الفصل الأول

حياة كينز

أخذ كينز على عاتقه إنقاذ ما سمَّاه «الفردية الرأسمالية» مِن داء انتشار البطالة، الذي رأى كينز أننا إذا أهملناه فسيَجعل «أنظمة الحكم الاستبدادية» هي الأنظمةَ السائدة في العالم الغربي. وُلد كينز في الخامس من يونيو عام ١٨٨٣ في حقبة مختلفة تمامًا من «الفردية الرأسمالية»؛ حقبةٍ كان التقدم الاقتصادي فيها أمرًا بديهيًّا، وحَكمَتِ الدولةَ فيها نخبةٌ ليبرالية امتلكَتِ الأراضِيَ والأموالَ، وبدا أن بريطانيا أمَّنتْ لنفسها موقعَهَا في قلب النظام التجاري العالمي. ولم يَرَ سوى قليلين أن هذه الحقبة تتجه نحو الأفول. وكانت شكوك العصر الفيكتوري لا تزال دينية أكثر منها مادية، رغم الهواجس بشأن الأخطار التي تهدد النظام الراسخ، والتي منها ظهورُ الديمقراطية في الداخل، وخَطَرُ ألمانيا في الخارج، وتَراجُع الأهمية الاقتصادية، والتزايد المطَّرِد في معدَّل التقلبات الصناعية. وظهرتْ كلمة «بطالة» لأول مرة في «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» عام ١٨٨٨، وهذه علامة على أشياء كانتْ وشيكة الحدوث.

لم يكن جون مينارد كينز نِتاج قصةِ نجاحٍ فيكتورية غير مألوفة؛ فقد كان الأكبر من بين ثلاثة أطفال لعائلة ميسورة الحال، عملتْ بالسلك الأكاديمي بجامعة كامبريدج، وسكنتْ في ٦ طريق هارفي. ويعود أصل عائلة كينز إلى فارس نورماني جاء مع ويليام الأول الملقب بويليام الفاتح. لكن كان جدُّ مينارد كينز من جهة الأب هو مَن أنقَذَ العائلة من الفقر، بعد أن جمع ثروة صغيرة من امتلاكه لمزرعة خضراوات صغيرة يبيع ثمارها للناس في سولزبيري. وتمكَّن ولدُه الوحيد، جون نيفيل، من الحصول على زمالة كلية بيمبروك في جامعة كامبريدج في سبعينيات القرن التاسع عشر. كان فيلسوفًا واقتصاديًّا، حيث كتب نصوصًا صالحة للنشر في علم المنطق والمناهج الاقتصادية، وأصبح لاحقًا أمين سجلات الجامعة. وفي عام ١٨٨٢ تزوج فلورنس أدا براون، ابنةَ كاهن طائفة معروف شمال البلاد وناظرةَ مدرسة كرَّسَتْ حياتَها لقضية تعليم المرأة. كان نَسَبُ العائلتين يجمع بين «الدِّين والتجارة»، وكان انتقال العائلة إلى كامبريدج جزءًا من استيعاب الشذوذ الريفي في أثناء تأسيس إنجلترا الفيكتورية.

جسَّد والدا كينز القِيَم الفيكتورية في صورة مرنة. فانغمس جون نيفيل كينز في مجموعة متنوعة من الهوايات. وورث عنه مينارد كينز حِدَّة الفكر وكفاءة الإدارة مع نزعة للمزاح، رغم أن القَدَر رَحِمَه ولم يَرِثِ القلق من أبيه. أما فلورنس كينز فقد تبنَّتْ «قضايا هامة»، لكن ليس على حساب أسرتها قَطُّ؛ فقد مثَّلتْ — كما هو الحال بالنسبة لجميع أفراد عائلة براون التي تنتمي إليها — جانِبَيِ «الوعظ وفعل الخير» فيما ورِثه مينارد عن عائلته؛ كما أن عائلة براون كانتْ تتمتع ببعض الخيال الفكري. كانتْ عبقريةُ كينز ذاتية، لكنه شعر أن هناك تقاليد اجتماعية وفكرية عليه الالتزام بها.

كانت البيئة المحيطة بكينز على مستوًى عقلي رفيع؛ فقد شملتْ دائرةُ كينز بعضًا من أكبر الاقتصاديين والفلاسفة في ذلك العصر؛ ألفريد مارشال وهيربرت فوكسويل وهنري سيدجويك ودبليو إي جونستون وجيمس وارد. وعندما كان كينز شابًّا صغيرًا كان يلعب الجولف مع سيدجويك، وكَتَبَ عنه بدقة يشوبها المكْر (لصديقه برنارد سويثينبانك في ٢٧ مارس ١٩٠٦): «لم يكن يفعل أيَّ شيء قَطُّ سوى التساؤل عمَّا إذا كانتِ المسيحية حقيقةً فيُثبِت العكس، ومع ذلك، يأمل أن تكون حقيقة.» كانت كامبريدج أقل اهتمامًا بزخارف الحياة من أكسفورد. ورغم أن مينارد امتزج بالعالم الدنيوي، فقد ظلت مبادئه سماوية. وطبَّق في الحكم على حياته وحياة الآخرين المعايير الفكرية والجمالية. وفرض نفسَه على العالم المادي بقوة الفكر والخيال، لكنه لم ينشغل به قَطُّ.

تقبَّل كينز دون مناقشةٍ القِيمةَ الرفيعة التي رآها والداه في التفوق الأكاديمي. وفي واقع الأمر، لم يتمرَّدْ قَطُّ على والدَيْه رغم أن دائرة اهتمامه كانت أكبر. وكان منزل الأسرة، الذي استمر نيفيل وفلورنس كينز في العيش فيه بعد وفاة مينارد، سببًا في الاستقرار والاستمرارية في حياته. وارتبط فكره الاجتماعي بظروف أسرته على نحو دقيق. ورأى نفسه عضوًا في الطبقة الوسطى «المفكرة». كما رأى أن الهروب من الفقر كان ممكنًا دائمًا في أوروبا، فيما قبل الحرب العالمية الأولى، «لأيِّ رجل له القدْرة أو الشخصية التي تتجاوز الحدَّ المتوسط.» ولم يفقد إيمانَه قَطُّ بواجب النخبة الفاعلة صاحبة التفكير السليم في قيادة الجماهير.

في عام ١٨٩٧ فاز بمنحة دراسية للالتحاق بكلية إيتون، أعلى الكليات البريطانية. وكان طالبًا متميزًا على نحو كبير؛ حيث فاز بعدد كبير من الجوائز، كما انتُخب عضوًا في النادي الاجتماعي الحصري الخاص بالكلية الذي يُسمَّى «بوب»، وكان يؤدِّي أداءً مشرفًا في لعبة الحائط التي اشتُهرتْ بها الكلية. وكان الشيء المميز هو النطاق المذهل لاهتماماته وقدراته. كانت الرياضيات مادته المفضلة، لكنه تفوق أيضًا في مادتَي الأدب الكلاسيكي والتاريخ. وحقق تقدمًا في دراسته بسرعة البرق. وحَظِيَ باحترام الأساتذة والزملاء معًا، تمامًا كما تفوَّق لاحقًا على كلٍّ مِن علماء الاقتصاد ورجال الأعمال. وأدرك كينز منذ سن صغيرة أن الدهاء هو الطريق إلى النجاح في التعامل مع البالغين؛ فقد كان الدهاء بديلًا عن الاستسلام أو التمرد؛ فمِن خلاله يمكن للإنسان أن يستغل أي موقف لصالحه. كما كان من الملاحَظ أن هناك نوعًا من عدم الاتساق بين قدراته واهتماماته؛ فقد كان يتحول إلى كينز عالم المنطق، الإحصائي، الإداري، المتغطرس؛ لكنه في الوقت ذاته كان «مينارد»، كما عرفه أصدقاؤه المقربون، الذي يَتُوق إلى الحب وينجذب إلى الكُتَّاب والفنانين والحالمين، ويغرَق في بحر شعر العصور الوسطى أو التأمل العميق. ورأى لاحقًا الفائدة العملية لعلم الاقتصاد باعتباره درعًا واقيًا للحضارة من قوى الجنون والجهل.

وفي عام ١٩٠٢، ذهب إلى كلية كينجز كوليدج في كامبريدج في منحة مفتوحة لدراسة الرياضيات والأدب الكلاسيكي. لم يجد قَطُّ متعة كبيرة في دراسته للرياضيات — مادته المفضلة — فتخلَّى عنها بطيب نفس بمجرد حصوله على درجة الشرف الأولى في الرياضيات من جامعة كامبريدج. وقضى معظم الوقت قبل تخرُّجه في أشياء أخرى؛ مثل دراسةِ الفلسفة، وكتابةِ بحث عن عالِم المنطق بيتر أبيلارد الذي عاش في العصور الوسطى، وإلقاءِ الخطب في اتحاد جامعة كامبريدج (الذي ترأَّسه عام ١٩٠٥)، ولعبِ البريدج، وتكوينِ الصداقات. وفي عام ١٩٠٦ جاء ثانيًا بعد أوتو نيماير في اختبار الخدمة العامة، والتحق بمكتب الهند. وبعد عامَيْنِ من العمل الرتيب، كان قد حصَّل معرفة جيدة بالنظام المالي للهند؛ وهو ما أدى لتعيينه عضوًا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في عام ١٩١٣. لكنه قضى معظم ساعات عمله في كتابة بحثه عن الاحتمالات، الذي مَنحه في ثاني محاولة درجةَ الزمالة في كلية كينجز كوليدج عام ١٩٠٩. وبقيت جامعة كامبريدج بيْتَه الأكاديمي لبقية حياته.

