«هدى» … تسبب قلقًا للشياطين!

لم يكن أمام بقية الشياطين شيء يفعلونه الآن … إن مهمة «هدى» سوف تكون هي المفتاح للمغامرة، ومهمة «عثمان» هي تكملة مهمة «هدى» … ولذلك فقد نفذوا فكرة سريعة، وهي الدوران حول القصر لمعرفة إمكانية الاستفادة من جميع جوانبه، فاتجهوا إلى نهاية سور الواجهة، التي يقع فيها باب الدخول، وأمام الباب لاحظوا سيارة مرسيدس سوداء تقف بالقرب من الباب الداخلي. كان الممر الطويل يبدو لامعًا تحت تأثير الشتاء وتأثير الضوء، وحول الممر كان يبدو الزرع الأخضر، نظيفًا هو الآخر. لم يكن هناك أحد. وإن كان كشك صغير، يبدو خلف الباب مباشرة. كان مظلمًا بما يعني أنه لا يوجد أحد بداخله.

استمَرُّوا في سيرهم باستقامة السور الجانبي الأيمن، كان السور من الحديد الذي تتخلَّله أعمدة حجرية بيضاء، وداخله ترتفع أشجار عالية، وعليها تلك النباتات المتسلِّقة، التي تبدو كستار يُخفي كل شيء، كان طول السور يقترب من الخمسمائة متر، وكان هذا يعني أن الحديقة واسعة تمامًا، مع نهاية السور، انحرفوا مع الضلع الثالث والذي يوازي ضلع واجهة القصر.

فجأةً توقف «أحمد». فتوقف «بو عمير» و«رشيد»، وأخرج «أحمد» سماعة صغيرة وضعها في أذنه، وبدأ يسمع … عرف «بو عمير» و«رشيد» أن «عثمان» قد فتَح جهاز الإرسال، لينقل لهم أي حديث يدور داخل المستشفى الصغير.

أخذت الدهشة تظهر على وجه «أحمد». وكان الحديث الذي يدور كالآتي:

صوت: هل تحتاجها أنت؟

عثمان: نعم.

صوت: هل هي مسألة خاصة بك؟ … إنك تبدو وسيمًا ولا تحتاج إلى إجراء أي عملية لك.

ضحك «عثمان» وهو يقول: إنها مسألة خاصة بشقيقي الأكبر.

صوت: هل هو موجود؟

عثمان: ليس هنا، إنه فقط في انتظار أن أستدعيه.

صوت: وماذا تريد الآن؟

عثمان: أريد أن ألتقي بالدكتور «روبرت كيم».

سمعت أصواتًا لأقدام تَقترب، ثم تتوقف، وصوت نسائي يتحدَّث: إنه بخير الآن، وإن كانت هناك بعض الآلام.

صوت: لا بأس. نرجو أن يتحسَّن بشكل أسرع.

الصوت النسائي: هه وماذا يُريد هذا الزائر؟

صوت: يُريد مقابلة الدكتور.

بعدها سمعوا أصوات أقدام تقترب أكثر. ثم نفس الصوت النسائي: تستطيع أن تتحدث معي، وسوف أبلغ الدكتور بما تريد.

عثمان: أفهم من ذلك أنه غير موجود.

الصوت النسائي: بعض الوقت.

عثمان: هل يمكن أن أنتظره؟

ضحكات خافتة، ثم الصوت النسائي: قد تنتظره أيامًا؛ فهو غير موجود الآن.

لحظة صمت، ثم صوت «عثمان»: هل أستطيع أن أحصل على موعد لألقاه؟!

لحظة صمت أخرى، ثم الصوت النسائي: تستطيع أن تطلب المعلومات التي تُريدها، وتترك رقم تليفونك، وسوف نتصل بك.

عثمان: هل سيتأخر الموعد؟

الصوت النسائي: هذه المسألة يحددها الدكتور.

