الفصل الخامس والعشرون

وقفت مريم في شرفة البيت بحيفا تنظر تارةً إلى البحر وتارةً إلى جبل الكرمل ثم تدور ببصرها وبقلبها إلى فريد الواقف قربها يسائلها عن البواخر في المرفأ، البحر فالسفر فالحرية فالجهاد فالإقبال فالمجد، لقد لاحت هذه الكلمات في جوانب نفسها كوميض البرق فأنارت هنيهة ظلامها واستفزت الخامد في منازعها.

ونظرت إلى الدير على قمة الجبل المقدس فأخذتها رعدة دبت إلى صدرها فأثارت كوامن غمها، ذكرت أيامها في الدير بالناصرة فصعَّدتِ الزفرات، وذكرت يوم سافرت من هذا الشاطئ ومدام لامار فاعترتها هزة أيقظت فيها رواقد الرغبات والهمات.

وهبَّ هواء البحر فوق البساتين يحمل إليها شذا الورد والفلِّ والياسمين فأنعش فؤادها وأحيا المائت من آمالها، فجثت أمام ولدها تضمه إلى صدرها، وتقول: شفيت يا حياتي، شفيت يا عمري، وغدًا نسافر، غدًا، غدًا.

وكان زوجها وهو ينتظر قدوم الطبيب جالسًا على الديوان في فناء الدار منقبض النفس مستسلمًا إلى الأفكار والهواجس: إذا كانت تفضل أن تقيم ووالدها لِمَ قبلت بعقد الزواج يا ترى؟ ولكنها معذورة، المرض يذهب بمحاسن الخَلق والخُلق، وهذا الراهب أبوها، راهب مجنون، سيجيء غدًا بيتي يقيم فيه وابنته، على رأسي الابنة، أما الأب؟ فلا أعرفه ولا أحب أن أعرفه، لا والله، حسبي ما اقتبلت وما قاسيت، أمي أبي أهلي الناس كلهم ينظرون إليَّ شذرًا ويضحكون مني، وإذا علموا بأمر الراهب يسلقونني بألسنتهم، تأكلني نار الشماتة والسخرية، لا والله لا، إذا جاء هذا البيت يجد الباب مقفلًا دونه، ليرجع إلى ديره يستر فيه عاره.

جاء الطبيب يلهث وينفخ مستعيذًا بالله من الحر والغبار، فجلس على الديوان يستريح ونزع طربوشه يمسح العرق المتصبب من جبينه، وبعد أن شرب كأس الشربات الذي قدم على صينية من الفضة، دخل إلى غرفة مريم ففحصها فحصًا بسيطًا؛ جسَّ نبضها، وأخذ حرارتها، وألقى رأسه على صدرها ثم قال: ظننت الأمر خطرًا يا خواجة عارف فجئت كما ترى مسرعًا، فلا شيء والحمد لله يزعج البال، التهاب خفيف في شعب الرئة ودرجة واحدة من الحمى.

وكتب الوصفة وسلمها إلى الخادم، وجلس على الديوان يدخن بالأركيلة التي أُعدَّت له ويشرب القهوة، وبعد أن هنأ عارفًا وطمأنه وباحثه في القديم والحديث من أخبار الدولة والدول ودع وانصرف.

ولكن عارفًا ظل مشككًا، وبعث يستدعي الطبيب الإفرنجي الشهير ليتحقق ما قاله الطبيب السوري، فعاد الخادم يقول: الحكيم يكون هنا الساعة الثامنة مساءً، والموعد في لغة إفرنج الشرق وقت غير محدود، ففي الساعة التاسعة سمع ضجيج سيارة في البستان، سيارة الحكيم! دخل حضرته والقبعة في يده، فسلَّم باللغة العربية التي يحسن شيئًا منها، وراح توًّا يفحص المريضة فحصًا دقيقًا؛ وضع قلم الحرارة في فمها وأخذ نبضها يجسه والساعة في يده الأخرى، ثم فحص لسانها وقبض على لحيته واجمًا، ثم استخرج من جيبه آلة فوضعها على صدرها وظهرها يستطلع خبر رئتيها فهز رأسه مرتابًا، ثم ضرب بقضيب من النحاس عظم ساقها وقطب جفنيه، ثم سألها أن تمد يدها وتبسط أناملها فشاهد فيها اهتزازًا قليلًا، فضجرت مريم وتأففت ولم تجب الطبيب إلا على بعض سؤالاته المتعددة.

