تروس

(١) معطف مطر

أسرعتُ بالسيارة من أعماق المصيف إلى إحدى محطات خط سكك حديد طوكاي، وأنا أمسك بحقيبتي من أجل اللحاق بحفل زواج أحد المعارف. كانت أغلب الأشجار المزروعة على جانبَي الطريق التي تسير فيها السيارة من الصنوبر. وإمكانية اللحاق بالقطار الذاهب إلى العاصمة طوكيو أمر مشكوك فيه جدًّا. يَركب معي في نفس السيارة مالك أحد صالونات الحلاقة. كان سمينًا مثل الزير وله لحية قصيرة. كنت أتحدَّث معه من وقت لآخر وأنا قلق بشأن الوقت.

«لقد حدَث أمر مريب. يُقال إن العفاريت تظهر في بيت xx حتى في النهار.»

«حتى في النهار؟»

جاريته في الحديث بما يُناسب وأنا أنظر إلى جبل الصنوبر على الجهة الأخرى الذي تتسلط عليه شمس الغروب.

«يقال إنها لا تظهر في الأيام المشمسة، وإن أكثر ما تظهر في الأيام المُمطرة.»

«ربما تظهر في الأيام المُمطرة لكي تبتلَّ بالأمطار.»

«يا لها من مزحة … ولكن يقال إن بينها من يرتدي معطفًا واقيًا من المطر.»

وصلت السيارة إلى جانب المحطة وهي تُطلق صافرتها. فارقتُ مالك صالون الحلاقة ودخلتُ المحطة، وعندما عرفتُ أن القطار المتجه إلى طوكيو غادر منذ دقيقتين أو ثلاث دقائق. يجلس رجل يَرتدي معطفًا واقيًا من المطر على الأريكة في غرفة الانتظار وحيدًا ينظر للخارج في شرود. تذكرتُ حديث العفاريت التي سمعته منذ قليل. ولكنَّني ابتسمتُ ابتسامة ساخرة ثم قررت أن أدخل المقهى التي أمام المحطة وأنتظر القطار التالي.

ولكن يجب التفكير في أحقية تسمية ذلك مقهى، مقهى من عدمه. جلستُ على طاولة في الركن، وطلب كوبًا من الكاكاو، وكان الغطاء الذي فُرش فوق الطاولة عبارة عن مشمع بخطوط شبكية رفيعة زرقاء فوق أرضية بيضاء، ولكن ظهر في أركانه قماش التيل القذر قليلًا. أدرت بصري داخل المقهى الموحش وأنا أحتسي «كاكاو» تفوح منه رائحة الصمغ. لُصق على جدران المقهى المُمتلئ بالأتربة عدد من اللافتات الورقية على أسماء الطعام مثل «أزر بالبيض والدجاج» و«شرائح لحم مشوية» … إلخ.

«أومليت بالبيض البلدي.»

أحسستُ في هذه اللافتة بالأرياف القريبة من خطِّ سكك حديد طوكاي. أرياف تمرُّ عربات القطار الكهربائي من وسط حقول الشعير والكرنب …

ركبت القطار التالي في وقت يقترب من الغروب. دائمًا أستخدم الدرجة الثانية، ولكن قررت لسببٍ مُعيَّن أن أركب هذه المرة في الدرجة الثالثة.

كان القطار من الداخل مُزدحمًا للغاية. علاوة على ذلك كان يحيط بي تلميذات مدرسة ابتدائية يبدو أنهن كُنَّ في رحلة مدرسية إلى شاطئ أويسو. تأملتُ أولئك الفتيات وأنا أشعل سيجارتي. كُنَّ جميعًا في نشاط ومتعة. ليس هذا فقط، بل يُواصلن التحدُّث بلا انقطاع تقريبًا.

«أيها المصوِّر، ماذا تعني كلمة Love scene؟»

أجابها «المصور» الذي كان يقف أمامي بردٍّ مُبهم، ويبدو كما أتوقعُ أنه جاء مصاحبًا لتلك الرحلة المدرسية، ولكن التلميذة التي في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، استمرت تُوجه له أسئلة متنوعة. أحسستُ فجأةً أن تلك الفتاة مصابة بمرض الدبيلة القيحية في أنفها، فلم أستطع منع نفسي من الابتسام. ثم بعد ذلك جلست إحدى التلميذات الأخريات اللائي بجواري في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، فوق ركبة مُعلِّمة شابة، ومسحت بيدها على خدها وهي تحضن بذراع يدها الأخرى عنقها. بل وكانت توجه حديثها إلى تلك المعلمة أحيانًا أثناء حديثها مع شخص آخر.

«أنت جميلة يا معلمتي. إن عينيك جميلتان.»

أعطتني الفتيات إحساسًا أنهن نساء ناضجات ولسنَ تلميذات صغيرات. إن استثنيتُ أكلهن التفاح بقشرِه ونزعهن غلاف الكراميل … ولكن إحدى التلميذات الأكبر سنًّا يبدو أنها داست على قدم أحدٍ ما وهي تمرُّ بجانبي فقالت «أعتذر لك.» كانت هي فقط بينهن التي بدت لي على العكس من كبر سنِّها تلميذة صغيرة. ولم يكن ذلك يمنعني من الابتسام ابتسامة مصطنعة تجاه شعوري أنا نفسي بالتناقض وأنا أضع السيجارة في فمي.

أخيرًا وصل القطار الذي أضيئت أنواره في غفلة من الزمن، إلى إحدى محطات الضواحي في طوكيو. هبطتُ إلى الرصيف وسط الرياح الباردة، وبعد أن عبَرت الجسر، قررتُ انتظار قطار الضواحي. وعندها قابلتُ صدفة صديقي «ت» الذي يعمل في إحدى الشركات، فتحدثنا عن الكساد الاقتصادي أثناء انتظارنا مجيء القطار. كان «ت» بالتأكيد أعلم مني بتلك القضية. كان يُزيِّن إصبعَه المتين خاتم بحجر فيروز لا يَتناسب مع حالة الكساد الاقتصادي مطلقًا.

«إنه خاتم رائع!»

«هذا؟ لقد أجبرني صديق ذهب في رحلة عمل إلى مدينة هاربِن الصينية على شرائه. إنه حاليًّا في ضائقة. فلم يَعُد يستطيع عمل تبادل تجاري مع نقابة الشركات هناك.»

من حسن الحظ أن قطار الضواحي الذي ركبناه لم يكن مزدحمًا بدرجة ازدحام قطار البخار السابق. جلسنا متجاورين، وتحدثنا في أمور عديدة. كان «ت» قد عاد إلى طوكيو لتوه في هذا الربيع من عمله في إحدى الشركات بمدينة باريس. ولهذا السبب كان يغلب على حديثنا الكلام حول باريس. مثل الحديث عن مدام كايو، والحديث عن وجبات سرطان البحر، والحديث عن أحد أمراء العائلة الإمبراطورية اليابانية أثناء رحلته الخارجية في باريس …

«إن فرنسا على غير المتوقَّع لا تقابل مشاكل، ولكن فقط لأن الفرنسيين في الأصل مواطنون يدفعون الضرائب؛ فلذا تتساقط الوزارات الحكومية دائمًا …»

«أجل، وكذلك لأن سعر الفرنك يَنهار انهيارًا حادًّا.»

«هذا عند قراءة الجرائد فقط، ولكن جرِّب أن تعيش هناك. فاليابان الموجودة في الجرائد هناك عبارة عن زلازل وفيضانات مستمرة بلا توقُّف.»

ثم عند ذلك جاء رجل يَرتدي معطفَ مطر وجلس في المقعد المقابل لنا. فأحسستُ بإحساس مقزز وشعرتُ بالرغبة في التحدُّث إلى «ت» عن حكاية الأشباح والأرواح التي سمعتها قبل قليل، ولكن قبل ذلك أدار «ت» مقبض العصا ناحية اليسار، وقال لي بصوت خفيض: «ثمة امرأة هناك، أليس كذلك؟ التي تضع شالًا بلون فيراني …»

«هل تقصد تلك المرأة التي قصت شعرها على الطريقة الغربية؟»

«أجل، المرأة التي تحمل صرَّة من القماش. لقد كانت في كارويزاوا في هذا الصيف. ترتدي ملابس غربية أنيقة.»

ولكن لا شك أن تلك المرأة كانت بمظهر بائس لكل ذي عينين. كنتُ أتحدث إلى صديقي «ت» وأنا أتأملها في خفية. كان وجهها يعطي إحساسًا بأنها مجنونة، خاصة في مكان ما بين حاجبيها. بل كذلك كان يبرز من داخل الصرَّة التي تحملها إسفنجٌ يُشبه شكل الفهد.

«عندما كنتُ في كارويزاوا كنت أرقص مع الشباب الأمريكان. الرقصة التي تُسمى رقصة حديثة».

عندما كنت أودع صديقي «ت» كان الرجل الذي يرتدي المعطف الواقي من المطر قد اختفى. ذهبتُ سيرًا على الأقدام من محطة قطار الضواحي إلى أحد الفنادق وأنا أُدلي الحقيبة من يدي. كان على جانبي الطريق على الأغلب بنايات عالية الارتفاع. وتذكرتُ فجأة أثناء سيري غابات الصنوبر. ليس هذا فقط، بل لقد اكتشفتُ شيئًا مريبًا داخل مجال رؤيتي. شيئًا مريبًا؟ كانت تروسًا شبه شفافة تدور بلا توقف. لقد مرَّت عليَّ مثل هذه التجربة عدة مرات من قبل. زادت التروس من عددها تدريجيًّا، وحجبت تقريبًا مجال رؤيتي، ولكن، لم يكن ذلك لوقت طويل، بعد مرور فترة، اختفت، وبديلًا عنها بدأتُ هذه المرة أشعر بصداع في رأسي، وكان ذلك أيضًا هو ما يحدث دائمًا، وكان طبيب العيون في كل مرة يأمرني بالتقليل من التدخين بسبب ذلك الخداع البصري (؟)،١ ولكنَّني كنتُ أرى مثل تلك التروس قبل وصولي إلى سن العشرين واعتيادي على التدخين. وفكرتُ أنها بدأت تعود من جديد، وعندها حجبت عيني اليمنى بإحدى يديَّ ونظرتُ بعيني اليسرى فقط من أجل قياس قوة إبصارها، ولكن في النهاية لم تكن العين اليسرى بها شيء، ولكن كان عدد من التروس تدور وتلف في باطن جفن العين اليُمنى. فأسرعتُ في السير في الطريق أثناء رؤيتي البنايات التي على الجانب الأيمن تختفي تباعًا.

عندما دخلت إلى مدخل الفندق اختفت التروس تمامًا. ولكن، كان الصدع ما زال باقيًا. وطلبتُ غرفة وأنا أسلِّم المعطف والقبعة لموظف الفندق. وبعد ذلك هاتفتُ إحدى المجلات لمناقشتِها في أمر مالي.

على ما يبدو أن حفل الزفاف قد بدأ منذ زمن طويل. جلستُ على طرف المائدة، وبدأتُ أحرك الشوكة والسكِّين. كان بالطبع جميع الخمسين شخصًا الذين جلسوا على المائدة البيضاء التي على شكل حرف U في حالة مرح وسرور، بداية من العروسين في الواجهة. ولكن، كان شعوري يتَّجه أكثر وأكثر إلى الاكتئاب تدريجيًّا تحت المصباح شديد الإضاءة. ومن أجل الهروب من ذلك الشعور وجهتُ حديثي إلى الشخص الجالس بجواري. وبالصدفة كان رجلًا عجوزًا ذا لحية بيضاء تُشبه لبدة الأسد تمامًا. ليس هذا فقط، بل كان عالمًا شهيرًا في الحروف الصينية وكنتُ أنا أيضًا أعرفه. وبناءً على ذلك استقرَّ حديثنا على المخطوطات العتيقة.