وبينما كان يؤسس بذلك لحياته العملية، حدث تغيُّر في القِيَم، أدَّى به إلى تجاوُز قيود القِيَم الفيكتورية المرِنة التي تربَّى وفقها على يَدِ والدَيْهِ؛ فقد كانتِ الأخلاق الفيكتورية تدعمها معتقدات دينية آخذة في الانهيار. كان كينز وزملاؤه قبلَ التخرج مُلْحِدين على نحوٍ واضح؛ لكن بالنسبة لهم — كما هو الحال مع الكثير من المفكرين المنشقِّين عن الكنيسة — لم يُغْنِ تخلِّيهم عن المعتقدات التي رأَوْها خاطئة عن الحاجة لمعتقدات يَرَوْنها صحيحة. فبحثوا في الفلسفة الأخلاقية محاولين إيجاد وسيلة لعيش حياتهم. فوجدوا في الفيلسوف جي إي مور ضالَّتَهم لتبرير خَرْقِهم للقواعد الاجتماعية والجنسية لآبائهم. وكان كتابه «مبادئ الأخلاق» (١٩٠٣) هو البيان التأسيسي لحقبة الحداثة بالنسبة لجيل كينز، والذي وصفه كينز فيما بعد بأنه «السبيل إلى جنة جديدة على الأرض.»

وقع كينز تحت تأثير مور عندما انتُخب — في الفصل الدراسي الثاني قبل تخرُّجه — عضوًا بجماعة «رُسُل كامبريدج»؛ وهي جماعة فلسفية نقاشية انتقائية وسرية (في ذلك الوقت). وكوَّن من خلال تلك الجماعة عددًا من أفضل الصداقات في حياته، وخاصة مع ليتون ستراتشي، وفي نهاية العَقْد الأول من القرن العشرين أصبح عضوًا في مجموعة بلومزبيري، والتي تضم أعضاء جماعة «رُسُل كامبريدج» وأصدقاءهم وأقاربهم من الرجال والنساء، وتوجد في لندن. كانتْ تلك المجموعة تضم عددًا من شباب الكُتَّاب والفنانين الذين وَجدوا في الحياة الأكثر تحررًا في منطقة بلومزبيري غيرِ المعروفة الموجودة بلندن مَهربًا من الأعراف الضيقة الأفق لبيوت آبائهم. ووجد كينز في هذه المجموعة الماكرة من الأصدقاء البارعين — الذين يُبدُون الإعجاب به تارة ويهاجمونه تارة أخرى — مَوطنًا عاطفيًّا له قبل زواجه.

أقنع مور أفراد تلك المجموعة بالقيمة السامية للتجارب الجمالية والصداقة الشخصية، ومحا سوداوية الجيل السابق الذي لم يَجِد سببًا وجيهًا للقيام بواجبه؛ فأعاد إدخال التفاؤل والبهجة إلى النقاشات الأخلاقية، وهو ما فجَّر نقاشًا جديدًا للروحانيات على أساسٍ من فلسفة كامبريدج التحليلية. ولم يكن ذلك التحول ممكنًا إلا لمَن سمحتْ لهم ظروف الحياة بذلك، وهؤلاء الذين كانت السياسة من أقل اهتماماتهم بحيث تعجز عن تعكير صفو «الحالات الشعورية الجيدة»؛ وهو شيء انطبق بكل تأكيد على كينز قبل عام ١٩١٤، لكنه كان تحوُّلًا محطِّمًا للقيود على نحو كبير.

كتب كينز في عام ١٩٣٨ عن الأيام التي عاشها قبل الحرب العالمية الأولى: «كانت كبرى غاياتنا في الحياة هي الحبَّ والإبداعَ والاستمتاعَ بالتجارب الجمالية والسعيَ وراء المعرفة. لكن الحب كان في مكانة أعلى بكثير من باقي تلك الغايات.» وكان الحب بالنسبة لكينز وأصدقائه في جماعة «رسل كامبريدج» يعني الحب المِثْلِيَّ، بشكلٍ روحي نوعًا ما في البداية. وكان رفيق كينز من عام ١٩٠٨ حتى عام ١٩١١ الرسامَ دانكان جرانت، ابنَ عم ليتون ستراتشي، الذي «اختطفه» كينز من الأخير؛ وهو ما سبَّب اضطرابًا شديدًا في المجموعة. واستمر ارتباط كينز العاطفي بالشباب الصغار حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. لكن كينز لم يكن متطرفًا في الحب كما كان في الاقتصاد أو السياسة. فلم تمنعْه مثليَّتُه من إمكانية الوقوع في الحب والدخول في علاقة جنسية سعيدة مع المرأة المناسبة؛ وكان موعد ظهورها في حياته بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

أما الجمال بالنسبة لكينز وأصدقائه، فكان يعني بالدرجة الأولى الرسم القائم على مذهبِ ما بعد الانطباعية والباليه الروسي والأساليب الجديدة للفن الزخرفي التي تأثرتْ بكليهما. فكانتْ لندن بالنسبة لمَن يملكون المال والذوق والخدم المحليين (لم يكن من المكلِّف استقدامُ خدم) مكانًا مثيرًا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان التمسُّك الشديد بالتقاليد البريطانية، الذي شكا منه ماثيو أرنولد من قبلُ، قد بدأ يتوارى أمام محاولات التجديد الفني. ولم تخطر ببال أحد فكرة أن بإمكان بعض الأشخاص الأغبياء في وسط أوروبا أن يهدموا الحضارة بسبب الطموح للقوة والسيطرة والعداوات العرقية؛ فقد كان عالَمًا منفصلًا تمامًا عن الحياة البسيطة للناس الذين رأَوْا مع ذلك أن التقدم الاقتصادي سيؤدي إلى حياة أفضل لهم.

كان السعي وراء المعرفة بالنسبة لكينز يعني الفلسفة وعلم الاقتصاد، والفلسفة على الأخص. ووجَّه معظمَ طاقته الفكرية قبل عام ١٩١٤ إلى تحويل بحثه إلى كتاب تحت اسم «بحث في الاحتمال»، الذي لم يُنشَر حتى عام ١٩٢١، وفيه حاول توسيع نطاق المناقشة المنطقية لتُغطِّي الحالات التي كانتْ نتائجها غير مؤكدة. وكان لهذا العمل تأثير مهم جدًّا في أفكاره الاقتصادية. ألقى كينز محاضرات في كامبريدج عن النقود. وكان مُنَظِّرًا متعصِّبًا لأفكار مارشال المتعلقة بنظرية كمية النقود، ولم يبذل الكثير من الجهد في توسيع حدود هذا الموضوع، رغم أن كتابه الأول (والوحيد الصادر قبل الحرب العالمية الأولى) المسمَّى «العملة والمالية في الهند» (١٩١٣) كان محاوَلة واضحة لتطبيق النظرية النقدية القائمة من أجل إصلاح النظام النقدي الهندي. وتَميَّز الكتاب بالمعرفة الخبيرة بالعمل في المؤسسات المالية، وبإجازته لمعيار صرف الذهب، وبدعوته لقيام بنك مركزي هندي. وقد تكشفت هذه التفاصيل لكينز من خلال عمله عضوًا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في العام نفسه.

لكن كينز كان مهتمًّا كذلك بمشكلة المعرفة في علم الاقتصاد، ودخل في عام ١٩١١ في جدال حادٍّ مع كارل بيرسون حول تأثير شرب الوالدين للكحوليات على حياة أولادهم. ورفَض كينز استخدام بيرسون للمنهج الاستقرائي لإثبات الحقائق الاجتماعية. وعكَس ذلك تشكُّكَه الأعم في فائدة الاستدلال الإحصائي، إلى جانب رفضه للنظرية الإحصائية أو التكرارية للاحتمال. فعِلْمُ الاقتصاد لا يمكن أن يكون علمًا محكمًا؛ لأن عدد المتغيرات كبير جدًّا، ولا ضامن لاستقرار المتغيرات عبر الزمن. وكما قال كينز لاحقًا: من الأفضل أن تكون قريبًا من الصواب عن أن تكون مخطئًا على نحو جازم.

