الفصل الحادي عشر

أدَّى البيت مُهمته، كَبِر فيه الأطفالُ ونضجوا، وظلَّ ذلك البناء القديم مُتماسكًا، حتى نُقل أبي إلى دار المسنين. أصبح الآن كل شيء غريبًا فيه ولا يتواكب مع صيحة العصر، وتعدَّدت المواضع التي كانت تُقلقنا فيه. كان أبي قد بنى البيت بيدَيْه وتبعًا لرؤيته، ومنذ السبعينيات وهو يُضيف إليه ويُغيِّر فيه. ماذا أقول؟ مثل هذه البيوت يُعدُّ بصورة غير مُباشرة بمثابة لوحة ذاتية لِبانيها.

كان البيت يُعطي انطباعًا بأنه بدائيٌّ ومُرقَّع. عندما كان أبي يُضيف إلى البيت أو يُعدِّل أجزاءً منه لم يكن يطلب المُساعدة إلا بعد فوات الأوان. في عمله كان قد تعلَّم على مدار عشرات السنين كل ما يحتاج إليه كي يؤدي عمله باستقلالية. وفي عمله في البيت كان يثق في أن لديه ما يكفي من الدراية، ولكن النجاح لم يكن يُحالفه بصورة كاملة؛ ففي بعض الأماكن كانت تُوجد نواقص كبيرة، فضلًا عن ذلك كان لدى أبي رفضٌ مَرضيٌّ للتخلص من أي شيء، وأصبح على الأبناء الآن القيام بذلك.

وافق عيدُ ميلاده الثالث والثمانون عطلةَ نهاية الأسبوع، ولأن جميع أفراد الأسرة كانوا حاضرين فقد جهَّزتْ أمي حاويةً كبيرة أمام البيت؛ لرغبتنا في التخلص مما لا نحتاج إليه في البيت.

بدأ العمل بسرعة ودون جَلَبة. وقلَّ ثقل الأمر على الجميع كلما قلَّت الأشياء من غُرف التخزين، وكلما بدت الحديقة ومرأب السيارات في صورة أفضل. ولكن الذي أحبطنا هو عدم قُدرة الحاوية على مواكبة ما قمنا به بشغف؛ فقد كانت تمتلئ بالكاد بعد ثلاث دورات؛ لذلك لم نمسَّ المنطقة العلوية من البيت، وظلَّ القبو ممتلئًا بأشياء ظن أبي أنها ستنفع يومًا، إلا أنها أصبحت بمرور الأيام غير ذات نفع. أحد الجيران، الذي استعرنا منه مُشمعًا لأن النشرة الجوية قالت إن الطقس سيسوء، أخبرنا مُحذِّرًا من أنهم قد احتاجوا إلى حاويتَيْن للأشياء التي تخلصوا منها في بيت والدَيْه.

ومع نهاية شهر أغسطس كانت الحاوية الثانية أمام بيتنا، وكانت أختي قد اشترت مُشمعًا؛ لأنه كان من المتوقَّع سقوط الأمطار. لذلك أنجزنا جزءًا كبيرًا من العمل يوم الجمعة، وكانت أمي وكاتارينا معنا. وكان الدور قد جاء لتنظيم السندرة. بيتنا كبير نسبيًّا، يرتفع بنوافذه إلى ثمانية أمتار عن مستوى الشارع، وكنا نقذف بالأشياء المُخزَّنة بالسندرة منذ سنوات وعقود من إحدى نوافذ الغُرفة التي كانت لبيتر قديمًا إلى الحديقة؛ ألواح خشبية وألواح جصِّية، وصناديق كرتونية ممتلئة بالملابس القديمة، وأسِرَّة قديمة ذات مستويين، وألواح أبواب، وطاولات من التي توضع في الأركان، وسجاجيد، وحقائب سفر، وستائر نوافذ معدنية، وأسِرَّة ومراتب قديمة محشوة بالريش، وبعض قطع الأثاث التي كانت تتحطم عند ارتطامها بالأرض، وبدَت وهي مُلقاةٌ في الحديقة مثل السَّكَارى فاقدي الوعي.