«إن الكلين، هو الحيوان وحيد القرن، وكذلك طائر العقاب أو ما يُسمَّى العنقاء …»

كان ذلك العالم الشهير في اللغة الصينية يشعر على ما يبدو باهتمام لحديثي ذلك. حينما كنتُ أتحدث تحدثًا آليًّا، شعرتُ تدريجيًّا برغبة عارمة في التدمير، وبالتأكيد بعد أن جعلت الإمبراطور الصيني «ياو شون» شخصية خيالية، بدأت الحديث بأن مؤلِّف كتاب «سجلات الربيع والخريف» كان من عصر الهان الذي يلي عصر الإمبراطور بوقت طويل. وعندها أظهر عالم اللغة استياءً سافرًا وقطع حديثي وكأنه يزأر كالنمر تقريبًا دون أن ينظر نحو وجهي بتاتًا: «إن كان ياو شون غير موجودٍ فسيكون كونفوشيوس كاذبًا. ويستحيل أن يكذب القديس.»

بالتأكيد التزمتُ الصمت. ثم بعد ذلك كنتُ أُعمل شوكتي وسكيني في قطعة اللحم التي فوق طبقي. وعندها اكتشفتُ دودة صغيرة تتلوَّى في هدوء بجسدها على حافة قطعة اللحم. استدعيتُ في داخل رأسي كلمة Worm الإنجليزية. لا ريب أن تلك الكلمة تعني معنى أحد الحيوانات الخيالية مثل الكلين والعنقاء. وضعت الشوكة والسكين جانبًا، وتأملتُ كأسي الذي امتلأ في غفلة مني بالشامبانيا.

بعد أن انتهت الحفل أخيرًا، ومن أجل أن أنعزل في الغرفة التي حجزتها مسبقًا، بدأت السير في الممر الخالي تمامًا من أي أثر لإنسان. كان الممر يُعطيني إحساسًا أن هذا المكان أقرب للسجن منه لفندق، ولكن لحسن الحظ، قل الصداع كثيرًا في غفلة من الزمن.

لقد أحضرت معي إلى الغرفة الحقيبة بالطبع والقبعة والمعطف. أحسستُ في المعطف المعلق على الحائط بهيئتي وأنا واقف، فأسرعتُ برمي المعطف داخل خزانة الملابس في ركن الغرفة. ثم ذهبتُ بعد ذلك؛ لأقف أمام المرآة وجعلتها تَعكس وجهي بثبات؛ وجهي المنعكس من المرآة كشف عن تشكيل العظام تحت الجلد. برزت الديدان على الفور وبوضوح في ذاكرتي أنا المنعكس على المرآة.

فتحتُ باب الغرفة وخرجتُ إلى الممر وذهبتُ ماشيًا دون أن أستهدف مكانًا بعينه. وهنا وجدتُ في ركن مُؤدٍّ إلى الاستقبال مصباحًا واحدًا طوليَّ الشكل معلقًا به طربوش ينعكس انعكاسًا زاهيًا على الباب الزجاجي. كان ذلك يُعطي لي إحساسًا بالسلام النفسي. جلستُ على المقعد الذي أمامه، وأخذتُ أفكر في العديد من الأمور، ولكن لم يكن مُمكنًا أن أجلس هناك أكثر من خمس دقائق. معطف المطر هذه المرة، كان مُتدليًا وعلى وشك الانخلاع من مسند المقعد الطويل الذي كان بجواري.

«مع أننا حاليًّا في موسم البرودة الشديدة!»

وأنا أفكر في مثل هذا الأمر، ذهبتُ راجعًا مرة أخرى في الممر. ولم أستطع رؤية أيٍّ من عاملي الفندق في ركن الممر الخاص بتجمُّع الخدم، ولكن استرقت أذني قليلًا صوت حديثهم. كان ما سمعته هو رد أحدهم على ما قيل له بكلمة All right الإنجليزية. أوول رايت؟ لقد تعجلتُ في محاولة فهم معنى ذلك الحوار فهمًا دقيقًا. أوول رايت؟ تُرى ما هو هذا الذي أوول رايت؟!
كانت غرفتي بالطبع في منتهى الهدوء، ولكن كان فتح باب الغرفة أمرًا مريعًا بالنسبة لي. بعد أن تردَّدت قليلًا، استجمعتُ شجاعتي ودخلتُ غرفتي. ثم بعد ذلك جلست فوق مقعد المكتب وأنا أحرص على عدم النظر في المرآة. كان نوع المقعد من المقاعد المريحة المصنوعة من الجلد المغربي الأزرق قريب الشبه من جلد السحالي. فتحتُ الحقيبة وأخرجتُ منها أوراق المسودة، وحاولت أن أكمل كتابة إحدى القصص القصيرة، ولكن لم يتحرَّك القلم الذي غمستُه في الحبر فوق الأوراق مهما مر من وقت. ليس هذا فقط، بل عندما ظننتُ أنه تحرَّك أخيرًا، ظل يُكرر كتابة نفس الكلمة فقط مرات ومرات All right … All right … All right sir … All right ….

وعندها رنَّ فجأة الهاتف بجوار السرير. نهضتُ مندهشًا ووضعتُ السماعة على أذني وأجبتُ على المتصل.

«مَن؟»

«إنها أنا. أنا …»

كانت المتصلة هي ابنة أختي الكبرى.

«ماذا؟ هل حدث شيء؟»

«أجل، لقد حدث أمر جلل؛ لذلك … لأنه لقد وقع أمر عظيم، لقد اتصلتُ كذلك بخالتي.»

«أمر جلل؟!»

«أجل. لذلك تعال في التوِّ والحال. في التوِّ والحال، فهمت؟»

انقطع الخط مباشرة بعد قولها هذا. أعدتُ سماعة الهاتف إلى مكانها الأصلي، وضغطتُ لا إراديًّا على زر الجرس. ولكنني كنتُ أدرك أنا نفسي بوضوح أن يدي ترتعش. لم يأت عامل الفندق بسهولة. كان شعوري بالمُعاناة أكبر من شعوري بالغضب، مما جعلني أدق الجرس أكثر من مرة. وأنا أفهم أخيرًا القدر الذي أخبرتني به كلمة «أوول رايت».

مات زوج أختي بعد ظهيرة ذلك اليوم، مات دهسًا بالقطار في منطقة ريفية لا تَبعُد كثيرًا عن طوكيو. بل إنه كان يرتدي معطفَ مطرٍ لا علاقة له بهذا الفصل من فصول العام. أنا الآن ما زلت مُستمرًّا في كتابة القصة القصيرة السابقة الذكر في نفس ذلك الفندق. لا يمر أحد في ممر الفندق في منتصف الليل. أسمع أحيانًا صوت رفرفة أجنحة خارج الباب. ربما يكون أحدهم يقتني طائرًا ما في مكان ما.

(٢) انتقام

استيقظتُ في حوالي الساعة الثامنة صباحًا في ذلك الفندق. ولكنني عندما حاولت النزول من السرير من العجيب، إنني لم أجد إلا فردة واحدة من الصندل، وكان ذلك خلال سنة أو سنتين ماضيتين ظاهرة تسبب لي الخوف والقلق دائمًا. ليس هذا فقط، بل كانت ظاهرة تجعلني أتذكر الأمير في الأسطورة اليونانية الذي لا يرتدي إلا فردة واحدة من الصندل. ضغطتُ على زر الجرس لاستدعاء عامل الفندق، وطلبتُ منه البحث عن الخف الضائع. بحث العامل بوجه متجهِّم داخل الغرفة الضيقة.

«لقد وجدته هنا. داخل غرفة الحمام هذه.»

«وتُرى لِمَ ذهب إلى ذلك المكان؟»

«لا أدري، ربما سحبه فأر.»

بعد أن رحل العامل، شربت قهوة بدون حليب وتهيأتُ لإنهاء القصة القصيرة السابقة الذكر. كانت النافذة المحاطة من الأربع جهات بحجَر الطَّفلة تُواجه الحديقة التي امتلأت بالثلوج. كنتُ أتأمل تلك الثلوج شارد الذهن في كل مرة أُريح القلم فيها. كانت الثلوج متسخة بسخام المدينة تحت زهور الدفنة ذات الرائحة التي نبتَت براعمها. كان ذلك المنظر يعطي قلبي نوعًا من الألم إلى حدٍّ ما. انتبهتُ إلى أنني أفكر في العديد من الأمور وأنا أنفث دخان السيجارة دون أن أحرِّك القلم. في أمر زوجتي، وأمر أولادي، بل والأهم من ذلك أمر زوج أختي …

اتُّهم زوج أختي قبل أن ينتحر بتهمة الحريق العمد، ولكن في الواقع لم يكن ثمَّة حيلة في ذلك. فلقد اشترك في تأمينٍ على الحرائق بما يُعادل ضعف قيمة البيت قبل احتراق البيت. بل وكان في فترة وقف تنفيذ حكمٍ عليه بتهمة الشهادة الزور، ولكن الذي كان يُسبب لي القلق ليس انتحاره ولكن لأنني كنتُ بالضرورة أرى نارًا تحترق في كل مرة أعود فيها إلى طوكيو. كنتُ إما أرى الغابات الجبلية تَحترق من نافذة القطار، أو أرى من داخل السيارة (وفي ذلك الوقت كان معي أولادي وزوجتي) حرائق في منطقة جسر توكيوا، وكان من المستحيل ألا يجعلني ذلك أتوقع وقوع حريق حتى قبل أن يحترق بيت أختي.

«ربما يحدث حريق في بيتنا هذا العام!»

«لِمَ تقول هذا القول المشئوم! …، ولكن مع ذلك إن وقع حريق سيكون أمرًا عظيمًا. فالبيت ليس عليه تأمين جيد …»

هكذا كنا نتحاور، ولكن لم يحدث حريق في بيتي … لقد اجتهدتُ في دفع تلك الأوهام والهروب منها، وحاولت أن أحرك القلم مرة أخرى، ولكن مهما فعلت لا يتحرك القلم بسهولة لكتابة سطر واحد. وأخيرًا ابتعدتُ عن المكتب، واستلقيتُ فوق السرير وبدأت قراءة قصة تولستوي Polikouchka. كان بطل تلك القصة ذا شخصية معقدة تتضمَّن خليطًا من الغرور والتكبر والميل إلى الأمراض. بل وكانت حياة تلك الشخصية المأسوية، إن قمنا بعمل بعض التعديلات البسيطة عليها تُمثل نسخة كاريكاتورية من حياتي أنا. ثم بدأت أشعر بالامتعاض تدريجيًّا من إحساسي بالسخرية الباردة خاصة تجاه مأساته الكوميدية البائسة. وقبل أن تمرَّ ساعة قفزت ناهضًا من السرير وأنا ألقي الكتاب بكل ما بي من قوة تجاه ركن الغرفة التي تتدلى منه ستارة النافذة.

«عليك اللعنة!»

وعندها جرى فأر فوق الأرضية في مسار مائل من تحت ستارة النافذة إلى غرفة الحمام. ذهبتُ إلى غرفة الحمام في قفزة واحدة، وفتحت الباب أبحث داخله. ولكنَّني لم أستطع رؤية أي شيء يُشبه الفئران حتى خلف حوض الاستحمام الأبيض. شعرت فجأة بالاستياء، فأسرعت باستبدال الحذاء بالصندل، ومشيتُ في الممرِّ الذي ليس فيه أثر لإنسان.

كان الممر اليوم أيضًا كئيبًا يُشبه السجن بلا تغيير. وأثناء صعودي وهبوطي لدرجات السلم وأنا أحني رأسي في غفلة من الزمن وصلتُ إلى غرفة الطبخ. كانت غرفة الطبخ مضاءة على غير المتوقع، ولكن كانت النيران تتحرك تحت عدد من القدور التي تراصت على أحد جوانب الغرفة. شعرتُ وأنا أمر خلال الغرفة أن الطهاة الذين ارتدوا قبعات بيضاء ينظرون إليَّ بنظرات باردة. وفي نفس الوقت، شعرتُ كذلك بالجحيم الذي سقطتُ فيه. «يا إلهي! عاقبني! ولكن لا تُنزل غضبك عليَّ. فعلى الأرجح أنني انتهيت.» لم يَسعْني في تلك اللحظة إلا أن يجري على لساني هذا الدعاء.

بعد أن خرجتُ من ذلك الفندق، مشيتُ مسرعًا إلى بيت أختي الكبرى على الطريق الذي ذابت عليه الثلوج فانعكسَت فوقه السماء الزرقاء. اسودَّت أوراق وأغصان أشجار الحديقة العامة بأجمعها. ليس هذا فقط، بل تملك كل شجرة منها أمام وخلف مثل البشر تمامًا. وجعلني ذلك أشعر بما يُشبه الرعب أكثر من الاستياء. فتذكرتُ الأرواح٢ التي تحوَّلت إلى أشجار في جحيم دانتي، وقررتُ أن أمشي على الجانب الآخر من طريق الترام الكهربائي الذي تصطفُّ فيه المباني فقط. ولكنني لم أستطع أن أسير مائة مترٍ في ذلك الجانب.

