الفصل الحادي عشر

حين كانت العوالم صغيرة

في غمرة محاولاتنا لاستجلاء تاريخ الكون اكتشفنا باستمرار أن القطاعات الأكثر غموضًا هي تلك المتعلقة بالبدايات؛ بداية الكون نفسه، وبداية البُنى الكبيرة (المجرات والعناقيد المجرية)، وبداية النجوم التي توفر أغلب الضوء الموجود في الكون. وكل قصة من قصص البدايات هذه تلعب دورًا محوريًّا، ليس فقط في تفسير كيف أنتج كون يبدو خاليًا من الملامح المميزة مجموعات معقدة من أنواع مختلفة من الأجرام، بل أيضًا في تحديد كيف ولماذا نجد أنفسنا، بعد ١٤ مليار عام على الانفجار العظيم، نعيش على كوكب الأرض كي نتساءل: كيف حدث كل هذا؟

جزء كبير من سبب ظهور هذه الألغاز هو أنه أثناء «العصور المظلمة» الكونية، حين كانت المادة تشرع في تنظيم نفسها في وحدات مستقلة كالنجوم والمجرات، أنتج القدر الأكبر من المادة قدرًا قليلًا من الإشعاع الذي يمكن كشفه، أو لم يُنْتِج إشعاعًا على الإطلاق. لقد تركتنا العصور المظلمة بأقل فرص رصد المادة خلال المراحل المبكرة لتكونها، التي لم تُستكشف بالقدر الأمثل بعد. هذا بدوره يعني أن علينا الاعتماد، بقدر كبير غير باعث على الراحة، على نظرياتنا بشأن الكيفية التي تصرفت بها المادة، مع وجود نقاط قليلة نسبيًّا يمكننا فيها التحقق من هذه النظريات في ضوء بيانات قائمة على الرصد والمشاهدة.

وحين نتحول إلى بداية الكواكب تزداد الألغاز؛ فنحن لا نفتقر فقط إلى المشاهدات الخاصة بالمراحل المبكرة الحاسمة في عملية تكون الكواكب، بل أيضًا إلى أي نظريات ناجحة عن الكيفية التي بدأت بها الكواكب في التكون. واحتفاءً بالإيجابيات نذكر أن السؤال: «كيف تكونت الكواكب؟» شهد اهتمامًا واسعًا في الأعوام الأخيرة. وطوال الجزء الأكبر من القرن العشرين ركز هذا السؤال على كواكب المجموعة الشمسية. لكن خلال العقود الماضية، مع اكتشاف أكثر من مائة كوكب «خارج» المجموعة الشمسية تدور حول نجوم قريبة نسبيًّا، حصل الفيزيائيون الفلكيون على قدر أكبر من البيانات يمكنهم بواسطتها أن يستنتجوا التاريخ المبكر للكواكب، وعلى الأخص أن يحددوا كيف تكونت هذه الأجرام الصغيرة المظلمة الكثيفة إلى جانب النجوم التي تمدها بالضوء والحياة.

•••

قد يملك الفيزيائيون الفلكيون المزيد من البيانات الآن، لكنهم لا يملكون إجابات أفضل عما مضى. بل في الحقيقة تسبب اكتشاف الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية، التي يدور أغلبها في مدارات تختلف عن مدارات كواكب المجموعة الشمسية، في إضفاء الحيرة على الموضوع بطرق عدة، وهو ما يترك قصة تكون الكواكب بعيدة عن الاكتمال. وبتلخيص مبسط يمكننا القول إنه لا يوجد تفسير جيد للكيفية التي بدأت الكواكب بها في بناء أنفسها من الغازات والغبار، حتى وإن كان بمقدورنا تصور كيف سارت عملية التكون نفسها، فور تخطي نقطة البدء، بحيث كونت أجرامًا كبيرة من أخرى صغيرة، وكيف فعلت هذا في غضون فترة وجيزة من الزمن.

