الفصل الخامس عشر

الرقص فن من الفنون الجميلة تتحرك النفس في السامي من أنواعه قبل أن يتحرك الجسد، ترفعه العفة، فتحطه الخلاعة، تزينه حركة، فتشينه حركات، يعززه الذكاء إذا قرن إلى رقَّةٍ وكياسة، وتفسده الخفة إذا قرنت إلى فواحش الفكر وسوافل الحواس.

الرقص سراج وهَّاج يبهر فيسحر، وهو شعلة نار تحرق ولا تنير، هو وحشيٌّ إذا ملكته الرَّبَلاتُ وسادته الجوارح، وهو سماويٌّ إذا استُخدِمت هذه فيه كما يَستخدم الرسامُ الألوانَ والشاعرُ الألفاظَ والقوافيَ، فأيَّة ذات نهدين يا ترى لا تستطيع أن ترجرج صدَرها وتذبذب أردافَها فتهيج الحيوان في الإنسان؟ ولكنَّ راقصةً ترفع بك إلى ما فوق المبتذل من الشهوات دون أن تلجأ إلى المتبذل من حركات الراقصات، فتشخص إليها مبهورًا مسحورًا خاشعًا، وقد نسيت ذاتك الحيوانية السافلة، لأجدر أن تعدَّ من أرباب الفنون بل من نوابغ الدنيا.

ورقص غصن البان الذي لم يشاهد مثله في القاهرة أبهر إبهارًا على ما في بعض مظاهره من ركاكة لا تؤاخذ بها المبتدئات، فصفَّق الناس لها أولَ ليلة بدت أمامهم واستعادوها مرارًا، وما لبثت أن حققت قول الحاج محيي الدين وظنه، ولم يكن الحاج ليود أن يُحقَّقَ شيءٌ من ذلك بعد أن أخفق سعيًا في مطاردة غصن البان، فكيف له الآن بطردها انتقامًا منها على صدِّها واستكبارها وقد صارت للكازينو مورد رزق عميم، وأصبحت في مصر أشهر من أهرامها فكثر المعجبون بها، الخاطبون ودَّها، المتغزلون بجمالها العاشقون فنها وحسنها، غص البان حديث القهاوي والحانات، بل حديث المجالس والدواوين؛ فقد كان استحسانُ الحاج رقصَها رميةً من غير رامٍ، وصار يودُّ إذلالها بل إهلاكها، ولكنه تمالك نفسه واتخذ خطة في معاملتها جديدة، وهو يقول في نفسه: لقد أصبحت ولي نعمة من كانت ولية نعمتي.

والحاج محيي الدين يدرك الحقيقة ولا يموه على نفسه فيها، فقد أدرك أن غصن البان أكسبت الكازينو شهرة أدبية فصار يؤمها الطبقة الراقية من أصحاب الكياسة والذوق والأدب، والمدير عاطف بك رفع أسعار تذاكر الدخول لتليق بهذه الطبقة الرفيعة من الناس فتضاعف إيراد الكازينو وتضاعف مع ذلك الحضور، حتى إن النساء كنَّ يستصحبن بناتهنَّ — لسنا متأكدين هذا الخبر لأننا ننقله عن صحف الأخبار — ليشاهدن رقص غصن البان «السامي فنًّا، الحلال سحرًا، العاري من الخلاعة، المجرد من فواحش الإشارات والحركات» ثم أثنت الجريدة التي اقتبسنا منها هذه الكلمات على صاحب الكازينو الحاج محيي الدين «الذي لا يألو جهدًا في البحث عما يهذِّب النفس ويرقي الأخلاق فيعرضه للناس مهما كلفه ذلك؛ حبًّا بتطهير المسارح والمراقص من أسافل الخلاعات، بل غيرة على ذوق الأمة من أن يعتريه الفساد.»

وقد أفاضت الجرائد في الموضوع، فتحمَّس الكتاب والشعراء وأغرقوا في الثناء على الكازينو وربة الرقص فيها، وفي الطعن على بقية المراقص في البلدة والراقصات: «إن في رقص غصن البان لسحر القريض، وشجي الأنغام، وبلاغة البلغاء، ودقة النقاشين، بل في رقصها نفحات من قداسة الإيمان وأحداء جميلة من تراتيل العذارى في هياكل اليونان.»