«أعتذر عن إيقافك في الطريق …»

كان ذلك شابًّا في الثانية أو الثالثة والعشرين من العمر يرتدي زيًّا مدرسيًّا بأزرار ذهبية اللون. التزمتُ الصمت وتأملت ذلك الشاب، فاكتشفتُ شامةً سوداء على الجانب الأيسر لأنفه. قال لي في رهبة بعد أن خلع قبعته: «هل أنت الأستاذ «أ»؟»

«أجل.»

«لقد توقعتُ بذلك …»

«هل تريد شيئًا؟»؟

«كلا، لقد كنتُ أريد مقابلتك فقط. فأنا من محبي القراءة لك …»

وقتها خلعتُ قبعتي للحظة فقط ثم تركته خلفي وبدأت السير. الأستاذ، الأستاذ «أ» … تلك الكلمة هي أكثر الكلمات التي تسبب لي الاستياء حاليًّا. لقد كنتُ أؤمن أنني ارتكبتُ كل أنواع الذنوب. ولكنهم استمروا يُنادونني بلقب أستاذ كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر في ذلك الوقت بأن أحدهم يسخر مني. أحدهم؟ ولكن ليس أمام المادية التي أؤمن بها إلا أن ترفض الروحانية. لقد نشرتُ الكلمات التالية قبل شهرين أو ثلاثة أشهر في إحدى المجلات الصغيرة. «إنني لا أملك أي نوع من أنواع الضمير بما في ذلك الضمير الفني. إنني لا أملك إلا الأعصاب فقط.»

كانت أختي الكبرى مع أطفالها الثلاثة قد لجئوا إلى ثكنة إيواء في العراء. كانت الثكنة التي لصقت عليها ورق بلون بني غامق من الداخل أبرد من الخارج. تبادلنا أحداثًا متنوعة ونحن نُوجِّه أيادينا ناحية مدفأة الفحم. كان زوجها صاحب الجسد المتين يحتقرني احتقارًا غريزيًّا بسبب نحافتي المفرطة. ليس هذا فقط بل كان يعلن على الملأ أن مؤلفاتي غير أخلاقية. فكنتُ دائمًا أنظر إليه وهو يقول ذلك ببرود ولم يحدث أن تحدثتُ معه حديثًا وديًّا، ولكن أثناء حديثي مع أختي، بدأتُ أدرك تدريجيًّا أنه هو أيضًا كان ساقطًا في الجحيم مثلي. مثلًا يقول إنه رأى بالفعل عفريتًا داخل قطار النوم. ولكنَّني أشعلتُ النار في سيجارة واجتهدتُ في مواصلة الحديث عن الأمور المالية فقط.

«مهما تكن الظروف أرى في تلك الحالة أنه من الأفضل أن نبيع كل شيء.»

«هذا صحيح. تُرى كم يبلغ سعر الآلة الكاتبة؟»

«أجل، بالإضافة أيضًا هناك اللوحات.»

«وبالمناسبة أيضًا، هل نبيع اللوحة الشخصية للسيد «ن» (زوج أختي)؟ ولكنها …»

عندما نظرتُ إلى اللوحة التصويرية التي بلا إطار المعلَّقة على حائط الثكنة، شعرتُ أنني لا أستطيع المزاح حتى بِطَيش. كان وجه الزوج الذي مات دهسًا بالقطار عبارة عن كتلة لحم فقط، لم يتبقَّ منه إلا شاربه الخفيف على الفم. بلا شك كان هذا الحديث — بالطبع الحديث نفسه — مُنفرًا، ولكن كانت لوحته الشخصية بالطبع سليمة ولكن لسبب ما كان الشارب فقط باهتًا. ظننتُ أن ذلك بسبب درجة الإضاءة؛ لذا نظرتُ إلى تلك اللوحة المرسومة بألوان الشمع من مواضع مختلفة.

«ماذا تفعل؟»

«لا شيء، ولكن فقط ما حول الفم في تلك اللوحة …»

أجابت أختي وهي تنظر خلفها أنها لا تنتبه لشيء: «ألا ترَين أن الشارب خفيف بشكل مريب؟»

لم يكن ما رأيته وهمًا، ولكن إن لم يكن وهمًا … قررتُ أن أترك بيت أختي قبل أن تعدَّ لي طعام الغداء.

«حسنًا، لا بأس.»

«ربما آتي غدًا … لأنني اليوم سأذهب إلى أَوْياما.»

«آه، هناك؟ هل ما زالت صحتك سيئة؟»

«إنني لا أتناول إلا الدواء فقط. لو المنوم فقط فهو شاق للغاية. فيرونال، نويرونال، ترايونال، نومال …»

بعد ثلاثين دقيقة تقريبًا، دخلتُ أحد المباني، وركبتُ المصعد للطابق الثالث. ثم بعد ذلك كنتُ على وشك دفع باب زجاجي لمطعم والدخول فيه، ولكن لم يتحرَّك الباب الزجاجي. ليس هذا فقط، بل لقد تدلَّت لافتة مطلية بالورنيش كُتب عليها «يوم العطلة الأسبوعي». في النهاية أُصبتُ بالاستياء، وقررت العودة إلى الطريق مرة أخرى وصورة الأطباق التي امتلأت بالتفاح والموز فوق الطاولة على الجهة الأخرى من الباب الزجاجي باقية في عيني. وعندها احتكَّ بكتفي شابان كانا يُحاولان دخول هذا المبني وهما يتحدثان معًا بحيوية. ويبدو أن أحدهما كان يقول في تلك اللحظة «فغضبت!»

وقفتُ بلا حراك في الطريق، انتظرتُ مرور تاكسي، ولكن لم يمرَّ تاكسي بسهولة. ليس هذا فقط، بل ما يمرُّ صدفة كان بالضرورة سيارة صفراء. (لسبب ما كانت تلك التاكسيات الصفراء تُسبِّب لي حوادث مرورية عادة) وأثناء ذلك، عثرت على سيارة خضراء ذات الفأل الحسن، وتوجهت على أيِّ حال إلى مستشفى الأمراض النفسية بالقرب من مقابر أوياما.

«شيء يغيظ، tantalizing – Tantalus – Inferno …»

في الواقع لقد كنتُ أنا شخصيًّا تانتالوس وأنا أتأمل الفاكهة خلف الباب الزجاجي. ظللتُ أتأمل ظهر السائق بثبات وأنا ألعن جحيم دانتي الذي برز أمام عيني مرة ثانية. وأثناء ذلك بدأتُ أشعر مجددًا أن العديد من الأمور هي كذب صريح. السياسة، التجارة، الفنون، العلوم … جميعها بالنسبة لشخصٍ مثلي لا تُعدُّ أن تكون إلا مجرد طلاء خزفي بألوان مُبَرْقَشة يُخفي حياتي المرعبة. شعرتُ تدريجيًّا بالاختناق، ففتحت نافذة التاكسي وتركتها مفتوحة، ولكن لم يذهب شعور الانقباض من قلبي.

أخيرًا بدأ التاكسي الأخضر يسير أمام معبد جينغو. يُفترض أن مستشفى الأمراض النفسية تقع عند الانعطاف في حارة جانبية هنا، ولكن لسبب ما لم أستطع أن أتعرف عليها اليوم فقط. ثم بعد أن جعلتُ التاكسي يروح ويجيء عدة مرات بمحاذاة سكة القطار، يئستُ أخيرًا وقررتُ النزول من التاكسي.

وأخيرًا عثرت على تلك الحارة، فانعطفتُ في طريق مُمتلئ بالطين. ثم أخطأتُ الطريق في غفلة منِّي، فوصلتُ إلى أمام قاعة مراسم أوياما. كان ذلك مبنى لم أمر من أمام بوابته تلك منذ مراسم عزاء الأستاذ ناتسوميه أي منذ تقريبًا عشر سنوات مضت. لم أكن سعيدًا كذلك من عشر سنوات، ولكن على الأقل كنتُ في حالة سلام نفسي. تأملت الساحة التي فُرشت بالحصى بعد البوابة، وأنا أتذكَّر شجر الموز في متحف الأستاذ ناتسوميه المسمى «سوسيكي سانبو»، ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر أن تلك نهاية مرحلة من حياتي. ليس هذا فقط، بل لم يكن بوسعي إلا أن أشعر أن شيئًا ما هو الذي أتى بي أمام هذه المقبرة في السنة العاشرة.

بعد أن خرجتُ من بوابة مستشفى الأمراض النفسية تلك، ركبتُ سيارة أخرى، وقررتُ الرجوع إلى الفندق السابق، ولكن عندما نزلت أمام مدخل ذلك الفندق، كان هناك رجلٌ يرتدي معطفًا واقيًا من المطر يتشاجر مع عامل الفندق. مع عامل الفندق؟ كلا لم يكن عاملًا بالفندق، بل كان عامل السيارات الذي يَرتدي زيًّا أخضر. شعرتُ بنذير شؤم من الدخول إلى الفندق، ولذلك رجعتُ سريعًا للطريق الذي جئتُ منه.

عندما وصلت إلى شارع غينزا، كان الوقت قد اقترب من الغروب تقريبًا. ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر بكآبة شديدة من المحلات المتراصَّة على جانبي الطريق ومن كثرة المارة به. وبصفة خاصَّة كان من أسباب حنقي سير هؤلاء المارة بخفَّة ورشاقة وكأنهم لا يقترفون الذنوب. أخذت أسير ناحية الشَّمال بلا نهاية وسط إضاءة أعمدة إنارة الطريق المُختلطة بلمبات النيون الكهربائية المُعتمة. وأثناء ذلك، وقعت عيني على مكتبة لبيع الكتب تتراصُّ عندها أعداد كبيرة من المجلات. دخلتُ تلك المكتبة، ونظرتُ عاليًا إلى عدد من رفوف الكتب وأنا شارد الذهن. ثم بعد ذلك قررت أن أُلقي نظرة على كتاب بعنوان «الأساطير اليونانية». كان كتاب «الأساطير اليونانية» ذو الغلاف الأصفر هذا على ما يبدو مُخصصًا للأطفال، ولكن السطر الذي قرأته فيه صُدفة أصابني في مقتل.

«حتى زيوس أعظم الآلهة، لا يقدر على إله الانتقام …»

رجعتُ للسير وسط زحام المارَّة تاركًا تلك المكتبة خلفي. وأنا أشعر بإله الانتقام يسير خلفي مُحاولًا استهدافي بلا انقطاع كلما انعطفتُ في طريق …

(٣) ليل

عثرتُ على كتاب ستريندبرغ «الأسطورة» في رفوف الكتب بالطابق الثاني من مكتبة ماروزِن، وألقيت وتصفَّحت منه صفحتَين أو ثلاثة، وكان المكتوب في ذلك الكتاب تجارب لا تختلف كثيرًا عن تجارب حياتي. ليس هذا فقط، بل كان الغلاف باللون الأصفر. أرجعت «الأسطورة» إلى رف الكتب، وبعد ذلك سحبتُ كتابًا سميكًا وقع تحت يدي صدفة تقريبًا، ولكن كان رسم في ذلك الكتاب تصطفُّ به تروس لها عيون وأنوف لا تختلف عنَّا نحن البشر. (كان كتابًا يُجمِّع اللوحاتِ التي رسمها المرضى النفسيُّون في ألمانيا) فأحسستُ في لحظة بحدوث تمرُّد نفسي داخل الاكتئاب، ورحتُ أفتح كتبًا عديدة مثل مدمن القمار الذي سيطر عليه اليأس، ولكن لسبب مجهول اختبأت بضع إبر بالضرورة في كل كتاب بين الفصول أو بين الرسوم. كل كتاب؟ … حتى في الوقت الذي أمسكتُ فيه برواية «مدام بوفاري» التي قرأتها مرات ومرات، أحسستُ في النهاية أنني لستُ إلا مسيو بوفاري من الطبقة البورجوازية.

