حدث في حمَّام السباحة

جلس ستة من الشياطين في صالة الشقة الكبيرة، ومدَّ «أحمد» يده فأطفأ النور فساد ظلام خفيف … وانطلَقَ شعاع من الضوء من خلفهم في آخر الصالة، ودارَت ماكينة السينما الصغيرة، وبدأ الفيلم يظهر على الشاشة التي علقَتها «عبلة» أمامهم.

دار الفيلم وظهر شارع في مدينة كبيرة … وشخص يَسير، وظهر معه بعض الأشخاص ثم اختفَوا، وركب الرجل سيارة، وكان واضحًا أنه يُعاني من عرجٍ خفيف في إحدى ساقَيه، ولكن هذا لم يمنعه من السير بنشاطٍ وقوَّة … واختفى المنظر ليبدو نفس الشخص وهو يخرج من مطعم وحوله بعض الأشخاص … ثم فجأة يَنبطح على الأرض … واختفى المنظر … وظهر الرجل مرةً أخرى في ثياب الاستِحمام على شاطئ البحر … ووضح من تكوين جسده أنه قويٌّ مفتول العضلات … ذو وجه صارم، ونزل الرجل إلى الماء واختفى المنظر. ثم ظهر نفس الرجل في مطعم … كان المنظر معتمًا قليلًا … ولكن حركة الرجل كانت واضحة؛ فقد كان يتناول طعامه، وبين لحظة وأخرى يدور بعينيه في حذر، ولكن حذره لم يمنعه من تناول طعامه بشهيةٍ كبيرة وبسرعةٍ في نفس الوقت … واختفى المنظر ثم ظهر نفس الرجل في صالة للرقص … كان يُراقص سيدة حسناء في ثياب السهرة … وكان يتحدث إليها دون أن يبتسم … واختلط منظر الرجل ببقية الراقصين لحظات ثم اختفى … ثم ظهر من جديد وهو يشقُّ طريقه بين الموائد ومعه السيدة التي كان يُراقصها … ثم اختفى المنظر … وظهرت صورة ثابِتة لوجهِ الرجل … كان وجهه مُستطيلًا ذا فكٍّ قوي … وشفتاه الغليظتان مُطبقتان في عزم … وكان في عينيه نظرة رجلٍ قاسٍ جادٍّ … وكانت هناك ندبة واضحة تمتدُّ من تحت عينِه إلى أسفل الوجه … وثبتَت الصورة لحظات، ثم مَدَّ «أحمد» يده وأضاء النور.

وأوقفت «عبلة» آلة العرض، ثم انضمَّت إلى الأصدقاء وجلست. وقَف «أحمد» وفي يده ملف صغير، وقال: هذه ثالث مرة نتفرَّج فيها على هذا الفيلم … هل تُحبُّون أن نَعرضه مرةً أخرى؟

ارتفعت أصوات بعض الشياطين قائلين: هذا يكفي … دعنا نَسمع ما عندك!

أحمد: كما تعلمون … أرسل إلينا «رقم صفر» … هذا الفيلم وطلب أن نَدرسه جيدًا … إنه لرجل شديد الأهمية في أوروبا كلها وإن كان عددٌ قليل جدًّا من الناس من يَعرف حقيقتَه … إنه يُسيطر على عصابة من أعتى المجرمين دون أن يتمكَّن رجال البوليس في القارة كلها من إثبات علاقته بهم … فهو يُدير عصابتَه من بعيد … ويسيطر بها على عدد كبير من الشخصيات والشركات والبنوك … وليس هناك من يستطيع أن يتحدَّى بطش هذا الرجل.

وسكت «أحمد» لحظات وهو يُدير بصره في الأصدقاء، ثم قال: وقد ظهر هذا الرجل أخيرًا في بيروت.

