببداهتها؛ لأن الليلة وإن لم تكن مقمرة فقد كانت ناعمة منعشة، خفيف ظلُّها، عليل هواؤها. فراح الحوذيُّ يحثُّ بالسوط خيلَه، ومريم تقول في نفسها: نزهة ساعة فيفرجها الله.

ولكن بعد أن اجتازت العربة كبري النيل ملكها وهم مخيف؛ لعلمها أنها وحدها، وفكَّرت بما احتالت به على الحاج محيي الدين، فظنت أنه رآها لما مرَّت أمام بابها وأنه الآن يقتفي أثرها، فسألت الحوذيَّ خائفةً: أترى عربة وراءنا؟ فقال: لا. فقالت: قف قليلًا.

وأصغت ثم قالت: إن عربة وراءنا قريبة منا، أسرع، أسرع.

فامتثل الحوذيُّ أمرَها، ودخلت العربة مسرعةً في طريق الأهرام الجميلة بين صفين من شجر السنط والكينا تحت قناطر من أغصانها المتعانقة، ولا صوت يزعج سكينة الليل غيرُ صوت حوافر الخيل العادية.

وما هي إلا برهة حتى رُفع إلى مريم خيال الهرم الأسود، كأنه قبع الخفاء على رأس الصحراء، فأوقفت الحوذيَّ ثانيةً وهي لم تزل أسيرة الرعب والأوهام وسألته: وهل من مبيت عند الأهرام؟

– هناك نزل جميل يا ستِّي.

– حسن، أسرع، أسرع!

وبعد قليل وقفت العربة قدَّام النزل على حدود البادية فترجَّلت مريم والخوف والجرأة يتناوبانها، فإذا هي لأوَّل مرةٍ أمام الهرم الكبير الواقف كطود من الظلمة في بحر من الرمل راقدة أمواجه، تحت سماء هجرتها نجومها، بل هو قلب الليل وقد جسَّمَه الزمان، فهالها خياله، وهالها ظلامه، وهالتها الوحشة المخيمة حوله وفوقه؛ وحشة البادية، ووحشة الليالي، ووحشة الأجيال والأزمنة.

ومع ذلك فقد أحبت مريم أن تشاهده قريبًا في تلك الساعة، فسألت الحوذيَّ أن يرافقها، فتردد خائفًا.

– ما بالك؟

– ما لنا وله يا ست، الهرم يتكلم في الليل، وربي الموتى فيه ينهضون ليلًا ليتنزهوا على الرمال وحق النبي!

– كلام صبيان، امشِ معي، امشِ قدامي.

فخجل الحوذيُّ ومشى مترددًا في الطريق التي توصل إلى الهرم الكبير وهو حائر في أمر هذه السيدة معجب بشجاعتها وإقدامها، وبينا هو صاعد في الدرجات تعثر بشيءٍ صرخ بين قدميه فهلع قلبه ورجع أدراجه، فنهض الحمَّار الذي كان نائمًا هناك مذعورًا ينادي رفيقَه حمَّارًا آخر نائمًا قربه، يدعى: محيي الدين.

– يا محيي الدين، يا محيي الدين.

فوقفت مريم مبهوتةً لاستماع هذا الاسم هناك وعادت تسارع إلى العربة، وتسائل نفسها قائلة: كيف سبقنا اللعين؟ كيف سبقنا إلى الأهرام؟ ثم أمرت الحوذيَّ أن يعود إلى البلد مسرعًا.

– قلت لك يا ست: إنَّ الهرم يتكلم وإن الموتى فيه يخرجون ليلًا للنزهة، وحق النبيِّ إن من تعثرت به منهم.

وسقط بسوطه على الخيل يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

ومريم قد أخذتها الرعبة، وملكها مما توهمته الخوف باتت تلك الليلة وطيف مخيف، طيف الحاج محيي الدين يلازمها في يقظتها ويطاردها في نومها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