ويبدو أنه لم يبقَ زبائن في الطابق الثاني من ماروزِن إلا أنا فقط، مع اقتراب غروب الشمس تنقلتُ تائهًا بين رفوف الكتب تحت إضاءة المصباح الكهربائي. وبعد ذلك توقفت قدماي أمام رفٍّ يعلوه لافتة كُتب عليها «الأديان»، فتصفحتُ كتابًا بغلاف أخضر. في ذلك الكتاب تراصَّت كلمات في الفهرس أن الفصل الفلاني هو «أربعة أعداء مخيفون، الشك والخوف والكِبر والشهوة الحسية.» وبمجرَّد أن رأيت تلك الكلمات، أحسست أن التمرد النفسي ازداد أكثر. لم تكن تلك الأشياء التي وصفت بأنها أعداء، إلا أسماء مختلفة للحساسية والعقلانية بالنسبة لي. ولكنَّني لم أستطع في النهاية احتمال أن علم النفس التقليدي يسبِّب لي التعاسة مثله مثل علم النفس الحديث. فجأة تذكرتُ وأنا أمسك ذلك الكتاب اسم «فتى شولينغ» الذي أستخدمُه اسمًا للكتابة. إن هذا الاسم يُشير إلى حكاية شاب صيني في كتاب «هان فيي زي» ذهب لكي يتعلَّم طريقة المشي في مدينة هاندان، فنسي طريقة مشي مدينته الأصلية شولينغ قبل أن يتعلَّم طريقة مشي مدينة هاندان، مما أدَّى به أن يرجع إلى مسقط رأسه زحفًا على أربع. ولا شكَّ أنني أُعَد حاليًّا في عين أي شخص «فتى شولينغ»،٣ ولكن استخدامي أنا الذي لم أسقط بعد في الجحيم لهذا الاسم كاسم مُستعار للكتابة … دخلت غرفة عرض البوسترات التي كانت في الجهة المقابلة تمامًا وأنا أحاول بجد دفع الأوهام بعيدًا خلف رفوف الكتب الكبيرة، ولكن حتى هناك وجدتُ لوحة تُصوِّر فارسًا يبدو أنه القديس مارجرجس يطعن تنِّينًا له أجنحة فيقتله. بل كان ذلك الفارس يُظهر تحت الخوذة جزءًا من وجهه العبوس الذي يُشبه وجه أحد أعدائي. تذكرتُ مرة أخرى قصة «فن ذبح التنين»٤ في كتاب «هان فيي زي»، فغادرت المكان هابطًا درجات السلم عريضة الاتساع بدون أن أمر من خلال قاعة العرض.

ظللتُ أفكِّر في كلمة «ذبح التنين» وأنا أسير في شارع نيهونباشي الذي أتى عليه الليل بالفعل. ولا شك أن تلك هي الكلمة المنقوشة على محبرتي الخاصة. لقد أهداني رجل أعمال شاب تلك المحبرة. ورجل الأعمال هذا أعلن أخيرًا إفلاسه في نهاية العام الماضي بعد فشله في عدد من المشاريع التجارية. رفعتُ عيني إلى السماء العالية، وقررتُ أن أفكر في مدى صغر الكرة الأرضية هذه — وبالتالي مدى صغري أنا نفسي — وسط أضواء تلك النجوم التي لا حصر لها، ولكن الجو الذي كان صحوًا في النهار أمسى في غفلة من الزمن غائمًا تمامًا. أحسستُ فجأةً أن شيئًا ما يَحمل تجاهي عداءً، ولذا قررتُ أن ألجأ إلى مقهى على الجانب الآخر من سكة القطار الحديدية.

لا شك أن ذلك كان «لجوءًا». فلقد أحسستُ في حائط ذلك المقهى ورديِّ اللون ما يشبه السلام النفسي، وأخيرًا استطعت الجلوس بسهولة أمام الطاولة التي في عمق المقهى. ومن حسن الحظ أنه لم يكن في تلك المقهى إلا شخصين أو ثلاثة أشخاص فقط. شربتُ كوبًا من الكاكاو ودخنتُ سيجارة كالمعتاد. ارتفع دخان السيجارة على الحائط الوردي فجعله الحائط دخانًا بلون أرزق خفيف. أمتعني ذلك التوافق اللوني اللطيف أيضًا. لكن بعد مرور فترة، عثرت على لوحة بورتريه لنابليون معلَّقة على الجدار الذي على يساري، فبدأت أشعر بالقلق مجددًا. في الوقت الذي كان فيه نابليون ما زال طالبًا، كتب في آخر صفحة من كراس الجيوغرافيا: «جزيرة سانت هيلينا جزيرة صغيرة.» وربما كان ذلك مجرد مصادفة كما نقول، ولكن من المؤكد أن ذلك قد أحدث الرعب حتى في قلب نابليون نفسه.

بدأتُ أفكر في مؤلفاتي وأنا أحملق في نابليون. وأول ما طرأ على ذهني الحكم والأمثال الواردة في «كلمات القزم». (وبخاصة الكلمة التي تقول: «إنَّ الحياة جحيم أكثر من الجحيم ذاته».) وبعد ذلك قدر الرسام الذي يُدعى يوشيهِديه بطل قصتي «صور معاناة الجحيم». وبعد ذلك … وأنا أنفُث دخان التبغ، ومن أجل أن أهرب من تلك الذكريات، بدأت أدير نظري داخل المقهى. لقد لجأتُ إلى هذا المكان قبل خمس دقائق فقط، ولكن خلال وقت قصير جدًّا تبدل حال المقهى تمامًا. وما أشعرني بعدم الارتياح بصفة خاصة هو عدم توافُق المقاعد والمناضد الخشبية من الماهوجني مع الحائط ذي اللون الوردي مطلقًا. خفتُ من أن أسقط مرة ثانية في عذاب لا يراه أحد غيري، فأسرعتُ بإلقاء عملة فضية على الطاولة وحاولت الخروج من المقهى.

«أنت! انتظر! المطلوب عشرون سنًّا …»

كان ما ألقيتُه عملة نحاسية.٥

أثناء سيري وحيدًا وأنا أشعر بالخزي، تذكرتُ فجأة بيتي داخل غابات الصنوبر. لم يكن ذلك بيت والديَّ بالتبنِّي في إحدى ضواحي طوكيو، ولكنه البيت الذي استأجرته من أجل أن أكون أنا مركز البيت والأسرة. لقد عشتُ عشر سنوات تقريبًا في ذلك البيت. ولكنني بقرار متهوِّر في ظروف خاصة بدأت الإقامة مع والديَّ بالتبنِّي. وفي نفس الوقت بدأت التحوُّل إلى عبد، إلى طاغية إلى إنسان أناني ضعيف.

رجعت إلى الفندق في الساعة العاشرة تقريبًا. أتيت سيرًا على الأقدام في طريق طويل؛ لذا فقدتُ قدرتي على العودة إلى الغرفة، فجلست على مقعد أمام المدفأة المشتعلة بنار جذوع أشجار مستديرة وسميكة. ثم بدأتُ أفكر في الرواية الطويلة التي كنتُ أخطِّط لكتابتها. بطل الرواية هو الشعب الياباني منذ عصر سويكو٦ إلى عصر ميجي،٧ وتَنقسِم إلى بضع وثلاثين فصلًا تقريبًا تحكي في قصص قصيرة تلك العصور بتسلسُلها التاريخي. تذكرتُ فجأة وأنا أنظر إلى رذاذ النيران المُتطاير، التمثال البرونزي أمام القصر الإمبراطوري. يرتدي ذلك التمثال درعًا وخوذة، ويَعتلي فوق الجواد مرتفعًا وكأنه الإخلاص ذاته، ولكن كان العدو!

«كذب!»

انزلقتُ ثانية من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب جدًّا. ولحسن الحظ جاء في تلك اللحظة نحَّات أكبر منِّي سنًّا. كان اليوم أيضًا يَرتدي ملابس من القطيفة، ويجعل لحيتَه على هيئة عثنون قصير. نهضتُ من على المقعد، ومسكتُ يده التي مدها للتحية. (لم تكن تلك عادتي، بل لقد اتبعتُ عادته هو الذي عاش نصف حياته في باريس وبرلين)، ولكن كان من الغريب أن يده كانت رطبة مثل جلد الزواحف.

«هل أنت تقيم الليلة هنا؟»

«أجل …»

«من أجل العمل؟»

«أجل، أقوم أيضًا بالعمل.»

ظل ينظر طويلًا إلى وجهي. وشعرتُ داخل عينَيه بملامح قريبة من ملامح المحقق الجنائي.

«ما رأيك أن تحضر لغُرفتي نتحدث معًا؟»

وجهتُ إليه الحديث بنبرة تَحدٍّ (مع أنني أفتقر لمثل تلك الشجاعة، ولكن إحدى عاداتي السيئة هي أخذ موقف التحدِّي على الفور)، وعندها رد مبتسمًا بسؤال: «أين؟ غرفتك تلك؟»

سرنا كتفًا بكتف وكأننا صديقان حميمان وعدنا إلى غرفتي وسط الأجانب الذين يتحاورون معًا في هدوء، وعندما وصل إلى غرفتي، جلس معطيًا ظهره للمرآة. ثم بعد ذلك بدأنا نتحدث في العديد من الأمور. العديد من الأمور؟ ولكن كان أغلب الحديث عن النساء. لا شك أنني أحد الذين سقطوا في الجحيم بسبب ما ارتكبتُ من ذنوب. ولكن، جعلتْني تلك الكمية من الأحاديث الشريرة في النهاية أصاب بالاكتئاب. لقد بتُّ لفترة قصيرة أنتمي لطائفة المتطهرين البيورتانيين، وبدأت أسخر من أولاءِ النسوة.

«انظر إلى شفتي الفتاة «س». إن ذلك بسبب تقبيل الكثير من الرجال …»

أغلقتُ شفتي فجأة، وتأملتُ ظهره في المرآة. كان يضع مرهمًا أصفر اللون أسفل أذنه تمامًا.

«بسبب تقبيل الكثير من الرجال؟»

«أنا أعتقد أنها من ذلك النوع.»

أومأ الرجل مبتسمًا. وأحسستُ أنه يُلاحظني في داخله بلا انقطاع من أجل أن يتعرف على أسراري، ولكن كما هو متوقع لم يبتعد حديثنا عن المرأة. وأحسستُ أنا بالخزي من ضعفي النفسي أكثر من كوني كرهته، وأخيرًا لم أتحمل إلا أن أشعر بالاكتئاب.

وأخيرًا بعد أن غادر ظللتُ كما أنا مُستلقيًا على السرير، وبدأت أقرأ رواية «ممر في الليل المظلم». كان الصراع النفسي الذي يعانيه البطل مؤلمًا لي بشدة من جوانبه جميعًا، وعندما أقارن نفسي بذلك البطل، أحسَّ إلى أيِّ مدى أنا أحمق، وذرفت دمع العين في آخر الأمر. وفي نفس الوقت ألقت الدموع على روحي سلامًا وسكينة، ولكن لم يستمر ذلك طويلًا. بدأت عيني اليمنى تشعر بالتروس الشفافة مجددًا كانت التروس كما هو متوقع تزيد من عددها مع الدوران. خفتُ من أن يبدأ الصداع، فتركت الكتاب عند الوسادة كما هو، وشربت مُنوِّم فيرونال ٠٫٨ جرام، وقررت النوم نومًا عميقًا أيًّا كان الأمر.

ولكنني في الحلم كنتُ أتأمل مسبحًا. كان عدد من الأطفال ذكورًا وإناثًا يسبحون ويغطسون في ذلك المسبح. مشيتُ إلى غابة الصنوبر التي تقع على الجهة المقابلة للمسبح. وعندها نادى عليَّ أحدهم من الخلف قائلًا: «أبي!» فالتفتُّ للخلف، ووجدتُ زوجتي تقف أمام المسبح. وشعرتُ في نفس الوقت بندمٍ شديد.

«ألا تأخذ المنشفة؟»

«لا حاجة بي إليها. انتبهي جيدًا للأطفال.»

عدتُ مرة أخرى للمشي، ولكن فجأة تغير المكان الذي أمشي عليه إلى رصيف محطة. كان رصيفًا يحيطه سور من الأشجار الفارعةِ ويبدو أنها محطة في الريف. كان يقف هناك «ﻫ» الطالب الجامعي وامرأة أكبر سنًّا، وعندما رأى الاثنان وجهي، أقبلا تجاهي وتحدثا معي في وقت واحد.

