الفصل السابع

إقفال العقل الألماني

«أوزوالد شبنجلر» و«أُفُول الغرب»
عندما غادر «فردريك نيتشة» Friedrich Nietzsche مسكنَه في «تورین» يوم الثالث من يناير عام ۱۸۸۹م، شاهد سائق مركبة يضرب حصانًا في ساحة «كارلو ألبرتو». هرع «نيتشة» للدفاع عن الحصان، لكنه سقط فجأةً مغشيًّا عليه في الشارع. وبعد أن حمله بعضُ المارة إلى مسكنه، كان يصرخ بعنف ويدقُّ على البيانو بقوة … نفس البيانو الذي كان يعزف عليه ألحانًا من بعض «أوبرات» «فاجنر» Wagner قبل أيام قليلة. وتمَّ استدعاء أحد أصدقائه لكي يُعيدَه إلى «بازل» بعد إعطائه مخدرًا لتهدئته. وهناك فحصه الطبيب الذي شخَّص الحالة بأنها «تدهور عقلي» …! مفارقة تدعو للسخرية بالنسبة لرجل كان يقول: «ما هو الشيء الذي نعتبره سيئًا … وأسوأ من أي شيء آخر؟ أليس هو التدهور؟»١
بعد أسبوعين تم إيداعه مصحَّةً ليكون تحت رعاية أمِّه. وبالرغم من معارضة الطبيب والأصدقاء، قرَّرت الأم أن تنقله إلى منزلها في «جینا». استقل «نيتشة» القطار من «بازل» لآخر مرة، واحتُجز ليكون تحت الملاحظة النفسية لمدة ثلاثة أيام. كان سلوكه يتنوَّع بين أوهام جنون العظمة (كان مصرًّا على أنه قيصر) ونوبات من الصراخ. كان مقتنعًا بأن وضعه تحت الملاحظة قد صدر بأوامر من «بسمارك» Bismarck شخصيًّا. وفي إحدى المرات حطَّم النافذة وهو يحاول الهرب من المصحَّة، وتحوَّلت نوبات الغضب والثورة بالتدريج إلى نعاس وإغماء. ومنذ إطلاق سراحه من المصحَّة بعد عام، وإلى أن مات في عام ۱۹۰۰م، عاش «نيتشة» كشخص بليد خامل، تحت رعاية أمِّه أولًا، ثم تحت رعاية أخته «إليزابيث». كانت أخته «إليزابيث فورستر نيتشة» Elizabeth Fӧrster-Nietzsche على خلاف أمِّها، شديدة الاهتمام بفلسفة شقيقها.

كانت قد تزوَّجت من مثقَّف آخر من دائرة «فاجنر»، وهو «برنارد فورستر»، وكان هو أيضًا من أشد المعجبين ﺑ «جوبينو».

كان «فورستر» قد فكَّر بمشرع خيالي يتفق مع أفكار «جوبينو»، لإقامة مستعمرة لمستوطنين من الآريِّين-الجرمان في أمريكا الجنوبية وتسمَّى «نيو جیرمانيا». ومثل شخصية من أفلام «فيرنر هيرتسوج» Werner Herzog، أخذ «فورستر» زوجته «إليزابيث» ومجموعة من أتباعه إلى أدغال «باراجواي» في سنة ۱۸۸۷م لإعادة استعمار العالم الجديد بروَّاد نورديِّين، أنقياء العرق، أقوياء.٢ كانت النتيجة هي الفشل التام، واتُّهِم «فورستر» بالاحتيال على المستعمرين، وانتحر تاركًا «إليزابيث» تجمع الحطام.
وفي عام ۱۸۹۲م، عادت إلى ألمانيا لرعاية شقيقها المريض ولتصبح الممرضة، والوصية الدائمة عليه. في الوقت نفسه كانت «إليزابيث» مصمِّمةً على ألَّا تترك فلسفة شقيقها لتكون عرضةً للنسيان، وكانت مقتنعة بأن هناك سوقًا في ألمانيا لكتاباته بالرغم من مرضه. والآن بدأت تتحرَّك لكي تحصل على الحقوق القانونية الكاملة عن أعماله المنشورة، وأوراقه التي لم تكن قد نُشِرت بعد، مجبرةً أمَّها على التوقيع على وثيقة بذلك في ديسمبر ۱۸۹٥م، كما سارعَت بتأسيس أرشيف لأعماله بالدور الأرضي من منزلهم، وكتبت سيرة حياة لشقيقها في جزأين كبيرين، مفيدة من المادة الغزيرة الموجودة في عمله: Ecce Homo «هو ذا الإنسان»، والذي لم يكن قد نُشِر بعد.

وهكذا أصبح «بيت نيتشة» مزارًا، و«نيتشة» بداخله يُعرَض للزوَّار وهو لا يستطيع أن يتحرك. بعد وفاته، أصبحت كتاباته غير المنشورة ومخطوطاته متوفرة للدراسة والبحث، وتحت إشراف وسيطرة «إليزابيث».

كانت «إليزابيث» كلها تصميم على أن تجعل الجميع يعترفون بشقيقها كأكبر عبقرية ألمانية منذ «جوته» Goethe، وكانت تقوم بالتحرير وبحذف بعض العبارات ذات الحساسية السياسية، والإشارات التي تستخفُّ بالدولة، وﺑ: «بسمارك» من المواد التي أفرجت عنها للنشر. كانت تحذف أو تُبرِّر أيَّ إشارة إلى أنه كان يرى ألمانيا الإمبراطورية مثالًا على التفسُّخ، وكذلك أي إعجاب بالفرنسيِّين، وبالرغم من أنَّ أفكار «نيتشة» كانت شديدةَ التطرُّف ضدَّ المسيحيين، إلا أنَّ جنازته في عام ۱۹۰۰م كانت نموذجًا لوثريًّا٣ تقليديًّا، كان هناك الصليب الذي يُمثِّل المسيح مصلوبًا، موضوعًا فوق التابوت، وبحضور عدد كبير من تلاميذه والشخصيات الهامة، كما وصلت «إليزابيث» إلى تسوية مع دائرة «بايريث» بعد عشرين عامًا من المداراة والصمت.
أصبحت فلسفة «نيتشة»، مرة أخرى، مرتبطةً باسم «ريتشارد فاجنر» Richard Wagner أحدث بطل ثقافي في ألمانيا. وفي عام ۱۹۰۰م، كان هناك هيكلان عظيمان بارزان في المشهد الثقافي الألماني الحديث، وبكلٍّ منهما كاهنٌ شديد البأس: «كوزيما فاجنر» في «بايريث»، قلب المؤسسة الموسيقية الألمانية، و«إليزابيث فورستر نيتشة» في «مركز أرشيف نيتشة» في «فيمر». بعد ثلاثين عامًا من التوحيد السياسي والتصنيع، حقَّقت ألمانيا مكانة القوة الأوروبية الحديثة، وأصبحت بالنسبة لبقية أوروبا رمزًا لانتصار العلم والمعرفة التكنولوجية والديناميكية الاقتصادية والسياسية. تراثها العسكري البروسي، الخدمة المدنية الماهرة والمتميزة، نظام التعليم … كلُّ ذلك كان محلَّ إعجاب الكثيرين من مختلف التوجُّهات مثل «بروکس آدمز»، و«إميل زولا»، إلا أنَّ نجاح ألمانيا قد أحدث أيضًا حالةً من الشعور بالإحباط وعدم الرضا. إحياء فلسفة «نيتشة» لمس وترًا حسَّاسًا عند المثقَّفين والفنانين في كل ألمانيا، كما سوف ينتشر بعد ذلك في كل أوروبا.
كان «دبليو إي بي دو بوا» قد غادر «برلين» في عام ١٨٩٤م، دون مواجهةٍ مع أيٍّ من أفكار «نيتشة»، ولو أنه كان قد بقيَ عامين أكثر من ذلك لما كان بمقدوره أن يتجنَّبها.٤
في عام ١٨٩٦م، وصف عالم الاجتماع «جورج سیمل» Georg Simmel فلسفةَ نيتشة بأنها ثورة فكرية على درجة كبيرة من الأهمية مثل نظرية «كوبرنيكوس» Copernicus عن المنظومة الشمسية، كما كان المؤرِّخ «کورت بريسج» Kurt Breysig يرى أنَّ «نيتشة» هو المعادل التاريخي ﻟ: «بوذا»، و«المسيح»، و«زرادشت»، (على نحو ملائم طبعًا): مؤسِّسًا لعقيدة جديدة، لإرادة القوة والفعل.
وبينما كان ليبراليون من الطراز القديم مثل «ماکس نوردو» يُشيرون إلى جنون «نيتشة» كدليل على أنَّ فلسفته لا يمكن أن تُؤخَذ على محمل الجد، كان المدافعون عنه الآن مصرِّين٥ على أنَّ جنونه حالة من السموِّ الروحي، ونتيجة لأنه قد أدرك حقيقةً أبعد من العقل والمعايير البرجوازية المرسلة، للحكم على الأشياء.٦
قصيدة ريتشارد شتراوس السيمفونية: «هكذا تكلَّم زرادشت» Also Sprach Zarathustra قُدِّمت لأول مرة في «فرانكفورت» في عام ١٨٩٦م، وفي ظرف عشرة أشهر كانت تُقدَّم في باريس ولندن ونيويورك وشيكاغو. أنغام «الترومبیت» الشهيرة التي تبدأ بها، معلنةً بزوغ فجر «الإنسان الأرقى» Übermensch جعلت من «نيتشة» أشهر فیلسوف في عالم الموسيقى، وفي العام نفسه أكمل «جوستاف ماهلر» Gustav Mahler سيمفونيته الثالثة، التي كان قد أعطاها في الأصل عنوانَ «العلم المرح» Fröhliche Wissenschaft على اسم عمل «نيتشة». وفي الوقت نفسه أصبحت عبارات مثل: «الإنسان الأرقى»، و«إرادة القوة»، و«أخلاق العبيد»، و«إعادة تقييم كل القيم»، و«الوحش الأبيض»، أجزاء من لغة المثقَّفين والكُتَّاب السياسيِّين.
كان الانقلاب مدهشًا، أحد أعضاء دائرة «فورستر-نيتشة» في «مركز أرشيف نيتشة» يَصِف تأثيره على النحو التالي: «كانت الصحراء في قلوبنا، وفجأة ظهر نيتشة مثل النيزك.»٧ والآن أصبحت كتابات «نيتشة» هي البضاعة الرائجة في كل المعسكرات الأيديولوجية في ألمانيا بعد عام ۱۹۰۰م.
الاشتراكيون معجبون بهجومه على البرجوازية والمسيحية الرسمية، المنادون ﺑ «كل ألمانيا» كانوا يستطيعون أن يستغلوا هجومه على اليهودية. وحيث إنَّ «إليزابيث فورستر-نيتشة» نفسها كانت شديدةَ العداء للسامية، أصبح «نيتشة» — دون أن يدري — متحدِّثًا رسميًّا باسم الآرية Aryanism المعادية للسامية، وكذلك أصبح حفرًا مطبوعًا ﻟ «نيتشة» المتماثل للشفاء بشاربِه الكثِّ، ونظرته المجهدة (التي تُخفي خواءً عقليًّا تامًّا) هو الملصق المفضل الذي يعلِّقه الكُتَّاب الطليعيون غير السياسيِّين مثل «هيرمان هيسه» Herman Hesse، و«ستيفان جورج» Stefan George. ولم يكن هذا التأثير مقصورًا على ألمانيا؛ فقد قدَّم «جورج برناردشو» George Bernard Shaw لرواد المسرح في لندن مسرحية «الإنسان والسوبرمان» والتي امتدحها بعد ذلك «أوزوالد شبنجلر» واعتبرها «عرضًا ممتازًا لأفكار «نيتشة».»٨ وفي أمريكا كان تأثير «نيتشة» بالغًا على «ﻫ ل منسكن» H. L. Mencken الذي أصدر كتابًا يشرح فيه فلسفته. وفي فرنسا كان مصدرَ إلهام للكاتب الثائر «جورج سوريل» Georges Sorl، الذي قدَّمه إلى كلٍّ من الماركسيِّين والفاشست مثل «بنيتو موسوليني»، بينما أيقظَت أعمالُه فورةً فلسفية في إسبانيا من خلال كتابات «ميجل دي أونامونو» Miguel de Unamuno ، و«خوسيه أورتيجا واي جاسيت» José Ortega y Gasset مؤلِّف كتاب «تمرد الجماهير».٩ وفجأةً أصبح «نيتشة» الفيلسوف النقيض لليبرالية في القرن العشرين، وظهر أنه أكثر أهمية في هذا الشأن من «ماركس»؛ لأن «نيتشة» ظل أيقونةً ثقافية مشتركة عند كلٍّ من اليسار واليمين، بينما أصبحت نظريات «ماركس» رهينةً لمصير الحزب الشيوعي بعد عام ١٩١٧م.
كان ذلك صحيحًا على نحوٍ خاصٍّ وبين الموالين للتوجهات الحداثية الوليدة، وللتعبيرية (مثل الشاعرَين «ستيفان جورج» Stefan George، و«جوتفريد بن» Gottfried Benn)، الذين كانوا يعتقدون أن نخبةً فنية-روحية يمكن أن تقود انقلابًا مستقبليًّا على النظام البرجوازي الزائف، وكما عبَّر أحدهم عن ذلك: «لم يكن نيتشة نبيًّا للناس فقط، وإنما نبيًّا للأنبياء.»١٠
هذا «النيتشة» نبيُّ الأنبياء هو الذي سيُلهِم «أوزولد شبنجلر» ويشكِّل رؤيته عن مصير ألمانيا وأوروبا الغربية في تحفته الكئيبة «أفول الغرب»، إلا أن «نيتشة» الذي عرفه «شبنجلر» — باعتبارات مهمة — كان «نيتشة في شكل مهذب»، ودون علمه أو موافقته تحوَّل «نيتشة» إلى ناطق باسم القومية الألمانية الراديكالية، وتمَّ ربطُه بتقليد آخر مضاد لليبرالية وهو التشاؤمية العرقية الشعبية. الإيمان بإرادة القوة ثم استخدامه لتبرير السلطوية في الداخل، والعدوان العسكري في الخارج، بينما امتزجت «أخلاق السادة»: Herren-Moral عند «نيتشة» والتي صاغها على نموذج الأرستقراطيات الزائلة في أوروبا الإقطاعية واليابان، بصورة الألمان التيوتون مثل «الإنسان الأرقی» في أوروبا ما بعد البرجوازية.
لم تكن رؤية «شبنجلر» إذن لأفول الغرب مسألةَ يأس، وإنما كانت مثل الألحان الافتتاحية في سيمفونية «ريتشارد شتراوس» الغنائية، إيذانًا بفجر جديد. الحضارة الغربية عند «شبنجلر»، كانت الحضارة التي كان «دبليو إي بي دو بوا» قد رآها: حضارة مدمرة للروح في أسوأ أشكالها. وكان «شبنجلر» يؤمن بأن من بين أطلالها ستقوم أوروبا جديدة، ليس على أساس القوى القديمة المتفسخة في القرن التاسع عشر — فرنسا وبريطانيا العظمى — وإنما بواسطة ألمانيا. الجمع بين الثقافة Kultur، والانضباط العسكري، وإرادة القوة النيتشوية، يمكن أن يخلق «طبائع قيادية» تصنع مصيرًا جديدًا، وربما كان ذلك من الصعب حيث «سيتدفق دم كثير»، كما كتب في بداية الحرب العالمية الأولى، ولكن حتى بعد هزيمة ألمانيا، كان «شبنجلر» على ثقة من أن «الجنس السيِّد يواجه مهمةً هو ندٌّ لها».١١