خرج حضرته وعارف إلى فناء الدار يحدثه بأمرها، وسأله سؤالين امتقع لهما وجهه ولم يدر ما يقول جوابًا: مرض الست على ما يظهر مزدوج، يلزمها راحة بال وهواء نقيٌّ وغذاء، لتفتح شبابيك غرفتها ليل نهار، لتلازم سريرها بضعة أيام، وبعدئذٍ انقلها إلى الجبال؛ جبال لبنان حيث يكثر الصنوبر، وسأعودها بعد يومين.

ودفع إلى عارف الوصفات التي خطتها أنامله وأملاها عليه علمه الغزير؛ أربع وصفات لا غير.

– لتشرب من هذا قبل الأكل ومن هذا بعده، ولتدهن من هذا، ولتتنشق من هذا.

– وهل من خطر على حياتها؟

فبزم الحكيم شفتيه وذوى ما بين عينيه وأمال برأسه مفكرًا، ثم قال: في كلِّ مرض خطر على الحياة وأمل بها، والأمل بشفاء الست أكبر من الخطر.

وأمر عند الوداع أن تفرد أواني الأكل والشرب عن أوانيها، فعاد عارف يهز رأسه ويقول: هذا ما توقعت، هذا ما خشيت، وخطر في باله أن يسأل الحكيم سؤالًا آخر فلم يلحقه في الباب، كرَّ دولاب السيارة وراحت تهدر خارج البستان.

وفي اليوم الثاني أحست مريم بتحسين في حالها، ولم تفتح واحدة من القناني التي وصفها النِّطاسِيُّ الإفرنجيُّ الشهير، ونزل عارف إلى مكتبه يتفقد أشغاله، فسمع من أقوال الناس والإشاعات عن امرأته وأبيها الراهب ما أثار شجونه وهاج كوامن غيظه، وعزم أن ينقل مريم إلى لبنان ريثما يُنتسى أمرها.

وبينا كان عارف في مكتبه جاء القس بولس، وكان قد وصل ذاك اليوم ليتفقد ابنته، فوقف في باب البيت بحيفا كما وقف في ذاك الباب في شارع قصر النيل.

– مستحيل يا محترم الخواجا في المكتب، الست مريضة والطبيب لا يؤذن لأحد بمقابلتها.

– هذا قانون للغرباء.

– لكل الناس يا محترم.

– لا بدَّ من أن أدخل.

وهم القس بولس بالدخول فأوقفه الخادم قائلًا: لا لوم على خادم يعمل بأوامر سيده، أرجوك أن تخرج.

فصاح القس بولس به: ياو ياو! سيدتك بنتي، بنتي، ألا يؤذن لوالد أن يرى ابنته؟

– لو جاء السلطان اليوم ما أذنت له بالدخول.

فطأطأ القس بولس رأسه وانثنى راجعًا، فجلس تحت نخلة في البستان ينظر إلى البيت والنفس منه حزينة حتى الموت.

وكانت لطيفة ربيبة فريد قد سمعت ما دار من الحديث بين الخادم والقسيس فجاءت مسرعة تخبر سيدتها، فاستشاطت مريم غيظًا وراحت تنادي أباها فالتقت بالخادم في الباب.

– ومن أعطاك هذه الأوامر؟

– الخواجا عارف يا ستي.

– داهتك داهية أنت والخواجا عارف.

وخرجت إلى البستان تنادي — أبي أبي! فسارع القسيس إليها مجيبًا وجلس وإياها على مجلس في الجنينة تحت النخيل.

– أزورك هنا يا بنتي، لا أدخل البيت.

– بلى، بلى، دخيلك أبي.

– وغدًا أزورك يا بنتي، أنا مقيم في النزل، وسأظل في البلد إلى أن تشفي، وسأزورك هنا في البستان كل يوم.