«كان حريقًا هائلًا.»

«لقد هربتُ أنا أيضًا بأعجوبة.»

شعرتُ أن تلك السيدة الأكبر سنًّا لها أثر في ذاكرتي. ليس هذا فقط، بل شعرتُ كذلك بإثارة ممتعة من الحديث معها. وعندها جاء القطار والدخان يرتفع منه ووقف بجانب الرصيف في هدوء. ركبتُ ذلك القطار بمُفردي، ومشيتُ في ممر عربات النوم التي يتدلى قماش أبيض على جانبيها. ثم رأيت في إحدى غرف النوم جسد امرأة قريبة الشبه بالمومياء ترقد نائمة على جانبها عارية ووجهها ناحيتي. وما من شك أنها أيضًا إلهة الانتقام … ابنة المجنون …

تركت السرير سريعًا دون وعي بمجرد أن فتحتُ عيني. كانت غرفتي بلا تغيير مضاءة بنور المصباح الكهربائي. ولكنني كنتُ أسمع رفرفة أجنحة وخشخشة فأر في مكان ما. فتحتُ الباب وخرجتُ للمَمر، وذهبتُ سريعًا إلى مكان المدفأة السابقة. ثم وأنا جالس على المقعد، بدأتُ أتأمَّل الدخان المُضطرب. وفي تلك اللحظة جاء عامل يرتدي ملابس بيضاء لكي يزود المدفأة بالحطب.

«كم الساعة الآن؟»

«الثالثة والنصف تقريبًا.»

ولكن على الجهة الأخرى من بهو الاستقبال ثمة امرأة أمريكية على ما يبدو مستمرة في قراءة كتاب، وعلى ما يبدو لي من بعيد، لا شك أن تلك المرأة ترتدي رداءً أخضر. شعرت بالنجاة إلى حدٍّ ما، فقررتُ الانتظار هنا حتى شروق الشمس. مثل العجوز الذي ينتظر الموت في هدوء بعد تحمُّله لعذاب المرض.

(٤) ليس بعد؟

انتهيتُ أخيرًا من كتابة القصة القصيرة السابقة الذكر في غرفة الفندق، وقررتُ إرسالها إلى إحدى المجلات، في الأصل أجرة تلك القصة لا تكفي تكلفة إقامة أسبوع واحد بالفندق، ولكنني رضيت عن نفسي لانتهائي من العمل، وقررتُ الذهاب إلى إحدى مكتبات بيع الكتب في حي غينزا من أجل البحث على منشط للذهن.

يتدحرج ورق القمامة فوق الأسفلت التي تنصبُّ عليه أشعة شمس الشتاء، ثم من خلال انعكاس الأشعة على ورق القمامة بدت جميعها تشبه الورود. أحسستُ بشعور مريح إلى حدٍّ ما وأنا أدخل مكتبة بيع الكتب تلك، فكان المحلُّ أيضًا أجمل مما هو عليه في المعتاد، ولكن ليس معنى ذلك نفي قلقي بشأن فتاة صغيرة تضع على عينيها نظارة طبية تتحدث مع البائع. ولكنني تذكرتُ زهور الورد الورقية التي كانت واقعة في الطريق، وقررت شراء «حوارات أناتولي فرانس» وكتاب «رسائل ميريميه».

حملتُ الكتابين، ودخلتُ أحد المقاهي، وقررت أن أجلس في آخر طاولة داخلية في المقهى أنتظر القهوة. يجلس أمامي رجل وامرأة يبدو أنهما أم وابنها، كان الابن أصغر مني عمرًا ولكنه كان يُشبهني تمامًا، ليس ذلك فقط بل كان الاثنان يتحدثان معًا ووجهاهما قريبان كما لو كانا حبيبَين، وأثناء ما كنتُ أتأملهما بدأت أشعر أنني أعي في داخلي أن ذلك الابن يعطي اكتفاءً جنسيًّا لأمه، ولا شك أن ذلك كان أحد أمثلة التجاذب الاختياري التي أتذكر منها الكثير، وفي نفس الوقت، لا شكَّ أنها أحد أمثلة الإرادة التي تحول هذه الدنيا إلى جحيم. ولكن … خفتُ من أن أسقط في جحيم المعاناة، وكان ذلك لحسن الحظ وقت وصول القهوة، فبدأتُ في قراءة كتاب «رسائل ميريميه»، لمعت حِكَم حادة داخل رسائله مثلما يحدث في رواياته، وبدأت تلك الحِكَم تجعل مشاعري تتصلَّب سريعًا. (كانت سهولة تأثري تلك إحدى نقاط ضعفي) فانتهيتُ من شرب كوب القهوة، وكان شعوري «فليأت ما يأتي» وتركتُ المقهى على عجل.

مشيتُ في الطريق وأنا أشاهد نوافذ العرض المتنوعة، كانت نافذة عرض محل إطارات اللوحات تتزيَّن بلوحة بورتريه لبيتهوفن، تبدو اللوحة وكأنها فعلًا لذلك العبقري الذي يرفع شعر رأسه لأعلى، ولم أكن أحتمل إلا أن أرى بيتهوفن ذلك هزليًّا مضحكًا …

وعندها قابلتُ فجأة صديقًا قديمًا من أيام المدرسة الثانوية. كان ذلك الأستاذ الجامعي في تخصُّص الكيمياء التطبيقية يحمل حقيبة كبيرة مطوية للداخل وعينٌ واحدة من عينَيه شديدة الحمرة تكاد الدماء تنزف منها.

«ما الذي حدث لعينك؟»

«هذه؟ مجرد التهاب باطن الجفن.»

ثم تذكرتُ فجأة أنني منذ أربع أو خمس عشر سنة كلما أحسستُ بتجاذب اختياري كانت عيني تُصاب بالتهاب باطن الجفن مثل عينه تلك، ولكنني لم أقل شيئًا. خبط الصديق على كتفي وبدأ يُحدثني عن أصدقائنا المشتركين، ثم صحبني إلى مقهى وهو مستمر في الحديث.

أشعل الصديق سيجارته ثم تحدث إليَّ عبر الطاولة المصنوعة من الرخام قائلًا: «لم نتقابل منذ فترة طويلة، أليس كذلك؟ ربما منذ حفل وضع حجر أساس اللوح التذكاري للفيلسوف زهو زيهيو.»

«حقًّا، منذ زهو …»

لسبب ما لم أستطع نطق اسم زهو زيهيو نطقًا صحيحًا، لقد كان النطق الياباني للاسم سببًا في إحساسي بالقلق إلى حدٍّ ما، ولكنه تحدث بلا مبالاة في العديد من الأمور، تحدث عن الروائي الذي يُسمَّى «ك»، وعن الكلب الذي اشتراه من نوع بولدوغ، وعن غاز اللويسايت السام.

«على ما سمعتُ أنك أصبحت لا تكتب مطلقًا، لقد قرأت لك «قائمة الموتى»… هل تلك القصة من السيرة الذاتية لك؟»

«أجل، إنها من سيرتي الذاتية.»

«لقد كنت تبدو مريضًا نوعًا ما، هل تحسَّنت صحتك الآن؟»

«لا تغيير، ما زلتُ أتناول الأدوية على الدوام.»

«أنا كذلك أعاني من الأرق مؤخرًا.»

«أنا كذلك؟ لِمَ تقول أنت: أنا كذلك؟»

«ألستَ تقول إنك تعاني من الأرق؟ إن الأرق خطير …»

برزت على عينه اليسرى شديدة الحمرة فقط ما يُشبه الابتسامة، قبل أن أجيب عليه، بدأتُ الإحساس أنني لا أستطيع نطق كلمة «أرق» نطقًا دقيقًا.

«إنه الأمر الطبيعي لابن مجنونة.»

لم يمرَّ عشر دقائق إلا وكنت أمشي وحيدًا في الطريق مرة أخرى، ثم بدأت أرى أوراق القمامة التي سقطت فوق الأسفلت على أشكال أوجهنا نحن البشر، وعندها مرت بي من الجهة الأخرى امرأة بشعر قصير. كانت تبدو جميلة من بعيد، ولكن عندما أتت أمام عيني ونظرتُ إليها، كان وجهها دميمًا فوق أنه مليء بالتجاعيد الصغيرة. ليس هذا فقط بل كانت تبدو حُبلى. أشحتُ بوجهي عنها تلقائيًّا، وانعطفتُ في حارة جانبية واسعة، ولكن أثناء سيري لبعض الوقت، بدأتُ أشعر بألم البواسير. كان ذلك المرض لا يُمكن شفاؤه بالنسبة لي إلا من خلال الجلوس في حمَّام من الماء الساخن.

«الجلوس في حمام؟ لقد كان بيتهوفن كذلك يُعالج من خلال الجلوس في حمَّام …»

على الفور بدأتْ رائحة الكبريت المستخدم في ذلك الحمام تهجم في أنفي، ولكن بالطبع لم أرَ كبريتًا في أي مكان من الطريق، اجتهدتُ في المشي في طريقي وأنا أتذكر مرة أخرى أوراق القمامة التي على هيئة ورود.

بعد مرور ساعة واحدة فقط، وأنا مُنعزل تمامًا في غرفتي، جالسًا أمام المكتب أسفل النافذة، بدأتُ في كتابة قصة جديدة. جرى القلم على ورق الكتابة بسرعة مُتناهية لدرجة أصابتني أنا نفسي بالدهشة، ولكن توقَّفت تلك الحالة بعد مرور ساعتَين أو ثلاث ساعات من خلال شخص لا تراه عيناي، فاضطررتُ إلى ترك المكتب، وأخذتُ أدور في أرجاء الغرفة، حتى في هذا الوقت تكون أوهامي المُبالَغ فيها في أشد حالاتها، وبتُّ أشعر وسط الفرحة البوهيمية أنني مجرَّد رُوح طُردت من قلمي، ليس لي أبوان ولا زوجة ولا أطفال.

ولكنَّني كنتُ مُضطرًّا بعد أربع أو خمس دقائق أن أتوجه للهاتف والتحدث فيه، كان الهاتف مهما كررت الرد عدة مرات، لا يصل إليَّ إلا فقط كلمة مبهمة، ولكن على أي حال لا ريب أنني كنتُ أسمع تلك الكلمة على أنها «مول»، وفي النهاية ابتعدتُ عن الهاتف، وبدأت أمشي داخل الغرفة مجددًا، ولكنني كنتُ منشغل البال بكلمة «مول» تلك.

«مول …» Mole.٨
كانت مول كلمة إنجليزية، ولم أكن مُستريحًا لتتابع الأفكار هذا، ولكنَّني بعد ثانيتَين أو ثلاث ثوانٍ، صححتُ هجاء كلمة Mole إلى كلمة la mort، وعلى الفور جعلتني كلمة لامورت — التي تعني الموت باللغة الفرنسية — أكثر قلقًا. على ما يبدو أن الموت يَقترب منِّي مثلما اقترب من زوج أختي، ولكنني شعرت وسط القلق ببعض الفُكاهة. ليس هذا فقط، بل لقد ابتسمَت في نهاية الأمر. لِمَ تَحدُث مثل هذه الفُكاهة؟ أنا شخصيًّا لا أدري السبب، وقفتُ أمام المرآة بعد غياب فترة طويلة، وواجهتُ انعكاس صورتي فيها بجدية، وبالطبع كانت صورتي في المرآة تبتسم، وأثناء تحديقي في صورتي في المرآة تذكرت «القرين» الثاني لي. لحسن الحظ لم يسبق لي أن رأيتُ قريني هذا — وهو ما يطلق عليه باللغة الألمانية Doppelgaenger — من قبل، ولكن لقد رأت زوجة صديقي «ك» الذي أصبح مُمثلًا في الأفلام الأمريكية، «قريني» في ممر المسرح الإمبراطوري الياباني. (أتذكر أنني أصبتُ بالارتباك عندما قالت زوجة صديقي «ك» لي فجأة: لماذا لم تُلقِ عليَّ التحية في ذلك الوقت؟ ثم لمح مترجمٌ بقدم واحدة رحل عن عالمنا «قريني» في محل لبيع السجائر في غينزا أيضًا، ربما يأتي الموت لقريني بدلًا من أن يأتيني، ولكن حتى وإن أتى لي أنا … أدرتُ ظهري للمرآة وعدتُ إلى مكتبي أمام النافذة.

