الفصل السابع عشر

جاء ذات ليلة خادم الكازينو يقدم إلى غصن البان بعد أن أتمت رقصها باقة من الورد، فلمَّا وقع نظرها على البطاقة فيها اعتراها هزَّةٌ مبهجة مزعجة معًا، فارتدت ثيابها وهي تفكر بمن خدعها في باريس وجفاها وجاء اليوم يجدد عهد الحب، ولكنها مع ذلك لم تكره نجيب مراد وقد أعجبت الآن بجرأته وإقدامه، ولما قابلته مرحبة باسمة بادرها قائلًا: «لا شك أنك ناقمة عليَّ.»

– لا لا، وحياتك.

– وحياتك إن أمرًا هامًّا استدعاني ذاك اليوم من باريس ولم أتمكن من …

فقاطعته غصن البان قائلة: لا ذنب مع استغفار، فقد عذرت وصفحت، قل لي: كيف حالك؟ ومتى جئت القاهرة؟ وكيف علمت بوجودي هنا؟

– جئت القاهرة منذ أسبوعٍ ولما قرأت في الجرائد عن الراقصة الشهيرة في الكازينو قلت: هي مريم لا شك.

– اسمي الآن غصن البان.

– نعم يا ست غصن البان، تفضلي.

– إلى أين؟

– إلى نزل كنتيننتال نتناول شيئًا من الطعام.

وبينا هما جالسان إلى المائدة عاد نجيب مراد إلى موضوع سفره من باريس، فقاطعته ثانيةً تقول: غيِّر هذا الموضوع، لا حاجة يا صديقي لاعتذار، أمَّا قصتي بعد أن سافرت فطويلة أقصها عليك في غير ذا الوقت والمكان.

ودخل إذ ذاك مصباح أفندي فأبصر غصن البان، فجاء توًّا يُسلِّم عليها.

– أهلًا بشاعري العزيز، تفضل، سأدهشك بعلمي، البارح زارني أحد المشائخ فعلمني آية أتلوها الآن عليك، اجلس حيث يؤخذ بيدك وتَبرُّ، لا حيث يؤخذ برجلك وتَجرُّ.

– ألحنتِ، واللحن جريمة، تُبر وتُجر لا تَبر وتَجر، اذكري ذلك، فلو سمعك الشيخ لنفض منك يديه.

– النحو والمشائخ سيان عندي، بل النحو مثل المشائخ شعره أبيض، بارك الله لك فيه، أُقدِّم إليك صديقي نجيب أفندي مراد من أعيان بيروت.

– أنعم وأكرم! شرَّفت بلدنا.

– وحضرته …

فقاطعها نجيب قائلًا: حضرته بغنًى عن التعريف، مصباح أفندي شرفت فآنست.

– جئتك يا غصن البان بخبر مدهش.

– وما هو؟

– في القاهرة شخص واحد لا يعجبه رقصك.

– من هو؟ قل لي من هو؟ فقد سئمت من يعجبهم رقصي، فلا شك أن الرجل ممتاز بعقله.

– هو واعظ شهير ندَّد بك على منبره.

– أفسدت الطبخة، هو شيخ من مشائخ الأزهر، ولا عجب.

– بل هو قسيس من قسس النصارى يُعلِّم في إحدى مدارس الإفرنج هنا.

– أنعم وأكرم بشيخك وبقسيسي، ليتك تركتني في وهمي، فقد مثلت لنفسي رجلًا مثلك أو مثل نجيب أفندي ووددت التعرف به.

فقال نجيب: لو زرت سوريا ورقصت هناك لشاهدت من مثل هذا الرجل المئات والألوف، كلنا في سوريا هذا الرجل، لا نرى في مثل رقصك ما يراه إخواننا المصريون.

– أي إنكم لا تُخدعون مثلنا، لتهنأ سوريا بحصافة رجالها!

– بل لا نتأثر مثلكم، أرجوك المؤاخذة، فقد أسأت فهمي، أردت والله ثناء.

– وأنا كذلك.

فقالت غصن البان ضاحكة: والحمد لله على سلامتي، خطر في بالي المثل السائر، ولكنه لا يليق بذا المقام، فلا بأس إن تقارضتم الثناء باسمي على شرط ألا تشاركوني به، لنشرب سر مصر وسوريا.

فقالت نجيب مراد: وفلسطين أيضًا.