تمثل بداية عملية تكون الكواكب مشكلة عويصة للغاية، حتى إن أحد خبراء العالم عن هذا الموضوع، سكوت تريماين من جامعة برينستون، قدَّم لنا (على سبيل المزاح) قوانين تريماين لتكون الكواكب. القانون الأول ينص على أن «كل النظريات والتنبؤات عن خصائص الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية خاطئة»، بينما ينص القانون الثاني على أن «التنبؤ الأكثر تأكيدًا بشأن عملية تكون الكواكب هو أنها يستحيل أن تحدث من الأساس». يؤكد مزاح تريماين على الحقيقة التي يستحيل تجنُّبها القائلة إن الكواكب موجودة بالفعل، بالرغم من عجزنا عن تفسير هذا اللغز الكوني.

منذ ما يربو على القرنين قدم إيمانويل كانط، في محاولة منه لتفسير عملية تكون الشمس وكواكبها، «فرضية السديم»، التي وفقًا لها تكثفت كتلة دوامية من الغازات والغبار تحيط بالشمس وهي في طور التكون إلى كتل صارت لاحقًا كواكب. تظل فرضية كانط، في شكلها العام، أساس المقاربات الفلكية الحديثة لعملية تكون الكواكب، خاصة وأنها انتصرت على المفهوم المبهم الذي ساد إبان النصف الأول من القرن العشرين القائل إن كواكب المجموعة الشمسية نتجت عن مرور نجم آخر بالقرب من الشمس. في هذا السيناريو يُفترض أن قوى الجاذبية بين النجمين جذبت كتلًا من الغازات من النجمين، ثم بردت هذه الغازات وتكثفت لتكون الكواكب. لهذه الفرضية، التي صاغها وروَّج لها الفيزيائي الفلكي البريطاني جيمس جينز، عَيْبٌ (وعنصر جذب للمؤمنين بها) يتمثل في أن هذه النظرية تجعل عملية تكون مجموعات الكواكب نادرة الحدوث؛ لأن المقابلات القريبة بين النجوم لا تقع سوى مرات معدودة خلال عمر المجرة بأسرها. وفور أن توصل الفلكيون حسابيًّا إلى أن كل الغازات المنجذبة من النجم بهذه الصورة ستتبخر بدلًا من التكثف، هجروا فرضية جينز وعادوا إلى فرضية كانط، التي تعني ضمنًا أن كثيرًا من النجوم، إن لم يكن أغلبها، تدور حوله كواكب.

يملك الفيزيائيون الفلكيون الآن أدلة وافية على أن النجوم تتكون، ليس بالواحدة بل بالآلاف وعشرات الآلاف، داخل سحب الغازات والغبار العملاقة التي قد يتولد عن الواحدة منها في النهاية نحو مليون نجم منفرد. إحدى هذه الحاضنات النجمية أنتجت لنا سديم الجبار، أقرب مناطق تكون النجوم لمجموعتنا الشمسية. وفي غضون ملايين قليلة من الأعوام ستنتج هذه المنطقة مئات الآلاف من النجوم الجديدة، التي ستنفث غالبية الجزء المتبقي من غازات وغبار السديم إلى الفضاء، وبهذا سيرصد الفلكيون بعد مئات الآلاف من الأجيال النجوم الفتية المتحررة من بقايا شرانقها النجمية التي ولدت بها.

يستخدم الفيزيائيون الفلكيون اليوم تلسكوبات موجات الراديو لرسم توزيعات الغازات والغبار البارد في المناطق المتاخمة للنجوم الشابة. وتبين خرائطهم عادة أن النجوم الشابة لا تبحر في أرجاء الفضاء الخاوي من أي مادة محيطة، بل عادة ما تكون محاطة بأقراص دوارة من المادة، مقاربة في الحجم للمجموعة الشمسية، لكنها مؤلفة من غاز الهيدروجين الذي تتخلله جسيمات الغبار (وغازات أخرى بكميات أقل). يصف مصطلح «الغبار» مجموعات من الجسيمات يحتوي الواحد منها على عدة ملايين من الذرات وحجمها أقل بكثير من النقطة التي تنتهي بها هذه العبارة. كثير من حبيبات الغبار هذه تتكون بالأساس من ذرات كربون، مرتبطة بعضها ببعض لتؤلف الكربون الطري أو الجرافيت (وهو المكون الأساسي للرصاص الموجود في الأقلام الرصاص). والحبيبات الأخرى مزيج من ذرات السليكون والأكسجين؛ أي إنها في جوهرها صخور ضئيلة الحجم، لها غطاء من الثلج يغلِّف قلوبها الحجرية.