تُطلُّ المائدة المربعة المحاطة بحجر الطفَّة على بِركة وحشائش ذابلة، تذكرتُ وأنا أتأمَّل منظر تلك الحديقة عددًا من الكراريس والمسرحيات غير المُكتمِلة التي أحرقتها داخل غابة الصنوبر البعيدة. أمسكتُ القلم ثم بدأت في كتابة قصة جديدة.

(٥) ضوء أحمر

بدأت أشعة الشمس تعذبني، فأدليتُ الستارة أمام النافذة في النهار مثل حيوان الخُلد في الواقع، وأضأتُ المصباح الكهربائي في النهار وظللتُ أكتب القصة السابقة بجد واجتهاد. ثم بعد ذلك عندما تعبتُ من العمل، فتحتُ كتاب تاريخ الأدب الإنجليزي تأليف إيبوليت تين، وتصفحتُ بعيني سير حياة الشعراء الإنجليز، كانوا تُعساء كلهم، حتى عمالقة عصر الملكة إليزابيث، حتى بن جونسون الذي كان عالم جيله، لقد سقط في مرض الوهن الذهني لدرجة أنه رأى بداية معركة بين جيش روما وجيش قرطاج فوق أصبع إبهام قدمه، لم أستطع إلا أن أشعر بالفرحة العارمة المُمتلئة بنية شريرة لا ترحم تجاه تعاسة هؤلاء الشعراء.

في ليلة ذات رياح شرقية شديدة (كان ذلك علامة جيدة بالنسبة لي)، خرجت إلى الطريق مخترقًا غرفة البدروم، وقررتُ أن أزور صديقًا عجوزًا. يعمل ذلك العجوز خادمًا لشركة تطبع الكتاب المقدس مع اجتهاده في القراءة والصلاة وحيدًا في غرفة عُليَّة بتلك الشركة، تبادلنا الحديث في أمور عديدة تحت الصليب المعلق على الحائط ونحن ندفِّئ أيادينا على مدفأة الفحم. لِمَ جُنَّت أمي؟ لِمَ فشل أبي في تجارته؟ لِمَ عُوقِبْتُ أنا؟ ابتسم ذلك الرجل الذي يعرف كل تلك الأسرار، بريبة ابتسامة مهيبة، وظل يتحاور معي طويلًا. ليس ذلك فقط، بل كان أحيانًا يرسم رسمًا كاريكاتوريًّا للحياة بكلمات قصيرة، ولم يكن يمكن ألا أُبجِّل هذا الرجل الذي يعتزل الحياة في تلك العُليَّة. ولكنني اكتشفتُ أثناء حديثي معه أنه كذلك يتحرَّك من أجل التجاذب الاختياري.

«إن ابنة محل الزهور والنباتات تلك، جميلة الوجه، حسنة المعشر … وتعاملني بحنان.»

«كم عمرها؟»

«ستبلغ الثامنة عشرة من عمرها هذا العام.»

ربما كان ذلك بالنسبة له ما يشبه الحب الأبوي تجاهها. ولكنني لم أستطع إلا أن أشعر بالشغف في عينيه، ليس هذا فقط، بل لقد ظهر منظر وحش وحيد القرن فوق قشرة التفاحة الذابلة صفراء اللون التي قدَّمها لي. (كنتُ أكتشف مرات عديدة حيوانات أسطورية في أسطح الأخشاب وشروخ أكواب القهوة) ولا شك أن الوحش وحيد القرن ذلك هو حيوان الكيلين الأسطوري. تذكرتُ أن ناقدًا يكنُّ لي العداوة يطلق عليَّ لقب «طفل الكيلين في العقد الأول من القرن العشرين»، فأحسستُ أن غرفة السقف هذه التي عُلق عليها الصليب ليست منطقة آمنة.

«كيف حالك مؤخرًا؟»

«بدون تغيير، أعصابي متوترة ومشدودة.»

«إن تلك الحالة لا يفلح معها حتى الدواء، أليس لديك نية أن تُضحيَ مؤمنًا؟»

«إن كان باستطاعتي ذلك …»

«ما من صعوبة في الأمر، مجرَّد فقط أن تؤمن بالرب، وتؤمن بأن المسيح ابن الرب، وتؤمن بالمعجزات التي فعلها المسيح …»

«إنني يمكنني الإيمان بالشيطان؟ …»

«إذن لِمَ لا تؤمن بالرب؟ أليس من المحال إنْ آمنتَ بالظل، ألا تؤمن بالنور المسبب له؟»

«ولكنَّ ثمة ظلامًا بدون نور؟»

«وما ذلك الظلام الذي بدون نور؟»

لم يكن بوسعي سوى الصمت، لقد كان هو الآخر يسير مثلي في الظلام، ولكنه كان يؤمن بوجود نور طالَما وُجِد الظلام. كان الاختلاف بين منطقيْنا هو فقط تلك النقطة، ولكن لا شك أنني كنت غير قادر على تخطِّي هذه الفجوة بيننا على الأقل.

«ولكن النور موجود بالضرورة، والدليل على ذلك هو وجود المعجزات … إنَّ المعجزات تقع أحيانًا حتى في الوقت الحالي.»

«إنها معجزات يفعل الشيطان …»

«لِمَ تذكر الشيطان مرة أخرى؟»

أحسستُ بإغراء الرغبة في التحدث إليه بتجاربي الشخصية على مدى السنتين الماضيتين، ولكن لم أحتمل الخوف من أن يُبلغ زوجتي بذلك، فيكون مصيري أنا أيضًا الإيداع في مستشفى الأمراض العقلية مثل أمي.

«ما هذا الذي هناك؟»

استدار ذلك العجوز ذو الجسد المتين للخلف تجاه رفوف الكتب القديمة، وأظهر تعبير وجه يشبه إله الرعي.

«إنها الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، هل قرأتَ «الجريمة والعقاب»؟»

أنا بالطبع كنتُ مُعتادًا منذ عشر سنوات مضَت على قراءة أربعة أو خمسة أعمال لدوستويفسكي، ولكنني تأثرتُ بكلمة «الجريمة والعقاب» التي قالها صدفة (؟)،٩ وبعد أن استعرت منه ذلك الكتاب، قررتُ العودة إلى فندقي السابق. كنتُ كما هو متوقَّع لا أرتاح للطريق المزدحم بالمارة الذي يتألَّق تحت الأضواء الكهربائية، وخاصة أنني بلا شك كنتُ لا أحتمل بتاتًا لقاء أحد معارفي، لذا كنتُ شديد الحرص على اختيار الطرق المُظلمة وأمشي فيها كاللصوص.

ولكن بعد فترة من الوقت، بدأتُ في آخر الأمر أشعر بألم في معدتي، ولن يُوقف ذلك الألم إلا كأس من الويسكي. عثرت على إحدى الحانات، وحاولت أن أدفع بابها لدخولها، ولكن كان دخان السجائر داخل الحانة الضيقة كثيفًا، ويقف وسطه ما يبدو أنهم فنانون شبان، يشربون الخمر، ليس هذا فقط، بل كان في المنتصَف منهم فتاة بشعر يُغطي الأذنين تعزف على آلة الماندرين في حماس. أحسستُ بالارتباك على الفور، فرجعتُ للخلف دون أن أدخل من الباب، وعندها فجأة اكتشفتُ شيئًا يهتز على يمين ويسار ظلي، بل كان ضوءًا أحمرَ مقززًا ينعكس عليَّ. توقفتُ في الطريق، ولكن استمر ظلي يتحرَّك يمينًا ويسارًا بلا توقف. التفتُّ للخلف بخوف، وأخيرًا اكتشفتُ قنديلًا زجاجيًّا معلقًا على إفريز الحانة، كان القنديل يهتز في الهواء ببطء بسبب شدة الرياح.

دخلت بعد ذلك إلى مطعم يقع في قبو تحت الأرض بإحدى البنايات، توقفتُ أمام بار ذلك المطعم وطلبتُ كأسًا من الويسكي.

«هل تريد ويسكي؟ ليس لدينا إلا نوع Black and White فقط …»

صببتُ الويسكي في ماء الصودا، وبدأت أشرب جرعة بعد أخرى في هدوء. وبجواري رجلان في الثلاثينيات تقريبًا من عمرهما يبدو أنهما صحفيان يتحدثان في أمر ما بصوت هامس، ليس هذا فقط، بل كانا يستخدمان اللغة الفرنسية، كنتُ وأنا أولِّي لهما ظهري، أشعر بكل جسدي بنظراتهما تجاهي، وكان الجسد في الواقع يستجيب لتلك النظرات وكأنها موجات كهربائية، لقد كان الاثنان بالتأكيد يذكران اسمي ويتحدثان عني.

Bien … rès mauvais … pourquoi?
Pourquoi? … le diable est mort!
Oui, oui … d’enfer.١٠

ألقيتُ بعملة فضية (كانت تلك هي آخر عملة فضية أملكها)، وهربتُ من ذلك القبو إلى الخارج، أصلحت رياح الطريق الذي تهب فيه نسائم الليل العليلة من أعصابي المشدودة بعد أن خفت حدَّة ألم معدتي، تذكرتُ راسكولينكوف، فشعرت برغبة في الاعتراف بكل شيء، ولكن، كان ذلك لا ريب سيخلق مآسيَ للكثير من الناس بخلافي أنا شخصيًّا، كلا، بل وبخلاف عائلتي أيضًا. ليس هذا فقط، بل ثمة شك في تلك الرغبة حقيقة ذاتها أهي حقيقية أم لا؟ لو كانت حالتي النفسية فقط جيدة مثل الناس العاديين … ولكن كان يجب عليَّ أن أذهب إلى مكان ما من أجل ذلك، إلى مدريد أو إلى ريو أو إلى سمرقند.

وأثناء ذلك أصابتني لافتة صغيرة بيضاء متدلية من سقف أحد المحلات بالقلق المفاجئ، كانت بها رسم لعلامة تجارية عبارة عن إطار سيارة به أجنحة، ذكرتني تلك العلامة التجارية باليوناني القديم الذي اعتمد على جناح صناعي، ففي نهاية ارتفاعه في الهواء احترق جناحاه بأشعة الشمس وفي النهاية مات غرقًا في البحر، إلى مدريد أو إلى ريو أو إلى سمرقند … لم أستطع إلا أن أضحك ساخرًا من أحلامي تلك، وفي نفس الوقت، لم أستطع إلا أن أفكِّر أيضًا في أوريستيس الذي طاردتْه آلهة الانتقام.

مشيتُ في الطريق المظلم بمُحاذاة قناة مائية، وأثناء ذلك تذكرتُ بيت والديَّ بالتبني الذي يقع في إحدى الضواحي. لا شك أن والديَّ بالتبني يعيشان وهما ينتظران عودتي للبيت بالتأكيد، وعلى الأرجح أطفالي كذلك … ولكنني لا أستطيع إلا أن أخاف من قوة ذاتية، تقيدني إن عدتُ إلى هناك، كان يرسو في القناة مركب عريض دائري الشكل فوق موجات هادئة على سطح الماء، يتسرب شعاع ضوء خافت من قاع المركب، لا ريب أن ذلك المركب تعيش عائلة من الإناث والذكور يعيشون وهم يكرهون بعضهم البعض من أجل أن يحبَّ بعضهم البعض … ولكنَّني استدعيتُ روح القتال مرة ثانية، وقررتُ العودة إلى الفندق وأنا أشعر بسكرة الويسكي.

جلست على المكتب مجددًا، وواصلتُ قراءة «رسائل ميريميه»، كان ذلك يَمنحني في غفلة مني قوة الحياة، ولكن عندما علمتُ أن ميريميه أمسى بروتستانتيًّا في أواخر عمره، بدأتُ فجأة أشعر بوجه ميريميه القابع خلف ظل قناع، كان هو أيضًا وكما هو متوقع إنسان يسير وسط الظلام مثلنا كلنا، وسط الظلام؟ … وهكذا بدأت رواية «رحلة في ظلام الليل» تتحوَّل إلى كتاب مرعب بالنسبة لي، ثم بدأت قراءة كتاب «حوارات أناتولي فرانس» من أجل أن أنسى الاكتئاب، ولكن حتى إله الرعي في العصر الحديث هذا، كان يحمل الصليب.