فتجهمته غصن البان وقالت على الفور: لا أشرك مع البلاد المقدسة بلادًا.

– الحق معك، ولكن الفن يا غصن البان يتعدى مثل الدين البلاد، ومصر بلاد الفن قديمًا وحديثًا، سر سوريا ومصر.

ثم قال نجيب مراد ليظهر للشاعر أنه أسبق إلى قلب الراقصة الشهيرة منه: أتذكرين يوم شربنا هذا السرَّ في باريس؟

فاغتاظت غصن البان ولم تكترث بما قال، وفي تلك الآونة قرب من المائدة رجل نحيل الجسم عدل القامة يناهز الأربعين من العمر، حنطي اللون غائر العينين في وجهه أثر الجدري وأثار القصف والتهتك، وهو يلبس عوينة كأكابر الإنجليز ويميل بطربوشه حتى حاجبه الأيمن فيكاد والزجاجة يتماسان، فأبصرته غصن البان قادمًا إليها فبادرته وهي جالسة بالسلام، ومدَّت إليه يدها فقبلها.

– أهلًا بسعادة الباشا، جئت بوقتك لتخلصني من حجر الرحى، أكاد أسحق بين حب سوريا وحب مصر، بل بين التجمل والمسايرة، وأنت لا تجامل حتى غصن البان، ولا عجب فأنا لا أحبك ولكني أحب حديثك، تفضل، اجلس بيني وبين الشاعر، وأجرني منه.

ثم قدمت إليه جليسيها وقالت تعرفهما به: صاحب السعادتين الحائز على الرتبتين المصرية والإنكليزية، بل ولي النعمتين — نعمة الملك ونعمة الأمير — سر همت باشا.

فأحنى سر همت رأسه باسمًا ابتسامة الازدراء ولسان حاله يقول متهكمًا: علمت شيئًا وفاتت عنك أشياء، ثم أمر الخادم أن يحضر زجاجةً من الشمبانيا. وقال يخاطب غصن البان: هل سررت في الإقامة بحلوان؟

– كيف لا وجئت بهذا السعال المكرب؟ أرجوك ألا تذكرني بها، سر همت باشا يا نجيب أفندي عالم أسر … ما هي الكلمة؟

– أثري.

– أثري، أثري، أي إنه لا يهتم لغير الماضي؛ الماضي القديم البعيد، يحفر القبور، ويغازل الموميات.

– أخطأت، ننقل القبور إلى القصور، فإنها أجدر بميتٍ كريمٍ من حيٍّ لئيمٍ، ونغازل الخالدات الذكْر لا الموميات؛ الخالدات الذكر عرائس الحب، لا يهمني من الحاضر غيرهنَّ، والبخور نحرقه في هياكلهن، والخمرَ نشرب على ذكرهنَّ، وما سوى الحبِّ والخمر هلس كله بهلس، الاحتلال الإنكليزي، والحزب الوطني، ومشائخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وتحرير المرأة، والبالو الخديوية، ورقص غص البان هذه كلها تدل على أمر واحد هام، وهو أن الناس هربًا من فراغ في قلوبهم وظلام في عقولهم وعقم في نفوسهم؛ يتلهون بالخزعبلات السياسية والاجتماعية وبالتخرفات الدينية والفنية، ترقص غصن البان فتعبث بالعقول والقلوب، يخطب مصطفى كامل فيطرب الناس، يتفلسف الشيخ محمد عبده فيسلينا، يعظ شيخ الأزهر فيضحكنا، تصدر أوامر النظارة الخارجية من «دون ستريت» إلى المعتمد الإنجليزي فتبعث بنا إلى الحمام، يصدر قاسم أمين كتابًا فترتفع أسعار «النسخات» في البلد، صلِّ على النبيِّ! اكتشفت أمس اكتشافًا يزعزع اعتقاد هؤلاء النوابغ كلهم لو أنهم يعلمون، مددت يدي أمس إلى صدر ملكة من ملكات الفراعنة …

فقاطعته غصن البان هاتفة: يا للفضيحة ويا للعار!

– أي والله، جسارة هي بل سوء أدب مني، ولكن العلم في بعض الأحايين فضولي، مددت يدي إلى صدر الملكة فلقيت فيه صفيحة من البردي كتبت فيها هذه الكلمات: «سأوافيك غدًا نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.»

– الله الله! يا دائم يا كريم!