كان كينز في الحادية والثلاثين من عمره حين اندلعَتِ الحرب العالمية الأولى. وغيرَتِ الحرب أسلوب حياته وحياته المهنية وطموحاته، لكنها لم تغير قِيَمَه الأساسية التي كان يؤمن بها. وبعد أن لعب دورًا مهمًّا في تجنُّب انهيار معيار الذهب في أزمة البنوك في أغسطس عام ١٩١٤، عمل بوزارة الخزانة في يناير ١٩١٥، وبقي هناك إلى أن استقال في يونيو ١٩١٩. في يناير ١٩١٧ أصبح رئيسًا لإدارة جديدة مختصة بتعاملات بريطانيا المالية الخارجية. وخلال تلك الفترة ساعد في بناء نظامٍ لمشتريات الحلفاء في الأسواق الخارجية، والتي كانت بريطانيا تموِّل جزءًا كبيرًا منها. وأثبتَ كينز في الحقيقة أنه مسئولُ خزانةٍ كفءٌ؛ حيث تَكيَّف بسرعة مع نظام العمل في المؤسسات الحكومية البريطانية، وطبَّق أكثر من مرة بفاعلية المبادئ الأساسية على المواقف الخاصة، وكانت لديه قدرة رائعة على إعداد مذكرات قصيرة وواضحة بسرعة البرق، وهي مَلَكة لا تُقدَّر بمال عند الوزراء المنهَكين. كما أشبعَتِ الحكومة جزءًا من رغباته التي طمحتْ إلى السيطرة على العالم المادي. استمتع كينز بعمله وسعد بصحبة العظماء وذوي النفوذ التي أتاحها له عمله في وزارة الخزانة كموظف كبير، وعبقري، ووسيم، وعَزَب، وماهر في لعبة البريدج، ويثير قولُه الكثير من القيل والقال.

لكن تلك الصورة التي كشف عنها السير روي هارود في سيرته لكينز لم تكن إلا قناعًا أخفَى وراءه كينز صراعًا داخليًّا عميقًا؛ فقد صُدم كينز ورفاقه باندلاع الحرب التي قضتْ على آمالهم في بناء «حضارة جديدة». ومع تطوُّر الحرب ضعُف إيمانهم بتلك الفكرة شيئًا فشيئًا. لعِبَ كينز الدور المطلوب منه في الحرب؛ ما جعله عرضة للانتقاد المتزايد من أعضاء مجموعة بلومزبيري وأصدقائه من دعاة السلام، وزاد من شعوره بتأنيب الضمير. لكنه بَرَّرَ موقفه بأشكال مختلفة. فبدايةً من صيف عام ١٩١٥ حتى يناير عام ١٩١٦، قدم لريجنالد ماكينا، وزير الخزانة، مذكرات رصينة عن العواقب الاقتصادية للتجنيد الإجباري. وكانت فكرته التي عرضها في تلك المذكرات هي أن بريطانيا عليها أنْ تُركِّز على تقديم الدعم المالي لحلفائها من خلال زيادة الإيرادات بالعملات الأجنبية، بدلًا من تبديد الرجال والذخيرة على الجبهة الغربية. كانت تلك الفكرة منطقية مبنية على مبدأ تقسيم العمل، لكن من ورائها كانت هناك كراهية متنامية للحرب ورغبة في إبعاد نارها عن أصدقائه. كما أكسبتْه تلك الفكرة عداوةَ لويد جورج الذي آمن بفكرة «الضربة القاضية»، والتي ترى بضرورة تقديم ضربة موجعة للأعداء للتخلص منهم نهائيًّا.

وعندما فُرض التجنيد الإجباري في يناير ١٩١٦، أراد كينز من ماكينا ورانسيمان وغيرهما من قادة الليبرالية الأسكويثية أن يستقيلوا من الحكومة، واقترح انضمامه وإياهم للمعارضة. وحينما بَقُوا في مناصبهم، بقي في منصبه هو الآخر، لكن بعدَ أن قدَّم طلبًا بإعفائه من الخدمة العسكرية بوصفه رافضًا لها، وهي خطوة رمزية بما أنه كان مُعفًى بالفعل بسبب عمله في وزارة الخزانة. وفي الأشهر الستة التالية، استغلَّ منصبَه الرسمي ليساعد دانكان جرانت وغيره في الحصول على الإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ كان يشهد — كما قال — «على إخلاص أصدقائه واستقامتهم وصدقهم.» لم يكن كينز ورفقاؤه من دعاة السلام بالمعنى المعروف، لكنهم كانوا ليبراليين يؤمنون بأن الدولة ليس لها الحق في إجبار الناس على القتال. كما أنهم آمنوا بأن هذه الحرب لم تستحق خوضها، وبأنه يجب بذل كل ما يمكن لإيقافها من خلال تسوية سلمية. وفي ديسمبر عام ١٩١٦، أصبح لويد جورج رئيسًا للوزراء في ظل أزمة مالية هددت بحرمان بريطانيا من وسائل تمويل مشترياتها العسكرية من الولايات المتحدة. وكتب كينز لدانكان جرانت في ١٤ يناير ١٩١٧ يقول: «اللعنة عليه (قاصدًا لويد جورج) … إنني أُصلِّي مِنْ أجْل أن تَحدُث أزمة مالية طاحنة، ومع ذلك أكافح في سبيل منعها؛ لذا فإن كل ما أفعله يتنافَى مع كل ما أشعر به.»

كان من بين عوامل زيادة كراهية كينز للحرب أنَّها كانتْ تجعل بريطانيا تعتمد على الولايات المتحدة. ومع استنفاد موارد بريطانيا كان عليها أن تقترض من الولايات المتحدة لتساعد حلفاءها، وخاصة روسيا. وفي ٢٤ أكتوبر عام ١٩١٦، وفوق الأحرف الأولى من اسم ريجنالد ماكينا وزير الخزانة، كُتبتْ كلمات — صاغها كينز بكل تأكيد — جاء فيها: «إذا استمرت الأمور على منوالها الحالي … فسيصبح رئيس الجمهورية الأمريكية في وضع … يسمح له بإملاء شروطه علينا.» تلك الكلمات سجَّلتْ لحظةَ انتقال الهيمنة المالية عبر المحيط الأطلنطي. وتَكرَّر الموقف ذاته لاحقًا في الحرب العالمية الثانية. وزاد إدراك كينز أفولَ نجم بريطانيا (وأوروبا) في مقابل بزوغ نجم الولايات المتحدة من إلحاحه في المطالبة بالتفاوض من أجل السلام، وشكَّل هذا جزءًا كبيرًا من تفكيره فيما بعد الحرب.

في سبتمبر ١٩١٧ ذهب كينز إلى واشنطن ليشارك للمرة الأولى في مفاوضات القروض، ولم تُعجبه تلك التجربة. وكتب إلى دانكان جرانت يقول: «إن الشيء الوحيد الودود والأصيل حقًّا في الولايات المتحدة هو الزنوج الرائعون.» ولم يُعجَب الأمريكيون بكينز كذلك؛ حيث خلَّف «انطباعًا سيئًا عنه هناك بسبب وقاحته»، حسبما قال باسيل بلاكيت، وهو أحد ممثلي وزارة الخزانة بالسفارة البريطانية. وكان ذلك بداية علاقة مضطربة استمرتْ حتى وفاة كينز.

وبنهاية عام ١٩١٧، اقتنع كينز، كما قال لوالدته، بأن استمرار الحرب معناه «انتهاء النظام الاجتماعي الذي طالما عرفناه … إنَّ ما يرعبني هو فكرة «الفقر العام». ففي خلال عام من الآن سنكون قد خسرنا ما نستحوذ عليه في العالم الجديد، وسيُرهن هذا البلد للولايات المتحدة.» تُلخِّص هذه الكلماتُ المزاجَ الذي ساد كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام»، الذي نشر في ديسمبر من عام ١٩١٩، وهو رثاء لعصرٍ ولَّى، كما أن فيه هجومًا عنيفًا على معاهدة فرساي. وفي غضون ذلك، كانت روسيا قد استسلمتْ للثورة البلشفية، واندلعَتِ الثورات في ألمانيا والمجر، وساد التضخم، وعانتْ معظم دول أوروبا من الجوع. ومع ذلك، كان ما يَشغل بال صانعي السلام هو «الحدود والسيادة». وحاول كينز، بوصفه أحد كبار ممثلي وزارة الخزانة البريطانية في مؤتمر باريس للسلام، أن يُقنِع لويد جورج بالموافقة على الحصول على مبلغ معقول كتعويضات من ألمانيا. وعندما فشل في ذلك استقال في ٧ يونيو ١٩١٩، وألَّف كتابه عن السلام في صيف عام ١٩١٩ في تشارلستون بساسيكس حيث تعيش فانيسا بيل ودانكان جرانت.

استنكر كتابُه حمْقَ صنَّاع السلام الذين حاولوا أن ينتزعوا من ألمانيا تعويضًا لا يمكنها دفعه. وتنبَّأ كينز بأن محاولات إجبار ألمانيا على دفع التعويضات سيدمِّر الآليات الاقتصادية التي اعتمد عليها رخاء أوروبا القارية قبل الحرب. كما توقَّع أن تَشُنَّ ألمانيا حربًا انتقامية. وضم الكتَاب صُوَرًا مميزة لكبار صنَّاع السلام، من أمثال جورج كليمنصو وَوُودرو ويلسون، إلا أن كينز استثنى صورة لويد جورج بناءً على نصيحة أسكويث.