تَكَوُّن جسيمات الغبار هذه داخل الفضاء النجمي له ألغازه ونظرياته المفصلة، التي يمكننا التجاوز عنها والاكتفاء بالقول إن الكون مليء بالغبار وحسب. لتكوين هذا الغبار لا بد أن تتجمع الذرات معًا بالملايين، وفي ضوء الكثافات المنخفضة للغاية للمادة بين النجوم، يكون أكثر مكان من المرجح وقوع هذه العملية فيه هي الأغلفة الجوية الممتدة للنجوم الباردة، التي تنفث المادة برفق إلى الفضاء.

•••

يعد إنتاج جسيمات الغبار النجمي الخطوة الأولى الجوهرية على طريق تكون الكواكب. وهذا لا ينطبق وحسب على الكواكب الصلبة على غرار كوكبنا، بل أيضًا على الكواكب الغازية العملاقة، التي يجسدها في مجموعتنا الشمسية كوكبا المشتري وزحل. فمع أن هذين الكوكبين يتألَّفان بالأساس من الهيدروجين والهيليوم، فقد خلص الفيزيائيون الفلكيون من حساباتهم للبنية الداخلية للكوكبين، إلى جانب قياساتهم لكتلة الكوكبين، إلى أن للكواكب الغازية قلوبًا صلبة. فمن إجمالي كتلة كوكب المشتري، البالغة ٣١٨ مرة قدر كتلة الأرض، يكمن ما يقدر بعدة عشرات قدر كتلة الأرض في قلب صلب. أما زحل، البالغة كتلته ٩٥ مرة قدر كتلة الأرض، فله أيضًا قلب صلب يبلغ من عشر إلى عشرين مرة قدر كتلة الأرض. وبالمثل، للكوكبين الغازيين العملاقين الأصغر، أورانوس ونبتون، قلبان صلبان أكبر نسبيًّا. ففي هذين الكوكبين، البالغة كتلتهما خمس عشرة وسبع عشرة مرة قدر كتلة الأرض على الترتيب، يحتوي القلب الصلب على أكثر من نصف الكتلة الإجمالية للكوكب.

في هذه الكواكب الأربعة كلها، وفي كل الكواكب العملاقة المكتشفة حول النجوم الأخرى على الأرجح، لعبت القلوب الصلبة دورًا محوريًّا في عملية التكون؛ ففي البداية تكوَّن القلب، ثم جاءت الغازات، التي اجتذبها القلب الصلب. وبهذا تتطلب عملية تكوين الكواكب بشتى أنواعها تكون كتلة كبيرة من المادة الصلبة أولًا. من بين كواكب المجموعة الشمسية يملك المشتري أكبر هذه القلوب، يليه زحل، ثم نبتون فأورانوس، ويحل كوكب الأرض خامسًا، وهو الموقع نفسه الذي يحتله من حيث الحجم الإجمالي. يطرح تاريخ تكون الكواكب سؤالًا جوهريًّا: كيف تجبر الطبيعة الغبار على التجمع لتكوين كتل من المادة يبلغ قطرها عدة آلاف من الأميال؟