«أوزوالد شبنجلر» وهوية ألمانيا الثقافية

وُلد «أوزوالد شبنجلر» في «بلانكنبرج» في عام ۱۸۸۰م، وأمضى طفولةً غير سعيدة كأحد أبناء الطبقة الوسطى، في كنف أبوَين متباعدَين، باردَين عاطفيًّا. وفي محاولة للدفاع عن النفس انسحب (مثل آرثر دو جوبينو) إلى عالمِ خيالاتِه وتمرُّدِه الفكري. ومثل كثير من المراهقين من أبناء الطبقة الوسطى في ألمانيا «ولهلم»، كان أبطاله هم الآباء المؤسِّسون للحداثة، وقادة «حرب التحرير الكبرى ضد كآبة وتكلُّف ونفاق البرجوازية»، كما كان يقول أحد معاصريه، والتي كانت بالنسبة ﻟ «شبنجلر» حياةً أبوية.

كان «شبنجلر» يُكِنُّ إعجابًا واحترامًا لكاتب المسرح النرويجي «هنريك إبسن» Henrik lbsen الذي خلبت مسرحياته: (بيت الدمية – الأشباح – أعمدة المجتمع)، «وصدمت» الجمهور البرجوازي الذي شوَّهت سُمْعته. وكان «ريتشارد فاجنر» بطلًا آخر مع «إرنست هايكل»، الذي كانت رؤيته لتاريخ الإنسان كجزء من كلٍّ عضوي، قد أثَّرت بعمق على تفكير «شبنجلر» في الفترة الأخيرة. أما نموذج الدور الآخر فكان فردريك «نيتشة». «شبنجلر» الْتهَمَ أعمال «نيتشة» وهو طالب في المدرسة الثانوية، ووجد فيها ما وجده الروائي الشابُّ «توماس مان» أيضًا … إحساسًا «بالتسامي الذاتي». استوعب الطالب «شبنجلر» تشاؤم الفيلسوف أيضًا. وفي عام ۱۹۰۱م، وهو العام الذي أكمل فيه «شبنجلر» درجته العلمية في جامعة «هال» Halle ظهرَت مجموعة من مذكرات «نيتشة» بعنون «إرادة القوة». وبالرغم من أنها كانت محرَّرةً ومنقَّحةً جيدًا بواسطة شقيقته «إليزابيث فورستر-نيتشة» إلا أنَّ «قوة الإرادة» — ككتاب — كان يحتوي على نقدٍ لاذعٍ للمجتمع البرجوازي المتفسِّخ. كان «نيتشة» يقول بصرامة، إنَّ إرادة القوة يمكن أن تكون مثل «مطرقة … قوية» نستطيع بواسطتها «تكسير وإزالة الأجناس المنحلَّة والمتفسِّخة لإفساح الطريق أمام نظام حياة جديد.» ويُكمل «هناك حاجة إلى عقيدة قوية بما يكفي لتكون عاملًا يساعد على الاستيلاد: تزيد من قوة القوي، وتشلُّ الضعيف وتدمِّره، القضاء على الأجناس المتفسخة، السيادة على الأرض … كوسيلة لإنتاج نوع أرقى.»
العدمي النيتشوي يمكن أن يُزرع في ذلك المتفسِّخ الذي يريد أن يموت، «شوقًا للنهاية»، وبكلمات أخرى فإن «الإنسان بزرعِه فكرةَ التفسُّخ والانحلال١٢ في المجتمع، يمكنه بالفعل أن يعجِّل بزواله».١٣ والمؤكد أنَّ أبناء جيل «شبنجلر»، كانوا يحاولون النفاذ مما كانوا يرونه قيودًا ومحرمات برجوازية خانقة، إلى واقع جديد. وأصبح من السائد، الإشارة إلى فجوة بين الأجيال، وكما كتب أحد الشبَّان المتأثرين بفلسفة «نيتشة»: «المطلوب من أجل إنقاذ العالم هو عصيان متمرد من الأبناء على الآباء»، هذه الصورة أوحَت ﻟ «ولهلم هاسينكليفر» Wilhelm Hasenclever بكتابة رواية عن ابن يقتل أباه، وأصبحت تلك الرواية صرعةً أدبية. وفي جامعة «برلین» كان «جورج سيمل» Georg Simmel يشرح لطلابه الشباب؛ إذ بينما يركِّز الكبار اهتمامَهم على المادة ووسائل الراحة الاجتماعية «بسبب حيويتهم الآخذة في الضعف»، فإن الشباب «يرغب في التعبير عن حيويته وعن فائض حيويته»، دون أيِّ اعتبار لشكل القيم التقليدية. «سيمل» Simmel، الذي كان أيضًا من أشد المعجبين ﺑ «نيتشة»، كان يقول للشباب الألماني إنَّ قدَرَهم هو التوجُّه بتلك «الحركة الثقافية نحو الحياة، والتعبير عنها بمفردهم».١٤ «نيتشة» نفسه كان يسمِّي الشباب ﺑ «المتفجرات»، وأصبح الشباب رمزًا للإبداع والخلق والميلاد الثقافي الجديد. والحقيقة أنَّ «شبنجلر» وغيره من المثقفين سوف يستمرون في الإشارة إلى أنفسهم كممثلين للشباب الألماني إلى أن أصبحوا في الأربعينيات.١٥ وبالرغم من شكواهم من ظلم وحنق الكبار لهم، إلا أنَّ طلبة الجامعة الألمانية كانوا بالفعل جزءًا من نخبة متميزة. في عام ۱۸۸۰م، وفي وقت كان فيه تعداد ألمانيا أكثر من سبعة وأربعين مليونًا، كان مَن يحصلون على تعليم بعد المرحلة الثانوية أقل من واحد بالمائة. ومن هذه المجموعة الصغيرة، كان أقل من واحد من عشرة يجدون فرصةً للالتحاق بالجامعة. المدرسون العاديون كانوا يتمتعون بنفس وضع مستشاري الدولة، وكانوا جزءًا من الطبقة الحاكمة مثل السياسيِّين أو أعضاء «الرايخستاغ»،١٦ إلا أنَّ فئة الكبار في الجامعات الألمانية كانوا في حالة غليان مثل طلابهم. الجامعات الألمانية نفسها كانت معقلَ قِيَم روحية عُلْيا معينة، ومزارع لتكوين العقل الفردي Bildung. هذا المفهوم للعقل الفردي كان من موروثات الماضي الكلاسيكي والإنساني، ولم يكن متعارضًا مع نظرة تنويرية عقلانية، كان أبطاله العظام: «جوته» Goethe، و«کانت» Kant، ولكنه كان معنيًّا في الأساس بالروحاني والجمالي أكثر من العلمي، وكان يميل إلى التقليل من شأن العملي والتقني والنفعي، بالإضافة إلى جمع المال. كان الذين يسعَون وراء تلك المصالح (وهذا معناه معظم الناس) بشرًا «ينقصهم العمق». علاوةً على أنَّ الأساتذة في المدن التي كان بها جامعات مثل «برلین» أو «هيدلبرج» أو «بون»، كانوا ينظرون حولهم فيجدون قلاعهم الروحية العظيمة محاصرة. كان المصلحون التربويون وراديكاليو الطبقة الوسطى يطالبون بالتوسع في المدارس التقنية، ويعرِّفون طلاب الجامعات بالمواد العلمية العملية الجديدة مثل الفيزياء والهندسة أكثر من اليونانية واللاتينية. هذه التغيُّرات، إلى جانب التوسُّع في القاعدة الصناعية للدولة، بدَت نذيرًا بأزمة ثقافية للمجتمع الإنساني ككل.١٧

وكان أساتذة «دو بوا» واشتراكيو «المقعد»، أوَّل مَن دقَّ جرس الإنذار في عام ۱۸۷۲م. والحقيقة أنَّ كل عقد من الفترة الواقعة بين عامَي ۱۸۷۰م، و١٩١٤م، كان يُوصَف بأنه العقد الأكثر حرجًا لكي تكون الأمة الألمانية مجبرةً على الاختيار بين وحدتها وصحتها الثقافية، أو الدمار على يد الحداثة.