– نعم، كل ما سوى الحب يا ست غصن البان هلس بهلس، كله يزول «سأوافيك نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.» لعمري إن في ذي الرسالة سر الحياة كلها، ولكن فيها ما هو أغرب من «سأوافيك» فيها اسم علمت بعد البحث والتنقيب أنه اسم الكاهن الأكبر؛ كاهن الهيكل الملوكي.

ورفع النظارة إلى عينه يثبتها تحت حاجبه وهو ينظر إلى غصن البان كأنه يسائلها رأيها، فقالت: وهل وافته الملكة؟

– وافته إلى البستان ورافقته إلى قدس الأقداس في الهيكل، وماتت في سريره وأوصت أن تدفن الرسالة معها وفي صدرها، إنما هذه الخالدات الذكر، تزول الأديان والأمم ولا يزول الحب، تتغلب العادات والسياسات وتتغير الأزياء والأسماء والحب هو هو — خالد أزلي أبدي، والعاقل لا يهتم في الحاضر لسواه.

– وهل عثرت يا سر همت على مومية راقصة من راقصات الزمان القديم، أو على أثر من آثار الرقص في الصور والتماثيل؟

– عندنا كثير منها.

– بالله حدثنا بها.

– غدًا أرافقك إذا شئت إلى المتحف المصري وأطلعك على آثار الرقص وصور الراقصات والراقصين؛ لأنَّ الكهان في قديم الزمان كانوا يرقصون والعذارى في الهياكل …

فقاطعه مصباح أفندي قائلًا: ويدعونهنَّ بعدئذٍ إلى قدس الأقداس؟! لله من الكهان!

– ولكن رقصهم جميل يشابه في بعض حركاته رقص غصن البان.

فقال نجيب مراد: واللبنانيون حتى اليوم يجتمعون في الكروم في عيد مار باخوس؛ أي إله الخمر عند الرومان، فيرقصون رجالًا ونساءً كما كان الرومانيون قديمًا يرقصون ما يُدعى «باكانال» فيهرجون ويمرجون ويسكرون أيضًا رجالًا ونساءً.

– يظهر أن كل جميل مبهج في الحياة أصله الدين، كالرقص مثلًا والشعر والتصوير والنحت، كل الفنون الجميلة عند اليونان والرومان قديمًا وعند الأوروبيين حديثًا إنما الدين أوحاها إلى نوابغ البشر، ولكن الأديان اليوم قد أفلست فلا توحي إلى الناس غير الجهل والتعصب والرياء.

– ما أسرعكم إلى تجريم الأديان! الجهل يا مصباح أفندي، والتعصب والرياء من حقائق الوجود الملازمة يمازج الخير شرها، الجهل مفيد، لولاه مثلًا ما احتل الإنكليز مصر، وغدًا يخيم على جيش الاحتلال ويتسلل إلى «دون ستريت» فتنتصر على الإنكليز قوة سياسية جديدة، لولا الجهل مثلًا ما ظهر مصطفى كامل وأمثاله في أوروبا من زعماء الشعب الممخرقين، ولا غنى للشعب عن البهلوان يسليهم في ساعات اليأس ويضحكهم أوقات الضجر، البهلوان في السياسة أو في الدين أو في الملاهي ألزم منك يا ست غصن البان، أما التعصب فهو لازم لحفظ التوازن بين الشعوب، وبين عقائدهم السياسية والدينية، التعصب أساس كل اعتقاد، والاعتقاد أساس الإيمان، والإيمان أساس العمل، والعمل! لولا العمل لكانت الأرض قفرًا بلقعًا، أما الرياء فإن هو إلا درع نتدرع بها على لؤم اللؤماء وجور الأمراء، بل الرياء حجاب تسدله على نفس حساسة تأبى السفور في الاجتماعات، حيث يختلط الحابل بالنابل ويحتك منكب الصعلوك بمنكب الأمير، وها صديقي الحاج محيي الدين أخبث الناس وأشدهم تعصبًا قادم إلينا، يا حاج محيي الدين.

فسارع الحاج إلى سر همت يسلم عليه معتذرًا مستغفرًا.

– أثنيت عليك في حديثي، قلت: إنك أخبث الناس وأشدهم تعصبًا، فينبغي أن تشاربنا، هذه الكأس فقط.

– لا أقبلها إلا من يد غصن البان.

– تعطفي إذن يا غصن البان!

– فاتك يا سيدي محيي الدين استماع حديث سر همت باشا، فقد حبب إلينا الموت والحب.