للإجابة شقان؛ أحدهما معروف والآخر غير معروف. ومن غير المثير للدهشة أن الجزء غير المعروف هو الأقرب لأصل عملية التكون. ففور أن تتكون لديك أجسام يبلغ عرض الواحد منها نصف الميل، ويسميها الفلكيون بالكواكب المصغرة، سيتمتع كل واحد منها بجاذبية قوية بما يكفيه لاجتذاب أجسام أخرى بنجاح. ستبني قوى الجاذبية المتبادلة بين هذه الكواكب المصغرة قلوب النجوم، ثم الكواكب نفسها بسرعة، حتى إنه في غضون ملايين قليلة من الأعوام ستتحول مجموعة الكتل المنفصلة، الواحدة منها في حجم البلدة الصغيرة، إلى عوالم كاملة، جاهزة إما لاكتساب طبقة رقيقة من غازات الغلاف الجوي (كما في حالة الزهرة والأرض والمريخ) أو طبقة سميكة للغاية من الهيدروجين والهيليوم (كما هو الحال في الكواكب الأربعة العملاقة التي تدور حول الشمس في مدارات بعيدة بما يكفي لكي تراكم كميات ضخمة من هذين الغازين الخفيفين). بالنسبة للفيزيائيين الفلكيين يُختزل الانتقال من الكواكب المصغرة التي لا يتجاوز عرضها نصف الميل إلى الكواكب الكاملة في سلسلة من النماذج الحاسوبية المفهومة جيدًا، التي تنتج لنا تشكيلة واسعة من التفاصيل الخاصة بالكواكب، لكن في أغلب الأحوال تكون الكواكب الداخلية صغيرة صخرية كثيفة، بينما الكواكب الخارجية أكبر حجمًا وغازية (باستثناء قلوبها) ومخلخلة. وخلال هذه العملية يُطاح بالعديد من الكواكب المصغرة، إضافة إلى بعض الأجسام الكبيرة التي تصنعها، خارج المجموعة الشمسية بالكامل بفعل تفاعلات الجاذبية مع الأجسام الأكبر حجمًا.

كل هذا يعمل بشكل طيب على الحاسب الآلي، لكن بناء الكواكب المصغرة البالغ قطر الواحد منها نصف الميل في المقام الأول لا يزال خارج نطاق قدرات الفيزيائيين الفلكيين الحالي على دمج معارفهم عن الفيزياء مع برامجهم الحاسوبية. ليس بمقدور الجاذبية أن تكوِّن الكواكب المصغرة؛ لأن قوى الجاذبية المتواضعة بين الأجسام الصغيرة لن تكفي للربط بينها بفعالية. ثمة احتمالان نظريان لتفسير تكون الكواكب المصغرة من الغبار، وليس أي منهما مقنعًا بما يكفي. يفترض أحد النموذجين تكون الكواكب المصغرة من خلال عملية التراكم، التي تحدث حينما تصطدم جسيمات الغبار ثم يلتصق بعضها ببعض. يعمل هذا المبدأ بشكل طيب من الناحية النظرية؛ لأن أغلب جسيمات الغبار يلتصق بالفعل بعضها ببعض حين تتقابل. وهذا يفسر وجود كتل الغبار المتراكمة تحت أريكتك، وإذا أمكنك تخيل كرات غبار عملاقة وهي تنمو حول الشمس، فستستطيع، بقليل من الجهد العقلي، أن تسمح لها بالنمو إلى حجم الكرسي، أو المنزل، أو الحي السكني، وسريعًا ما ستصل إلى حجم الكواكب المصغرة، حيث تكون جاهزة لممارسة قوى الجاذبية الخاصة بها.

لكن للأسف، على عكس تكوُّن كرات الغبار الفعلية، يبدو أن نمو الكواكب المصغرة بالكيفية نفسها التي تنمو بها كرات الغبار يتطلب وقتًا طويلًا. ويكشف تحديد عمر الأنوية غير المستقرة المكتشفة في أقدم النيازك إشعاعيًّا أن تكوُّن المجموعة الشمسية احتاج ما لا يزيد عن عشرات قليلة من ملايين الأعوام، بل ربما أقل من هذا بكثير. وبالمقارنة بالعمر الحالي للكواكب، والبالغ ٤٫٥٥ مليارات عام، لا تساوي هذه الفترة سوى قطرة في بحر، حوالي ١ بالمائة من النطاق الإجمالي لوجود المجموعة الشمسية. تتطلب عملية التراكم وقتًا أكثر بكثير من مجرد عشرات معدودة من ملايين الأعوام كي تكون الكواكب المصغرة من الغبار؛ لذا ما لم يغفل الفيزيائيون الفلكيون عن شيء مهم في فهم الكيفية التي يتراكم بها الغبار في بُنى أكبر، فسنكون بحاجة لآلية أخرى للتغلب على عائق الوقت في عملية تكون الكواكب المصغرة.