كانت اقتراحات كينز الرئيسية هي شطب كل الديون فيما بين دول الحلفاء، وتقليل الْتزامات ألمانيا الخاصة بالتعويضات إلى مبلغ سنوي معقول يمكن دفعه لفرنسا وبلجيكا، ومساعدة ألمانيا لتَعُود رائدة الاقتصاد في أوروبا القارية، وأن يُعاد بناء روسيا «من خلال المؤسسات والمشروعات الألمانية.» وكان الهدف من شطب الديون فيما بين دول الحلفاء بعد الحرب هو التحرر من التمويل الأمريكي لأوروبا؛ فقد أيَّد كينز القروض الأمريكية لاستعادة الصناعة الأوروبية لسابق عهدها، ولدفع تكاليف واردات الغذاء الأساسية، والعمل على استقرار أسعار العملات. لكنه عارَضَ بشدةٍ اقتراضَ الأوروبيين من الولايات المتحدة لخدمة أعباء الدَّيْن الثقيلة.

أصبح كتاب كينز أحد الكتب الأكثر بيعًا على مستوى العالم، وكان له تأثير عميق في فكرِ ما بعد الحرب، كما جعل كينز مشهورًا في جميع أنحاء العالم. وسيكون تسطيحًا للأمور أن نَعتبر الكِتاب هو ما «خَلَقَ» مُناخ التهدئة تجاه ألمانيا؛ فقد كان النفور من دِعاية الحرب قد بدأ فعلًا. ولم يفعل الكتاب سوى أنه حوَّل الانتباه من سياسات القوى العظمى إلى أسباب الرخاء الاقتصادي. وضَع كينز الاقتصاد في الصورة بالنسبة لعامَّة الجماهير المطَّلعة، وبقي الاقتصاد في الصورة منذ ذلك الحين. كما بدأتْ فكرة الحاجة لإدارة الرأسمالية في الترسُّخ في الأذهان. فلم يَخرج كينز من الحرب اشتراكيًّا ولا بلشفيًّا. وأخذ يقول إن الاشتراكية وُجدتْ لظروف لاحقة؛ أي بعد حل المشكلة الاقتصادية، وفي ذلك صلة غريبة بالماركسية الكلاسيكية. وظَل كينز ليبراليًّا إلى أن مات. وكانت المهمة التي أخذها على عاتقه هي إعادةَ بناء النظام الاجتماعي الرأسمالي على أساسٍ من الإدارة الفنية المحسنة.

تسببت الحرب كذلك في إعادة ترتيب حياة كينز الشخصية؛ حيث تخلصتْ من صبغتها الجامعية التي استمرت حتى عام ١٩١٤. وأصبح كينز الآن رجلًا عظيمًا له وزنه في مسائل التمويل الدولي، وتُسبب كتاباته اضطراب العملات، ويسعى إلى مشورته رجالُ المال والسياسة والمسئولون في جميع الدول. عاد كينز إلى كامبريدج في أكتوبر ١٩١٩، لكن كامبريدج لم تَعُد مركز حياته كما كانت؛ فقد أصبح يقيم فيها وقت الدراسة فقط، وحتى مع ذلك اقتصرت الإقامة على نهايات الأسبوع المطوَّلة (عادةً من مساء الخميس حتى صباح الثلاثاء)؛ حيث يجمع فيها كل تكليفاته التدريسية القليلة ولِجَانَه الجامعية وحياةً اجتماعية تمحورتْ حول عائلته التي تعيش في بيته القديم وبعض الأصدقاء المقربين من بين زملائه الأصغر سنًّا. وفي الفترة بين الحربَين أصبح كينز أمين صندوق ناجحًا على نحو مذهل في كلية كينجز كوليدج؛ حيث زاد رأسمال صندوق الكلية من ٣٠ ألف جنيه استرليني عام ١٩٢٠ إلى أكثر من ٣٠٠ ألف جنيه بحلول عام ١٩٤٥.

كان سكن كينز في لندن في ٤٦ ميدان جوردون، الذي يعتبر «النصب التاريخي» لمجموعة بلومزبيري. وكان يقضي هناك منتصف الأسبوع في وقت الدراسة والجزء الأول من كل عطلة. وازدحمتْ حياته في لندن بأنشطة أكثر. ففي بعض الأوقات شغل كينز مناصب في مجالس إدارةِ ما لا يقل عن خمس شركات استثمار وتأمين، كان أكبرها الشركة الوطنية للتأمين التعاوني على الحياة؛ حيث كان رئيسًا لمجلس إدارتها بين عامَي ١٩٢١ و١٩٣٧. وفي عامَي ١٩٢٣ و١٩٣١، كان أكبر مساهِم ورئيسَ مجلس الإدارة في جريدة «نيشان آند أثينيوم» الأسبوعية؛ حيث عمل عن قرب مع محررها هوبرت هيندرسون. كما كان يحرِّر دورية «إيكونوميك جورنال» (١٩١١–١٩٣٧) من لندن أيضًا. فكانت لندن مهمة لكينز بوصفها مُنطَلَقَ نفوذِه؛ إذ كان على اتصال مباشر مع رئيس الوزراء والوزراء في معظم سنوات الفترة فيما بين الحربين. وفي عشرينيات القرن العشرين انطبعتْ أفكاره المطوَّرة عن السياسات الاقتصادية على الفكر الرسمي من خلال الاجتماعات الشهرية لنادي الثلاثاء، وهو نادٍ لتناوُل الطعام للمصرفيين وموظفي الخزانة والاقتصاديين والصحفيين الاقتصاديين، أنشأه سمسار الأوراق المالية أوزوالد فولك عام ١٩١٧، وفي الثلاثينيات سعى كينز للتأثير في السياسة من خلال عضويته في المجلس الاستشاري الاقتصادي التابع لرئيس الوزراء.

في عشرينيات القرن العشرين كان أوزوالد فولك شريك كينز الأول في استثماراته. وبدأ كلاهما المضاربة على العملات بمجرد انتهاء الحرب، واستمرت مُضاربتهما في السلع. وبالرغم من تعرُّض كينز لثلاث أزمات كبيرة — في عام ١٩٢٠، وفي عامَي ١٩٢٨ و١٩٢٩، وفي عامَي ١٩٣٧ و١٩٣٨ — فقد تَمكَّن من زيادة قيمة صافي أصوله من ١٦٣١٥ جنيهًا استرلينيًّا في عام ١٩١٩ إلى ٤١١٢٣٨ جنيهًا استرلينيًّا — وهو ما يساوي ١٠ ملايين جنيه استرليني اليوم — قبل وفاته. وخلال سنواتِ ما بين الحربين، تغيرتْ فلسفته الاستثمارية من المضاربة على العملات والسلع إلى الاستثمار في أسهم الشركات الممتازة مع تغيُّر نظريته الاقتصادية. وكان فشل نظريته الاستثمارية التي تقوم على فكرة «دورة الائتمان» في إدرار أرباحٍ عليه سببًا في تحوُّله إلى نظرية «الغرائز الحيوانية» في السلوك الاستثماري في كتابه «النظرية العامة»، وإلى فلسفة استثمارية شخصية تقوم على فكرة «الإخلاص». (فمن أجل التغلُّب على تقلبات الاستثمار، طالَبَ كينز باعتبار العلاقة بين المستثمر وأسهُمه مثل العلاقة بين الزوج وزوجته.) وكانت الصحافة كذلك مصدرًا كبيرًا لكسب الأموال، وخاصة في أوائل العشرينيات. ورَبِحَ من ثلاث ضربات استثمارية موفَّقة بين عامَي ١٩٢١ و١٩٢٢، بجانب مكاسبه من الصحافة، ما يعادل ١٠٠ ألف جنيه استرليني في يومنا هذا. ومكَّنه نجاحه في جمع الأموال من تمويل أنشطته كمُحب لجمع الصور والكتب النادرة، مسترجعًا فكرته المثالية في شبابه عن الحياة الطيبة.