فقال الحاج متهكمًا: بل الحب والموت! رحم الله الفارض:

وإن شئت أن تحيا سعيدًا فمت به
شهيدًا وإلا فالغرام له أهلُ

– ونعم، وصرت أود أن أكون مومية من الموميات.

– لأفتش في صدرك عن رسائل الغرام؟ ها ها!

– دعنا من المزح، فإن حديثكم يا سادتي لذيذ مفيد جدًّا وبالأخص لفتاة جاهلة مثلي، مدحت الجهل يا سر همت إكرامًا لي فأهنتني، أودعك ناقمة عليك.

ونهضت إذ ذاك غصن البان فنهض جلساؤها كلٌّ يريد تشييعها إلى منزلها، فقال سر همت: نلقي القرعة.

– لا لا، قد تقع عليك، نجيب أفندي يشيعني الليلة.

وركبت وصديقَها القديم عربةً أوصلتهما إلى منزلها، فدخلا الجنينة والحارس نائم في صندوقه عند الباب، فوقفت غصن البان تودع نجيبًا، فقال مدهوشًا: أتغيرين عادتك معي؟

– لا بل هذه العادة، أنسيت باريس يوم كنت تشيعني إلى منزلي عند مدام لامار.

– ولكني لم أنسَ …

فقاطعته قائلة: لا لم تنس فوزك بل نسيت مقدماته، نسيت المكارم التي تكلفتها لتنال إربك، وأنا لم أنسها، فقد اتخذتها شرعة حياتي، دقائق الحيل يا نجيب تغتفر إذا علمتنا وهذبتنا، وقد غفرت بعد أن أدركت حيلتك، وسأحفظ لك ذكرًا جميلًا في قلبي، ليلتك سعيدة.

ولم تقف غصن البان لتسمع جوابه بل دخلت إلى بيتها وأقفلت الباب، فجاءت الخادمة تعينها في خلع ثيابها وتعد لها الحمام.

وفي تلك الآونة طرق البابَ طارقٌ، فجاءت الخادمة تفتح، فإذا بمصباح أفندي مضطرب البال مكفهر الوجه يطلب مقابلة سيدته، فارتدت غصن البان ثوب الحمام واستقبلته في باب غرفتها.

– أفلا تأذنين لي بالدخول؟

– لا، لا، أهنتني في مجيئك الآن جئتني متجسسًا، وهب أنَّ الرجل عندي في هذه الساعة فما حقك عليَّ، ألم أقل لك مرارًا: إنني حرة، مستقلة، ولية أمري، ولية نفسي، أمنح من أريد حبي وأحرمه من أريد؟

– وستدركين خطأك وستندمين. إنك يا صديقتي لفي ضلال مبين، مَن تمنحينه حبك فيمنحك حبه يلقي في قلبك مسئولية عظيمة إذا كنتِ ذات وجدان، الحب يا غصن البان تقتله الحرية المطلقة كما يقتله الأسر المطلق، إذا أحببتك وكرهتني فرحمة الله عليك، إذا أحببتني وكرهتك فرحمة الله عليَّ.

– لا أدرك معناك.

– أوَلا تقولين ادخل فأوضح؟

– لا، لا.

– أَلِأَنَّ في الداخل من تؤثرينه عليَّ؟

– ذلك لا يعنيك.

– ستندمين على ذا التصرف.

– لا أندم على شيء أفعله من تلقاء نفسي، اتركني وحدي.

– لو تأكدت أنك وحدك …

– كلمتي شرفي، أترتاب بما أقول؟

– العذاب يذهب بيقيني، الغيرة تذبح إيماني.

– وإذا أدخلتك تندم، تندم والله، إذا أدخلتك تقتل فيَّ ما هو أعز من اليقين والإيمان لديك.

– إما أنا وإما هو.

– في دخولك منزلي الليلةَ خروجك من قلبي إلى الأبد، ادخل، ادخل فتش وأرح نفسك.

فدخل مصباح غرفتها وجعل يفتش كالمجنون تحت السرير وتحت الديوان ووراء السجوف ووقف مذهولًا حائرًا بل مدحورًا مذمومًا.

– أفلا تخجل الآن؟

– وما أدراني؟

– ألم تزل في ريب مما أقول؟ لقد جنيت على نفسك!

وصفقت كفًّا على كف فجاءت الخادمة.

– شيعي مصباح أفندي إلى الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