هذا ما قاله أحد شعراء مصر الشهيرين مصباح أفندي، لما وقف في اللوج ذات ليلة يتلو قصيدة من نظمه في مديح غصن البان وفنها الجميل العجيب.

ولما قابلها تلك الليلة قبل يدها قائلًا: «بل ينبغي أن أقبل رجليك فإنك لتنظمين بهما شعرًا وأنغامًا وصورًا يعجز دونها قريحة الشاعر وبنان الموسيقيِّ وريشة الرسام.»

فقالت غصن البان ودموع الفرح تغشي عينيها: لا أكلفك إلى ذلك، بل أرضى منك بقصيدة تقصُّ فيها قصةً محزنة؛ قصة فتاة وحيدة مثلًا تحب الحياة حبًّا جميلًا، وتسترسل في تيارها مستهترة، فتذوق شيئًا من حلوها وأشياء من مرها كثيرة، فأتلوها على الناس، بل أمثلها راقصةً.

فلبَّى الشاعر طلبها وأعلنت الكازينو أن غصن البان ستتلو على الحضور قصيدةً غرَّاء من نظم الشاعر الشهير مصباح أفندي، وطبعت إدارة الكازينو مئاتٍ من تلك القصيدة لتوزع على الحضور، فظن الناس أن غصن البان ستتلو القصيدة كما يتبادر إلى الذهن، وقالوا: ولا غرو إذا أبدعت في الإلقاء والتمثيل كما تبدع في الرقص.

ومن عجائب نبوغ غصن البان أنها تولَّت بنفسها إدارة الموسيقى لرقصتها الجديدة، فكانت في أوقات التمرين تعلم الجوق معاني حركاتها وأسرار وقفاتها ونبراتها ونقلاتها، فيصحبها العود والكمنجة بما يلائم من الأنغام، وكانت إذا شاءت أن تعبر عن الفرح برقصها تسكت الكمنجة وتدير بقية الآلات ناصحة معلمة قائلة: «هذا بطيء، هذا بليد، أسرع يا عوَّاد ولا تتبالد، اضرب الأوتار ولا تخش أن تكسر الريشة.»

ثم إذا مثلت دور الحزن تُسكت العودَ وترقص على أنغام الكمنجة الرخيمة، حتى إذا وصلت إلى سكرة الحب توعز إلى صاحبي الدفِّ والقانون أن يشاركا بقية الجوقة.

غصن البان مخترعة الأنغام! هذه من مظاهر ذكائها التي لم يكن أحد ليتوقعها، فأدهشت مدير الكازينو وصاحبها، وأدهشت كذلك الموسيقيين.

وفي تلك الليلة وقف الشاعر على المسرح فتلا قصيدته ثم بدت غصن البان حافيةً في قميصٍ متسعٍ شفافٍ مهلهلٍ، إذا مسكت طرفيه بيديها المنبسطتين تبدو فيه كالفراشة المجسمة أو كطير من أطيار الجنة، فجعلت تنقل نقلاتٍ خفيفةً، بطيئةً، وهي غاضَّة الطرْف، واجلة القلب، كأنها تجسُّ الأرض جسًّا، أو كأنها تكتب برجليها كلمات الحياء والخوف والتردد، فمثلت الابنة الوحيدة الغريبة وهي تدنو من حياة الاجتماع! من معترك الحياة، فتدخل واجفة واجلة، فتخف طربًا لأول مشهد تشاهده من مشاهد الأنس والسرور، فتصل تدريجيًّا وقد رفعت يديها أمامها ترقص أناملها النحيفة اللدنة إلى جنة الحب وبهجة اللذات، والعود والقانون والدف ترافقها بالأنغام، ثم تقف فجأةً كمن تحلم حلمًا مرعبًا فتستفيق مذعورةً، فتسكت آلات الطرب وتسكن جوارح الراقصة، فتقف إذ ذاك وقفةً معناها الأسى، ويُسمع صوتُ مغنيةٍ وراءَ الستار تغني بصوت رخيم شجيٍّ: «يا غزالي كيف عني أبعدوك؟» وغصن البان تحرك قميصها أمام وجهها وحول رأسها كمن تندب حظها، ثم تدخل طورًا آخر على رنَّات العود والقانون وهي تتمايل كشجر الحور في فصل الخريف وذراعاها كزنبقتين هزهما النسيم تنقل نقلاتٍ كأنها أبياتٌ من ديوان الحماسة، فترفع ركبةً تلو الأخرى حتى قبالة صدرها وهي تهز رأسها وكتفيها مسرعةً مقبلةً مدبرةً، فتحجب وجهها بطرف قميصها تارةً وتارةً تُبديه، كأنها تداعب الأقدار، وما هي إلا فترة حتى تظهر فيها راقصة الهيكل غانجةً راغبةً هائجةً، فيُحلُّ شعرُها الأسودُ فيتماوج على منكبيها وجوانبها، وتحتدم النار في عينيها فتبدو كأميرة الجان متمردةً على القضاء، فتشرب كأس الغرام ثانيةً حتى الثمالة.