التراث الأكاديمي للنقد الثقافي Kulturkritik للمجتمع الحديث، كان يعتمد بالطبع على التمييز القديم بين الثقافة والحضارة الذي سبق أن تناولناه.١٨
ومع ذلك، فإن الإحياء النيتشوي١٩ أعطى تلك المشكلة القديمة انعطافةً جديدة. في کتاب «نيتشة»: «إرادة القوة»، كانت المواجهة بين الثقافة الحيوية والحضارة السطحية قد تمَّ إلقاء الضوء عليها بواسطة قضية الانحلال، كان يقول: «للحضارة أهداف تختلف عن أهداف الثقافة.» «الفترة التي كان من المرغوب فيها ترويض الحيوان الإنساني (الحضارة)، كانت فترةَ تعصُّب ضدَّ الطبائع الأكثر جرأة والأكثر روحانية.» الثقافة، من جانب آخر، تبلغ أَوْجَها في أزمنة «هي من الناحية الأخلاقية أزمنة فساد»، مثل نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن الحضارة التي تمر بحالة اضمحلال، تعتبر مأساةً، ولكنها في الوقت نفسه فرصة، ليس فقط بالنسبة للدول السمراء عند «دو بوا»، وإنما أيضًا بالنسبة للفرد القوي الذي يمكن أن يتحرَّر من قبضتها المتحضرة.
وإذا كانت الصورة الأرثوذوكسية للثقافة، تُشخَّص دائمًا في هيئة أفراد من الماضي الألماني مثل «مارتن لوثر» Martin Luther، أو «هانز ساش» Hans Sachs٢٠ فإن رمز الثقافة النيتشوية في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، كان هو «زرادشت»، النبي الأوحد والمريد الذي يخلق نظامه الخاص من وسط البرية. الرمز النيتشوي للحضارة، من ناحية أخرى، كان هو «فينيسيا»، في رواية «الموت في فينيسيا» للكاتب «توماس مان» Thomas Mann «متألقة ومصقولة»، ولكنها فاسدة ومتفسخة، تنبعث منها رائحة التحلُّل الكريهة.
التحدِّي الثاني للثقافة الألمانية جاء من التكنولوجيا. في عام ۱۹۱۱م، نشر عالم الاجتماع «فيرتر سومبارت» Werner Sombart مقالًا بعنوان «التكنولوجيا والثقافة» كان يقول إنَّ الأبعاد الميكانيكية والإنسانية للحياة دائمًا في صراع لا يمكن حلُّه تقريبًا، كما كان «هنري آدمز» Henry Adams يقول في الوقت نفسه في «مونت-سان-مايكل والمواثيق»، قال «سومبارت» إنَّ الآلات والقوة الميكانيكية أعداء لكل ما هو عضوي وروحاني. الاندفاع نحو التغيُّر التكنولوجي دفع الكائن البشري إلى ما هو أبعد من «حدود الطبيعة المعاشة». الآلة هي وصيفة الرأسمالية كما كان يقول «سومبارت»، وهي تعبير عن عقلانيتها الباردة المحسوبة. انتصار التكنولوجيا قد يحجب «فيضانًا دفاقًا من التجارية» كما نبَّه محذِّرًا، كما قد يجلب الإنتاج الضخم لمواد «صلبة، باردة، لا حياة فيها»، لا تخدم سوى مصالح رجال الأعمال.٢١
في تراث النقد الثقافي الألماني، الآلات الصناعية ليست دليلًا على التقدم، وإنما على الانحلال والتفسُّخ، والتكنولوجيا الحديثة مثل صيغة العبودية عند «دو بوا»، حققت الانفصال بين حياة العامل وروحه الخلَّاقة. أصبح العامل مرتبطًا بالآلة، أكثر مما هو بمجتمعه العضوي، الذي هو المصدر الحقيقي للقوة الخلَّاقة. التقدم التكنولوجي الحديث أوصل الأمور إلى نقطة سيقول عنها «شبنجلر» فيما بعد، في كتابه «الإنسان والتقنية» إنَّ «الحضارة نفسها قد أصبحت آلة.» الصور القوية المعبِّرة في فيلم «فريتز لانج» Fritz Lang«متروبولیس» (أو: العاصمة الكبرى) عن الكائنات البشرية الذين يُضحَّى بهم لحساب الآلة الصناعية، كانت تعبِّر عن ذلك الخوف من أنَّ التكنولوجيا ستُصبح هي المتحكِّمة في مستخدميها وليس العكس، التحدِّي الثالث والأخير للحيوية الثقافية جاء من الليبرالية، الإيمان بحكومة محدودة وحقوق فردية، تلك الأفكار التي نبعت من «توكفيل» Tocqueville، و«مل» Mill، و«هربرت سبنسر» Herbert Spencer نقَّاد الثقافة في كلٍّ من اليمين واليسار، كانوا متفقين على أنَّ ليبرالية «دعه يعمل» تعتبر لعنةً للقيم الثقافية الألمانية العميقة، بالضبط كما كان «أدولف فاجنر» Adolf Wagner، و«شموللر» Schmoller يقولان إنَّ رأسمالية «دعه يعمل» تعتبر هجومًا على فكرة المجتمع العضوي والحياة الريفية، وفيما بعد كتب «آرثر موللر فان دن بروك» Arthur Moller Van den Bruck يقول: «الليبراليون يرون أنفسهم أفرادًا منعزلين». «إنهم يسَعون فقط لتحقيق مصالحهم الشخصية الآنية». أما «فيرنر سومبارت» Werner Sombart، فكان يرى الليبرالية أيديولوجية للمادية والعمل التجاري الكبير، فهي تُعقلن كلَّ «الغرائز الدنيا للبشر، الجشع، الاستحواذ، طلب الذهب»، صانعةً عالَمًا أخلاقيًّا، كان يُطلِق عليه طلاب «سومبارت» «عالم الغش، والخداع».٢٢
عالم الاجتماع «جورج سيمل» Georg Simmel كان يرى أن الليبرالية تحرم البشر من أي هدف جوهري في حياتهم.٢٣ وكتب «مولر»: «إنها قد قلَّلت من شأن الحضارة٢٤ ودمَّرت الدين وخرَّبت الأمم.» أما الدول المحددة التي ارتبطت بتلك النظرة الليبرالية المدمرة، فهي الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. كانت بريطانيا دولة «أصحاب الدكاكين»، وهي عبارة لم يكن القصد منها التملُّق، وكما يرى الشاب «توماس مان»، فإن الليبرالية الإنجليزية كانت هي «انتصار التوسطية٢٥ الديمقراطية»،٢٦ وكان «إرنست ترويلتش» Ernst Troeltsch يقول: إنَّ الإنجليز والأمريكيِّين يعرفون الحرية على نحوٍ سلبي، وبأنها التحرُّر من القيود والمسئولية. هدفهم الاجتماعي كان سلبيًّا في الأساس، بمعنى «عِشْ ودَعْ غيرك يعيش»، أكثر مما هو بناء مجتمع قوي نابض بالحياة. على مشارف الحرب العالمية الأولى، كتب «فيرنر سومبارت» Werner Sombart مقالًا مهمًّا بعنوان «أبطال وتجَّار»، قال فيه إن البطل والتاجر هما النمطان المتعارضان في التاريخ، هما ممثِّلَا الثقافة والحضارة على التوالي، وقد وجدَا رمزَيهما في ألمانيا وبريطانيا — على التوالي أيضًا — التاجر يقترب من الحياة بسؤال: «ماذا يمكن أن أُعطيَك؟»٢٧ البطل طواعية وبإرادته يضحِّي بنفسه من أجل الآخرين، ويرى العالم من حوله في ضوء الواجب والالتزام بالمجتمع والناس، التاجر لا يرى إلا الفرص من أجل المنفعة الشخصية، التجارة والعمل التجاري هي المؤسسات الوحيدة التي يحترمها. والواقع فعلًا أنَّ «التاجر غريب» في مجتمع الثقافة الحقيقية (وهو عنوان مقال ﻟ جورج سيمل).٢٨ وموطن الغريب هو «المتروبولیس»، العاصمة الكبرى الغامضة والمعقَّدة تكنولوجيا، وهي ما يسميها «شبنجلر» في كتابه «أُفُول الغرب» ﺑ «كوزموبولیس» Cosmopolis،٢٩ وهي «رمز لما هو فاقد للشكل أو الصورة … هنا يحتفل المال والذكاء بانتصارهما الكبير والنهائي».٣٠ «سومبارت» شرح كيف أنَّ «الروابط الأصلية المتجانسة بين الإنسان والطبيعة تنفصم من خلال حياة المدينة».
طفل المدينة … لم يَعُدْ يعرف أغاني الطيور،
ولم يفحص أبدًا عشًّا من أعشاش العصافير،
لا يعرف معنى السحب التي تنساب في السماء،
لم يَعُدْ يسمع صوت العاصفة أو الرعد …
الجنس الجديد يعيش حياة صناعية … خليطًا
من التعاليم المدرسية، ساعات الجيب، الصحف،
المظلات، الكتب، طفح المجاري، السياسة.٣١
وعلى العكس من ذلك، كانت الثقافة الألمانية تحافظ على الصفات نفسها التي يجري تدميرُها في بقية أوروبا الغربية وفي أمريكا. معاداة الحداثة والمخاوف الحزينة على المستقبل كانت موجودةً أيضًا في بلاد أخرى غير ألمانيا عند نهاية القرن، حتى الأمريكيِّين مثل «هنري»، و«بروکس آدمز»، وبريطانيِّين مثل «وليم موريس» William Morris، و«ليزلي ستيفن» Leslie Stephen، كانوا يعبِّرون عن التشاؤم ذاته كما كان «بورکهات» يفعل قبل عقود. أما غير العادي، فهو تلك الدرجة التي كان الألمان يرَون أنفسهم عليها قبل الحرب العالمية الأولى. كانوا يعتقدون أنهم خارج الحضارة الأوروبية أو الغربية، وكما عبَّر عن ذلك الروائي الشاب «توماس مان»: «التناقضات الفكرية الأوروبية وصلَت إلى أقصى مدًى لها في الروح الألمانية.» كانت حضارة القرن التاسع عشر تمثِّل مجموعةً من القيم الغربية ضمنيًّا، كتب «توماس مان»: «إنَّ مَن يصبو إلى تحويل ألمانيا إلى ديمقراطية طبقة وسطى بالمفهوم الغربي، يريد أن ينزع منها كلَّ ما هو جيد. إنَّ اختلاف ألمانيا وتفرُّدها هو امتيازها المنقذ، و«قدرها القومي».»٣٢
وكما استنتج «فيرنر سومبارت» Werner Sombart في عام ۱۹۱۱م، فإن ألمانيا سوف تبيِّن لبقية أوروبا قريبًا «ماذا يمكن أن نفعل لجماهيرنا … وكيف يمكن أن نُنقذ الطبيعة الإنسانية من الآلة».

«شبنجلر»: خيبة الأمل والفرصة

«الحرب تجدِّد الشعوب المتفسِّخة»