ومن بين اللُّعب التي ألقيناها كانت لُعبة الحياة؛ فقد انتهى أمرها.

•••

واستمر هطول المطر من يوم السبت إلى يوم الأحد، ثم سطعت الشمس بعد ظهر يوم الأحد، فاستطعنا استكمال العمل. أحضرت أمي أبي إلى البيت، وساد جوٌّ من السعادة، وبدا أبي متأقلمًا مع عالمه. عندما خرجتُ معه إلى الشُّرفة الخارجية ووضعت ذراعي على كتفه نظر إليَّ بمكرٍ وقال:

«أتبحث الآن عن كتفي كي تستند قليلًا أيها الكسول؟»

«أعترف لك أن هذا كان مُريحًا بالفعل.»

وبعد ذلك عندما عُدنا إلى العمل قال أبي:

«يمكن أن أُساعدكم، إذا كُنتم فعلًا في حاجة إليَّ، مع التأكيد على كلمة فعلًا! إذن، ها أنا أخبرتكم وعليكم الآن التفكير وتحديد ما تريدون، أعتقد أنكم نابهون بما يكفي.»

ومع حلول الظهيرة كان قد شرح لي ولهيلجا كم كان حاذقًا عند بناء سور الحديقة أمام البيت، وكيف كان تفكيره مُحكَمًا عند بناء المنزل. كان في حالة مزاجية طيبة وعالية، وكان مُستمتعًا بامتداحنا له بأفضل العبارات.

«نعم، إننا دائمًا نتعلَّم منك!»

بالتأكيد تعلَّمنا من تصرفاته أيضًا أنه من الأفضل عدم الاحتفاظ بالأشياء وتكديسها لمجرد أن ذهننا تفتَّق عن أننا ربما نحتاجها في يوم من الأيام. الاختلاف بين البيت وغرفته في دار المُسنين كان صادمًا؛ لأنه يعيش هناك في مساحة ضيقة لا يستطيع فيها تخزين الأشياء كما اعتاد. وماذا يمكن أن يحتاج المرء وهو ينتظر وفاته؟ فكرتُ في ذلك كثيرًا ونحن نرتِّب البيت؛ لأنه حتى هناك لم نجد سوى بضعة أشياء كانت مرتبطة بحياة أبي بدرجةٍ تجعلنا نُصمِّم على الاحتفاظ بها. أما معظم ما جمعناه من أركان المنزل فكان أشياء ببساطة لا تعدو أن تكون مُجرد خُردة.

في مساء يوم الأحد، عندما بدأ الظلام يحلُّ توجَّه أبناء أبي الأربعة إلى القبو؛ بيتر وهيلجا وفيرنر في الورشة وأنا في غرفة التخزين، وهناك وجدتُ ماكينة قهوة ومطرقة اللحم الخشبية ومظلات مصابيح قديمة والحوض الخاص بأول غسَّالة كانت لوالدَيَّ، وصناديق نبيذ فارغة وأشياء للفك والتركيب. وعندما عطستُ من كثرة التراب والعفن فتحتُ النافذة الصغيرة الطويلة تحت السقف، وهي تعلو مستوى الشارع مباشرة. عبر هذه النافذة دخلتُ ذات مرة مع بيتر إلى البيت وكنا في سن الثالثة عشرة والعاشرة، عندما عُدنا من رحلة غطس مع شباب مجموعة حماية البيئة وتركتنا المجموعة في الليل أمام البيت.

حينها تسحَّبتُ إلى فراشي وكانت هيلجا راقدةً فيه، ربما كان سريرها مؤجَّرًا لضيوف يقضون العُطلة هنا. دخلتُ تحت الغطاء فانتبهتْ وقالت لي إن العمَّ ألفين زوج ميلا قد مات ودُفن. أفزعني أن يحدث مثل هذه الأمور وأنا غائب؛ الدفن وغياب العم بهذه البساطة.