الآلية الأخرى قد تتكون من دوَّامات عملاقة تكسح جسيمات الغبار بالتريليونات، دافعة إياها نحو التجمع بعضها مع بعض في أجسام أكبر. ولأن سحابة الغاز والغبار المنكمشة التي تحولت إلى الشمس وكواكبها يبدو أنها اكتسبت قدرًا من الدوران، سرعان ما تغير شكلها الإجمالي من الشكل الكروي إلى المسطح، تاركًا الشمس التي لا تزال في طور التكون على صورة كرة منكمشة أكثر كثافة نسبيًّا في المركز، محاطة بقرص مسطح للغاية من المادة التي تدور حول هذه الكرة. وإلى يومنا هذا لا تزال مدارات الكواكب، التي تسير في الاتجاه ذاته وتشغل المستوى ذاته تقريبًا، تشهد على توزيع المادة الشبيه بالقرص الذي بنى الكواكب المصغرة ومن ثم الكواكب. داخل مثل هذا القرص الدوَّار يتصور الفيزيائيون الفلكيون ظهور بعض «الاضطرابات»؛ مناطق تتفاوت كثافاتها بدرجة كبيرة. المناطق الأعلى كثافة في هذه الاضطرابات تجمِّع المادة الغازية والغبار الذي يطفو داخل الغازات. وفي غضون آلاف قليلة من الأعوام تصير مناطق الاضطراب هذه دوامات ملتفَّة قادرة على كسح كميات كبيرة من الغبار للتراكم في أحجام صغيرة.

يبدو نموذج الدوامة لتكون الكواكب هذا واعدًا، مع أنه لم يأسر بعدُ قلوب مَنْ يسعون لتفسير كيف أنتجت المجموعة الشمسية ما تحتاجه الكواكب. وبمزيد من التفصيل يقدم النموذج تفسيرات أفضل لقلوب كواكب مثل المشتري وزحل، أكثر مما يفعل مع أورانوس ونبتون. ولأن علماء الفلك لا يملكون سبيلًا لإثبات أن الاضطرابات التي يقوم عليها هذا النموذج وقعت بالفعل، علينا أن نمتنع عن الحكم على الأمر في الوقت الحالي. إن وجود ذلك العدد المهول من الكويكبات الصغيرة والمذنبات، التي تشبه الكواكب المصغرة في حجمها الصغير وتركيبتها، يدعم المفهوم القائل إنه منذ مليارات الأعوام كونت ملايين الكواكب المصغرة الكواكب؛ لذا فلنستقر في الوقت الحالي على أن عملية تكون الكواكب المصغرة هي ظاهرة مؤكدة — وإن كانت غير مفهومة بعدُ — تسد الفجوة الموجودة في معارفنا، وتتركنا للإعجاب بما يحدث حين تتصادم الكواكب المصغرة.

•••

في هذا السيناريو يمكننا بسهولة أن نتصور أنه فور تكوين الغازات والغبار المحيط بالشمس لتريليونات قليلة من الكواكب المصغرة، بدأ حشد الأجسام هذا في التصادم مكونًا أجسامًا أكبر، وفي النهاية أنتج الكواكب الأربعة الداخلية للشمس إضافة إلى قلوب الكواكب الأربعة العملاقة الأخرى. علينا أيضًا ألا نغض الطرف عن أقمار الكواكب، وهي الأجسام الأصغر التي تدور حول جميع كواكب الشمس، باستثناء أقرب كوكبين لها؛ عطارد والزهرة. أكبر هذه الأقمار، ذات الأقطار التي تصل إلى آلاف قليلة من الأميال، تبدو متوافقة بشكل طيب مع النموذج المقترح؛ إذ يُفترض أنها تكونت هي الأخرى من تصادمات الكواكب المصغرة. وقد توقفت عملية بناء الأقمار فور وصول الأقمار إلى أحجامها الحالية، ولا شك أن سبب هذا (كما يحق لنا أن نفترض) هو استحواذ الكواكب القريبة، بجاذبيتها القوية، على غالبية الكواكب المصغرة القريبة. علينا أن ندخل في هذه الصورة عشرات الآلاف من الكويكبات التي تدور بين المريخ والمشتري. أكبر هذه الكويكبات، البالغة أقطارها مئات قليلة من الأميال، يُفترض أنها تكوَّنت من تصادمات الكواكب المصغرة، ثم وجدت نفسها عاجزة عن النمو أكثر من هذا بسبب تأثير الجاذبية الصادر عن كوكب المشتري العملاق القريب. أما أصغر الكويكبات، التي يقل عرضها عن الميل، فقد تمثل الكواكب المصغرة الأصلية؛ تلك الأجسام التي نمت من الغبار لكنها لم يصطدم بعضها ببعض — مرة أخرى بفضل تأثير كوكب المشتري — بعد وصولها إلى الحجم المناسب للتأثر بالجاذبية.