– ولكن الطبيب أشار بالسفر إلى لبنان.

– فأسافر وإياك كما وعدت.

وفي تلك الآونة جاء عارف عائدًا من مكتبه فسلم على القس بولس ولعنه في قلبه، فقالت مريم مخاطبة زوجها: أفلا تريد يا عارف أن يزورني أبي؟! أمرك يا سيدي مطاع، أمرك مطاع.

ثم ودَّعت أباها قائلةً: سأزورك أنا في النزل يا أبي، ولا أكلفك إلى ما فيه إهانتك.

ودخلت وزوجها إلى البيت تصر بأسنانها وتحاول كظم غيظها، فلم تنم تلك الليلة إلا قليلًا.

وفي اليوم الثاني اشتدت وطأة الحمى عليها، واستمرت تصعد الحرارة حتى درجة الخطر، فبعثت تستدعي أباها إليها فجاء مسرعًا، دخل الغرفة فوجد عارفًا جالسًا إلى جانب السرير منكسًا رأسه، وسمع مريم تهذي فهتفت إذ رأته: أبي، أبي، أقم عندي، قربي، لا تفارقني، سأموت، سأموت، ولكني أموت سعيدة وأنت قربي، إلى جانبي، لقد انشرح صدري الآن، قد زالت آلامي، شفيت، شفيت، وغدًا نسافر إلى لبنان، غدًا صباحًا، أنا وإياك وفريد، نقيم في ظلال الصنوبر، سأرقص في ظلال الصنوبر، أتلو عليك قصيدة الابنة الحزينة البائسة، الله ما أجمل أنغام الكمنجة، الكمنجة وحدها، وحدها، أنغامها تذيب قلبي، تطرب نفسي، سكرة الحياة ما أحبها، سكرة الموت ما أبدعها! أيها الشاعر نفسي الليلة حزينة، حزينة حتى الموت، سأموت وأسافر إلى باريس، إلى باريس، الله ما أجملك يا باريس، تموج شوارعك بالناس، بالأزياء، بالأبهة، بالجمال، بالفنون، ضجيج شوارعك وقهاويك مثل الأغاريد في أذني، العربات والسيارات والجماهير والبوليس في وسط الشارع رداؤه على كتفه وصولجانه الأبيض في يده واقف، ما ألطف بوليسك يا باريس وما أعظم سطوته! وأنوارك والناس في بهائها رائحين جائين كلٌّ إلى جنبت من يحبه ويهواه. وها قد جاء المعَّاز بقطيعه١ ما ألطف قصب المعَّاز وطنين أجراس القطيع، جاء المعَّاز: حليب، حليب، هاتي يا بنت دلوك، قصب الراعي في أسواق باريس، اسمعوا قصب الراعي، وغدًا نسمعه في لبنان، غدًا، غدًا أموت، آه، أوَّاه، غدًا أموت ولا أسمع صوت أجراس القطيع، عارف أستغفرك هات يدك، سامحني، أنا مائتة، أنا مائتة، خذ يد أبي صافحه واستغفره، استغفره يا عارف، لله ما أحلى الصفاء وما أجمل القلوب الصافية اسمعوا صوت القصب، اسمعوا صوت أجراس القطيع، سأرقص لكم على أنغامها، سأرقص لكم رقصة الابنة الحزينة البائسة.

وهمت أن تنهض من سريرها فلم تستطع، هاج الهذيان سعالها، وأنهكت الحمى قواها.

وجاء يومئذٍ النطاسيُّ الإفرنجيُّ يعودها، فوجدها في تلك الحال فوصف لها الحمامات الباردة.

ثم جاء الطبيب السوري فوصف الكينا، وقال مستعيذًا بالله: الحمامات الباردة تجهز عليها، تجهز عليها، هي نوبة حمى يا خواجا عارف وستزول غدًا أو بعد غدٍ إن شاء الله.

١  في بعض أنحاء باريس يطوف المعَّاز بقطيعه صباحًا وهو يعزف على الناي فيبيع الحليب من الضرع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