وبدأ الاهتمام على وجه الشياطين الخمسة ومضى «أحمد» يقول: ويرى «رقم صفر» أن هناك متاعب ستقع في بيروت … وربما في المنطقة العربية … لا أحد يَدري بالضبط … وعلى كل حالٍ فجهات الأمن في بيروت تُراقبه، ومطلوب منَّا أن نَشترك في المراقبة، وقد أرسل لنا «رقم صفر» تقريرًا عن حياة الرجل، بالإضافة إلى هذا الفيلم الذي أرسل «رقم صفر» في طلبه من الكهف (س/ص) والذي تمَّ التقاطه في مناسَبات متعدِّدة بواسطة كاميرات سرية.

كان الجالسون هم «إلهام» و«عبلة» و«عثمان» و«خالد» و«فهد»، الذي وصَل من دمشق، كما طلب «رقم صفر» من «بو عمير» في الجزائر و«قيس» في السعودية و«رشيد» في العراق أن يكونوا على استعدادٍ للانضمام إلى الستة في أيَّة لحظة.

وبدأ «أحمد» يقرأ الملف:

«بوزيل كيرجولاي»، في الخامسة والأربعين من عمره … سليل أُسرة من أعرق الأسر في فرنسا … بعد دراسته الثانوية دخل كلية «سان سير» العسكرية … وانضمَّ إلى الجيش الفرنسي، وخدم في أماكن مُتفرقة، منها السنغال في أفريقيا، وهناك اتُّهم بجريمة قتل، وفُصِل من الجيش، فانضمَّ إلى الفِرقة الأجنبية، وهي فرقة كانت تعمل لحساب فرنسا في المُستعمَرات وتضمُّ رجالًا من مُختلِف الجنسيات يتميَّزون جميعًا بالمهارة الفائقة في القتال، وأكثرهم من الفارِّين من بلادهم لتُهَم أو أحكام صدرت عليهم. وهرب «بوزيل» من الفرقة الأجنبية ومعه أربعة من رجالها واختفى فترة طويلة، ثم ظهر في سويسرا وفي ألمانيا وإنجلترا تحت أسماء مُختلفة. وكان ظهوره في أيِّ مكان يرتبط بوقوع عدد من حوادث السرقة أو القتل أو الاحتيال، ولكن لم يتمكَّن رجال البوليس في أي دولة من إيجاد صلة بينه وبين الجرائم التي وقعت … أُصيب في ساقه اليُسرى إصابة تركت فيها أثرًا مما يؤدِّي إلى عرجه … يجيد استخدام الأسلحة تمامًا … يملك ثروة ضخمة موضوعة تحت أسماء مختلفة وأرقام سرية في عدد من البنوك، كما يملك طائرة يقودها بنفسه … يهوى جمع التحف والآثار ويَتجر فيها … يهوى أكلَ السمك ويُجيد طهيه.

وطوى «أحمد» الملف ثمَّ قال: هذا الرجل مطلوب منَّا مراقبته مراقبةً دقيقة ومحاولة معرفة أفراد عصابته … وفي التاسعة ليلًا، أي بعد ربع ساعة تقريبًا من الآن، سوف يتصل بنا «رقم صفر» ليخبرنا بتحركات «بوزيل» غدًا … وعلى ضوء هذ المعلومات سوف نضع خطة المراقبة …

وجلس «أحمد» وقامت «عبلة» بفتح النوافذ؛ فقد كان الجو حارًّا في تلك الليلة من ليالي شهر يوليو … وأحضرت «إلهام» زجاجات الكوكاكولا المثلجة ودارت بها على الأصدقاء، فقام «فهد» يَحمل زجاجته وخرج إلى الشرفة.

كانت شقَّتهم تقع في الدور الأخير من عمارة كبيرة في شارع «أحمد شوقي» وتُطلُّ على خليج «سان جورج»، وأخذ «فهد» يُرسل بصرَه مُمتدًّا إلى المياه السوداء البعيدة … وكانت الريح واقفة، والبحر ساكن كأنه طبق من الزيت … ولحقَت به «عبلة»، ثم انضمَّ إليهم باقي الأصدقاء عدا «إلهام» التي بقيت قريبة من جهاز اللاسلكي داخل الشقَّة الفاخرة.