كانت أكبر علامة على إعادة تنظيم حياته هي زواجه؛ فقد قابل راقصة الباليه ليديا لوبوكوفا في أكتوبر عام ١٩١٨ عندما عادت عروض دياجاليف للباليه إلى لندن، وبدأ في التودُّد إليها في نهاية عام ١٩٢١، عندما رقصتْ في رائعة تشايكوفسكي «الجمال النائم»، التي قدَّمها دياجاليف ولم تنجح تجاريًّا على مسرح ألهامبرا. كانت ليديا — بضآلة جسمها وتألقها، وأنفها الأقنى، ورأسها الذي ذكَّر فيرجينيا وولف ببيضة طائر الزقزاق — فنانة متميزة بذاتها، تتمتع بحسٍّ فكاهيٍّ خليعٍ، وعبقريةٍ في صياغة الأفكار باللغة الإنجليزية (فقد تحدثتْ ذات مرة عن «تحريض المسيح للماء كي تتحول إلى نبيذ في قرية قانا»)، وبديهةٍ قويةٍ واثقةٍ تعبِّر عنها بشكل مباشر. افتُتن كينز بها، وتزوجا في ٤ أغسطس ١٩٢٥. ولم يكن من الممكن إلَّا لِامرأة أجنبية آتية من خارج البيئة الاجتماعية لكينز أن تأسِرَ قلب رجل اتجهتْ عواطفه أساسًا للرجال من أبناء جنسه. ورغم تحذيرات ومخاوف مجموعة بلومزبيري، أثبتتْ ليديا أنها زوجة مثالية له؛ فقد أدخلتْ على حياته الاستقرار العاطفي الذي كان ينقصه لسنوات عديدة، وهو ما وفَّر الخلفية الضرورية لاستمرار جهده الفكري. وفي عام ١٩٢٥ استأجر مزرعة تيلتون، وهي مزرعة في شرق ساسيكس بالقرب من تشارلستون. وكان يقضي فيها مع ليديا عطلاتهما، وكان الأصدقاء والأقارب يأتون إليهما، وفي مبنًى رطب بعض الشيء ملحق بالمنزل الرئيسي كتب كينز الجزء الأكبر من عملَيْه النظريين الكبيرين «بحث في النقود» و«النظرية العامة».

كان كينز مشغولًا طوال الوقت. ففي سنواتِ ما بين الحربين تَشَتَّتَ جهده على أنشطة متنوعة في اتجاهات مختلفة. وعَرَفه معاصروه بأنه رجل يحمل دائمًا حقيبة مليئة بالأوراق، يهرْول من مكان لمكان ومن اجتماع لآخر. وكانت تلك الأنشطة المتنوعة هي ما أثْرَتْ فكرَه، وهيَّأتْه للكتابة وصرفتْه عنها في نفس الوقت. وكان فشلُه في كتابة عملٍ نظري كبير حتى عام ١٩٣٠ — حينما شارَف على عامه الخمسين — هو الثمنَ الذي دفعه. لكن ربما كان ذلك من الأفضل لشخص مثله في عشرينيات القرن العشرين أن يبقى مرنًا فكريًّا، ولا يلتزمَ على نحو كبير بنظرية اقتصادية معينة؛ فقد كانت النظريات الاقتصادية في حالة سيولة. وتطلَّب الأمر تعرُّض النظام الرأسمالي لصدماتِ ما بين الحربين؛ لكي تتبلور المآخذ على التصورات القديمة عن السلوك الاقتصادي. كما أسفر تَنامي شهرة كينز وانشغالُه بالشئون العامة عن ضيقِ دائرةِ صداقاته ونوعياتها. وفيما سوى زواجه تضاءلت مساحة «اللحظات الشخصية». وكان ﻟ «جَودة الأداء» الأولويةُ على «جودة الحياة الشخصية». لكنه لم يتخلَّ قَطُّ عن مُثل شبابه؛ فرغم أنه كان منشغلًا دائمًا، فقد أعطتِ السرعة والكفاءة، اللتان كان يؤدي بهما عمله، إيحاءً بتميُّزه بالهدوء وعدم العجلة.

كان الدافع وراء جهود كينز النظرية والعملية في الفترة بين الحربين هو خوْفَه من المستقبل. وتَوَارَتْ أفكار الحرية الاقتصادية والجنسية فيما قبل الحرب — التي ساعد على ظهورها التطلُّع إلى التطور «التلقائي» — أمام الإحساس بهشاشة الحضارة الرأسمالية. وتَعزَّز ذلك الإحساس من خلال الكوارث التي وقعتْ فيما بين الحربين، خاصةً فترة الكساد الكبير في عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٣ ونجاح هتلر في ألمانيا. وحلَّ محلَّ الإيمان باستقرار نظام السوق ومرونته اعتبارُ حقبة «الحرية الاقتصادية» في القرن التاسع عشر أنها حقبة استثنائية في التاريخ الاقتصادي اعتمدتْ على ظروف خاصة لم تَعُد قائمة، وأنه رغم التقدم التقني فإن الإنسانية كانت تعيش في خطر الانتكاس من حالة الرخاء والتحضر التي وصلتْ إليها في العصر الفيكتوري. ومِن طُرق تفسير هواجس كينز هذه أنها ردُّ فعْلٍ متأخر للخوف الذي ساد القرن التاسع عشر من الحياة دون الرب. وفي عام ١٩٢٥ — بعد زيارته للاتحاد السوفييتي — كتب كينز أن «الرأسمالية الحديثة ملحدة تمامًا … وعلى مِثل هذا النظام ألَّا يكون ناجحًا وحسب، بل ناجحًا جدًّا كي يصمد.» وكانتْ هذه هي الخلفية الروحية والنفسية للفكر الكينزي.

وفي السنوات اللاحقة للحرب ركَّز كينز على شيئين: الفوضى الماليةِ الدوليةِ التي خلَّفتْها الحرب وزادها إبرام معاهدة فرساي للسلام سوءًا، وانهيارِ عوامل التوازن التجاري بين أوروبا والعالم الجديد. وفي ضوء معدلات الإنتاج القائمة، كان على الأوروبيين أن يقبلوا بمستوى معيشةٍ أدنى مما كان قبل الحرب؛ إذ إن صادرات المنتجات الصناعية لم تَعُد تسمح إلا باستيراد كميات أقل من المواد الغذائية والمواد الخام من الخارج من ذي قبل. ويمكن تتبُّع هذه المخاوف في إسهامات كينز في مَلاحِق إعادة البناء بجريدة «مانشستر جارديان كوميرشال»، التي حرر كينز أعدادها الاثني عشر في ١٩٢٢ و١٩٢٣. ولم تَحْظَ صبغة «المالتوسية الجديدة» في فكر كينز بالانتباه الكافي؛ فقد كانت في قلب حجته الخاصة بانخفاض قيمة العملات الأوروبية الرئيسية أمام الدولار.

ورغم استقالته من وزارة الخزانة، والاستنكار الذي أثاره كتابُه «الآثار الاقتصادية للسلام» في بعض «الأوساط الرسمية»؛ لَعِبَ كينز دورًا لا يمكن تجاهله أبدًا في إصلاحِ ما أفسده صنَّاع السلام؛ فقد شارك بشكل مباشر في خطة الخزانة البريطانية لِحلِّ مشكلة التعويضات الألمانية في نهاية عام ١٩٢٢، ومن خلال صداقته مع المصرفي الألماني المولود في هامبورج، كارل ملكيور، عَمِل كمستشار غير رسمي للحكومة الألمانية في عامَي ١٩٢٢ و١٩٢٣، وهو دور مثير للجدل ما زال محلَّ بحث.

لم يكن كينز قبل عام ١٩٢٣ مهتمًّا بوجه خاص بمشكلات بريطانيا، التي بدتْ له تافهةً مقارَنةً بمشكلات دول أوروبا القارِّية. لكن ظهور مشكلة انتشار البطالة واستمرارها لفترة طويلة جَذَبَ انتباهَه لهذه السمة المميزة للوضع البريطاني. وأَرْجَعَ كينز جُلَّ مشكلة البطالة غير الطبيعية في بريطانيا خلال العَقْد الثاني من القرن العشرين إلى سوء الإدارة النقدية؛ فقد أدَّى عدم الرفع السريع لسعر الفائدة البنكية أو عدم رفعه بالقدْر الكافي إلى خروج مشكلة الازدهار التضخُّمي في عامَي ١٩١٩ و١٩٢٠ عن السيطرة، وأدَّى أيضًا خلال الفترة اللاحقة التي انخفضتْ فيها الأسعار والناتج ومعدلات الإنتاج ونسبة التوظيف إلى تعميق مشكلة الكساد بشدة عن ذي قبل. ذَكَرَ كينز أن الهدف من المرحلة الثانية من السياسة الاقتصادية ليس فقط هو الرغبة في تقليل التضخم فيما بعد الحرب (وهو الأمر الذي كان يريده أيضًا)، وإنما أيضًا في خفض مستويات الأسعار بشكل كافٍ؛ ليعود الجنيه الاسترليني على معيار الذهب إلى سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب، عندما كان الجنيه الاسترليني يساوي ٤٫٨٦ دولارات. وتَوَقَّعَ كينز، مثل كل الاقتصاديين، أنْ تستعيد نسب التوظيف البريطانية معدلاتها «الطبيعية» (طبقًا لمقاييس ما قبل الحرب) عندما «استقرت» الأسعار في عام ١٩٢٢. لكن نسبة البطالة لم تقلَّ، وظلَّت أعلى من ١٠٪. وكان عدم القدرة على خفض البطالة عن تلك النسبة حتى نهاية عشرينيات القرن العشرين، هو ما نبَّه كينز لاحتمال أن تُصبِح تبعات حالة الانكماش القاسية فيما يتعلق بالتوظيف أكبر من أن تكون «مؤقتة» في ظل سقوط الاقتصاد في فخ انخفاض نسبة التوظيف. وأصبح تفسير كيفية إحداث «التوازن في حالة نقص التوظيف» هذا هو الهدفَ الأساسي من كتاباته النظرية.