وتتوارى أنغام الكمنجة في نقرات الدف ورنات العود والقانون، وتمسي حركات غصن البان ارتجاجًا متواصلًا كارتجاج النور أو الأثير، لا يفصل بين الواحدة والأخرى فاصل ما، كأنَّ نفسَها ترقص في الفضاء أمامها وجوارحها كلها تتسابق إليها في سكرة الحياة بل في رقصة الموت، وتتوارى قليلًا قليلًا وهي شاردة مفترَّة، جامحة، سافنة.

فضجت التياترو بالتصفيق وهتاف الإعجاب.

– أحسنت أحسنت! يُعاد! يُعاد! برافو، برافو، كمان كمان.

واستعيدت غصن البان مرات عديدة تلك الليلة.

وبعد انتهاء دورها ارتدت ثيابها وقلبها يخفق طربًا وغمًّا، فبعثت تستدعي مصباح أفندي فجاء يهنئها ويقبِّل يدها، فقالت تخاطبه: بل أنت أجدر بالتهنئة.

– هذا من لطفك، ولكنك ربة الفن، وما أنا إلا واحد من عبَّادك، سحرت الناس، فتنتِ الناس، تيَّمتِ الناس.

– ولكني يا مصباح منقبضة النفس، الكآبة تملأ قلبي، أفرغت نفسي للناس فلم يبق فيها شيء لي، آه، أوَّاه.

فنظر إليها مصباح أفندي عاطفًا واجدًا.

فأخذت غصن البان يدَه تضغط عليها، ثم قالت: تعالَ معي.

وركبت وإياه عربة أوصلتهما إلى بيتها، وبينا غصن البان تترجل حانت منها التفاتة فأبصرت الحاج محيي الدين واقفًا قريبًا يراقبها ومن معها، فهتفت قائلة: ربي! ربي! أيتبعني كظلِّي؟ هذا جزائي؟

والحاج محيي الدين، وقد أدرك أنها رأته يراقبها، انثنى راجعًا راضيًا.

– أينغص هذا اللئيم عيشي؟ أينكد حياتي إلى الأبد؟

– من هو يا غصن البان، من هو؟

– ادخل ولا تسل، اجلس، اجلس أيها الشاعر، ما هو إلا خيال، بل وهم من أوهامي.

وجلست إلى جانبه تشخص إليه، ثم قالت: اسمع، لقد أسكرت الناس وأنا صاحية، مثَّلتُ في رقصة الليلة حياتي؛ حياة هذه الفتاة الجالسة الآن إلى جانبك ولم يدرك أحد ذلك، وماذا يهم الناس ما أقاسي؟ أسقيهم وأنا ظمآنة فيشربون، أطعمهم وأنا جائعة فيأكلون، أرقص لهم وأنا حزينة فيطربون، وجزائي ما هو جزائي؟ صيَّاد يخيِّم على قلبي، يتبعني كظلِّي، ينكِّد عيشي، يتعقبني كأني مجرمة أثيمة، هذا الشيطان الذي يملأ جيبه من مالي ويملأ نفسي غمًّا، صرت أخشى يا مصباح أن أختلي بنفسي، أغمض طرفي فأراه أمامي، أفتح عينيَّ فأراه يطاردني، ويلاه، ويلاه!