مضَت الدقائق والشياطين الخمسة يقفون في الشرفة العريضة يتحدثون ويضحكون، وكان «فهد» أكثرهم سعادة … فقد كانت هذه أول مهمَّة للشياطين يَشترك فيها وكان يقول ضاحكًا: أرجو ألا يُخيِّب «بوزيل» ظنَّنا ولا يفعل شيئًا؛ فقد حضرتُ للاشتراك في عمل وليس لسَماع مُحاضرة عن رجلٍ فرنسي عريق الأصل انحرف إلى حياة الإجرام.

ولم يُتمَّ «فهد» جملته حتى كانت «إلهام» تدخل عليهم وبيدِها قصاصة من الورق. وقالت: «رقم صفر» يُحييكم ويقول إن «بوزيل» سيقضي يومه في الأغلب في غرفته بفندق كارلتون، ولكنه سيَنزل قرب الظهر إلى حمَّام السباحة المُلحَق بالفُندق، ثم يقضي بعد الظهر في غرفته، وسيَخرُج في المساء … ولا أحد يدري وجهته.

أمسك «أحمد» بالورقة التي أحضرَتها «إلهام» وقرأها مرةً أخرى ثم قال: ليس أمامنا إلا حمَّام السباحة لمراقبتِه وسنُقيم حلقتَين للمُراقبة. واحدة عند مدخل الحمَّام والثانية في الحمَّام ذاته.

قال «عثمان» مبتسمًا: أظن أنني من الحلقة الأولى.

ابتسم «أحمد» قائلًا: أنت و«فهد».

•••

في صباح اليوم التالي كان «أحمد» و«إلهام» و«عبلة» و«خالد» يَرتدُون ثياب الاستحمام، وقد وزعوا أنفسهم … «إلهام» و«أحمد» … في جانب … و«عبلة» و«خالد» في جانب آخر … بينما وقف «فهد» و«عثمان» خارج الفندق في انتظار حضور «بوزيل» ورجاله.

كان الحمَّام مُزدحمًا بعدد كبير من الروَّاد … وموسيقى خفيفة تنبعث من جوانبه وتُضفي جوًّا من المرح والانتعاش على الذين جلسوا حول الحمَّام الكبير.

قالت «إلهام»: ازدحام غير متوقَّع!

ردَّ «أحمد» وهو يُدير عينيه في الزحام: أظن أنه لن يتوه منَّا، فهو لا يتنكَّر فليس هناك فائدة في تنكُّره بسبب عرجِه والإصابة الواضحة في وجهه. وقد درسناه جيدًا على الشاشة.

كانا ممدَّدَين على حافة الحمَّام. «أحمد» بجسده الفارع المفتول … و«إلهام» بجسدها الرشيق في مايوه من قطعتين … ومن بعيدٍ كان «خالد» يقوم بجولة بين الجالسين حول حوض السباحة … بينما جلست «عبلة» تستمع إلى الموسيقى.

مَرَّ «خالد» بجوار «أحمد» و«إلهام» بهدوء وكأنه لا يعرفهما، وكان عليه أن يرفع يده إلى رأسه إذا رأى شيئًا غير عادي … ولكنه لم يفعل … وكان من الواضح أن «بوزيل» لم يظهر بعد.

ومرَّ الوقت وأشرفَت الساعة على الثانية عشرة دون أن يظهر أيُّ أثر ﻟ «بوزيل» وقالت «إلهام»: أظن أنه لن يأتي … ومن حقِّنا أن نَستمتِع قليلًا بالمياه … سأنزل …

ووقفت «إلهام» وخطت خُطوة إلى حافة الحمَّام … ثم رفعت يدَيها إلى فوق واستعدَّت للقفز … وفي تلك اللحظة انطلقَت من مياه الحمَّام صيحة فزع …

كانت الصيحة لامرأة … ولكن كان من الصعب تحديد مكانها بين الرءوس الكثيرة الطافيَة على المياه … وتوقفَت «إلهام» عن القفز … وجمدت في مكانِها كالتمثال … وسكتت الضجة والضحكات التي كان يطلقها السائحون … وإن ظلَّت الموسيقى تُطلق أنغامها الراقصة …

ومرةً أخرى ارتفعت الصيحة … وسمع الجميع صوتًا نسائيًّا مُضطربًا يقول: غريق!