بنيتو موسولیني
في غضون ذلك حلَّت ﺑ «أوزوالد شبنجلر» كارثةٌ شخصية مدمِّرة، بعد أن أنهی دراساتِه في العلم الطبيعي والفلسفة في جامعات «هال» و«ميونخ»، ذهب إلى جامعة «برلين» لاستكمال أطروحة دكتوراه في عام ۱۹۰۳م، ولكنه عندما تقدَّم بها، خذله أستاذه المشرف قائلًا إنه لم يُضمِّنها سوى عدد قليل من المراجع.٣٣
نجح في العام التالي، ولكنها كانت انتكاسةً كبيرة؛ حيث كان الطريق إلى منصب ما في جامعة كبرى قد أصبح مسدودًا أمامه إلى الأبد. وفي عام ۱۹۰٥م أُصيب بانهيار عصبي أسقطه من الحياة لمدة عام كامل. بعد ذلك كان عليه أن يعمل مدرِّسًا في المدارس العليا المحلية Realgymnasiums متنقلًا من وظيفة إلى أخرى مع زملاء متوسطي القيمة، وتلاميذ أكثر اهتمامًا بالحصول على وظيفة منهم بالفلسفة. وعلى غير رغبة منه، هبط نحو عالم الكُتَّاب المأجورين والصحفيِّين والباحثين المحبطين. كان المثقفون غير الجامعيِّين في ألمانيا حاقدين وناقمين على نظرائهم الجامعيِّين، ولكنهم كانوا يستمدُّون مفاتيحَهم ومواقفهم منهم، وبينما كان أساتذة الجامعات العاديون في أبراجهم العاجية، يقلِّلون من شأن أنفسهم بخوفهم من الانحلال الثقافي، ازدهرت تحتهم ثقافة فرعية من كتَّاب ومثقفين وأدباء محترفين، كانوا يفرضون بضاعتهم الأكثر ثورية على جمهورٍ متنامٍ من القرَّاء، واتخذت أزمة ألمانيا الثقافية التي كانت تؤرِّق أساتذةَ الجامعة الكبار (العلاقة بين الثقافة Kultur، والروح Giest، والشعب Volk) منعطفاتٍ وتبدلات أكثر راديكالية وأكثر غموضًا. في تلك الفترة كانت الرابطة الأحدية Monist League تقدِّم الدارونية الحيوية، والمؤمنون ﺑ «كل ألمانيا» يدفعون بأسطورة التفوُّق الآري إلى داخل السياسة الألمانية، وعلى أيديهم اتخذ مفهوم روح الشعب Volks geist نغمةً عرقية «جوبينووية» محددة. كتاب تشمبرلين «أسس القرن التاسع عشر» صدر في عام ۱۸۹۹م، وبينما تجاهله الأكاديميون على نطاق واسع٣٤ إلا أنَّ جمهورًا عريضًا من العامة أقبل عليه واستوعبه، ومثل كتاب «شبنجلر»: «أفول الغرب»، وجد بعد عقدَين عددًا كبيرًا من المترجمين الأجانب، بينما لم يجد مفكرون جادون مثل «فرديناند تونيز» Ferdinand Tonnies، و«إرنست ترويلتش» Ernest Troeltsch أحدًا يترجم أعمالهم.
بعد ست سنوات غير مجزية في التدريس، قرَّر «شبنجلر» أن يعود إلى «ميونخ» ليبدأ عمله في الكتابة، بالرغم من أنه لم يكن لديه فكرة عما سوف يكتب. في ذلك الوقت كانت «ميونخ» مركزًا للحياة الفكرية غير الجامعية في ألمانيا. تموج بالقلق الأدبي والثقافي، كما أنها أيضًا مركز «بروكمان فيرلاج» Bruckmann Verlag ناشر أعمال «هوستون تشمبرلین». حمل الشاعر «ستيفان جورج» Stefan George ودائرته من الشعراء الشبان اليقظة النيتشوية إلى مقاهي ومطاعم «ميونخ»، بينما كان «نيتشوي» شابًّا آخر، مقيمًا هناك وهو «توماس مان»، قد انتهى من روايته «الموت في فينيسيا». وعلى بُعد أمتار، كان هناك الرسامان «فرانز مارك» Franz Mark، و«بول کلي» Paul Klee اللذان يحملان مشعل الحركة التعبيرية الألمانية. وبعد عامين سيظهر في «ميونخ» فنان آخر — أدولف هتلر — يبحث عن لقمة العيش. كان يُقيم في «ميونخ» أيضًا الصحفي «ديترش إيكارت» Dietrich Eckhart المعادي للسامية وعضو جماعة «كل ألمانيا». كان «إيكارت» مدمن مورفين، ومثل «شبنجلر» كان من الذين قد أُعجبوا باكرًا ﺑ «نيتشة» و«إبسن» (وكان قد قدَّم ذات مرة عرضًا لمسرحية «إبسن»: «بیرجنت»، مستعينًا بمرضى مصحَّة كان محتجزًا بها). أصبح «إيكارت» محرِّرًا لصحيفة فضائح تابعة لرابطة «كل ألمانيا»، كان عنوانها Auf Gut Deutsch، وتعني «بالألماني الفصيح»، واستأجر كاتبًا آخر كان معاديًا للسامية هو «ألفرد روزنبرج» Alfred Rosenberg، وهو الذي سيقدِّمه إلى «هتلر» بعد الحرب، بعد عودة الأخير من الجبهة الغربية.٣٥ كتاب «هتلر» نفسه: «كفاحي»، كان نتاجًا يمثِّل نهاية تلك الثقافة الفكرية خارج الجامعة. ومثل المفكرين الأكاديميِّين الكبار، كتب «هتلر» عن «المرض الزاحف» على الأمة وعن «انحلالها»، ورثَى لعلامات «ثقافتنا المتفسِّخة وانهيارها الشامل». كان جيل «هتلر» هو أوَّل جيل أوروبي نشأ على التشاؤمية الثقافية. زرع الأحقاد نفسها (الرأسمالية الصناعية، الليبرالية المجردة من الروح، الانهيار الثقافي) مثل معلِّميها الأكاديميِّين، كما زرع الكثير من الأهداف نفسها، إلا أنه كان هناك فارقٌ واحد مهم، الراديكاليون مثل «إيكارت» Eckhart، و«روزنبرج» Rosenberg، و«هتلر» Hitler، كانوا على استعداد لتوجيه العمل المباشر لقلب ما كانوا يعتبرونه حضارة مريضة، وليس مجرد الكلام عن ذلك، كما كانوا متفقين مع المثقفين الأعلى منهم على نقطة واحدة أساسية، وهي حاجة ألمانيا لتأكيد نفسها على المسرح العالمي. كانت القومية هي الوهم البرجوازي الأخير بالنسبة لهم، لدرجة أنَّ بعضهم كان يرى في الإمبراطور «ولهلم الثاني» الصورة الحيَّة للإنسان الأرقى عند «نيتشة»، ولكن طموحاتهم القومية كان لها موضوع مختلف تمامًا عن الوطنية التقليدية عند الرسميِّين والأساتذة الذين انضموا إلى جماعات مثل «رابطة البحرية»، أو رابطة «كل ألمانيا».٣٦ وبالنسبة للراديكاليِّين من المثقفين، كان الكفاح نفسه، أكثرَ أهمية من أي أهداف جبوبوليتيكية أخرى. الكفاح كان موضوعًا متكررًا Mein Kampf تعني «كفاحي»، وكان اختبارًا لقوى حيوية في الساحة، وكما يَصِفه «إرنست ترويلتش»: «كفاح الروح القومية المكتملة … الكشف عن القوى الروحية العليا». كان «توماس مان» يرى أنَّ ألمانيا مشغولة دومًا «بالكفاح الرهيب، المحفوف بالمخاطر، وغير المنطقي، ضدَّ تحالُف الحضارة العالمية».٣٧
وكما كان الأمر في «دارونية» «إرنست هايكل»، كان الكفاح يعني انبثاق ما هو حيوي وخلَّاق، وإزالة الضعيف، أي الغرب البرجوازي، قبل سنوات، كان «نيتشة» قد رحَّب ﺑ «التقدم العسكري» و«فوضى» أوروبا القومية؛ حيث يمكن أن تكون الحرب عامةً طريقًا ممكنًا للخلاص. كان «نيتشة» يقول: «الحرب وحدها هي التي تحقق السعادة على الأرض»، «البربري في كلٍّ منَّا يثبت، وكذلك الحيوان المتوحش»، «الحرب هي أبُ كلِّ شيء». كانت تلك هي حكمة الفيلسوف «هيرقليطس»، الذي كان «نيتشة» يفضِّله من بين فلاسفة اليونان، والذي حدث أيضًا أنه كان موضوع رسالة «شبنلجر» للدكتوراه.٣٨ جاءت الأزمة في عام ۱۹۱۱م، العام الذي انتقل فيه «شبنجلر» إلى «ميونخ»، في شهر مايو رسَت السفينة الحربية «بانثر» Panther في ميناء «أغادير» لمنع الفرنسيِّين من الاستيلاء على «مراكش». حملَت الأزمة أوروبا إلى شفا الحرب، إلى أن أجبرَت الحكومة الفرنسية ألمانيا — بدعم بريطاني نشط — على التراجع. كان ذلك امتهانًا قوميًّا، وكانت نتيجتُه انفجارَ حالة من الاستياء ضدَّ المستشار، ووزير الخارجية. نشر «هينرش كلاس» Heinrich Class رئيس رابطة «كل ألمانيا» كراسةً بعنوان «لو كنت الإمبراطور»، داعيًا الإمبراطور لحلِّ الحكومة، وإعلان دكتاتورية مطلقة، مشاعر مماثلة كان يتمُّ التعبير عنها في ألمانيا كلها وفي «ميونخ» «شبنجلر»،٣٩ وجاءت أخبار الأزمة المراكشية إلى «شبنجلر» مثل النبوءة أو الرؤيا؛ إذ قرَّر أنه مع ألمان آخرين، كانوا يشهدون «تحوُّلًا تاريخيًّا عالميًّا» في المسار الهيريقليطي عن مصائر القوميات.٤٠ الحضارة الأوروبية التي صنعها العلم العقلاني والتنوير، وتلك التي كانت إنجلترا وفرنسا تمثِّلانها تفترقان. ربما تكون ألمانيا قد خسرت المعركة، ولكن قدَرها هو أن تكسب الحرب القادمة لا محالة، إنه صراع بين الحياة الثقافية والموت، أي بين ألمانيا والغرب الليبرالي.
بدأ «شبنجلر» نشاطًا محمومًا في مشروع ضخم لتوضيح أفكاره البصيرة والتي كانت تهدف حسبما يتراءَى له، إلى إعادة تقييم التاريخ كله بأسلوب «نيتشة». والحقيقة أنَّ العنوان الأول للمشروع كان «المحافظ والليبرالي»، ولكنه عندما كان يقف أمام محلٍّ لبيع الكتب القديمة في «ميونخ» ذات يوم، شاهَد في واجهة العرض كتابًا عن التاريخ القديم بعنوان «أُفُول العصور القديمة» Die Untergang des Antiktum، وهكذا جاءه عنوان كتابه «أُفُول الغرب». اكتشف «شبنجلر» أنَّ التاريخ عملية طبيعية لا ترحم، وأنها بعيدة تمامًا عن الأهداف والرغبات الإنسانية. كان القدر يتخلَّى عن «الغرب» أو «أراضي المساء» تاركًا إياها وراءه، بينما ليل أسود يوشك أن يُرخيَ سدولَه على مؤسساته وآثاره الباقية. الشعور بأن أوروبا كانت تقف على حافة تغيُّرات كارثية، والتَّوق لبداية جديدة كان منتشرًا في أوروبا، حتى عندما كان «شبنجلر» يعمل. عقَد قادة الحركة الشبابية الألمانية مؤتمرًا حاشدًا في «جبال ميسنر» في أكتوبر ۱۹۱۳م، داعين إلى «تجديد روح» الأمة، بينما كان الطلاب الفرنسيون الذين كانوا يُطلقون على أنفسهم «جيل ۱۹۱۲» يطالبون ﺑ «يقظة قومية» لتغيير المجتمع الفرنسي المتفسِّخ.
كان الشاعر التعبيري الألماني «جورج هیم» Georg Heym (وهو في الثالثة والعشرين من العمر) يصرخ في يومياته: «كل شيء كما هو دائمًا، مضجر، مضجر، مضجر. لا شيء يحدث. لا شيء بالمرة. لو بدأ شخص ما حربًا … فلن تكون في حاجة لأن تكون عادلة.» وكان شاب «نيتشوي» آخر يكتب: «لن يكون السلام الدائم محتملًا … سيكون الضجر … ولن يمنحنا التثاؤب سوى القديم.»٤١ كان الكل يتصوَّر أنَّ تجربة المعركة سوف تطرد الضجر والتفسُّخ الثقافي، الذي كان سببًا له. وعندما بدَت الحربُ أكثرَ قربًا في الأفق في صيف ١٩١٤م، كتب «شبنجلر» إلى صديق له التحقَ بالجيش: «أحسد الناس الذين يتطوَّعون ويمرون بتجربة الحرب.» وأصبحت «التجربة» عبارة أساسية، من وحي حماس «نيتشة» لإطلاق إرادة القوة، عن طريق العواطف القوية والاتصال بالجوهري،٤٢ وكان آخرون يعتقدون أنَّ «قيود وأصفاد العزلة المحكمة» حول الشباب الألماني في المجتمع البرجوازي سوف تزول، ويحلُّ محلَّها شعورٌ بالهدف والوحدة؛٤٣ وذلك من خلال تجربة الخطر ومواجهة الصعاب.
أما بالنسبة للكبار منهم، فقد حصدت سنوات القلق والخوف من الانهيار والتفسُّخ محصولها. الحرب — كما كانوا يعتقدون — لن تجلبَ سوى الموت المقبول للحضارة المحتضِّرة، والمستشار «بيثمان هولويج» Bethman Hollweg قرأ کتاب «نوردو»: «الانحلال»، ووصل إلى قناعة «بأن العالم القائم قديمٌ جدًّا»، وأنَّ قدوم الحرب، كما كتب في مفكرته يوم ١٧ يوليو، ١٩١٤م، «سيؤدي إلى اجتثاثِ كلِّ ما هو موجود من جذوره»،٤٤ كما احتفل الاقتصادي «جوهان بلنج» Johann Plenge بعام ١٩١٤م كنهاية حتمية للقرن التاسع عشر «المتشظي، الحرج، المرتبك»، وأعلن «نحن أبناء القرن العشرين»، على وشك الإقلاع نحو مغامرة كبرى.٤٥
«جورج سیمل» Georg Simmel٤٦ أخبر طلابه وهم ذاهبون إلى الحرب أنَّ أزمة العالم كانت جزءًا من «الكفاح في الحياة ضدَّ الأشكال القديمة والمتآكلة التي تُحاول أن تُقيِّدها»، وقال: «الحرب تُشكِّل ما يمكن أن نُطلقَ عليه موقفًا نهائيًّا.» خيارات الحياة في المجتمع البرجوازي، يوجد بها «شيء نسبي» وشرطي، والناس الآن في مواجهة اختيار «نیتشوي» صارم بين القديم والجديد، بين الحياة والموت.
كل تلك الآمال والمخاوف، دفعت «شبنجلر» لأن يُكمل كتابه: «أُفُول الغرب» وكما أوضح في مقدمته، أصبح الكتاب «تعليقًا على تلك اللحظة الحاسمة» أو مجيء الحرب. وكتب: «ما كتبته أثناء هياج وتوتُّر تلك السنوات، كان نظرةً جديدة إلى التاريخ وفلسفة المصير.»٤٧