كان كتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (١٩٢٣) محاولةً من كينز لوضع ما يُسمَّى الآن «نظامًا» نقديًّا من شأنه أن يتيح ثباتًا معقولًا في النشاط الاقتصادي. رفَض كينز معيار الذهب ولم يعتبره النظام النقدي المناسب. فلم يضمن شرط قابلية استبدال العملة المحلية بالذهب بسعرٍ ثابت رسمي ثباتَ مستويات الأسعار المحلية، وهو ما اعتبره كينز ضروريًّا لاستقرار التوقعات الاقتصادية؛ لأن قيمة الذهب ذاتها كانت عرضة للتذبذب بوصفه سلعة عرضة لأنْ تكون نادرة أو متوفرة. كذلك فإنه مع وضع التوزيع الفعلي والمحتمل لاحتياطيات الذهب العالمية في الاعتبار، فإن العودة إلى معيار الذهب سيعني تسليم سيطرة بريطانيا على مستويات الأسعار لديها لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن. ويجب أن تظل لدى بريطانيا حريةُ التصرف في تحديد سعر الصرف حسب احتياجات اقتصادها المحلي. وقال كينز إن نظام السيطرة النقدية المحلية هذا سيتماشى مع استقرار سعر الصرف على المدى القصير. لكن استقرار سعر الصرف هو نتيجةُ استقرار الأسعار المحلية، وليس هدفًا مستقلًّا للسياسة الاقتصادية.

وَضَعَ كتابُ «بحث في الإصلاح النقدي» كينز في موقع الخصم الفكري الأول للسياسة «الرسمية»، التي تتضمن إعادة الجنيه الاسترليني لمعيار الذهب عند سعرِ صرفه أمام الدولار قبل الحرب. لكن مطالبته بوجود «إدارة» نقدية لم تَلْقَ ترحيبًا كبيرًا. وأعاد ونستون تشرشل، وزير الخزانة، الجنيهَ الاسترليني إلى معيار الذهب عند سعر ٤٫٨٦ دولارات في ٢٠ أبريل ١٩٢٥. فهاجم كينز القرار فورًا في كتيِّب مهمٍّ سمَّاه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل». وقال فيه إن إعادة تقييم الجنيه الاسترليني تتطلب تقليص تكاليف الأجور في بريطانيا بنسبة ١٠٪، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال «زيادة نسبة البطالة دون حدود». وكانت الفكرة الضمنية لما قاله هي أن تكلفة التوظيف هي المؤثر الرئيسي في مستوى الأسعار، وفي ظل مفاوضات الأجور التي تقودها الاتحادات العمَّالية في العصر الحديث، فإن تقليل كمية النقود أدَّى بشكل مباشر إلى تقليل نسبة التوظيف. وتوقَّع كينز أن تنكمش السياسة النقدية الفعلية بسبب محاولة استعادة التوازُن بهذه الطريقة. فأسعار الفائدة ستظلُّ مرتفعةً على نحو كافٍ لجذْب رءوس الأموال الأجنبية لِلَندن، لكنها لن تُرفَع أكثر للتغلُّب على معارضة الاتحادات العمالية لتقليل الأجور النقدية للعمال. وستكون النتيجة اقتصادًا منخفِضَ نسبةِ التوظيف. وهو ما حدث بالفعل. وعلى الرغم من إنهاء الإضراب العامِّ عامَ ١٩٢٦، فلم يسْعَ أصحاب الأعمال لتقليل الأجور النقدية التي ظلتْ ثابتة حتى نهاية العشرينيات، مع أن مستويات الأسعار انخفضتْ. كان كينز أول مَن أدرك وأعلن بوضوح بأن العملة المبالَغ في سعر صرفها هي عملة ضعيفة وليست قوية.

أسفرَتِ الأحداث المحيطة بالإضراب العام عن تحوُّل ولاء كينز السياسي من أسكويث إلى لويد جورج، كما زاد تعاطفُه مع حزب العمال. وفيما بين عامَي ١٩٢٦ و١٩٢٩، لعبَ كينز دورًا ملحوظًا في صياغة سياسة حزب لويد جورج الليبرالي؛ فقد استعان لويد بكينز لإعداد برنامج اقتصادي يؤمِّن للِّيبراليين على الأقل حصةً في السلطة، ورأى كينز في لويد جورج وسيلةً واعدةً ﻟ «محاربة البطالة». ومثَّل اشتراك كينز في الاستقصاء الصناعي للحزب الليبرالي في عامَي ١٩٢٧ و١٩٢٨ ذروة اشتغاله بالسياسة. وكانت كذلك مرحلةً من حياته تأمَّل فيها بعمقٍ المشكلاتِ الهيكليةَ للصناعة البريطانية. ونتيجة لتلك المرحلة تبلْورتْ فلسفته السياسية التي تعتمد على فكرة الطريق الوسط، وظهرتْ لأول مرة في عمله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» (١٩٢٦).

قضى كينز المدة فيما بين عامَي ١٩٢٥ و١٩٢٨ بشكل جزئي في تأليف كتابه «بحث في النقود»، الذي بدأ في صورة تطوير لأفكاره في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي». وكان رفيقه الفكري الأساسي في ذلك الوقت هو دينيس روبرتسون، زميلَه في كلية ترينيتي، وهو رجل متقاعد لكنه مجادل عنيد. لم يكنْ لكينز أيُّ تلامذة في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وذكَرَ كيرت سينجر أن كينز كان «شخصية وحيدة متمردة مثيرة للشفقة ومولعة بالسيطرة، لكنه لم يمتلك بعدُ ما يُمكِّنه من قيادة الآخرين.» لكنْ كان هناك جيل أصغر من الذين شاركوا في صناعة الثورة الكينزية يمدُّ جذوره في جامعة كامبريدج، مثل المهاجر الإيطالي بيرو سرافا، وجون، وأوستن روبنسون، وقبلَهم جميعًا ريتشارد كانْ، الذي وصفه كينز بأنه «تلميذه المفضل». وكان أحد تلاميذ كينز — إتش إم روبرتسون — يرى أنه «أشبه بسمسار أوراق مالية أكثر منه أستاذًا جامعيًّا»، ببذلاته ونميمته اللندنية.

كان كتاب «بحث في النقود» — الذي نشر عام ١٩٣٠ — خيْرَ مثال على شغف كينز بالتعميم؛ فقد بنَى كينز بالأساس منظومة مفاهيم معقدة جدًّا؛ ليُبيِّنَ كيف يمكن لاقتصاد قائم على معيار الذهب — تحت ظروف معينة — أن يَسقط في فخ انخفاض نسبة التوظيف. فإذا مُنعَتِ المؤسسة النقدية من خفض سعر الفائدة الطويل الأجل لمستوًى يتماشى مع توقعات المستثمرين، وإذا منعت تكاليف الإنتاج المحلية تحقيق فائض تصديري يساوي ما يرغب الناس في إقراضه بالخارج، فستكون النتيجة هي الإفراطَ في الادِّخار على حساب الاستثمار، وانخفاض سعر صرف العملة، وجمود الاقتصاد. وكانَ هذا مصيرَ بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. ونادى الفكر الثوري — الذي ظهر بوضوحٍ أكثر في كتاب كينز «النظرية العامة» — بأنه ليس هناك آلية تلقائية في أي نظامٍ اقتصادي حديث للموازنة بين معدَّلَيِ الادِّخار والاستثمار المستهدفَين. وكما لاحظَ «هايك» وحدَه، كان معنَى هذا أنه لا توجد آلية تلقائية في النظام الاقتصادي لضبط إجمالي الطلب مع إجمالي العرض. وكانت فكرة عدم التناسب بين المدخرات المحلية والاستثمارات المحلية أو الأجنبية هي ما وفَّر لكينز أساس برنامج لتمويل المشروعات العامَّة بالقروض لزيادة نسب التوظيف في ظل قيود نظام معيار الذهب.

وكان أهمُّ ما ميز إقرار كينز في أبريل عام ١٩٢٩ بسياسة لويد جورج لتمويل المشروعات العامة بالقروض في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» — الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون — هو زعْمَه أن الإنفاق على المشروعات العامة سَيُسْفر عن موجة رخاء «تراكمية». وسنحت له فرصة التأثير في سياسة حكومة رامزي ماكدونالد العمالية الثانية، لما عُيِّن في لجنة ماكميلان التي تشكلت في نوفمبر ١٩٢٩، وكذلك في المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الذي أُنشِئ في يناير ١٩٣٠. وكان عرضه الذي استغرق تسعة أيام لنظرية عمله «بحث في النقود» وللحلول المقترحة لِمشكلة البطالة أمام لجنة ماكميلان في مارس ١٩٣٠؛ بمنزلة البداية الحقيقية للثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية. لكن اقتراحاته بخصوص المشروعات العامة والحماية لم تَلْقَ قبولًا في ذلك الوقت؛ فقد أدَّى انهيار الاقتصاد العالمي وفقدان الثقة في مجال الأعمال إلى دعم الفكر المحافظ. وأدت الضغوط في سبيل خفض النفقات في مجال التمويل العام إلى استبدال حكومة ائتلافية بالحكومة العمالية في ٢٥ أغسطس ١٩٣١. وفي ٢١ سبتمبر أدَّى الانهيار المالي في دول وسط أوروبا مع تفاقُم عجز الحساب الجاري في بريطانيا إلى إنهاء الارتباط بين الجنيه الاسترليني ومعيار الذهب. وفي ذلك الخريف بدأ كينز تأليف كتاب نظري جديد للتأكيد على دور التغيرات في الناتج في التكيُّف مع وضع توازن جديد.