سمع الشياطين الصوت النسائي يطلب استمارة. ثم صوت أقدام تقترب. ثم صوت ورقة. بعدها ساد صمت طويل ثم سمعوا صوت الورقة مرة أخرى.

ضحكة من الصوت النسائي: ربما يُريد شقيقك أن يعمل بالتمثيل؟

صوت «عثمان»: نعم.

الصوت النسائي: رائع، هل هو مرتبط بعمل الآن؟

صوت «عثمان»: نعم. إنه على الأكثر يجب أن يقف أمام الكاميرا بعد حوالي شهر.

الصوت النسائي: هذا يعني أنه لا بد أن يُجريَ العملية خلال أيام.

صوت «عثمان»: أعتقد ذلك.

صمت لبرهة … ثم صوت أقدام تبتعد … الصوت النسائي يقول في هدوء: إذن، انتظر قليلًا.

صوت أقدام نسائية تبتعد، حتى تختفي … صمت … يطول الصمت، فينتزع «أحمد» السماعة من أذنه وهو يقول: لقد انتهى الحوار، لكن له بقية. ونقل لهم تفاصيل الحوار الذي سمعه … ثم قال في النهاية: إنه تصرُّف جيد من «عثمان»، وهذه خطوة طيبة في تنفيذ خطته.

استمرَّ الشياطين في تقدُّمهم، كان السور بنفس الطريقة الحديدية، والأعمدة الحجرية، والشجر والنباتات المتسلِّقة التي لا يتسرَّب منها سوى الضوء الخافت. كان ضلع السور أطول من سابقه. فهو يقترب من السبعمائة متر، حتى إن «رشيد» علق: إنها حديقة رائعة بلا جدال.

ابتسم «بو عمير» وهو يقول: نستطيع أن نراها الآن إن كنت تحب.

انتهى الضلع الثالث، ووقفوا عند بداية الضلع الرابع المطل على شارع «بارك». كانت أقدام المارة، قد بدأت تقل، فتوقفوا قليلًا، ينتظرون خروج «عثمان» غير أن وقوفهم طال.

مرةً أخرى، أسرع «أحمد» بإخراج السماعة، ووضعها في أذنه … كان جهاز الاستقبال الذي يحمله في جيبه قد أعطى إشارة لبداية حديث جديد. فأخذ يَستمِع.

كان هناك صوت حذاء نسائي يدق على الأرض في نشاط وهو يقترب، وعندما توقف، قال الصوت النسائي: لقد تحدَّثت إلى الدكتور «كيم» تليفونيًّا، وقد حدد لك موعدًا بعد غد في الثانية ظهرًا.

قال صوت «عثمان»: إنني أشكر لكِ هذا الموعد. فلولاك، ما كنت قد استطعت أن أحصل عليه. لكن.

ثم توقف لحظة، وأخيرًا قال: هل تسمحين لي أن أتعرف بك، حتى أسأل عنك كلما أتيت.

ارتفعت ضحكة نسائية رقيقة، ثم قال صوتها: «الدكتورة اليانور جاكسي»، مساعدة الدكتور «كيم».

ظهرت الدهشة على وجه «أحمد». لكنه عاد مُنتبهًا مرة أخرى، فسمعها تقول: إن الدكتور لن يستطيع إجراء أي عملية الآن، على الأقل في خلال أسبوعين. فهو مُجهَد هذه الأيام، بتأثير عمليات كثيرة أجراها، وتحتاج إلى رعاية، ولكنني حصلت لك على الموعد، لأنك شاب طيب.

جاء صوت «عثمان»: أرجو أن أستطيع إقناعه، شكرًا يا دكتورة … ولم يكمل كلامه.

لقد ارتفع صوت ضحكة «اليانور» وهي تقول: اسمي «اليانور جاكسي»، وأرجو ألا تنساه مرة أخرى.

جاء صوت «عثمان» خَجِلًا: معذرة. وثقي أنني لن أنسى اسم الدكتورة «اليانور» أبدًا. تحياتي، وإلى اللقاء.