«أُفُول الغرب» والتاريخ العضوي

وعلى أية حال، لم يكن «أُفُول الغرب» عملًا أصيلًا كما كان يحلو ﻟ «شبنجلر» أن يدَّعيَ أحيانًا، أو كما يعتقد بعضُ القُرَّاء،٤٨ كان الكتاب عرضًا ملخَّصًا للتشاؤمية التاريخية والسخط الثقافي على مدى نصف قرن. اعتمد «شبنجلر» أساسًا على تراث النقد الثقافي بعباراته الملغزة ومفاهيمه الميتافيزيقية مثل «روح الشعب» و«ذاكرة العِرق»، كما اعتمد على نظرة القرن التاسع عشر العضوانية Organicist للتطوُّر التاريخي، والتي مزجها بالتقليد الحيوي الذي ورثه عن «نيتشة»، فمن رأيه أنَّ أيَّ ثقافة تاريخية تشكِّل كلًّا واحدًا؛ لأن لديها قوتها الحيوية الداخلية الخاصة، التي تجعلها «جزءًا من الحياة بكل اكتمالها»، وتقرر مصيرها المستقبلي. «شبنجلر» يزعم أنه قد انتقل إلى مستوى جديد من التفكير التاريخي، وليس مجرد وصف للحضارات ككل، وإنما بالتنبُّؤ بتطوُّرها وبمصيرها القادمَين، ويفسِّر ذلك بقوله: «في هذا الكتاب محاولة — للمرة الأولى — للتنبُّؤ بالتاريخ، بتحديد المصير المستقبلي للثقافة الوحيدة في زماننا وعلى كوكبنا، والتي هي في مرحلة الاكتمال، الحضارة الأوروبية الغربية الأمريكية.»٤٩ وحدَّد «شبنجلر» ثمانيَ حضارات عالمية جديرة بالاعتبار، وهي: البابلية، المصرية، الصينية، الهندية، المكسيكية قبل «کولمبوس»، الكلاسيكية أو الإغريقية-الرومانية، الأوروبية الغربية، والمجوسية التي تضمُّ الثقافات العربية اليهودية والبيزنطية.٥٠
وفي النهاية، لم يكن لدي «شبنجلر» الوقت ولا الرغبة لتكريس جزء كبير من كتابه «أُفُول الغرب» للحضارات غير الغربية مثل الصينية والهندية، ولكنهما مع ذلك يشغلان جزءًا مهمًّا من مشروعه؛ لأنه كان ينوي أن يكتب «تاريخًا عامًّا» يُزيح الحضارة الغربية لأول مرة إلى مكانٍ منزوٍ في قصة البشرية الكاملة. كان هدفه تقديم صورة جديدة للعالم «لا تعترف بأيِّ وضع متميز للثقافات الكلاسيكية أو الغربية ضدَّ ثقافات الهند وبابل ومصر» أو غيرها من الثقافات غير الأوروبية. وقد تضمن تاريخ «شبنجلر» الكثير من إعادة التوزيع العرقي والثقافي كما كان يتمنَّى «دبليو إي بي دو بوا»، فالحضارات غير الغربية، «كعوالم منفصلة ذات وجود دينمي، تُسهم في الصورة العامة للتاريخ، في العظمة التاريخية والقوة الكبيرة»، وغالبًا ما تتفوق على الثقافة الكلاسيكية والغرب. وإعطاء الغرب أيَّ أهمية جوهرية خارج «حدوده الضيقة» يصبح «تمركزًا أوروبيًّا»، وبالرغم من أنَّ «شبنجلر» لم يستخدم هذا المصطلح، إلا أنه كان متضمَّنًا في تناوله.٥١
كل حضارة، بما في ذلك الحضارة الغربية، هي تحقُّق ثقافة بعينها، كل حضارة هي شيء يفور ويتنفس ويزدهر: «كل ثقافة لها إمكانياتها الخاصة … الجديدة … للتعبير عن الذات التي تنبثق، وتنضج وتنحلُّ ولا تعود»، كلٌّ منها «بلا هدف»، وكلٌّ منها تُكرس ثقلها وقِيَمها من أجل أشياء، للزمان، للمكان، الشيء الوحيد الذي له معنًی جوهريٌّ هو قوة الحياة ومنطقها العضوي. وبدلًا من الاستمرارية والتقدم في التاريخ، هناك فقط انقطاعات وانعطافات سريعة ومفاجئة عن «كتلة من البشر لا حدود لها، تفيض في مجرى بلا شواطئ»، ينبثق منها من وقت لآخر ثقافة تشعر بذاتها. الوجود الحي للثقافة عبر القرون عبارة عن «صراعٍ داخليٍّ قويٍّ للحفاظ على الفكرة ضدَّ قُوَى الفوضى»، ثم بمرور وقت أطول «يُصيبها الموات، دمُها يتخثَّر، تنهار قوتها وتُصبح حضارة»، وبأسلوب أسلافه الألمان، يرى «شبنجلر» أنَّ الحضارة هي شيخوخة الثقافة، وأدَّى به ذلك إلى تناظر دورة حياة الفرد والحضارة: «لكل ثقافة طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها».٥٢ في مراحلها الحيوية الباكرة (الربيع) تجذب الثقافة الأفراد معًا في كلٍّ عضويٍّ، أو «روح» Giest «التجربة الداخلية المعاشة ﻟ «نحن».» ومثل الروح عند «دو بوا» نجد أنَّ الروح عند «شبنجلر» مسألة شعور، أكثر مما هي سبب، «كلما كان ذلك الشعور عميقًا، زادت قوة الحياة لدى الناس»، وهي تعتمد على «الجذور» ممثَّلة بالقرية «أسطح روابيها الهادئة، دخان المساء، ينابيعها، أشجارها وحيواناتها». جميع الشعوب العظيمة كانوا في البداية سكان قرى، يوائمون مصيرهم الجمعي وكفاف الأرض. الشرط الثقافي الثاني هو «الجنس». لم يَعُد تاريخ العالم هو تلك القصة الخطية للحضارة طبقًا لأفكار «التنوير». هو بدل ذلك، وبأسلوب «جوبينو»، قصة قيام وسقوط الأمم والأجناس. ولكن «شبنجلر»، مثل «دو بوا»، يرفض زعم «جوبينو» بأن كلَّ تقدُّم ثقافي يتضمَّن انتشارَ نوع عرقي، وكما يقول «شبنجلر»: «الأجناس لا ترتحل، الناس يرتحلون.» وبدلًا من ذلك فإن الجنس عند «شبنجلر» مسألة شعور، من خلال «القدرة على انتقال الحدس بأي درجة قلَّت أو زادت، وانتقال المشاعر من واحد لآخر»، على هيئة كلمات ورموز وابتكارات. هذا التواصل، من المحتَّم أن يُشكِّل «شعورًا عامًّا بالعالم» يربط بين أجيال الجنس البشري المتتالية في كل واحد.٥٣

في بداياتها، تظلُّ الثقافات العظيمة: (مثل اليونان الهوميروسية، أو فارس الزرادشتية) بسيطة، ومحكومة، وقوية؛ لأن روحًا، مثل قوة الحياة، تنفخ فيها، في المرحلة التالية (الصيف) ينتشر ذلك الوعي الثقافي من الطبقات المسيطرة — أبطال هوميروس والمحاربون الآريون في الهند الفيدية مثلًا — إلى بقية السكان. المراكز الحضرية الأولية مثل المدن، الدول الإغريقية، و«فلورنسا» و«فينيسيا» في عصر النهضة تُنتج أعمالًا أدبية وفنية عظيمة، إلى جانب البدايات الأولى لنقد الأشكال القديمة (التي تُسمَّى الآن بالكلاسيكية)، ومع ذلك، فإن دلائل التفسُّخ المستقبلي تبدأ في الظهور. مدينة العصور الوسطى ذات الأسوار تُؤذن بالمدينة الكوزموبوليتانية.

عندما ننظر من أحد الأبراج القديمة على بحر المنازل، نلاحظ … نهاية النموِّ العضوي وبداية عملية لا عضوية — وبالتالي غير مكبوحة — للتجمع بلا حدود … تاريخ العالم هو تاريخ المدينة.٥٤
في هذه المرحلة تسمَّى الحضارة ﺑ «الخريف»، الثقافة ما تزال مستمِدَّة شكلَها وقوَّتَها من استمرار الجنس بالمعنى الروحي عند «شبنجلر»، ولكنها ليس لها حياة مستقلة. «الحضارة النقية كعملية تاريخية، تتكون من إنهاك مستمر لأشكال أصبحت غير عضوية أو ميتة»، وكما كان الأمر في الممالك الهلنستية في القرن الرابع قبل الميلاد، أو الإمبراطورية العربية أيام الأمويِّين، فإن «جذوة الروح تخمد». تواصل الثقافة «كالمارد المرهق في الغابة الاستوائية إلقاء الأفرع الجافة والذاوية في اتجاه السماء» وغالبًا على مدى مئات أو ألوف السنين، كما في مثل حالة الحضارات «المتحجِّرة» في مصر والهند والصين.٥٥

الحضارة التامة «أو الناضجة» (الشتاء) أصبحت نباتًا طفيليًّا، تتعلَّق بالجذور الحيَّة من الثقافة التي هي سلفها الخاص.

«الحضارة خاتمة … موت يعقب حياة، جمود يتبع الحركة والتمدُّد، مدينة عالمية متحجِّرة، تجيء بعد الأرض-الأم.»٥٦ الينابيع الحيوية للثقافة تعتمد على سلسلة من التوافقات من خلال «القوة الغامضة للتربة»: بين الإنسان والطبيعة، الكائن البشري والناس، الفرد والمجتمع، الحضارة في مرحلتها الناضجة — على العكس من ذلك — تجلب التوتر بدل الانسجام. إنها تُنكر وجودَ المقدَّس بفصل روابطها مع الطبيعة، فإذا كان الجوهر أو القلب الفكري للثقافة هو الدين، فإن القلب الفكري للحضارة هو اللادين، وما يصاحب ذلك من إزاحة للقيم والهوية. وما كان «نيتشة» يعتبره مواصفات أو علامات غرب متفسخ وهو «انحطاط كل القيم»، هو في الحقيقة سمة أساسية لكل الحضارات: من الهند البوذية، إلى اليونان الهلنستية، إلى الصين التاوية، قلقلة أو خلخلة لكل ما كان ثابتًا ومنسجمًا في وقت ما. إنجازات حضارة كتلك يمكن أن تكون عظيمة وراقية، ولكنها دائمًا ما تكون على حافة الاضطراب. «شبنجلر»، أعلن أنَّ أوروبا وصلت إلى مرحلة تقلُّبات حُمَّى عالم يحتضر «قوة وذكاء تم تبديدهما في الاتجاهات الخطأ»، فلسفات التفاؤل السطحية — «كونت» Comte، و«هربرت سبنسر» Herbert Spencer، و«مارکس» Marx — هبَّت لتغطية تفسُّخ القوة وانحلالها، ولكي تكون نقيضًا للتشاؤم الشكوكي عند «شوبنهاور»، و«فاجنر»، و«نيتشة»، كان على القرن التاسع عشر أن يواجه «الحقائق الجامدة والباردة لحياة متأخرة زمنيًّا، …٥٧ للرسوم العظيمة، أو الموسيقى العظيمة التي لا يمكن أن تظلَّ هناك بعدها أيُّ قضية للشعوب الغربية».٥٨ «شبنجلر» لا يستخدم مصطلح «المنحل»، ولكن ذلك، من المؤكد، أن يصف الإنسان «المتحضر» عنده. «ساكن المدينة الطفيلي» يرتبط بالآخرين «بجماهير مائعة وعلى نحوٍ قلق» … «ليس له تقاليد، لا دیني، لئيم، عقیم». هذه «الكتل الشائهة من البشر، فاقدة الهمَّة، فضلات تاريخ عظيم»، تسير دون هدف، هائمة في مدن مثل «لندن»، و«باریس»، و«نيويورك»، بلا رابط يربطها بمجتمع أو أرض. وباختصار فإن نقد «شبنجلر» الحيوي للحضارة كان يمتزج — بسهولة — بأفكار نظرية الانحلال والاضمحلال، من أجل رسم صورة حيَّة لمجتمع حديث على حافة الانقراض الذاتي.
المصطلح الذي يستخدمه «شبنجلر» لهذه الثقافة الغربية الحديثة، ليس «الآرية» ولا «التيوتونية»، وإنما «الفاوستية». ومثل بطل «جوته»، فهي تنشد المعرفة والتغيير، منتجها الرئيسي (العلم) هو مجرد تقوية لتلك الإرادة الغربية التي لا تُقهر، والتي تعكسها لبقية العالم على نحوٍ ميكانيكي أكثر منه عضويًّا.٥٩ «شبنجلر» كان شديدَ الإصرار على أنَّ النظرة الغربية للزمان والطبيعة والتاريخ موجودة في تعارض مع الحقيقة العضوية. والنتيجة … وهمٌ بالاتِّساع الضخم والتحسُّن بمرور الزمن، ويرمز لذلك بالساعات والفضاء، وتمثلها فيزياء «نيوتن»، وإلحاح الرجل الغربي وحرصه على المسافة، حتى عام ۱۸۰۰م، كان «شبنجلر» يُفسِّر الميل الكبير للثقافة «الفاوستية» بأنه يتَّجه نحو دفع حدود المعرفة الداخلية من خلال الفن والأدب وتطوير الحالة السياسية. وبعد عام ۱۸۰۰م، بعد أن دخل الغرب «الشتاء الباكر لحضارة كاملة»، بدأ توسُّعه الوحشي نحو الخارج عن طريق الرأسمالية بأسواقها دائمة التوسُّع، والعمليات التكنولوجية، وأخيرًا عن طريق السيطرة والسيادة الإمبراطورية.٦٠
«الاستعمار هو الحضارة الخالصة». كانت نظرة «شبنجلر» متطابقة مع نظرة «دبليو إي بي دو بوا»، وكذلك مع نظرة «توماس مان»، الذي تكلَّم عن «إمبريالية الحضارة» التي كانت تحاصر الروح الألمانية وتُهدِّدها.٦١
ولكن حيث إنَّ الإمبراطوريات السابقة، بُنِيَت عن طريق الغزو، وضم واستيعاب الشعوب الأخرى، فإن «شبنجلر» كان يعتقد أنَّ الإمبراطوريات الأوروبية مبنيةٌ على غزو الفراغ … المتصور أنه الأسواق. كان «شبنجلر» متفقًا مع رأي «دو بوا»، و«لينين»، و«ج، أ، هوبسون» J. A. Hobson بأن الاستعمار في الأساس نتيجة للأعمال التجارية الشهية الفاوستية المجنونة «لرجل الأعمال الغربي» «سيسل رودس»، «الذي شقَّ الغابات والسافانا الأفريقية بالسكك الحديدية، والذي مزَّق بطن الأرض بمناجم الذهب والماس»، هي مجرد مقدِّمة «لمستقبل مخبَّأ لنا»، ويعلن «شبنجلر» بأسف: «الميل التوسُّعي حتف، يستولي على البشرية في مرحلة المدينة العالمية، يستخدمها ويستهلكها.»٦٢
وأُغْلِق تاريخ الحداثة، انتهى بسبب استنفاده الذاتي للحيوية الثقافية. قال «شبنجلر»: «علينا أن نضع في اعتبارنا الحقيقة الصعبة القائمة عن حياة أخيرة.» تفرض حدودًا حديدية على ما يمكن عمله، «ليس لدينا الحرية لفعل هذا أو ذاك، لدينا فقط الحرية لفعل ما هو ضروري أو عدم فعل أي شيء على الإطلاق»، كما نبَّه محذِّرًا أنَّ الجماهير «إن لم تفعل شيئًا، فإن ألمانيا سوف تنسحب إلى الانقراض مع بقية الغرب»، وإذا ماتت قوة الحياة الحيوية «فإن كل ما يتبقى هو الصراع على السلطة ولا أكثر، وهو تفوُّق حیواني ليس إلا». العالم الغربي يظهر في أفق «شبنجلر» المتخيل، کمشهد طبیعي برِّي ومتجمِّد، هو صراع حياة أو موت بين دول وطبقات مجتثَّة من جذورها، «في الحضارة الأخيرة، فإن الفكرة الأكثر إقناعًا ليست سوى قناع يُخفي صراعًا حيوانيًّا»،٦٣ ولكن … توجد إمكانية للهروب من هذا المصير، التاريخ عند «شبنجلر» نوع من قناة طاحون «كل شيء في تقلُّب وتدفُّق متواصلَين». شعار هيريقليطي يحكم نهر قوة الحياة؛ حيث إنه في حالة «فيضان دائم عن شاطئَيه». كل الأشياء تنجرف في المجرى، ولكن في لحظات معينة يمكن الإمساك فجأةً بالخط وبواسطة تكييف «إرادة القتال» لاستخلاص ثقافة جديدة من وسط الفوضى. كان «شبنجلر» يعتقد أنَّ التاريخ قد وصل إلى لحظات حاسمة كتلك أكثر من مرة في الماضي. كانت إحداها موتَ «نابليون»، والأخرى موت الجمهورية الرومانية في عهد «يوليوس»، و«أوغسطس قيصر». إحداهما صنعت الإمبراطورية الرومانية، والأخرى صنعت الإمبراطورية البريطانية. «هذه العهود خلَّفت عالمًا مختلفًا حتى الأعماق». والآن كان «شبنجلر» يعتقد أنَّ الدور قد جاء على ألمانيا. كتب: «ربما لا تكون ألمانيا قادرةً على إنجاب آخرين مثل «جوته»، ولكنها يمكن أن تُنجب قياصرة جدد.»