ورغم أن كينز لم يكتب إلا كُتيبًا واحدًا عن السياسة الاقتصادية، وهو «الطريق إلى الرخاء» في عام ١٩٣٣، فإنه لم يقضِ معظم «وقت فراغه» فيما بين عامَي ١٩٣١ و١٩٣٥ في تقديم المشورة للحكومات، بل في تأليف كتابه «النظرية العامة» الذي نُشر في فبراير ١٩٣٦. كما نُشر له كتابان عبارة عن مقالات مجمَّعة؛ وهما: «مقالات في الإقناع» (١٩٣١)، و«مقالات في السيرة الذاتية» (١٩٣٣). وضمَّ الأولُ ما أَطلق عليه كينز في مقدمته «نبوءات اثني عشر عامًا؛ نبوءات العرَّافة كاساندرا التي لا يُصدِّقها أحد ولا يمكنها أبدًا أن تؤثر على مسار الأحداث الجارية». وكان من أهمِّ خصائص الكتاب الثاني هو استغلال كينز لحياة العلماء القصيرة ليتأمل ويرسم صورة للعبقرية العلمية.

وفي المدة ما بين عامَي ١٩٣١ و١٩٣٢، اشتغل كينز بكتابة مراسلات متقطعة لكنها قوية عن بعض النقاط في نظريات هوتري وروبرتسون وهايك. كما ساعده أيضًا مجموعة من الاقتصاديين الشباب الذين سَمُّوا أنفسَهم «سيرك كامبريدج» الذي قدَّم أبرزهم له، وهو ريتشارد كانْ، نظرية «المُضَاعِف». ولم يكنْ عمله «الطريق إلى الرخاء» هو العلامة الوحيدة على تقدُّمه في كتابة عمله الأساسي، بل كانت هناك أيضًا مسودات لفصول الكتاب وأجزاء من محاضرات ومجموعة كاملة من الملاحظات التي دوَّنها تلاميذ كينز في محاضراته من عام ١٩٣٢ حتى عام ١٩٣٥. وتحدَّث أحد تلامذته هؤلاء — وهو إيه سي جيلبين — عن الجو العام في جامعة كامبريدج عام ١٩٣٣ في خطاب إلى والدَيْه قائلًا:

يبدو أن محاضرات علم الاقتصاد هذا العام بشكل أساسي عبارةٌ عن توضيحات أو تفنيدات للنظريات التي درَسناها العام الماضي؛ فمارشال يُهاجمه شوف، وبيجو يُهاجمه كينز، وروبرتسون يختلف مع كينز ويترك للحضور أن يقرروا مَن على صواب، وتحاول السيدة جون روبنسون — وهي سيدة حادَّة — أن تشرح لنا سبب اختلافهم. الأمر شائق لكنه مُرْبِك.

وفي المرحلة الأخيرة الخاصة بالبراهين في صيف عام ١٩٣٥ قدَّم روي هارود لكينز بعض الاقتراحات الهامة.

لم يكن كينز يقضي وقته في عمل شيء واحد. فبالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتابه الأساسي، فقد قضى معظم وقته في عامَي ١٩٣٤ و١٩٣٥ في التخطيط والإشراف على بناء مسرح كامبريدج للفنون؛ تحقيقًا لحلمه فيما قبل الحرب بإثراء كامبريدج بمركز دائم للفنون المسرحية. أصبح كينز، بوصفه أمينَ صندوق كلية كينجز كوليدج وبصفته «مالك ضيعة في تيلتون»، أكثر انشغالًا بأعمال الفِلاحة. وانعكستْ تلك الأعمال في مقالَيْن كتبهما عام ١٩٣٣ للإشادة ﺑ «الاكتفاء الذاتي الوطني»، وهما اللذان حملا في طياتهما هجومًا أخلاقيًّا على التقسيم الدولي للعمل، بحجة أن «معظم عمليات الإنتاج الواسع النطاق الحديثة يمكن إجراؤها في معظم الدول والظروف المناخية بنفس الكفاءة تقريبًا.» زار كينز الولايات المتحدة مرتين عامَي ١٩٣١ و١٩٣٤. وفي زيارته الثانية قابَل روزفلت وأغلبَ الذين وضعوا «الصفقة الجديدة» بجانب عدد ممَّن انتقدوها. واستخفَّ كثيرون بتأثير حضور كينز وكتاباته في المرحلة الأولى من تنفيذ «الصفقة الجديدة».

لقد غيَّر كتابُ كينز «النظريةُ العامة» طريقةَ فهْم معظم الاقتصاديين لآليات عمل الاقتصاد. وفي هذا السياق كان الكتاب ثوريًّا بشكل مباشر وناجحًا. كما كان للكتاب تأثير جذري في السياسات الاقتصادية. لم يكن التأثير آنيًّا، لكنْ في أعقاب الحرب العالمية الثانية التزمَتِ الحكومات الغربية بشكل صريح أو غير صريح بالحفاظ على معدلات توظيف عالية. وكان الكتاب في حد ذاته رحلةَ استكشافٍ عميقةً لمنطق السلوك الاقتصادي في ظِل عدم اليقين المقترن بنموذج قصير المدى لتحديد الدخل؛ حيث ركَّز على ضبط كميةِ النقود لا أسعارِ صرفها. وكانت العلاقة الفضفاضة بين هذين العاملَين سببًا لمعظم الخلاف الذي حدث لاحقًا حول «المعنى الحقيقي» للكتاب بين مَن سمَّاهم آلان كودنجتون الكينزيين «الأصوليين» والكينزيين «المتساهلين»؛ فقد كان نموذج تحديد الدخل القائم على المضاعف، بجانب التطور اللاحق في إحصائيات الدخل الوطني، هو ما جعل الاقتصاد الكينزي مقبولًا لدى صناع السياسات؛ إذ إنه وفَّر لهم طريقة آمنة في ظاهرها للتنبؤ والسيطرة على سَيْر متغيرات «حقيقية» مثل الاستثمار والاستهلاك والتوظيف.

جاءت محاولة كينز الأولى لتطبيق نظريته المعروضة في عمله «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية في ثلاثة مقالات كَتبها لصحيفة «ذا تايمز» في يناير ١٩٣٧ حول كيفية تجنُّب الكساد، وهي عبارة عن تقييم حَذِر لاحتمال تقليل البطالة إلى أدنى مِن مستواها في ذلك الوقت البالغ ١٢٪ من خلال إيجاد «إجمالي طلب أعلى» في الاقتصاد. لم يتمتع كينز بصحة جيدة قَطُّ. ففي مايو عام ١٩٣٧؛ أيْ وهو في الثالثة والخمسين من عمره، عانَى من جلطة في الشريان التاجي، ولم يتعافَ منها إلا ببطء. ولما قامتِ الحرب في ٣ سبتمبر ١٩٣٩ كان يانوس بليش، وهو طبيب مَجَرِي، قد أعاد لكينز شيئًا من حيويته السابقة.

وفي أعقاب نشْر كتابه «النظرية العامة»، أصبح لكينز أكبرُ تأثير في السياسة الاقتصادية البريطانية. وقد حَقق ذلك بفضل قدراته العقلية وشخصيته، لا بفضل منصبه السياسي. ورغم تلقِّيه عروضًا كثيرة للترشح للبرلمان، فإنه لم يترشح. وفي يونيو ١٩٤٠ أصبح عضوًا في لجنة استشارية شُكلت لتُقدم نصائح لوزير الخزانة بخصوص مشكلات الحرب، وعُين في أغسطس في وزارة الخزانة، وعمل سكرتيرًا بدوام جزئي. ولم تكن لديه «واجبات روتينية ولا ساعات عمل محددة … بل كان عمله عبارة عن مفوض متنقل بجانب عضويته في لجان عليا عديدة، وهو ما سمح له بالدخول في أي مكان ليقول ما يريد.» واستغل كينز وضْعه الاستثنائي للتدخل، بشكل حاسم غالبًا، في كل ما يقع في نطاق العمل الاقتصادي، كبيرًا كان أم صغيرًا. فأصبح أكثر الموظفين الحكوميين نفوذًا في تاريخ الحكومة البريطانية؛ ولم يكن «موظفًا لدى رؤسائه بقدْر ما كان سيدًا عليهم.» وكان من الممكن أن يُتيح دخولُه في طبقة النبلاء عام ١٩٤٢ بحمل لقب بارون تيلتون الفرصةَ أمامه لدخول الحكومة، لكن ذلك لم يُطرح قَطُّ؛ ربما لأنه كان أكثر نفعًا في موقعه. لكن ذلك مكَّنه من تمثيل الحكومة في بعثات عديدة للولايات المتحدة؛ حيث كان قد ترأَّس في آخرها (بالاشتراك مع اللورد هاليفاكس) الوفدَ البريطاني لواشنطن في سبتمبر ١٩٤٥ للتفاوض بشأن الحصول على قرض أمريكي.