– ومن هو يا غصن البان؟ قولي من هو فأريحك منه إن شاء الله.

– لا، لا، ما لنا وله! أشعل السيكارة.

وضربت كفًّا على كفٍ فحضرت الخادمة.

– أتشاركني في زجاجة من الخمر أو تفضل مشروبك الوسكي والسودا؟

– لا أطلق الوسكي والسودا.

– ليكن ما تشاء. وبعد قليل جاءت الخادمة تدعو سيدتها إلى غرفة المائدة، فدخلت ومصباح أفندي فأكلا مما أعدته لتلك الساعة من الأطعمة الباردة، وشربا بضع كئوس ثم تناولا القهوة، وعادا إلى الردهة وغصن البان تقول: ألا يحق لمن تطرب الناس أن تذوق من الطرب شيئًا يسيرًا؟ ألا يحق للساقي أن يرشف ولو ثمالة الكأس؟

فهتف مصباح أفندي قائلًا: ووالله لأفرغن نفسي في كأسك أيها الساقي.

– أيها الشاعر الحبيب، أنت عزيز، أنت جميل، أنت لذيذ، أنت وإن سكتَّ مطرب، نفسك أعانقها، نفسك أعبدها، نفسك ترقص الآن أمامي كما رقصتُ منذ ساعة أمام الناس، في عينيك وفي شعرك أنغام شجية، أسمعها إذا لمست شعرك، في أناملك، في فمك، في ساعدك ما يبهج قلبي الآن ويطرب نفسي ويسكر كلَّ جوارحي، لا تقبل عيني، لا تقبل خدي، لا تقبل عنقي آه! أنت جميل أيها الشاعر، أنت جميل.

– وأنت في حديثك كما أنت في رقصتك فتانة ساحرة، أنا أعبدك، أنا من عُبَّادك، أنا أسير حبك، ثغرك، آه ما ألذ ثغرك!

– وغدًا تكرهني، غدً تنقلب عليَّ، لا يهمني، لا يهمني، أنت الليلة لي وحدي، كلك، كلك لي، وهذا حقي أيها الشاعر، هذا حقي، وإلا فكيف يمكنني أن أطرب الناس وهم يسألونني حقهم كل ليلة؟ فإن لم أملأ النفس التي أفرغتها، إن لم أُغَذِّ القلب الذي بذلته فكيف يمكنني أن أؤدي إلى الناس حقهم غدًا؟ لا أعرف ما تفعل غيري من النساء، إذا وُجدن في حالتي، ولكن ما تفعله غيري لا يهمني، أظنني أعرف ما أريد، ما أحب وما أكره، وإلى أن ينقضي أجلي سأعيش لما أحب ولمن أحب، وأفر هاربة مما لا أحب وممن يكرهه قلبي.

وجثت إذ ذاك أمام مصباح تقبل يده وفمه وعينيه، وتقول: أنت الليلة حبيبي، بل أنت سيدي، وأنا عبدتك أيها الشاعر، نفسك الليلة ترقص لغصن البان، عيناك تبهجان قلبي، شعرك يطرب نفسي، سيدي حبيبي! غصن البان تجثو أمامك وترمي نفسها بين يديك، صه! لا تفه بكلمة واحدة، لا يعجبني في ذا الوقت حديث الشعراء، انظم غدًا ما تريد أن تقوله الليلة وابعث به إليَّ، ابعث القصيدة يا جميل إلى من أحبتك الليلة وعشقتك …

وفي صباح اليوم الثاني قدمت غصن البان إلى مصباح أفندي دبوسًا لربطة الرقبة؛ ذكرى منها وودعته قائلة: إياك أن تخدع أو تطمع بي، وخير لك أن تظل بعيدًا عني، الوداع أيها الشاعر، الوداع! انسني، اجفني، عُقَّني، وإن لم تستطع ذلك فانظم لذكراي قصائد تطرب الناس.

– جميل والله أن أودعك ضاحكًا، فإن كلامك يضحك، سأراك قريبًا.

– لا لا لا.

– سأراك في الكازينو مساء اليوم، سأراك كل ليلة هناك!

– كما يراني الناس، وما المانع؟ الوداع، الوداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