يبدو هذا السيناريو ناجحًا مع الأقمار التي تدور حول الكواكب. للكواكب الأربعة الكبرى عائلات من الأقمار تتراوح من الحجم الكبير أو الكبير للغاية (ما يصل إلى حجم كوكب عطارد) وصولًا إلى الحجم الصغير للغاية. أصغر هذه الأقمار، التي يقل عرضها عن الميل، قد تكون مجرد كواكب مصغرة أصلية، حُرمت من أي تصادمات قد تزيد من حجمها بسبب وجود الأجسام القريبة التي نمت بالفعل لحجم أكبر. في كل واحدة من عائلات الأقمار هذه نجد أن الأقمار الكبيرة تدور حول كواكبها في الاتجاه عينه، وعلى المستوى نفسه تقريبًا. وليس بوسعنا سوى أن نعزو هذه النتيجة للسبب عينه الذي جعل الكواكب تدور في الاتجاه نفسه وعلى المستوى نفسه تقريبًا؛ فحول كل كوكب أنتجت سحابة دوارة من الغاز والغبار كتلًا من المادة، نمت لتكون كواكب مصغرة، ومن ثم أقمارًا.

أما في الكواكب الداخلية للمجموعة الشمسية، فالأرض وحدها لها قمر كبير إلى حدٍّ ما. وليس لكوكبي عطارد والزهرة أقمار، بينما للمريخ قمران يشبهان شكل ثمرة البطاطس، ويدعيان فوبوس وديموس، وكل منهما لا يزيد عرضه على أميال قليلة، ومن ثم هما يمثلان المراحل المبكرة لتكون الأجرام الكبرى من الكواكب المصغرة. تعزو بعض النظريات أصل هذين القمرين إلى حزام الكويكبات، وأن هذين الكويكبين السابقين تحوَّلا إلى مداريهما الحاليين حول المريخ نتيجة لنجاح جاذبية المريخ في اقتناصهما.

وماذا عن قمرنا، الذي يزيد قطره عن ألفي ميل، ولا يفوقه حجمًا سوى الأقمار تايتان وجانيميد وترايتون وكاليستو (ويبلغ نفس حجم القمرين أيو ويوروبا) من بين أقمار المجموعة الشمسية كافة؟ هل نما القمر أيضًا من تصادمات الكواكب المصغرة، مثلما حدث مع الكواكب الأربعة الداخلية؟

بدا هذا افتراضًا معقولًا إلى أن جاء البشر بالصخور القمرية إلى الأرض كي تُفحص بشكل مفصل. فمنذ أكثر من ثلاثة عقود توصَّلنا من خلال التحليل الكيميائي لعينات الصخور التي جاءت بها رحلات أبوللو إلى نتيجتين، وكلتاهما تدعمان احتمالين متعارضين بشأن أصل القمر؛ فمن ناحية، يشبه تركيب هذه الصخور القمرية تركيب الصخور الأرضية إلى حدٍّ بعيد، حتى إن فرضية تكون القمر بشكل منفصل تمامًا عن الأرض لم تعد قائمة. لكن من ناحية أخرى، يختلف تركيب القمر عن الأرض بشكل يكفي لإثبات أن القمر لم يتكون بالكامل من مادة أرضية فقط. لكن إذا لم يكن القمر قد تكون بعيدًا عن الأرض، ولم يتكون من الأرض، فكيف تكوَّن؟