والآن أتذكَّر تلك الأحداث وكأنها أصداء أصوات أفزعناها من مخبئها في زوايا البيت المُتربة.

عندما أحضرت هيلجا مصيدَتَي فئران من الورشة وسألت إن كان لهما استخدام الآن (لا، لم يعُد هناك الكثير من الفئران في فولفورت، حتى إنه يمكن وضعها على قائمة الحيوانات المُهددة بالانقراض)، حينها تذكَّرت إجابة عمي باول عن سؤالي عن أكبر موهبة يتحلَّى بها أبي، حين قال:

«صيد الفئران!»

في ربيع عام ١٩٣٩ كانت الإدارة المحلية تدفع بعض المال في مقابل كل فأر يتم اصطياده، واستطاع كلٌّ من باول وأوجوست أن يكسبا من ذلك ما يكفي لشراء درَّاجة؛ أحدهما اشتراها من نوع «إن إس أو» والثاني من طراز «فيكتوريا». قام باول بدور المُساعد فقط، في حين كان أبي هو العقل المُدبر. وبالإضافة إلى الحقل الخاص بنا قاما أيضًا بتطهير حقل جارنا من الفئران.

جمعُ الأشياء كان له مدلول إيجابي؛ فقد كانت الإدارة تُقدِّم مكافأةً مالية أيضًا في مقابل كل كيلوجرام يتم جمعه من الدودة البيضاء. كان يوزيف وروبيرت يذهبان إلى طرف حقل بريجينتس بالعصا والمُشمع، حيث يوجد عديد من الأشجار المورقة، واستطاعا في يوم واحد جمع أربعين كيلوجرامًا من الديدان. وكانت تلك هي الإمكانية الوحيدة أمام الأطفال لجني المال.

•••

أزحتُ التراب بالمكنسة إلى خارج الباب، وانتهينا من العمل في التاسعة والنصف مساءً، لكننا لم نُغطِّ الحاوية؛ لأن النجوم كانت تتلألأ في السماء. ثم ذهبتُ إلى الحجرة ذات الشُّرفة، وكانت قد خُصِّصت لي منذ كنتُ في الثالثة عشرة من عُمري، ويرجع الفضل في ذلك إلى علاقات النفوذ غير الواضحة في بيتنا. عادت أمي إلى المنطقة العلوية من المنزل، في حين رجعتْ كاتارينا يوم السبت بالقطار الليلي إلى فيينا. جلستُ إلى الكمبيوتر المحمول الخاص بي ودوَّنت ما حدث، وتذكَّرتُ أن فيرنر أبدى ملاحظةً وهو يُرتِّب الورشة، واسترعى ذلك انتباهي؛ فقد وجد على الرف بجوار حجرة التخزين أوراقًا، بعضها يتعلق بأمور خاصة جدًّا؛ لذا لم يُحدِّق فيها كثيرًا.

ذهبتُ إلى الورشة ووجدتُ ملفًّا من ثلاث عشرة ورقة بين وثائق وأوراق مختلفة، كان أبي قد سجَّل فيها وهو في سن الرابعة والعشرين ذكرياته عن نهاية الحرب، ولم يقرأها أحدٌ منذ عشرات السنين، ولم أكن أعرف بوجودها قبل ذلك.

رجعتُ إلى المطبخ عبر الردهة خافتة الضوء، وجلستُ أقرأ تلك الأوراق. الحرب — التي لم تَعْنِ الكثير لأبي وهو في الثامنة عشرة والتي اعتبر وقته فيها عامًا مسروقًا من حياته — انتهت بسرعة، ومع نقله من الجبهة بدأت وتيرة الحكاية تتباطأ. كتب أبي بالتفصيل عن الوقت الذي أمضاه في المستشفى، وعن رحلة العودة المُضنية عندما كان يبحث عن أشخاص يتحدثون بلهجة فورآرلبرج، ليسألهم قطعة خُبز، دون أن يبدو وكأنه شحَّاذ.