بعد مرور ساعة واحدة فقط، جاءني عامل الفندق لكي يسلم لي حزمة من الرسائل البريدية، كانت إحدى هذه الرسائل من مكتبة في زيورخ تطلب مني كتابة ورقة بحث عن «المرأة اليابانية في العصر الحديث». تُرى لِمَ طلبوا مني أنا خاصة أن أكتب مثل هذا البحث؟ ليس هذا فقط بل لقد كُتبت حاشية بخط اليد أسفل الرسالة التي باللغة الإنجليزية، تقول: «سوف نرضى حتى بصورة للمرأة بالأبيض والأسود ودون ألوان مثل اللوحات اليابانية تمامًا»، تذكرت من ذلك السطر ويسكي Black and White، فمزقتُ تلك الرسالة إربًا، ثم فتحتُ هذه المرة عشوائيًّا مظروف رسالة أخرى، ومررت بنظري على ورق الرسالة الأصفر المسطر. كان كاتب تلك الرسالة شابًّا لا أعرفه، ولكن قبل أن أُكمل قراءة سطرين أو ثلاثة لم أستطع منع نفسي من الغضب تجاه كلمة «إن قصتك (صور معاناة الجحيم) …» كانت الرسالة الثالثة التي أفتحها قادمة من ابن أختي، فأخذتُ أنفاسي وقرأت مشاكل العائلة أخيرًا، ولكن حتى تلك الرسالة عندما وصلت إلى نهايتها قضت عليَّ فجأة.

«سوف أرسل لك نسخة ديوان «ضوء أحمر» المعاد طبعه.»

ضوء أحمر! أحسستُ بابتسامة ساخرة من شخص ما، فقررتُ أن أهرب خارج غرفتي، لا أثر لبشر في الممر، وأخيرًا استطعتُ الوصول بصعوبة إلى بهو الفندق وأنا أستند بإحدى يديَّ على الحائط، ثم جلست بعد ذلك فوق المقعد، وقررتُ على أي حال أن أشعل سيجارة. كانت السيجارة لسبب ما من نوع إيرشيب airship١١ (كنتُ متعودًا دائمًا على تدخين سجائر ستار١٢ منذ أن استقرَّت إقامتي في هذا الفندق)، ثم ظهرت الأجنحة الصناعية أمام عيني مرة ثانية، قررتُ استدعاء عامل الفندق من الجهة الأخرى، وشراء علبتين من سجائر ستار، ولكن إن صدقنا ما يقوله العامل فسجائر ستار فقط غير موجودة للأسف.

«لو سجائر إيرشيب فهي موجودة.»

هززتُ رأسي ودرتُ بنظري أتأمل بهو الفندق الواسع. على الجانب الآخر يجلس أربعة أو خمسة أجانب على منضدة يتحدَّثون، بل وإحداهم — امرأة ترتدي فستانًا أحمر — تنظر تجاهي من وقت لآخر وهي تتحدَّث معهم بصوت خافت.

Mrs. Townshead …

هكذا همس شخص ما لا تراه عيناي بهذا الاسم، بالتأكيد أنا لا أعرف أحدًا اسمه السيدة تاونزهيد. حتى لو افترضتُ أنه اسم تلك المرأة … نهضتُ مرة أخرى من على المقعد، وقررتُ العوة إلى غرفتي وأنا في خوف من ظهور أعراض الجنون عليَّ.

عزمتُ على الاتصال فورًا بأحد مستشفيات الأمراض النفسية بمجرد عودتي إلى غرفتي، ولكن كان دخولي له لا يَختلف عن الموت، وبعد حيرة شديدة، ومن أجل أن ألهو عن ذلك الرعب بدأت في قراءة «الجريمة والعقاب»، ولكن كانت الصفحة التي فتحتها صدفة، عبارة عن فقرة من «الإخوة كارامازوف»، ظننتُ أنني أخطأت الكتاب، فنظرتُ إلى صفحة الغلاف، فوجدته مكتوبًا عليه «الجريمة والعقاب» … لا شك أنها رواية «الجريمة والعقاب»، لم أجد مفرًّا من قراءة تلك الفقرة لأنني أحسستُ بحركة أصابع القدر في خطأ شركة تجميع الكتاب، ثم في فتحي أنا تلك الصفحة التي بها ذلك الخطأ بالصدفة، ولكنني بدأت أشعر بأن كل أجزاء جسمي ترتعش قبل أن أكمل قراءة صفحة واحدة، كانت تلك الفقرة تصف كيف يعذب الشيطانُ إيفانَ، يعذب إيفان، ويعذب ستريندبرغ، ويعذب موباسان، ثم يُعذبني أنا القابع في هذه الغرفة شخصيًّا …

لم يعد هناك من يُنقذني من تلك الحالة التي وصلت إليها إلا النوم فقط، ولكن في غفلة من الزمن كانت كل الأدوية المنومة التي لديَّ قد انتهت ولم يتبق منها كيس واحد، لم أحتمل أن أظل في هذا العذاب دون أن أستطيع النوم، ولكن تولَّدت لديَّ شجاعة يائسة، فقررت أن أطلب حمل قهوة لي، ثم أن أمسك بالقلم وأكتب باستماتة واجتهاد صفحتين، خمس صفحات، سبع صفحات، عشر صفحات … كانت صفحات المخطوطة تزداد وتزداد في لمح البصر، كنتُ قد ملأت عالم تلك الرواية بحيوانات ما فوق الطبيعة.١٣ ليس هذا فقط، بل لقد رسم أحد تلك الحيوانات بورتريهًا شخصيًّا لي، ولكن بدأ التعب يُخيِّم على رأسي ببطء، وفي النهاية ابتعدتُ عن المكتب، ورقدتُ على ظهري فوق السرير، ويبدو أنني نمت بعد ذلك لمدة خمس وأربعين دقيقة تقريبًا، ثم شعرتُ أن شخصًا يهمس في أذني بالكلمة التالية، فاستيقظتُ ونهضتُ واقفًا.
Le diable est mort.١٤

كان الفجر قد بدأ يهلُّ باردًا نافذة حجر الطفلة. كنتُ أقف ثابتًا أمام الباب، أتأمل الغرفة الخالية تمامًا من البشر، وعندها ظهر مشهد صغير وغائم للهواء الخارجي في شكل بُقع على الجانب الآخر من الزجاج، ولم يكن هناك أي شك أن ذلك مشهد البحر خلف غابة صنوبر اصفرَّ لونها، اقتربتُ من النافذة متوجسًا، فاكتشفتُ أن من صنع هذا المشهد في الواقع هي بركة الحديقة وعُشبها الذابل، ولكن في آخر الأمر استدعت أوهامي البصرية تلك إحساسًا قريبًا من الاشتياق تجاه بيتي.

قررت وأنا أجمع الكتب والمسودات داخل الحقيبة التي فوق المكتب، أن اتصل هاتفيًّا بإحدى المجلات عندما تصل الساعة إلى التاسعة، وأطلب منهم إمدادي بالمال بأية طريقة، ثم أن أعود إلى بيتي.

(٦) طائرة

ركبتُ سيارة تُسرع إلى منطقة مصايف تبعد عن إحدى محطات خط طوكاي للسكك الحديدية، كان السائق لسبب ما يَضع على جسمه معطف مطر قديمًا في مثل هذا الجو البارد، فكرتُ أن تلك الإشارة لا معنى لها، فحرصتُ على ألا أنظر تجاهَه وقررتُ أن أنظر خارج النافذة، وعندها على الجانب المواجه من شجرة صنوبر قصيرة … على الأرجح أنني رأيت إحدى الجنازات تسير في الطريق القديم، ويبدو أنه لا ينضمُّ إليها القناديل المصنوعة من الورق الأبيض المشدود ولا القناديل التي على شكل تنين، ولكن كانت تهتز للأمام وللخلف في هدوء زهور لوتس صناعية مصنوعة من الذهب والفضة …

بعد عودتي أخيرًا إلى بيتي، عشتُ في سلام كبير لمدة يومين أو ثلاثة أيام بفضل زوجتي وأولادي والأدوية المنومة، استطعتُ أن أرى البحر صغيرًا فوق غابة الصنوبر من غرفتي في الطابق الثاني، قررتُ أن أجلس على مكتب الطابق الثاني هذا، وممارسة عملي في الفترة الصباحية فقط، وأنا أستمع لتغريد الحمام، غير الحمام تطير أيضًا على حافة حديقة المنزل غربان وعصافير، وكان ذلك مُمتعًا لي أيضًا، كلما أمسكتُ بالقلم تذكرتُ قول: «طائر العقعق يجلبُ المسرات».

في ظهيرة يوم غائم ودافئ دفئًا حيًّا، خرجتُ من بيتي إلى محلِّ خردوات لشراء حبر، وعندها، كان الحبر المتراص في رفوف المحل بلون بني محروق فقط، كان الحبر باللون البني المحروق دائمًا يُصيبني بالغثيان أكثر من أي حبر آخر، لم يكن أمامي حيلة إلا أن أترك ذلك المحل، ومشيت متسكعًا بمفردي في الطريق الخالي تقريبًا من المارة، فمر بجواري أحد الأجانب طويل القامة في حدود الأربعين من عمره يبدو أن لديه قصر نظر آتيًا من الجهة المقابلة، كان ذلك الرجل سويديًّا مصابًا بمرض جنون الاضطهاد يسكن هنا، بل وكان اسمه ستريندبرغ، عندما مر بجانبي أحسستُ باستجابة جسدية من نوع ما.

كان طول هذه الطريق فقط مائتَين أو ثلاثمائة متر، أثناء مروري خلال المائتين أو الثلاثمائة متر تلك مر من جانبي كلب نصف وجهه أسود اللون أربع مرات، تذكرتُ ويسكي Black and White وأنا أنعطف في إحدى الحارات. ليس هذا فقط، بل تذكرتُ أن رابطة عنق ستريندبرغ السابق ذكره كانت باللونين الأبيض والأسود، ولم أستطع بأي حال التفكير أن تلك مجرَّد صدفة، إن لم تكن صدفة … كنتُ أشعر كأن رأسي فقط هو الذي يسير، فتوقفتُ قليلًا في وسط الطريق. كان أصيص زرع من الزجاج بلون قوس قزح خافت ملقيًّا داخل قفص النفايات الحديدي الذي على جانب الطريق، وكان ذلك الأصيص كذلك يبرز في قاعه تصميم يُشبه الأجنحة، ثم هبط هناك عدد من العصافير من فوق أغصان الصنوبر وحطت عليه، ولكن عندما وصلتُ لقرب ذلك الأصيص طارت كل العصافير إلى السماء مرة واحدة وكأنها جميعًا قد اتفقت على ذلك.

ذهبتُ إلى بيت أهل زوجتي، وجلستُ على مقعد الخيزران في مقدمة حديقة البيت، في ركن الحديقة تسير بهدوء دجاجات من نوع ليغهورن البيضاء داخل قفص حديدي، ثم رقد بجانب قدمي كلب أسود، كنتُ على أيِّ حال أتظاهر في مظهري الخارجي على الأقل بالبرود، وأتحدث مع حماتي وشقيق زوجتي حديثًا اجتماعيًّا وأنا أتلهَّف الإجابة على سؤال لا يعرف أحد إجابته.

«المكان هنا هادئ.»

«ولكن هذا فقط مقارنة بطوكيو.»

«وهل ثمَّة وقت تحدث ضوضاء هنا؟»

«أوَليس هذا المكان جزءًا من هذا العالم؟»

قالت حماتي ذلك ثم ضحكت، وفي الواقع لم يكن ثمَّة خلاف على أنَّ هذا المصيف جزء من «هذا العالم»، ولقد كنتُ أعلم علمًا تامًّا إلى أيِّ مدى حدثَت مآسٍ وجرائم شرِّيرة هنا أثناء عام واحد فقط. طبيب حاول أن يَقتل مريضًا بالسمِّ البطيء، عجوز أحرقتْ منزل ابنها بالتبني وزوجته، محامٍ حاول سلب ثروة أخته الصغرى … عندما كنتُ أنظر إلى بيوت هؤلاء لم يكن ثمة فرق بينها وبين رؤية الجحيم في حياتي دائمًا.

«ثمة مجنون يسكن في هذه البلدة.»

«تقصد الآنسة «ﻫ»، كلا إنها ليست مجنونة، ولكنها أصيبت بالعته فقط.»