تعتمد الإجابة الشائعة حاليًّا عن هذه المعضلة — مع أنها قد تبدو مستغربة من الظاهر — على فرضية شاعت قديمًا مفادها أن القمر تكون نتيجة اصطدام هائل، وقع في بداية تاريخ المجموعة الشمسية، تسبب في جرف جزء من مادة حوض المحيط الهادي والإطاحة به في الفضاء، حيث تجمعت لتكون القمر الذي يدور حول الأرض. وفق النظرة الجديدة، التي تحظى بالفعل بقبول واسع بوصفها أفضل التفسيرات المتاحة، تكوَّن القمر بالفعل نتيجة اصطدام جسم ضخم بالأرض، لكن الجسم المصطدم بالأرض كان من الكبر بما يكفي — ما يقارب حجم المريخ — بحيث أضاف بشكل طبيعي بعضًا من مادته إلى المادة المقذوفة خارج الأرض. الجزء الأكبر من المادة المقذوفة في الفضاء بفعل قوة هذا الاصطدام ربما يكون قد اختفى من المناطق القريبة منا، لكن جزءًا كافيًا منه تخلَّف وتجمع على بعضه ليكون قمرنا المعروف، والمكون من مادة أرضية وأخرى من خارج الأرض. كل هذا حدث منذ حوالي ٤٫٥ مليارات عام، خلال المائة مليون عام التي أعقبت بدء عملية تكون الكواكب.

إذا اصطدم جسم بحجم كوكب المريخ بالأرض في الأزمنة الغابرة، فأين هو الآن؟ من غير المرجح أن يتسبَّب الاصطدام في تفتت الجسم إلى قطع صغيرة بحيث نعجز عن رصدها؛ فأقوى تلسكوباتنا قادرة على أن تجد في الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية الأجسام الصغيرة المقاربة لحجم الكواكب المصغرة التي تكوَّنت منها الكواكب. تأخذنا إجابة هذا الاعتراض إلى صورة جديدة للمجموعة الشمسية المبكرة، صورة تؤكد على طبيعتها العنيفة المتصادمة. إن نجاح الكواكب المصغرة في بناء جسم في حجم كوكب المريخ لا يضمن أن هذا الجسم سيستمر لفترة طويلة. فهذا الجسم لم يصطدم بالأرض وحسب، بل إن القطع الكبيرة المتخلفة عن هذا الاصطدام واصلت اصطدامها بالأرض وغيرها من الكواكب الداخلية، وبعضها ببعض، وبالقمر نفسه (فور تكونه). بعبارة أخرى، شاعت أجواء من التصادمات المرعبة النطاق الداخلي من المجموعة الشمسية على امتداد الملايين الأولى من عمرها، وصارت أجزاء الأجسام العملاقة التي اصطدمت بالكواكب والتي كانت في طور التكون جزءًا من هذه الكواكب نفسها. إن اصطدام جسم بحجم المريخ بالأرض كان من أكبر التصادمات المتوالية، في حقبة من الدمار جعلت الكواكب المصغرة وغيرها من الأجسام الأكبر ترتطم بالأرض وجيرانها.

بالنظر إلى هذا القصف القاتل من منظور مختلف سنجد أنه كان إشارة إلى المراحل الأخيرة من عملية التكون. وقد بلغت هذه العملية ذروتها في مجموعتنا الشمسية التي نراها اليوم، والتي لم تتغير إلا قليلًا طوال ٤ مليارات عام وأكثر؛ نجم عادي واحد، تدور حوله ثمانية كواكب (إضافة إلى بلوتو، الأشبه بالمذنب العملاق الجليدي منه بالكوكب)، ومئات الآلاف من الكويكبات، وتريليونات الشهب (شظايا أصغر تضرب الأرض بالآلاف يوميًّا)، وتريليونات المذنبات، كرات ثلجية قذرة تكونت على بعد عشرات أضعاف المسافة التي تبعدها الأرض عن الشمس. وعلينا ألا ننسى أقمار الكواكب التي تحركت، باستثناءات قليلة، في مدارات ثابتة على المدى البعيد منذ مولدها منذ ٤٫٦ مليارات عام. ولنلقِ نظرة أقرب على الحطام المستمر في الدوران حول الشمس، والقادر على جلب الحياة أو محوها من عوالم مثل عالمنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