صدمتني التفاصيل بسبب فجاجة وضوحها من ناحية، ومن ناحية أخرى لأني شعرتُ بأني لا أعرف الكثير عن أبي ونشأته وانكساراته ومخاوفه وآماله، بالرغم من كلِّ ما بذلتُ من جهود.

كنتُ أعرف أنه أكل عظمةً فاسدة عندما كانوا ينقلون غنائم الحرب، وأصابته الدوسنتاريا جرَّاء ذلك، وأنه فقد وزنه بسرعة وأصبح يزن أربعين كيلوجرامًا فقط، وهو ما كان يذكره في بعض الأحيان مُشيرًا إلى الصورة الموجودة في حافظة نقوده خلف غطاء بلاستيكي خفيف. الجديد هو أن أبي كان قد قضى قبل تاريخ تلك الصورة أربعة أسابيع راقدًا بين أشخاص يُحتضرون وآخرين أموات. في ذلك المخزن الذي تحوَّل إلى مستشفًى بالقرب من براتيسلافا صنعوا أرففًا خشبية بسمك خمسين سنتيمترًا لتكون أسِرَّة للمرضى. على عدة طبقات كانوا يضعون كل مريضين على أحد تلك الأرفف، يرقدان على جانبهما ملتصقَيْن أحدهما بالآخر، مما جعل الوضع مُروعًا؛ وخصوصًا بالنظر إلى أمراضهم المُعدية وجروحهم التي لا تجد رعاية جيدة.

وعلى خلاف النهار كان الليل باردًا، وكنتُ أتجمَّد أحيانًا من شدة البرد؛ لأن المُمرضات الروسيات، اللاتي لا أذكرهنَّ بخير أبدًا، كُن لا يسمحن بأكثر من غطاءٍ واحد لكل رجُلَيْن منا؛ لذلك اضطررتُ إلى رجاء أحد زملاء المُعاناة، ممن تخطوا المرحلة السريرية، أن يبحث لي عن رداءٍ لأرتديه. وبالفعل جلب لي واحدًا في اليوم التالي وقال لي إنه خلعه عن رجُلٍ مات بالأمس، وإنه فعل ذلك قبل أن يلحظ الروس موته.

كان المكان الذي رقدتُ فيه لفترة طويلة يقع في مقابل معسكر الموت الذي كان الأطباء ينقلون إليه الأشخاص الذين تدهورت حالتهم المرضية. كان هؤلاء المساكين عاجزين عن الذهاب إلى الحمام، ولم يكونوا قادرين على تناول الطعام، وكانوا ينزفون في أماكن رقادهم عدة مرات في اليوم، وبصوت ضعيف وتائه ينادون على المُمرضين ليساعدوهم على الذهاب إلى الحمام … كان المنظر فظيعًا. كنت أرى تقريبًا كل يوم كيف يموت واحدٌ منهم أو أكثر، وقد تخلَّى عنهم العالم ولم يُساندهم أحد. كان معظمهم في كامل وعيه، ولكن أجسادهم كانت كهياكل عظمية.

ظلت أشباح هؤلاء الموتى تهمس لي في الظلام لأعوام طويلة، وعندما يهمس الأموات فإنهم يفعلون ذلك بإلحاح وعناد. إذا جمعنا الآراء عما هو أفضل: الموت أم الحياة، فإن الأموات، الذين هم أكثر عددًا، سيصوتون لصالح الموت.

استمرَّت تلك الحال مدة يومين، وبعدها ذهبتْ عني الحُمى. ولا عجب في أنهم جعلوني أعمل مُجددًا، وكان عملي هو المُشاركة في دفن الموتى. العشرة الذين ماتوا في اليوم السابق وُضِعوا فوق عربة بعد أن نُزعت عنهم ثيابهم ووُضعت فوقهم أغطية خَرِقة، واستُخدم ثمانيةٌ من السُّجناء بدلًا من حيوانات الجَر، وهكذا كانوا يجُرُّون العربة خلال بعض الشوارع الجانبية في بريسبورج وصولًا إلى منطقة التفريغ، حيث توجد حُفرة يتم إلقاء الموتى فيها. وكان عليَّ القيام بالمهمة البغيضة؛ ألا وهي ردم الحُفرة فوقهم. ولا يعرف أحدٌ عددَ الموتى الذين دُفنوا هناك، ولكن على أي حال يوجد هناك كثير من القبور، هذا إذا صحَّت تسمية تلك الأماكن قبورًا.