«شبنجلر» و«فیمر»: الحرب والسياسة والديمقراطية

«نحن … الذين جئنا إلى الحضارة الغربية متأخرين … أصبحنا شكوكيِّين … لم نَعُد نريد الأفكار ولا المبادئ نحن نريد أنفسنا.»

أوزوالد شبنجلر
۱۹۱۹م
أكمل «شبنجلر» كتاب «أُفُول الغرب» في عام ١٩١٤م، ولكن قيام الحرب أوقف مراجعته النهائية. بعد ذلك كتب «أدولف هتلر» عن شهر أغسطس من ذلك العام … «أما بالنسبة لي، وبالنسبة لأيِّ ألماني، فقد بدأ أعظم وقت، الوقت الذي لا يمكن أن يُنسَى على مدى وجودي في هذه الحياة، فقد انحسر كلُّ شيء مضى وأصبح لا شيء، مقارنةً بأحداث هذا الكفاح الكبير».٦٤
وبسبب ضعف بصره، وقلبه أيضًا، لم يلتحق «شبنجلر» بالجيش، ولكنه سرعان ما وجد نفسه متورطًا في المجهود الحربي. في ٢٥ أكتوبر كتب إلى صديق له (هانز كلورس Hans Clores): «أنا متفائل تمامًا … سننتصر.» كان يخشى أن تُصاب ألمانيا المنتصرة بعدوى «الأمريكانية عديمة الروح»، وعبادة «المهارة التقنية والنظر إلى الواقع المجرَّد» مثل بقية الحضارة الغربية في مرحلة انحطاطها، ولكنه بقيَ على ثقة في المستقبل عندما بدأ مراجعة النص النهائي للكتاب.٦٥
صدر الجزء الأول من «أُفُول الغرب» أخيرًا في أبريل ۱۹۱۸م في غمرة الهجوم الألماني الأخير. كانت Big Bertha تُمطر «باریس» بالقنابل، والجيوش الألمانية تبدو على وشك الانتصار، حتى موت زوج شقيقته في الأسبوع نفسه لم يقلِّل من اقتناع «شبنجلر» بأن ألمانيا ستُقيم إمبراطوريةً قوية من بين أطلال أوروبا المتفسخة، وتبسط قوتَها شرقًا باتجاه «الأورال»، ثم توالت خيبات الأمل واحدةً تلو الأخرى، ليس بالنسبة ﻟ «شبنجلر» فقط وإنما بالنسبة لكلِّ مَن كان له نصيب في انتصار ألمانيا الافتدائي الأخير.

في ذلك الصيف، انهار هجوم «لندندورف» أمام الهجوم المضاد للحلفاء، وبدأت القوات تتقهقر نحو المؤخرة. وبنهاية شهر أكتوبر استسلم حلفاء ألمانيا — تركيا والنمسا وبلغاريا — وكانت الجيوش البريطانية والفرنسية والأمريكية تقترب من الحدود الألمانية من الغرب والجنوب. وفي ٣ نوفمبر تمرَّدت البحرية الألمانية الإمبراطورية في قاعدة «كیل» البحرية، وتبعَتها وحدات من الجيش. وفي اليوم العاشر تنازل الإمبراطور عن العرش، وفي الحادي عشر أوقفت الهدنة تقدُّمَ الحلفاء العنيد.

مع السقوط السريع للسلطة المركزية، انتشرت العواطف والأفكار الثورية من روسيا البلشفية إلى ألمانيا. شكَّل البحَّارة والجنود لجانًا مسلحة أو «سوفيتات»، وتَبِعهم العمال في «ميونخ» و«برلین». وفي أوائل ديسمبر ۱۹۱۸م، كانت المدن الألمانية الرئيسة تُحكَم عند نقط الحراسة كجمهوريات سوفيتية. لم تَعُد الحكومة موجودة، بينما كان المسئولون المدنيون في مؤتمر «فرساي» لا يملكون سوى تقديم التنازل بعد الآخر للحلفاء المنتصرين. وفي النهاية كان حزب الجناح اليساري الذي أقام جمهورية «فيمر»، والديمقراطيون الاشتراكيون مضطرِّين لاستدعاء عدوهم القديم، الجيش، لاستعادة النظام.

ومن يناير إلى مايو ۱۹۱۹م، كان الجيش ووحدات المتطوعين (Freikorps) يسحقون انتفاضات «برلین» و«ميونخ» ومدن أخرى. الألوف لقوا حتفهم، وكثير منهم قُتلوا عمدًا. كان «شبنجلر» في «ميونخ» أثناء تلك المرحلة الرهيبة: «لا شيء سوى الجوع، والنهب، والقذارة، والخطر، والنذالة Trottelei التي لا مثيل لها»، كما كتب إلى أحد أصدقائه.٦٦

كان أول رد فعل عند «شبنجلر» هو اليأس. لقد انهار «كل ما كنت أحترمه وأقدِّره». «لماذا يحلُّ بنا هذا المصير؟» النظام السياسي القديم لألمانيا «ولهلمین»، نظامها البروسي التقليدي وميزاتها … كل شيء مات في الخنادق، ولكن مع الوقت، كان «شبنجلر» يرى بصيص أمل في سماء اليأس والكآبة، «أرى في الثورة وسيلة لإنقاذها، إذا كان الذين سيبنون مستقبلنا يعرفون كيف يستفيدون منها»، كانت ثورة ۱۹۱۹م أكثر الثورات التي مرت بها ألمانيا عنفًا ودموية. كان الدمار ونسبة القتلى أسوأ مما كانا في عام ١٨٤٨م، وكثيرون يشبِّهون ذلك، بما حدث في «كوميونة باریس» في عام ۱۸۷۱م وربما بما حدث في الثورة الفرنسية في عام ۱۷۸۹م كما سيقول شبنجلر فيما بعد.