وقفزت «إلهام» كالسَّهم وفي ضربات سريعة متلاحقة وصلت إلى المرأة الصارخة … ولاحظ «أحمد» من مكانه أن عددًا من الرجال في ملابس الاستحمام قد قفزوا أيضًا. ولكن «إلهام» كانت قد سبقتهم … وقالت المرأة: كنتُ أغطس فلاحظتُ وجود شخص على قاع الحمَّام.

وغطست «إلهام»، وهي بطلة في العوم والغطس، وشقَّت طريقها في المياه كالسَّمكة. وتحت المياه الزرقاء العميقة … على قاع الحمَّام كان ثمَّة شخص قد انطرح على ظهره وسكنت حركته.

اقتربت «إلهام» منه سريعًا … كان أول ما خطر ببالها أنه «بوزيل» … ولكن الرجل الغريق كان أكثر طولًا، وأكثَف شعرًا … ولحق ﺑ «إلهام» عدد من الرجال تعاونوا على رفع الرجل من المياه … ثم أسرعوا إلى حافة الحمَّام، وتعالت الصيحات تطلُب طبيبًا … ولكن «أحمد» الذي وصَل إلى مكان الغريق أدرك على الفور أن الرجل ميت …

وانحنى «أحمد» على الرجل فقد لاحظ أن جسمه مُتصلِّب وقد علته زُرقة شديدة وأن بطنه ليس منتفخًا كعادة الغرقى … وأحس أن الرجل لم يَغرق بشكل عادي …

كان الرجال الذين أخرجوا الرجل، قد التفُّوا حوله، وطلبوا من بقية روَّاد الحمَّام الابتعاد … وسكتت الموسيقى … وخيَّم جو من الوجوم على الحمَّام الذي كان يضجُّ بالمرح والضحكات، وأسرع أغلب الروَّاد يرتدُون ثيابهم ويُغادرون الحمَّام.

وانطلق صوت الميكريفون يقول: سيداتي سادتي، نرجو عدم مغادرة الحمَّام حتى يُتمَّ رجال الشرطة عملهم.

همس «أحمد» في أُذن «إلهام»: الرجال الذين قفزوا إلى الحمَّام بعدكِ من رجال الأمن … وقد اكتشفوا كما اكتشفتُ أنا بالضبط … أن الرجل لم يَمُت غريقًا.

إلهام: وما هو موقفنا؟

أحمد: سيِّئ طبعًا … فنحن لسنا من نزلاء الفندق وقد دخلنا متسلِّلين!

إلهام: لقد شاهدت شيئًا صغيرًا في قاع الحمَّام … لم أتمكن من الوصول إليه لأن الرجال كانوا يحيطون بي.

أحمد: وما هو هذا الشيء؟ أو أقرب شيءٍ إليه؟

إلهام: إنه يُشبه القلم في الأغلب!

أحمد: من الأفضل أن نَلفت نظر رجال الأمن إليه … فقد يكون ذا أهمية في التحقيق.

وكان باب الحمَّام قد أُغلق … ووُضع تحت حراسة مشددة … وبدأ رجال الأمن استجوابهم لجميع من كانوا في الحمَّام.

واقترب «فهد» و«عبلة» من «أحمد» و«إلهام»، وهمست «إلهام»: جريمة في حمَّام السباحة!

عبلة: هل «بوزيل» هو الفاعل؟

إلهام: إن «بوزيل» لم يظهر مطلقًا … ولكن من يدري؟

وطلب «أحمد» من «إلهام» أن تُسرع إلى التليفون وتتصل ﺑ «رقم صفر» وتخطره بما حدث وتطلب منه تسهيل خروجهم من الحمَّام قبل أن يُضايقَهم رجال الشرطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