جاء صوت الدكتورة: «إلى اللقاء يا …» صمتت لحظة ثم قالت: لقد نسيت.

قال «عثمان» ضاحكًا: إذن، واحدة بواحدة، اسمي «جاك» فقط، وليس «جاكسي».

ضحكا معًا وأخذ صوت أقدام نشيطة يبتعد، عرف «أحمد» أنها صوت أقدام «عثمان»، فأنزل السماعة عن أذنه، ولا تزال الدهشة مسيطرة عليه.

نظر إلى الشياطين الذين كانوا في حالة دهشة، لحالته، وقال «رشيد»: ما المسألة؟

همس «أحمد» مفكرًا: هل يمكن أن تكون هي نفسها «اليانور جاكسي»؟ وكيف تكون في انتظار «هدى» ثم تكون هنا في نفس الوقت؟ والمعلومات التي لدينا، تقول إنها تركت «د. كيم» بعد خلاف بينهما.

لم يكن الشياطين يفهمون شيئًا. فشرح لهم «أحمد» الحوار الذي دار بين «عثمان» و«الدكتورة اليانور».

فقال «بو عمير»: إنَّ «هدى» سوف تكشف هذه الحكاية.

ثم سادت لحظة صمت بينهم، وهم يأخذون طريقهم مُبتعِدين عن المستشفى، في اتجاه مقابل له، حتى يستطيع أن يَراهم «عثمان».

وهمس «أحمد»: إن «عثمان» هو الذي سوف يكشف المسألة الآن، فهو يعرف «اليانور» من خلال صورتها، خصوصًا وأن ملامحها لا يمكن أن يخطئ أحدنا فيها.

بعد لحظات ظهر «عثمان» وأخذ اتجاهًا مختلفًا. فتبعوه عن بُعد، وعندما أصبح الجميع بعيدين عن المستشفى تمامًا انضمَّ «عثمان» إليهم.

قال مبتسمًا: ما رأيكم في الموعد؟

رد «رشيد»: موعد جيد، من أجل شقيقك بطل السينما. وابتسموا جميعًا.

وسأل «أحمد»: هل هي «اليانور جاكسي»؟

قال «عثمان» بهدوء جاد: نعم … «اليانور جاكسي» … الدكتورة «اليانور جاكسي». لقد أصبحنا أصدقاء وأظنُّكم سمعتم ما دار من حديث.

قال «أحمد»: لا يُمكن أن تكون هي «اليانور جاكسي» نفسها … هناك خطأ ما.

رد «عثمان» بنفس الهدوء: لقد قدمت نفسها لي بأنها «اليانور جاكسي» … هل تظنُّ بأنني يُمكن أن أقول لها إنها ليست «اليانور جاكسي» وإنها أي شيء آخر.

ابتسموا جميعًا … فقد أدرك «أحمد» أن «عثمان» كان يُداعبه …

سأله «أحمد»: هل يُمكن أن تصفها لي؟

قال «عثمان» مبتسمًا: أرجو أن تناديني بالسيد جاك … ثم أضاف: إنها إنجليزية مائة في المائة.

أحمد: بالتأكيد لا بدَّ أن تكون إنجليزية مائة في المائة.

عثمان: إن «اليانور» الحقيقية، لها ملامح يابانية فكيف تكون إنجليزية مائة في المائة؟

أحمد: فهمت … هذا يعني أنهم استعاروا اسم الطبيبة المساعدة الأصلية، حتى لا تكون هناك شبهة ما.

رشيد: قد يكون التشابه في الأسماء.

عثمان: داخل مستشفى واحد، ليس فيه سوى مساعدة واحدة.

كانوا يَمشُون ببطء … لكن «أحمد» قال: يجب أن نُسرع حتى نكون في انتظار «هدى» … إن ما سوف تحمله من أنباء سيكون هو المفتاح كما قلنا.