لم يكُن في العالم الذي أتى منه أبي مثلُ هذه الوحدة الموحشة؛ فهناك في عالمه كان الناس يموتون في بيوتهم وسط عائلاتهم وفي حضور القَس. وكان دافنو الموتى يعرفون أسماء مَن يدفنونهم. ربما كان هذا هو السبب الذي دفع أبي على مدار سنوات طويلة لجمع التبرعات في عيد «جميع القديسين» لصالح حركة «الصليب الأسود». عدا ذلك لم يكُن أبي يلتقي بقُدامى المُحاربين، ولم يكُن يحكي لنا ونحن أطفال أي تفاصيل. اكتفى بكتمان الأمر بينه وبين الموتى، الذين كانوا يُهيمنون على منامه ويسكنون خياله ويؤثِّرون في إلحاح وصمت على قراراته، كدأب الأموات دائمًا.

«نعم، اذهب أنت إلى البيت. لا يسعُني إلا أن أُسديك نصيحةً واحدة: ابقَ في البيت ولا ترحل!»

•••

في ليلة الإثنين كان القمر يسطع مباشرة فوق آخر شجرة صنوبر أمام غرفتي مُلقيًا بضوئه على سريري، وشعرتُ برياح قوية هبَّت في نصف الليل الثاني وفي الصباح، وسمعتُ صوت أوراق الصُّحف على الدَّرَج المؤدي إلى غرفتي، بعد أن حملها الريح إلى هناك؛ مما أزعج نومي. مع ذلك كانت الحاوية الثانية قد أُخذت ونحن نيام دون أن يلحظ ذلك أحد. أغمضنا أعيننا قليلًا ثم استيقظنا، فكان المكان أمام البيت قد أصبح في ضوء الشمس فارغًا، وكأن شيئًا لم يكُن.

في الأيام التالية كنتُ وأُمي نتخلص مع كل خروج بالسيارة من أوراق وملابس وأشياء معدنية قديمة، وبالتدريج أصبح مرأب السيارات أيضًا خاليًا، ولم يبقَ سوى بعض الأخشاب مع تلك الأشياء التي احتفظنا بها لسوق الكشافة الخيري، وكانت مقارنةً بما سبق أشياءَ قليلة. وسافرتْ أمي مرة أخرى، وبقيتُ أنا عدة أيام، وأنا أعلم أن أبي لن يرى كثيرًا من حجرات البيت مُجددًا أبدًا؛ لأنه سيجلس في أيام الأحد وفي الأعياد في المطبخ وفي غُرفة المعيشة، في حين لم تعُد غرفة نومه، التي أصبحت خاوية مثل ساحة الرقص، جزءًا من عالمه الجديد.

كنتُ أطوف كثيرًا بأروقة البيت، وتعتصر قلبي حقيقةُ أن هناك شخصًا قد بذل الكثير من الجهد ليبني مكانًا كهذا يمنحنا الإحساس بالأمان والاحتواء. والآن تحطَّم كل شيء، الرجُل والبيت والعالم. وفكَّرتُ في تأليف كتاب بعنوان «أرضٌ حزينة بعد الهزيمة».

في ذلك الوقت مع بداية شهر سبتمبر جاء موعد الحصاد الثالث. قام إيريش، ثاني أصغر أخ لأبي، بجزِّ الحشائش من حديقة الفاكهة بالمنجل، كل شيء كان يتم باليد، قطعة قطعة، وشعرتُ بارتياح لرؤيته وهو يفعل ذلك. وكانت أواخر الصيف أَحبَّ الأوقات إلى قلبي عندما كانت الأشجار الكبيرة بتفاحها أحمر الخدود وحبَّاتها من الكمثرى الصفراء تقف بارزةً وسط الحقل. وأحيانًا تهب الريح فيدوِّي حفيف الأشجار وكأنه صوت فرقاطات، والأطفال يلعبون في حديقة الجيران، وظلال الأشجار وفروعها تكون بعد جزِّ الحشائش المتسلِّقة الواضحة المعالم في ضوء الشمس المنحنية على الحقل أكثر من أي وقت آخر.