كانت أهم الخدمات التي قدمها كينز في الفترة الأخيرة من حياته هي المساعدةَ في وضع أسس محلية ودولية للرأسمالية المحسنة التي أشارتْ إليها نظريته. وهناك ثلاثة من إسهاماته في إدارة الشئون الاقتصادية فيما بعدَ الحرب تستحق الوقوف عندها.

ظهرت أُولى تلك الإسهامات في سياق التمويل وقت الحرب. كان مِن بين التبعات المحتملة للنظرية الكينزية أن ميزانية الحكومة ينبغي أن تُستخدم لموازنة حسابات الأمةِ، لا الحكومةِ فقط، لضمان تَساوي إجمالي العرض والطلب في ظل وضع التوظيف الكامل. لم تكن المشكلة في وقت الحرب تحقيقَ نِسب التوظيف الكامل — التي تحققت عام ١٩٤٠ — لكن في منع التضخم، الذي يرتفع فيه إجمالي الطلب عن إجمالي العرض. وكانت المهمة المحددة للتمويل وقت الحرب هي التأكد من أن الحكومةَ كانت السبب في الزيادة في الطلب الناتجة عن التوظيف الكامل، لا المستهلكَ الفردي. وفي ثلاثة مقالات منشورة في صحيفة «ذا تايمز» في أكتوبر ١٩٣٩، وأعيدَ نشرُها في صورة كتيِّب بعنوان «كيف تمول الحرب؟» قدَّم كينز مشروعًا للادِّخار القسري أو «الدفع المؤجل»؛ حيث يتلاشى فائض القوة الشرائية أمام الضريبة الإضافية التصاعدية على جميع الدخول (مع تقديم تعويضات للفقراء في صورة إعانات أسرية)، ويُعاد جزء منها في صورة أقساطٍ بعد الحرب لمواجهة الكساد المتوقَّع حدوثُه. ورغم أن هذا المشروع لم يتمَّ تبنِّيه إلا جزئيًّا، فقد أصبح مذهب كينز التحليلي بجانب تقديرات الدخل القومي التي استخدمها لحساب حجم «الفجوة التضخمية» هما الأساسَ لخطط الميزانية طوال فترة الحرب، بدءًا من ميزانية كينجسلي وود عام ١٩٤١. لكن أهمية النظام تتجاوز ذلك. ففي ١٩٣٩ شك كينز في توافُر إرادة «الديمقراطية الرأسمالية» لعمل «التجربة الكبرى» التي ستُثبت نظريته. وأُجريتِ التجربة وقت الحرب وثبتت صحة النظرية. فكان الاقتصاد يعمل بكامل طاقته ولم يكن هناك تضخم إلا بقدْر قليل. وما يمكن تطبيقه وقت الحرب أمكن تطبيقه وقت السلام، أو كان هذا ما يبدو على الأقل.

كان ثاني إسهامات كينز الكبرى لنظام ما بعد الحرب هو اشتراكَه في تأسيس نظام بريتون وودز. وكان هذا بقية عمل لم ينتَهِ خلَّفَه انهيارُ النظام القديم. لم يكن كينز مؤيدًا لتعويم العملة حتى في عمله «بحث في الإصلاح النقدي»؛ فقد أراد نظامًا «مُدارًا» لسعر الصرف يتماشى مع الاستقرار «الفعلي» في أسعار الصرف لفترات طويلة.

وسمحتْ خطة كينز المشهورة، الخاصة بإنشاء «اتحاد المقاصة الدولي»، في عام ١٩٤٢ بالربط بين العملة المحلية وأصل احتياطي جديد سمَّاه «بانكور». وتحتفظ الدول التي لديها فائض بأرصدة من عملة بانكور في بنك اتحاد المقاصة الدولي، وتُتاح للدول التي لديها عجز تسهيلات ائتمانية على المكشوف بحيث لا تتجاوز إجمالي الفائض. وضعت الخطة لتشجيع الدول على عدم تراكم فوائض ميزان المدفوعات لديها على نحو مستمر. ومع تبنِّي الدول لتلك الخطة يمكن للدول المدينة تلقائيًّا السحبُ من أرصدة الدول المدينة من عملة بانكور. ومع أن تلك فكرةٌ انهارت أمام مشروع هاري دكستر وايت البديل لاعتماد معيار صرف ذهب تدعمه آلية تعديل بسيطة (وهي صندوق النقد الدولي)، فقد استمر كينز في السعي للتوصل إلى اتفاقية بريتون وودز وحشْد الدعم لها في بريطانيا؛ حيث شارك في جولتَي مفاوضات شاقة في واشنطن عامَي ١٩٤٣ و١٩٤٤. ومن خلال ذلك، لعب كينز دورًا حاسمًا في نقل بريطانيا (وأوروبا) إلى الجانب الليبرالي من النظام الاقتصادي الدولي فيما بعد الحرب.

أما الإسهام الثالث لكينز فكان التفاوض بخصوص القرض الأمريكي في الفترة بين سبتمبر وديسمبر من عام ١٩٤٥. قدَّر كينز آنذاك أن عجز الحساب الجاري البريطاني سيصل مجمله إلى نحو ٧ مليارات دولار في السنوات الثلاث الأولى بعد الحرب. وذهب كينز لواشنطن في سبتمبر ١٩٤٥؛ طلبًا لمنحة «غير مشروطة» قيمتها ٥ مليارات دولار. وعاد — بعد ثلاثة أشهر مليئة بالنزاعات الشهيرة — بقرض قيمته ٣٫٧٥ مليارات دولار، بشرط الالتزام بالسماح بتحويل الجنيه الاسترليني للعملات الأخرى بعد عام من تفعيل الاتفاق. وكانت تلك على الأرجح أكثرَ تجارب حياته إذلالًا؛ فقد كان الاستجداء من الولايات المتحدة تجربة مريرة بالنسبة لشخص كان واحدًا من المسئولين الكبار في أكبر إمبراطورية في العالم. لكن كينز ابتلع مرارتها، وأقنع حكومة حزب العمل الجديدة هي الأخرى بابتلاعها؛ لأنها — كما قال للورد هاليفاكس — كانت البديل لأساليب «النازيين أو الشيوعيين». كما ألقى خطابًا بليغًا في مجلس اللوردات البريطاني دفاعًا عن الاتفاق.

لم يتعافَ كينز تمامًا من الضغط العصبي الذي سبَّبتْه مفاوضات القرض. وذهب إلى الولايات المتحدة مرة أخرى، وتحديدًا إلى مؤتمر سافانا في مارس ١٩٤٦، لتدشين صندوق النقد الدولي. وتورَّط كينز مرة أخرى في شجار مع الأمريكيين حول إدارة الصندوق. وكعادته كانت لديه مسئوليات أخرى. ففي أثناء الحرب أضيف لمسئوليات كينز في وزارة الخزانة واجباتُه بصفته رئيسَ مجلس تشجيع الموسيقى والفنون؛ إذ كان قد عُين في عام ١٩٤٥ أول رئيس لمجلس الفنون. وبعدَ وصوله إلى نيويورك في أعقاب مؤتمر سافانا، رتَّب كينز لزيارة فريق الباليه الأمريكي لدار الأوبرا الملكية بكوفنت جاردن، الذي قدَّم عرض «الجمال النائم» في إعادة افتتاح الأوبرا في ٢٠ فبراير ١٩٤٦، وذهب هو لمشاهدة العرض. وبعد شهرين — في ٢١ أبريل ١٩٤٦ — تُوفِّي نتيجة تجلُّط شديد في الشريان التاجي. وأقيم له حفل تأبين في كنيسة ويستمينستر آبي، إلا أنه اختار قبل سنواتٍ رثاءَه الخاص عندما كان تلميذًا في إيتون؛ حيث اقتبس مقطعًا من قصيدة بيرنار ناسك كلوني التي بعنوان «في ازدراء العالم»:

ليس فقط هؤلاء
الذين يسمعون أصداء حديث السماء بوضوح
هُم مَن يستحقون الاحترام؛ فهم مبارَكون في جميع الأحوال.
لكن هؤلاء الذين يسمعون
بعض الأصداء الضعيفة الصافية وسط غفلة العوامِّ،
ويرَون من إبداع الرب في الطبيعة
ما لا يراه الناس، فهم، وإن لم يجدوا
لرؤاهم مكانًا، من المباركين،
ولا يستحقون منا الرثاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