أسرعوا في خطواتهم، وكان الفندق يلوح من بعيد، بعد أن كانوا قد ابتعدوا عن دائرة المكان، والشوارع الآن تكاد تخلو من المارة … ورذاذ المطر ينزل في رقة، تجعل المشي تحته متعة أخرى، كانت خيوطه تبدو ممتدة من الظلام إلى بقع الضوء التي كانت تنتشر على الأرض من نوافذ البيوت …

وقال «عثمان»: كم هي جميلة «لندن» في هذا الجو الشتوي!

رد «بو عمير»: إنها دائمًا هكذا … شتوية الطقس.

عثمان: إنَّ اللحظة التي نمشيها، ليست ككل لحظة، لقد حققنا أكثر من خطوة جيدة. وهذا يجعل للمدينة العريقة، طعمًا مختلفًا.

رشيد: هذا حقيقي.

اقتربوا من الفندق. كان «أحمد» يبدو شاردًا، وهو يخطو في خطوات جادة، وكأنها عسكرية، وعندما دخلوا الفندق، كان بعض النزلاء يَجلسُون في الصالة الواسعة. أخذ الشياطين طريقهم إلى حجراتهم، واجتمعوا في حجرة «أحمد» …

كان واضحًا أن «هدى» لم تَصِل بعد، رفع «أحمد» يده ونظر في ساعته، ثم همس: لقد تأخَّرت.

نظر له الشياطين بسرعة، كان وجهه يبدو هادئًا وإن كان بعض القلق، يَختفي تحت هذا الهدوء …

سرى القلق بين الشياطين، حتى إن «عثمان» سأل: هل تظنُّ أن شيئًا قد حدث؟

لم يرد أحد، فشرد كل منهم يفكر في «هدى». ولكن فجأة سمعوا صوت أقدام مكتوم يقترب، فتطلعوا جميعًا إلى الباب، كان كلٌّ منهم يتوقَّع أن تكون هي … حتى إنَّ «بو عمير» قفز في اتجاه الباب ليفتحه. إلا أن الأقدام استمرت في طريقها.

وقف «أحمد» واتجه إلى النافذة المطلة على شارع «بارك» وأزاح الستارة وأخذ يرقب لمعان الشارع. لم تكن هناك أقدام تسير، وإن كانت بين لحظة وأخرى، تمر سيارة في هدوء، مرة أخرى نظر في ساعة يده، كانت تشير إلى العاشرة مساءً، فانتابه قلق أكيد، أن المفروض أن تكون هنا منذ ساعة على الأقل … فالمقابلة لن تَستغرِق وقتًا.

من بعيد، ظهر شبح يقترب … لم يكن يبدو صاحبه جيدًا. وإن كان صوت الحذاء يرتفع في الهدوء الليلي … ثم ظهر الشبح أكثر، ولم يكن سوى شاب يسير وحده. فكر «أحمد»: هل يتصل بعميل رقم «صفر»، الذي حدد الموعد بين «هدى» والدكتورة «اليانور»؟ وأخذ يُقلب الفكرة في ذهنه، لكنه لم يُنفذها، فهو يعرف أن «هدى» سوف تتصرَّف جيدًا … اقترب الشياطين من «أحمد»، ووقفوا حوله بجوار النافذة …

قال «رشيد» بشيء من القلق، وبصوتٍ هامس: أخشى أن يكون هناك من يراقبها.

قال «عثمان»: أو أن الدكتورة «اليانور» سوف توصلها بسيارتها، وهي بالتأكيد مراقبة من العصابة؟

تردَّدت أسئلة كثيرة، جعلت القلق يستولي على الشياطين أكثر … حتى إن «بو عمير» قال: هل أذهب إليها في ٢٠ شارع كوري، حيث تَسكُن الدكتورة؟

مرَّت لحظة صمت، ثم أجاب «أحمد»: لا داعي. ربما تكون «هدى» قد كسبت جولة طيبة معها، ويكون هذا فقط، هو سبب تأخيرِها.

لكن كلام «أحمد» لم يُلغِ قلق الشياطين … وظلُّوا في النافذة في انتظار «هدى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