كنتُ أرى من طاولة مكتبي ما وراء حديقة الفاكهة وحديقة الجيران، كان العم إيريش والعمة فالتراود يعملان تقريبًا كل يوم في الحقل. ذات يوم رأيتُ طفلًا، ربما في السادسة من عمره، يسكن في البيت المُجاور، ورأيته قبل ذلك عدة مرَّات وهو يسير خلف العم إيريش ويناديه «جَدِّي»؛ مما كان له أثرٌ داعم في بناء هوية ثقافية جديدة لكلا الطرفين؛ لأن المجتمع التقليدي الذي نشأ فيه أبي وإخوته كان قد تفكَّك. كان لا يزال هناك عملُ فلاحين ولكن لم تعُد هناك حياةُ فلاحين. ما يُسمَّى بتغيُّر الهياكل الاجتماعية جعل من فولفورت مجتمعًا سكنيًّا وصناعيًّا. وعندما كان أحد السكان يزرع شجرة فاكهة كبيرة، كانت الإدارة المحلية تدفع له مكافأةً تشجيعية؛ حتى تُصبح في القرية هنا وهناك زوايا تُذكِّر بثقافة تُحتضر في هذا البلد.

كان الطفلُ يمشي مُتبخترًا عبر الحقل وهو يقضم تفاحةً عندما أجاب نداء طفل آخر:

«كوكوكوكو! كوكوكو!»

ثم ذهب إلى طرف قطعة الأرض، حيث بُني العام الماضي — في المكان الذي كانت فيه حديقة الفاكهة الخاصة بجيراننا — مبنيان جديدان. وقف الغُلام يُشاهد شابًّا وهو يؤرجح ابنته من يديها وقدميها في الحديقة الصغيرة، ثم دخل معها عبر باب الشُّرفة الخارجية إلى البيت الجديد، وكان هذا الشاب حفيد المرأة التي أخذ أبي غرفتها في دار المُسنين بعد وفاتها. جرى الفتى إلى إيريش الذي كان يجُرُّ العربة المُحمَّلة بالقش في اتجاه البيت، وبعد ذلك بقليل أصبحت حديقة الفاكهة خاليةً، وظهر بريق الثمار المُتبقية في الحقل على خلفية لونه الأخضر الفاتح الناعم.

وجاء المنطاد من ميناء فريدريش طائرًا، واستدار فوق طرف أوبيرفيلد، كما هي عادته في الصيف عدة مرات كل يوم، عندما يكون الجو جيدًا. وكان هناك صقرٌ يحوم فوق الحقل السفلي، فهاجمه غرابان في الهواء بمنقارَيْهما في ظهره وجناحيه، ولكنه لم يَبدُ مُهتمًّا بما يفعلان، أو على الأقل لم يكلِّفه تجنُّبُ ضرباتهما عناءً كبيرًا. وبهدوء انطلق نحو النهر عند بريجينتس.