«هل هذا ما يُسمَّى الخرف المبكر؟ إنني كلما أراها أشعر بغثيان لا يُحتمل، إنها في آخر مرة ولسبب لا أعرفه كان تلقِّي تحية الانحناء أمام تمثال الإلهة كانَّون.»

«كيف تُصاب بالغثيان؟ … يجب أن تكون أكثر قوة.»

«إن شقيق زوجتي أكثر مني قوة.»

نهض شقيق زوجتي من فوق فراشه ولحيته قد طالت قليلًا، واشترك في حديثنا على استحياء كما هي عادتُه دائمًا.

«إنَّ الأقوياء أيضًا لديهم نقاط ضعف.»

«كفى، كفى، إنَّ هذا مزعج.»

ولم يكن أمامي عندما نظرتُ إلى حماتي التي قالت ذلك، إلا الابتسام المرير، وعندها تأمل شقيق زوجتي غابة الصنوبر البعيدة خلف السور الشجري وهو يبتسم، واستمر في الحديث شارد الذهن. (كان شقيق زوجتي الشاب المريض هذا يبدو لي في بعض الأحيان كروح خالصة خرجت من الجسد).

«عندما تَعتقِد أنه ابتعد تمامًا عن البشر، تجد أن الشهوات البشرية ما زالت قوية وعنيفة …»

«ومن كنتُ تعتقده إنسانًا خيِّرًا، تجده شريرًا.»

«كلا، ليس الخير والشر، بل شيء على النقيض منهما …»

«حسنًا، أليس داخل الشخص البالغ طفل؟»

«كلا، ليس كذلك. أنا لا يُمكنُني القول بوضوح، ولكن … ألا يشبه قطبي الكهرباء؟ على أي حال فهو امتلاك الأضداد معًا.»

ووقتها تردد صوت طائرة عنيف أصابنا بالدهشة، نظرت بدون وعي إلى السماء، فاكتشفت طائرة تطير بارتفاع مُنخفِض تكاد تلمس أغصان الصنوبر، كانت طائرة وحيدة الجناح من نوع نادر وقد دُهن جناحها بلون أصفر … اندهش الكلب والدجاج لصدى الصوت، وهرب كل منهم في كل الاتجاهات، خاصة الكلب أخذ يَنبح ويلفُّ ذيله ثم دخل تحت حافة البيت.

«هل تسقط تلك الطائرة؟»

«لا تقلق … هل تعلم مرَضًا اسمه مرض الطائرات؟»

هززتُ رأسي وأنا أشعل النار بسيجارتي بديلًا عن قول «كلا».

«لقد سمعت أن من يركب مثل هذه الطائرات، يبيت غير قادر على احتمال هواء هذه الأرض تدريجيًّا لأنه يتنفس فقط الهواء أعلى السماء …»

غادرتُ بيت حماتي، ثم مشيتُ داخل غابة الصنوبر التي لا يتحرك فيها غصن واحد من أغصانها وأنا أقع في الاكتئاب ببطء، تُرى لماذا لم تذهب تلك الطائرة إلى مكان آخر ومرت فوق رأسي أنا؟ كذلك لِمَ لا يبيع ذلك الفندق إلا سجائر من نوع إيرشيب؟ كنتُ أمشي وأنا أختار الطرقات التي لا أثر لبشر فيها وأنا أعاني من تساؤلات عديدة.

كان سطح البحر غائمًا بلون رمادي على الجانب الآخر من جبل رملي منخفض، ثم تنتصب كذلك قاعدة أُرجوحة بدون أُرجوحة عند الجبل الرملي، تأملت قاعدة الأُرجوحة تلك، ثم تذكرتُ على الفور قاعدة الإعدام شنقًا، وفي الواقع كان يقف أيضًا غرابان أو ثلاثة غربان فوق قاعدة الأُرجوحة، لم يُظهر الغربان أي بوادر للطيران حتى بعد أن رأتني، ليس هذا فقط، بل لقد أطلق الغراب الأوسط بينهم أربع صياحات وهو يرفع منقاره الكبير في الهواء.

قررتُ أن أنعطف في طريق ضيقة ذات فيلات كثيرة بمُحاذاة السد الترابي الذي ذبلت أعشابه. يُفترض أن يقف شامخًا في الجانب الأيمن من هذا الطريق الضيق وكما هو متوقَّع وسط أشجار صنوبر عالية الارتفاع مبنى من طابقَين ناصع البياض على الطراز الغربي مصنوع من الأخشاب. (كان أحد أصدقائي يطلق على ذلك البيت اسم «بيت الربيع») ولكن عندما مررت من أمام ذلك البيت، لم يكن ثمة شيء فيه إلا حوض حمَّام واحد فقط فوق قاعدة خرسانية، حريق! على الفور فكرت هكذا، ومشيت وأنا أحرص على عدم النظر في اتجاه ذلك البيت. وعندها اقترب مني رجل يركب دراجة أمامي مباشرة، كان يعتمر قبعة صيد بلون بني محروق، ويَنحني بجسده فوق المقود وهو ينظر لي بثبات نظرات مريبة، شعرتُ فجأة أن وجهه هو وجه زوج أختي الكبرى، ولذا قررتُ قبل أن يصل ذلك الرجل إليَّ أن أنعطف في حارة جانبية سريعًا، ولكن كانت جثة متعفِّنة مُلقاة ظهرها لأعلى وسط تلك الحارة الضيقة.

بدأ يُساورني مع كل خطوة أخطوها أن الجميع يستهدفني. وعندها حجب الرؤية عن عيني ترس شفاف، وفي النهاية وأنا أخاف من أن تكون اللحظات الأخيرة لي قد اقتربت مشيت مرتفع القامة والعنق، ومع تزايد عدد التروس بدأتْ فجأة في الدوران باطراد، وفي نفس الوقت بدأت تبدو شفافة مثل قطع زجاج دقيق وهي تَتفادى خفية أغصان غابة الصنوبر التي على اليمين، شعرت بازدياد نبض قلبي وحاولتُ أكثر من مرة أن أتوقف عن المَشي على قارعة الطريق، ولكن حتى التوقُّف لم يكن أمرًا سهلًا وكأنَّ أحدهم يدفعني من الخلف.

مرَّت ثلاثون دقيقة فقط، ثم ارتميتُ على ظهري في غرفتي بالطابق الثاني، وبقيتُ مغمض العينين أُقاوم الصداع العنيف الذي أصابني، وعندها بدأتُ أرى خلف ظهري جناحًا فضيًّا مطويًّا مثل حراشيف الأسماك، كانت تلك في الواقع شيئًا منعكسًا بوضوح تامٍّ فوق شبكية العين، فتحتُ عيني ونظرتُ عاليًا إلى السقف، وبالطبع بعد أن تأكدتُ من عدم وجود شيء مثل هذا على السقف، قررتُ أن أغمض عيني مرة ثانية، ولكن كما هو متوقع كان الجناح الفضي يَنعكِس انعكاسًا مؤكَّدًا في وسط الظلام، تذكرتُ فجأة أن غطاء رادياتير السيارة التي كنت أركبها منذ فترة كان عليها صورة جناح.

وعندما أحسستُ أن أحدًا ما يأتي صاعدًا السلالم بسرعة ظاهرة، وجدته يهبط مرة ثانية على الفور بنفس السرعة، عرفت أنها زوجتي، وبمجرد أن اندهشت ونهضتُ من الفراش، ظهر وجه زوجتي في غرفة المعيشة المعتمة بالضبط أمام السلالم، ثم بدَت زوجتي منهكة الأنفاس وظلت كما هي تنظر إلى الأرض، وكتفاها يهتزان.

«ماذا حدث؟»

«كلا، لم يحدث شيء».

أخيرًا رفعت زوجتي وجهها لأعلى، وابتسمت بصعوبة ثم أكملت حديثها: «لا سبب لذلك، ولكنَّني أحسستُ فقط أنك على وشك الموت …»

كانت تلك هي أكثر تجربة أصابتني بالرعب في حياتي كلها … إنني لا أملك قوة لمواصلة الكتابة بعد هذا، إن الحياة بتلك المشاعر عذاب شديد لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، أَمَا من شخص يَخنقني وأنا نائم لأموت في هدوء؟

•••

(العام الثاني من عصر شوا [١٩٢٧م]، نص لم يُنشر في حياة المؤلف.)
١  الأقواس وعلامة الاستفهام في النص الياباني الأصلي من المؤلف. (المترجم)
٢  في الكوميديا الإلهية لدانتي تتحوَّل أرواح المُنتحرين إلى أشجار واقفة في الجحيم. (المترجم)
٣  في رسالة إلى أحد أصدقائه يشير أكوتاغاوا إلى سبب اتخاذه هذا الاسم المستعار أحيانًا في الكتابة أنه قد تعلَّم العلم الغربي ولكنه قبل أن يتقنه تمامًا كان قد نسيَ العلم الشرقي فبات كالفتى الغِرِّ في تلك القصة الصينية القديمة الذي يزحف على أربعٍ ولا يستطيع المَشي، ولكن هذه القصة ليست في كتاب «هان فيي زي» كما ذكر أكوتاغاوا بل في كتاب «جوانغ زي» وهو فيلسوف صيني آخر أقدم من «هان فيي زي» ولا ندري هل تعمَّد أكوتاغاوا ذلك الخطأ ليضع دليلًا على صحة ما يقول من نسيانه العلم الشرقي أم أنه أخطأ فعلًا في النقل، خاصة أن العمل كان مسودة لم تُنشَر في حياته وبالتالي لم يُراجعها ويعدها للنشر. (المترجم)
٤  أي الفن أو المهارة التي ليس لها ضرورة، فما من وجود للتنانين في هذا العالم لكي يُقدَّر مَن يستطيع ذبحها أو صيدها. والقصة أيضًا ليست في كتاب «هان فيي زي» بل في كتاب «جوانغ زي». (المترجم)
٥  ظنَّ الراوي أنه وضع عملة فضية بقيمة ٥٠ سنًّا، ولكن اتَّضح أن ما ألقاه كانت عملة نحاسية فئة واحد سن فقط؛ ولذا شعر بالخزي من اعتباره أنه يُحاول الغش في ثمن المشروبات. (المترجم)
٦  الإمبراطورة سويكو (٥٥٤–٦٢٨م) كانت الإمبراطور رقم ٣٣ في سلالة أباطرة اليابان الذين يَبلُغ عددهم ١٢٦ إمبراطورًا، وتُعدُّ أول إمبراطورة تتولى العرش في اليابان بل وفي شرق آسيا عامة، ظلَّت على العرش من عام ٥٩٣م حتى وفاتها في عام ٦٢٨م أي حكمت اليابان على مدار ٣٦ عامًا. (المترجم)
٧  الإمبراطور ميجي (١٨٥٢–١٩١٢م) الإمبراطور رقم ١٢٢ في سلالة أباطرة اليابان، حكم اليابان بعد قيام ثورة ميجي في عام ١٨٦٧م وإعادة مقاليد الحكم للإمبراطور بعد أن كان الحاكم الفعلي لليابان هو القائد العسكري من عائلة توكوغاوا وكان الإمبراطور ليس له أية سلطة فعلية في الحكم. (المترجم)
٨  Mole: حيوان الخلد باللغة الإنجليزية. (المترجم)
٩  الأقواس وعلامة الاستفهام كما هي من المؤلِّف في الأصل الياباني. (المترجم)
١٠  ترجمة الحوار كالتالي: «حسنًا … ولكنه أمر سيئ جدًّا … لماذا؟»
«لماذا؟ … لقد مات الشيطان!»
«أجل، أجل … في الجحيم …» (المترجم)
١١  نوع سجائر بدأ بيعها في اليابان عام ١٩١٠م، ويقال إنها سُميت بهذا الاسم لأنه في ذلك العام طارت الطائرات في سماء اليابان لأول مرة وأصبح اهتمام الناس كبيرًا بكل ما يتعلق بالسماء والهواء والطيران. (المترجم)
١٢  نوع آخر من السجائر بدأ بيعها في اليابان في عام ١٩٠٤م. (المترجم)
١٣  يقصد حيوانات الكابَّا. انظر أول هامش في رواية الكابَّا من هذا الكتاب. (المترجم)
١٤  معناها: مات الشيطان باللغة الفرنسية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