وتذكَّرتُ عندما كانت عاصفةٌ تهُب وكان خمسة عشر أو عشرون من العائلة يُهرعون لنقل القش قبل أن يُصيبه المطر، وصيحات الرجال العالية في اتجاه الجرَّار الذي كان يسحب عربة القش، وأصوات التأوهات عندما كانوا يرفعون القش على العربة، وكُنا ونحن أطفال نستقبله ونوزعه ونحشو به أركان العربة، وصوت صنادل النساء، اللاتي يُسرعن خلف العربة لجمع ما يقع من القش. وكان يطغى على ذلك كله صوتُ الجرار المرتفع وزئير العاصفة يقترب منا، ثم الانطلاق سريعًا في اتجاه غرفة التخزين. وكُنا ننام على بطوننا فوق القش؛ كيلا تضرب آذاننا فروعُ شجر الكمثرى التي يمر تحتها الجرار. وكانت بعض حِزم القش تبقى عالقةً في الأفرُع أيامًا بعدها. وأتذكر أيضًا اصطدام قطرات المطر الكبيرة بعد ذلك بأرجلنا العارية التي أحدث القش بها خدوشًا، وصياح أبناء وبنات الأعمام والعمات في سعادة وهم يهرولون وراء العربة، ودائمًا كان شخص يسبق على الدراجة لفتح باب غُرفة التخزين. وأتذكر كذلك المناورة لإدخال العربة تحت السقف الأمامي للغرفة والأصوات تتعالى، بينما المطر يتساقط على السقف ومنه إلى الشارع، وذلك الهواء الساخن الخانق في غرفة التخزين.

وكنا بعد ذلك نجلس في غرفة جدَّيْنا نشرب العصير ونأكل المُثلجات، ثم نستحم في البيت والأنوف يملؤها غُبار القش، وبعدها نتناول عشاءً سريعًا أمام التليفزيون ونحن مُتعبون لدرجة تحول بيننا وبين مُتابعة الصور التي كانت تبدو لنا وكأنها أحلام مُبكِّرة. وعند الدخول إلى الفراش كانت المفارش الكتَّانية الخشنة تُعطي إحساسًا مُريحًا على الأقدام المخدوشة، وكُنا ننام على الفور.

وأذكرُ أيضًا كيف كان أعمامي وأبي يتقابلون مع شروق الشمس لجزِّ الحشائش من فوق التل، وكان ذلك يحدث كل عام مرتين أو ثلاثًا في السبعينيات وبدايات الثمانينيات. وكانوا عادة خمسة: إميل وأوجوست وباول وروبيرت وإيريش، وكان كلٌّ منهم يُحضر معه منجله وحجر الشحذ. باول وأبي كانا يذهبان في حذاء كرة القدم القديم؛ لأن البروز فيه كان يُساعدهم على الثبات إذا داست أقدامهما على الديدان البزاقة. وكان الإخوة الخمسة يجزُّون حشائش التل المُنحدر في صفوف متساوية. كانت الغُرفة التي تقاسمتُها مع فيرنر تُطِل بنافذتَيْها على التل، وكنا في الصيف نترك النافذتَيْن مفتوحَتَيْن بطريقة مائلة طوال الليل؛ لذلك كُنا نستيقظ في الخامسة صباحًا على صوت أحجار الشحذ. أحيانًا كان يقوم رجُلان بالشحذ في نفس الوقت ويَصدُر عن ذلك صوتٌ منتظم «شيت، شيت، شيت»، وفي الخلفية تَصدُر أصواتُ المناجل مُنتظمةً أيضًا وهي تجزُّ الحشائش التي بلَّلها الندى. وكان ذلك يستمر قُرابة الساعة والنصف، ونحن ننام ونستيقظ في أثناء ذلك. وبعدها كان أبي وإخوته يعودون إلى البيت والمناجل على أكتافهم، يغتسلون ثم يذهبون إلى أعمالهم في البنك العقاري وفي الإدارة المحلية وفي الغابة وفي قراءة عدادات الكهرباء وفي المكتبة الوطنية.

«أيام الإنسان مثل الحشائش.»

وبينها زهور الحُرْف المرجي.

•••

في إحدى زياراتي لأبي هذا الأسبوع حاولتُ مرارًا أن أُقنعه بأن يلعب معي لعبة مصارعة الذراعَيْن، في البداية كان يدفع ذراعه في الاتجاه الخاطئ، فشرحتُ له الطريقة السليمة للعبها، فأدرك ما قُلته ولعبنا وتركتُه يفوز مرتين. فرح أبي بالمزاح والضحك أكثر من الفوز الذي لم يُعلِّق عليه، ولكنه قال مُبتسمًا:

«مَن يفعل ما نفعله نحن هنا سيطردونه بالتأكيد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