بُناة المستقبل الذين كانوا في ذهن «شبنجلر» هم المحاربون القدامى والجيش، هم الذين أنقذوا ألمانيا من البلشفية، وكانوا يمثِّلون — كما كان يعتقد هو وغيره — مركز «الانضباط والقوة المنظَّمة والطاقة» في المجتمع٦٧ آنذاك.
كان جنود ألمانيا العائدون يبدون متشبعين بقوة تطهيرية. أحدهم «إرنست يونجر» Ernst Jünger كان يصف نفسه ورفاقه بأنهم «جيل جديد، جنس عرف الصلابة، وتشكَّل داخليًّا على نيران ومطرقة أعظم حرب في التاريخ».٦٨ ومن خلالهم استطاع نموذج التمرُّد الطلابي فيما قبل ١٩١٤م أن ينجوَ من الحرب. من ناحية أخرى، كانت جميع مؤسسات المجتمع الألماني تعاني من الهزيمة. دستور «فيمر» الجديد سرعان ما كان موضعَ اتهام، وكما وصفه «کارل شميت» Carl Schmitt — أحد الباحثين — بسخرية شديدة:
«كان نسخة إنجليزية»، مُلمِّحًا إلى أنه يمثِّل ليبرالية أجنبية زائفة،٦٩ الجامعات التي كانت العمد الرسمية لجمهورية «فيمر»، أصبحت ممزَّقة … وبعمق، لم تَعُد التشاؤمية الثقافية واقفةً خارج أبوابها، كانت قد أصبحت قوةً فاعلة بداخلها. قاعات الدرس والمناهج أصبحت ساحات قتال لحروب ثقافية جديدة بين أولئك الذين كانوا يحاولون إنقاذَ أيِّ شيء من بين الحطام، وأولئك الذين كان الانتصار الحتمي للثقافة على الحضارة قد تأجَّل بالنسبة لهم، بسبب سقوط ألمانيا، وكأداة للهدم والتجديد، كانت الماركسية الثورية — أيضًا — قد أصبحت طريقًا مسدودة. التمرُّد «السبارتاکوسي» في عام ۱۹۱۹م كلَّف اليسار الشيوعي تأييدَ ودعمَ أهم جمهور في ألمانيا ما بعد الحرب، المحاربون الذين ساعدوا على قمعه، بالنسبة لجيل الحرب من المثقَّفين المدرَّبين في الجامعات — رجال مثل «کارل شمیت»، و«هانز فراير»، و«مارتن هيدجر»، و «آرثر موللر فان دن بروك» وبالإضافة إلى «أوزوالد شبنجلر» — كان تجديد ألمانيا الآن لا بد من أن يأتيَ من ثورة من بين صفوف اليمين وليس اليسار. لن يأتيَ من العودة إلى المحافظة القديمة (أي الإبقاء على ما هو قائم ومقاومة الجديد)، مثلما كانت في ألمانيا «بسمارك»، و«ولهلمین»، وإنما من جانب يمين رادیكالي جدید، قوت عوده كوارث ۱۹١۸، ۱۹۱۹م، واستلهم أيقونات التشاؤمية الثقافية مثل «لاجارد» Lagarde، و«نيتشة» Nietzsche … والآن … «أوزوالد شبنجلر» Oswald Spengler. كانت الفترة ما بين ۱۹۱۸ و۱۹۱۹م كارثة بالنسبة لمستقبل ألمانيا السياسي، ولكنها صنعت شهرة «شبنجلر». كان قد تنبَّأ لأصدقائه بأن تأثير «أُفُول الغرب» سيكون بمثابة «انهيار صخرة ضخمة في بحيرة ضحلة»، وكان محقًّا في ذلك، رغم أنه لم يتمَّ بالطريقة التي كان يتوقعها، تخاطف القرَّاء كتاب «أُفُول الغرب» على الفور، وأصدر الناشر طبعة ثانية، ولكن رد الفعل لدى قدامى المثقفين في الجامعات كان سلبيًّا،٧٠ بيد أنَّ شباب الباحثين مثل «هانز فراير» كانوا أكثرَ احترامًا لمنهجه وأهدافه، «توماس مان» حصل على نسخة في صيف ۱۹۱۹م، وأمضى شهر يوليو كله في قراءتها. كان يعادل تأثيرها العاطفي عليه بقراءاته ﻟ «شوبنهاور» لأول مرة، ويرى أنه أهم كتاب في تلك المرحلة. كما شجَّع الكتاب تشاؤمه أيضًا بشأن المستقبل القريب:
«القادم إلينا الآن هو سيادة أنجلو ساكسونية على العالم، أي حضارة منجزة»٧١ الفيلسوف المقيم في «فيينا»: «لودفيج فتنشتاين» Ludwig Wittgenstein قرأ «أُفُول الغرب» فصعق، وربما يكون كتاب «شبنجلر» قد لعب دورًا في إبعاده عن الوضعية المنطقية نحو وجهة فلسفية جديدة.٧٢ أما «ماكس فيبر»٧٣ - Max Weber، فكان انطباعه أقلَّ حدَّة. قال إنَّ «شبنجلر» لم يكن أكثرَ من «هاوٍ مثقَّف ذكي»، ولكنه وجَّه إليه الدعوة ليشارك في ندوته عن علم الاجتماع في جامعة «ميونخ»، وقَبِل «شبنجلر» الدعوة، وعلى مدى يوم ونصف اليوم دار سجالٌ عنيف بينهما في ديسمبر ۱۹۱۹م، وكان «فيبر» أحد واضعي دستور «فيمر». وبالرغم من أنَّ «فيبر» كان يتصرف بأدب جم، إلا أنَّ طلابه من ذوي الميول اليسارية كانوا أقلَّ تهذيبًا، كانوا يهدمون «صرح شبنجلر الفكري حجرًا حجرًا»، ولكن «شبنجلر» لم يُروَّع، كان يعرف أنَّ كتابه قد حقَّق نجاحًا، وأصاب شهرةً في الدوائر التي يريد أن يؤثِّر فيها. وفي أواخر عام ۱۹۱۹م، قرأت «إليزابيث فورستر- «نيتشة»» كتاب «أُفُول الغرب» وتأثَّرت به كثيرًا، ورتَّبت أن يحصل «شبنجلر» على جائزة «نيتشة». كان «شبنجلر» قد أصبح الآن شخصية عامة ومشهورة، ولأنه لم يكن معتادًا على الشهرة، فقد كان مضطرًّا لأن يفرض قائمة انتظار لمدة ثلاثة أيام على عدد كبير من الزائرين الذين تدفَّقوا عليه. كان يريد أيضًا أن يستغلَّ وضعَه لتشكيل المشهد السياسي الجديد. وبناء على ذلك نشر مقالًا بعنوان «التشاؤم»، ردًّا على الذين انتقدوا «أُفُول الغرب» مثل «آرثر مويلر فان دن بروك»، الذي اتَّهمه بأنه كان مروِّجًا حديثًا للكآبة والتشاؤم، وعلى العكس من ذلك كان رد «شبنجلر»، بأنه كان يرى نفسه نبيًّا لنهوض قومي من أجل ألمانيا، تختفي معه بقايا الغرب الفاسد، بما في ذلك جمهورية «فيمر» نفسها.
بعد نجاح «أُفُول الغرب» بوقت قصير، قرَّر «شبنجلر» أن يُوجِّهَ مواهبه إلى النقد السياسي، وكانت النتيجة كتابًا بعنوان «البروسية٧٤ والاشتراكية»، الذي ظهر في أوائل عام ۱۹۲۰م، وقد حوَّل هذا الكتاب «شبنجلر» إلى مدافع فكري عنيد عن ثورة اليمين الألماني، وكما كان «آرثر مویلر فان دن بروك» يحاول أن يُزحزح القومية الألمانية خارج الناموس البسماركي القديم، كان هدف «شبنجلر» هو أن يُبعِد الاشتراكية عن الماركسيِّين. ومثل «بروکس»، و«هنري آدمز» استنتج «شبنجلر» أنَّ اقتصادًا اشتراکيًّا محكومًا من القمة إلى القاعدة، هو الذي يمكن أن يُنقذ المجتمع الحديث. وكان يتمنى الآن أن يمكنه استرضاء واستمالة «الطبقات العاملة المحترمة» بمن فيهم من المحاربين السابقين، بواسطة رؤية قومية ألمانية نيتشوية.
فالعمال والجنود والمهندسون ومثقفو اليمين يمكن أن يتحدوا معًا، لسحقِ رجال المال الدوليِّين والدَّهماء، ويمكنهم أن يُشكِّلوا «دكتاتورية التنظيم» لكي تحلَّ محلَّ «دكتاتورية المال» في ألمانيا ما بعد الحرب،٧٥ ما كان يُزعج «شبنجلر» وغيره من رموز ثورة اليمين في الاشتراكية الماركسية ليس تقويتها للطبقة العاملة وتدميرها للأعمال التجارية والمالية الكبرى؛ فقد كانوا يخطِّطون للقيام بذلك بأنفسهم،٧٦ لقد أداروا ظهورهم للماركسية؛ لأنهم كانوا يرَونها جزءًا من حضارة محتضرة. التفكير في المجتمع بأسلوب التصنيف: البروليتاريا، والبرجوازية، وصراع الطبقات، كان قديمًا، كما كتب «هانز فرایر»: كان «خطة أول أمس».
إنَّ مجتمعًا جديدًا وثقافة جديدة يتطلبان تصنيفًا سياسيًّا جديدًا، وكان «شبنجلر» الآن، يقدِّم تصنيفًا محددًا بكتابِه «البروسية والاشتراكية». «شبنجلر» مزَّق الليبرالية — روح الحداثة — بطول محورها الرئيسي، وذلك بفصله الرغبة في المساواة عن الحاجة إلى الحرية، والحرية كما كان يقول: طريق مسدودة، لا تؤدي إلا إلى الانحلال الثقافي وفقدان الحيوية، كما حدث في إنجلترا وأمريكا، تلك الدول المسكونة بشعوب «بلا جذور وبالتالي فهي بلا مستقبل»، ومن ناحية أخرى، فإن المساواة نبعت مباشرةً من الناموس البروسي العسكري. أعلن أنَّ الملك «فردریك ولهلم» كان هو الاشتراكي الأوَّل … وليس مارکس. الناموس البروسي عن الانضباط والتضحية بالنفس، يمكن أن يبنيَ مجتمعًا متحدًا يقوم على المساواة، أناس تجمع بينهم الطاعة والخدمة والغريزة. هذه «الاشتراكية الحقيقية» يمكن أن تقضيَ على الرأسمالية والماركسية؛ حيث إنَّ كلتَيهما أيديولوجيات زائفة ومتفسخة وتنتمي إلى الماضي. الاشتراكية البروسية أو «الاشتراكية القومية»، كما أطلق عليها، يمكن أن تحوِّل الطاقات الحيوية للشعب الألماني وتُوَجِّهها إلى كل عضوي جديد وسليم، كما كان المثقفون الألمان يحلمون دائمًا. مجتمع كهذا، هو تعبير عن قوة وحرية رفيعة المستوى، لن يستطيع أن يفهمَها أيُّ غريب، سيتعلَّم الناس كيف «يُحِلُّون الحرية الداخلية» محلَّ «الحرية العملية» عند الإنجليز والأمريكيِّين، الحرية الداخلية التي تتحقق من خلال التنازل عن الالتزامات للكل العضوي. «تنظيم الإنتاج والاتصال بواسطة الدولة، كل واحد يصبح خادمًا للدولة، مكان كل مواطن معين له من قبل المجموع، يتلقَّى أوامره ويُنفذها».٧٧
شعار المواطن الاشتراكي القومي ليس مثل شعار ذلك المواطن الليبرالي عند «فيرنر سومبارت» وهو «كل إنسان لنفسه»، شعار المواطن الاشتراكي القومي هو «كل إنسان من أجل كل إنسان آخر». كان «شبنجلر» ينادي بقيام نخبة جديدة في ألمانيا تتكوَّن من شباب «يتجاهلون اللغة السياسية عديمة القيمة»، قادرين على استيعاب كل ما هو فعَّال وجموح في طبيعتنا، وهم مستعدون للمضيِّ إلى الأمام مهما حدث،٧٨ تصوُّر «شبنجلر» لاشتراكية قومية جديدة، أصبح مؤثِّرًا مثل كتابه «أُفُول الغرب». «شبنجلر» نفسه لاحظ أنه قد وجد تبعيةً قوية بين السياسيِّين والصناعيِّين الشبان.٧٩ «مويلر فان دن بروك» اعتمد عليه بشكل كبير (كما كان «شبنجلر» قد اعتمد على كتاب «مویلر» السابق «النموذج البروسي»)، وكان يحاجج بالطريقة نفسها، أنَّ «الرايخ الثالث الألماني» في المستقبل لا بد أن يكون اشتراكيًّا، بمعنى أنه يتمتع بوحدة عضوية مضحية بالنفس، إلى جانب كونه عدوًّا للرأسمالية المتفسِّخة.
والآن، كانت هناك اشتراكية مناضلة وعسكرية تلوح في الأفق، كمَعْلَم بارز على طريق المستقبل الألماني. كتب «إرنست يونجر» Ernst Jünger كراسةً سياسية بعنوان ماركسي مثير هو «العامل»، أشار فيها إلى الأواصر التي تربط بين العمال والجنود كبناة متعاونين للمستقبل. امتدح «شبنجلر» عملَ «يونجر» كثيرًا، وسرعان ما أصبح العامل القوي والفعَّال رمزًا مشتركًا لليمين الراديكالي وليس لليسار الماركسي. وقد امتزجت، بالقطع، تلك الصورة عن العامل الألماني الحر الراسخ، بصورة المقاتل الآري التيوتوني الحر في الأسطورة الجوبينووية الجديدة. لقد لمس كتاب «شبنجلر»: «أُفُول الغرب» وترًا لدى زميله في «ميونخ»: «دیترش إيكارت» Dietrich Eckhart الباطني المعادي للسامية، وقد استجاب له. في يناير ۱۹۱۹م اشترك «إیکارت» وجماعة أخرى متصلة برابطة «كل ألمانيا» في الشمال وكوَّنوا حزبًا سياسيًّا جديدًا هو «حزب العمال الألماني»، الصليب المعقوف، شعار جمعية الشمال Thule Society للحيوية الآرية، أصبح رمزًا سياسيًّا صريحًا. وعندما انضم «ألفرد روزنبرج» Alfred Rosenberg إلى «حزب العمال الألماني» في شهر مايو، جاء بصديقه «أدولف هتلر»، الذي سرعان ما أصبح ناطقًا رسميًّا رئيسيًّا باسم الحزب. كان «روزنبرج» أيضًا من أتباع «شبنجلر» والمهتدين به، وقد استطاع هو و«إيكارت» أن يُقنعا «هتلر» بأهمية «شبنجلر» كمفكر ألماني حقيقي إلى جانب آخرين مثل «جوبينو» و«هوستون تشمبرلين».

وفي عام ۱۹۲۰م، غيَّر «هتلر» اسمَ «حزب العمال الألماني» إلى «حزب العمال الألماني القومي الاشتراكي»، معبِّرًا بذلك عن فكرتَي ثورة اليمين: القومية الشعبية، واشتراكية «شبنجلر» الألمانية.

ظهر الجزء الثاني من كتاب «شبنجلر»: «أُفُول الغرب» في مايو ۱۹۲۲م، وسط جوٍّ من الانقلابات العسكرية والقلق السياسي. كان أكثر من الجزء الأول صلةً ومباشرة من الناحية السياسية، في تناوله لموضوعات موت الليبرالية وانتحار الغرب. هاجم «شبنجلر» الليبرالية كأيديولوجية قديمة مفلسة لحضارة تحتضر، وجنس مهدد بالانقراض، وبرجوازية ذات عقلية تجارية، الديمقراطيات البرجوازية تعمل:

بنفاق الجماهير، بالكذب عن الخصوم، بالألعاب والهدايا، بالتهديدات والضربات … وقبل كل شيء بالأموال. المال هو الذي ينظِّم العملية لصالح مَن يملكونه، وتصبح لعبة الانتخابات سابقة الإعداد، وتُقدَّم على أنها تقرير مصير.٨٠
وإذا كان الجزء الأول من كتاب «شبنجلر» يقدِّم التاريخ باعتباره قصةَ الشعوب والدول، فإن الجزء الثاني يقدِّم المستقبل باعتباره «صراع البشر وليس صراع المبادئ، صراع صفات الجنس وليس المُثل؛ لأن القوة التنفيذية هي البداية والنهاية». «نابليون»، و«قیصر» و«ألكساندر» لا يظهرون كمجرَّد حُكَّام أو قادة جيوش، وإنما باعتبارهم صانعي شعوب. كتب: «الموهبة السياسية ليست سوى ثقة في القادة»، القيصرية وليست الدساتير، ستُصبح الفكرة الأساسية في السياسة في العصر الجديد. قوة الدولة الحديثة ستصل إلى أيدي مجموعة مغرورة من «المغامرين والقياصرة المزيفين والجنرالات المتسللين والملوك البرابرة»، الذين يعتبرون الشعب والأمة «مجرد جزء من المشهد الطبيعي العام». وكان يعتقد كما كتب في عام ۱۹۲۲م أنَّ أحد هذه النماذج قد ظهر في روسيا في شخص «ليون تروتسکي» Leon Trotsky، ويضيف «شبنجلر»: «في عالمنا الجيرماني، ستعود أرواح «ألاريك» Alaric،٨١ و«ثيودوريك» Theodoric٨٢ مرة أخرى «لتكسر دكتاتورية المال وسلاحها السياسي: الديمقراطية، سينتصر السيف على المال».»٨٣
إضافة «شبنجلر» أطلقت استجابةً ملتبسة، المؤرخ القديم المتميِّز «إدوارد مایر» Eduard Mayer أعطاها أهمية كبيرة، وزعم أنه عبَّر عن شكوكه في أسلوب وأدلة «شبنجلر»، إلا أنه كان متفقًا مع الاستنتاجات العامة للكتاب، بيد أنه قال: «ربما كانت نظرتي نحو مستقبل شعبنا، أكثر تشاؤمًا من نظرته».٨٤ كان هناك معجبون، آخرون مثل «توماس مان» Thomas Mann ينظرون عن كثب إلى أجندة «شبنجلر» السياسية السلطوية للمرة الأولى، وينفرون منها، كان «مان» يشير إلى «شبنجلر» باعتباره «المقلد الماهر ﻟ: «نيتشة» (أو بعبارته: الذي يحاكيه محاكاة القردة) وبدأ يتعامل مع أعماله بلا اكتراث وربما باحتقار. في الوقت نفسه فهم «مان» هدف «شبنجلر» الأبعد من كتابه «أُفُول الغرب»: لكي يجعل من نفسه خليفةً ﻟ «نيتشة» في ممارسة فلسفة العدمية. كان «شبنجلر» يقصد تحويل التاريخ نفسه إلى «مطرقة قوية» (كما يقول نيتشة) لكي «تُحطِّم وتفسِّخ الأجناس المنحلَّة، وتفسح الطريق أمام نظام حياة جديد».» وبهذا المعنى فإن «أُفُول الغرب»، كما قال «شبنجلر» لعدد من المراسلين: «قد أحدث الأثر الذي كان يتمناه». كان «شبنجلر» يعتقد أنَّ هناك اشتراكيةً قومية قادمة في الطريق، سيتسع مداها لما هو أبعد من التحالف السياسي بين المحاربين القدامى والطبقة العاملة. كتب في «البروسية والاشتراكية»: «كل ألماني عامل … وهذا جزء من أسلوبه في الحياة». وكان بذلك يضم ضباط الجيش إلى جانب عمال الماكينات والحرفيِّين ورجال الصناعة والمقاولين العسكريِّين، حتى موظفي الحكومة وأصحاب المهن الأخرى، هؤلاء الناس سيفقدون مكانتهم کبرجوازية نمطية «صغيرة العقل، ضحلة الفكر، ومتفسخة»، لكي يصبحوا المدراء الذين لا غنى عنهم لآلة الصناعة والدولة.٨٥ رؤية «شبنجلر» للدولة الاشتراكية المستقبلية تحمل شَبَهًا قويًّا لرؤية «بروکس آدمز»، مع نخبة تكنوقراطية منضبطة من المهندسين والأفراد ذوي العقول العملية، يقودون ألمانيا خارج «هذا الضيق الإقطاعي الزراعي»، ومثل «آدمز» أيضًا، كان يُغلِّف ذلك المستقبل الاشتراكي بالسلطة المروعة للحتمية التاريخية. لم يكن هناك أيُّ معنًى للاحتجاج على صيغتهم للمستقبل، فكلا الكاتبين كان يؤكد لقُرَّائه أنَّ ذلك شيء مقدَّر من قبل. ومع ذلك، نسمع الإيقاعات الرتيبة والعنيفة لفلسفة «نيتشة» عن «إرادة القوة»، تدقُّ تحت نخبة «شبنجلر» تلك. التحويل الشامل للمجتمع عن طريق المبادئ الاشتراكية، يمكن أن يكون إعادة تقييم حقيقي لكل القيم، كما كان يعتقد «شبنجلر»؛ حيث سيتحوَّل كلُّ شيء إلى كلٍّ واحدٍ: الدولة والإنسان والآلة. كان مصممًا على «أننا لا نريد أيديولوجية أكثر من ذلك. نحتاج إلى صلابة، إلى شكوكية لا تخشى شيئًا، نريد طبقة من الاشتراكيِّين المهرة»، ثم يُضيف على نحو ميلودرامي: «مرة أخرى … الاشتراكية تعني القوة، القوة، ثم القوة».٨٦ كان «شبنجلر» يريد أن يجمع بين المساواة الاشتراكية والقومية الشعبية. وقد أثَّر جهدُه تأثيرًا عميقًا على الذين تحوَّلوا إلى حزب «هتلر» الاشتراكي القومي وذوي التوجُّه اليساري مثل «جوزيف جوبلز» Josef Goebbels، و«جريجور شتراسر» Gregor Strasser. في يونيو ويوليو ۱۹۲٥م، كتب «شتراسر» رسالتين إلى «شبنجلر»، إحداهما طويلة والأخرى قصيرة، معبِّرًا عن إعجابه بأعماله، ويحثُّه على مراعاة أوجه الشبه بين أهداف الحزب النازي وحزبه. كان النازيون أيضًا يريدون أن يُحدثوا «ثورة ألمانية عن طريق اشتراكية ألمانية»، كما قال «شتراسر»، وبالرغم من انقلاب «هتلر» الفاشل في عام ۱۹۲۳م في «ميونخ»، وسجنه، إلا أنَّ «شتراسر» كان يُعلن أنَّ «الفكرة السياسية العظيمة للاشتراكية القومية لم تفشل، بل إنها تبدأ الآن».٨٧ «شبنجلر» كان لديه شكوكه، ومثل «مويلر فان دن بروك» وقوميِّين راديكاليِّين آخرين، كان الحكم الأول ﻟ «شبنجلر» على «هتلر»: «الرائد لا بد أن يكون بطلًا، وليس صوتًا يُغني عن البطولة». كانت آماله الشخصية تتمركز حول عدد من الجنرالات الألمان، وعلى «فريتز سلدت» Fritz Seldte قائد جماعة المحاربين Stahlhelm. ومن ناحية أخرى كان «هتلر» يبدو ضعيفًا مترددًا، وكان «شبنجلر» يشكو من أنَّ الألمان لا يمكنهم أن يحدِّدوا ما إذا كانوا يمينيِّين أو يساريِّين.٨٨
كانت ﻟ «شبنجلر» أيضًا آراؤه المختلفة تمامًا عن آراء النازيِّين بالنسبة لمسألة العِرق، كان يستخدم دائمًا مصطلحاتٍ؛ مثل «العِرق السيد»، و«الدم»، ولكن فكرتَه عن العِرق، في التحليل الأخير، كانت تابعةً لفكرته المثالية عن الثقافة. وفي ذلك، نجده لا يُشبه أحدًا آخرَ من أساتذة الجامعات مثلما يُشبه «دبليو إي بي دو بوا»، كلاهما كان يرى أنَّ العرق هو الاندماج العضوي للبشر مع الحقيقة الروحية لشعوبهم، العِرق روح وليس بيولوجيا، والآخرون — بالطبع — لا يطيقون صبرًا مع هذا التميُّز الأكاديمي. «هتلر» و«وزونبرج» وغيرهما من زعماء النازية كانوا في قبضة تشاؤم عرقي جوبینووي جديد، موجَّه ضدَّ اليهود. وكان إصرارهم على النقاء العرقي والسلالة الآرية يتناقض تمامًا مع التوجُّه الذي عبَّر عنه «فريتز سيلدت»، صديق «شبنجلر»: نقول إلى الجحيم بالمرتبة والمكانة … نحن ننظر إلى المرء فقط … الشخصية فقط هي التي نضعها في الاعتبار.٨٩
وكما أشار «إتش ستيوارت هيوز» H. Stuart Hughes أهم نقَّاد «هتلر»، فإن تنفجًا ما، كان يلعب دورًا في عداء «الهر دكتور شبنجلر» ﻟ «هتلر»، وأنه «رادیکالي بوهیمي جلف». أما ردُّ فعل «هتلر» فكان سريعًا ومباشرًا: «يتهمونني بأنني بربري، نعم … طبعًا نحن برابرة … ونحن فخورون بذلك»،٩٠ كما قال لأحد مساعديه، ولكن، ربما كان اعتراض «شبنجلر» الرئيسي على «هتلر»، هو أنَّ نظرة النازيِّين للخلاص من خلال حركة جماهيرية، كانت تُزعج حسَّه النيتشوي بالنسبية التاريخية، فهو کدارس جيِّد ﻟ «جینالوجيا الأخلاق»، و«زرادشت»، يمكن أن يتشكَّك في قدرة الحماس السياسي الجماهيري على تغيير ما خطَّه القدر. في عام ١٩٢٤م، وفي حديث له في جامعة «فرزبورج» Wurzburg عن «الواجبات السياسية للشباب الألماني» نبَّه محذِّرًا إلى أنَّ «السياسة القومية شراب مسكر»، وأنَّ المواكب والمسيرات قد حلَّت محلَّ التفكير الجاد بشأن مستقبل ألمانيا. «ولا شك في أنَّ تلك أمور مشبعة للعواطف … ولكن عازفي الأبواق نادرًا ما كانوا جنرالات»،٩١ وبالرغم من ذلك، عندما ضرب الكساد العظيم ألمانيا، مخلِّفا ثلثَ عمَّالها بلا عمل في عام ۱۹۳۲م، فإن الخيار السياسي الذي فرض نفسه بين الشيوعية و«هتلر»، حرَّك «شبنجلر» وغيره من المتشكِّكين في اتجاه المعسكر الاشتراكي. في ذلك العام، نشر «فرديناند فرايد» Ferdinand Fried رئيس تحرير «داي تات» Die Tat، الجريدة القومية المحافظة، مقالَه المشهود «نهاية الرأسمالية»، والذي كان يعبِّر بلهجة «شبنجلرية» عن أنَّ المجتمع الرأسمالي قد استنفد نفسه، وأن لا بد من استيعابه في المجتمع عن طريق وكيله … يقصد الدولة. وأكَّد «فيرنر سومبارت» Werner Sombart أنه كان هناك إجماع على أنَّ أوروبا قد عرفت مرحلة أُفُول في القرن التاسع عشر، وهو إجماع يبدأ — كما يقول — مع «جاکوب بورکهارت» و«نيتشة»، «نحن الذين نعيش في نهاية هذا الأُفُول، يمكننا للمرة الأولى أن نُدرك مدى وعمق هذا الدمار» الذي حدث في الحياة السياسية والاجتماعية والروحية لألمانيا، كما عقَّب «سومبارت» بأسًى: «وحده المؤمن بقوة الشيطان، هو الذي يمكنه أن يفهم ما حدث في أوروبا الغربية وأمريكا في المائة وخمسين عامًا الأخيرة».٩٢ وقال عالم اجتماع آخر: «الأمل الوحيد هو «هتلر»، هو الذي سيُطيح ببقايا القرن التاسع عشر المتكلسة، ويُمهِّد الطريق لتاريخ القرن العشرين». «هتلر» نفسه أعلن أنه كان مستعدًّا لهذا النوع من أعمال الهدم، لكي يُوقف «مرض العصر الزاحف». كتب في «كفاحي»: «يجب ألَّا يكونَ هناك أنصافُ حلول، لا بد من اتخاذ القرارات الأكثر أهمية والأكثر جرأة.»٩٣ في انتخابات عام ۱۹۳۲م، صوَّت «شبنجلر» لصالح «هتلر»، بل إنه قام برفع عَلَم الصليب المعقوف على شباك منزله في «ميونخ». كان يعتقد أنَّ «هتلر» «ما يزال أحمقَ … ولكن يجب أن نتجنَّب المعركة». في عام ۱۹۳۳م، بعد صعود «هتلر» إلى السلطة، كتب «هانز فراير» Hans Freyer المتحمِّس للنازية، والذي كان رئيسًا لمعهد البحوث التاريخية في جامعة «ليبزج» إلى «شبنجلر» يعرض عليه كرسيَّ الثقافة والتاريخ العام، وهكذا كان حلم «شبنجلر» بأن يكون أستاذًا جامعيًّا تحت أمره، ولكنه اضطر للرفض لكي يحتفظ بعزلته كما قال ﻟ «فراير»، وكذلك — وهناك شكٌّ في ذلك — لكي يحتفظ باستقلاليته عن بيئة فكرية كان يتمُّ تسييسُها بسرعة.
كان النازيون كلُّهم تصميمٌ على إخضاع جامعات ألمانيا العريقة لسيطرتهم، وقصة استيلاء النازي على الحياة الأكاديمية والفكرية في ألمانيا، هي قصة الضغط من الداخل بنفس قدر الضغط من الخارج.٩٤ كان النجاح الأول للحزب قد تحقَّق بين صفوف الطلاب، ومن خلالهم سيطر النازيون على الاتحاد القومي العام للطلاب، وكان منظرهم يبدو مألوفًا قبل عام ۱۹۳۲م بقمصانهم البُنيَّة، وأشرطة الأذرع المرسوم عليها الصليب المعقوف. بعد ذلك تحوَّلوا إلى دَهْماء بعنف، يحرقون الكتب ويتظاهرون ضدَّ الأساتذة اليهود. في البداية لم يُصَب عددٌ كبير من الأساتذة بالصدمة أو خيبة الأمل. في جامعة «بون»، كان عالم الاجتماع «إدموند سبرانجر» Edmund Spranger، يرى أنَّ الطلبةَ النازيِّين يمثِّلون «حركة قومية حقيقية»، حتى إن كانت أساليبهم «غير منضبطة أحيانًا».٩٥ وبالرغم من أنَّ الحكومة الجديدة رفضت أن تمنح مؤيِّديها من الطلاب السلطة التي كانوا يطلبونها لتعيين وفصل الأساتذة، إلا أنها جعلت بقاء الأستاذ في منصبه مسألةً أيديولوجية سياسية، فقط طُرِد أكثر من ألف وسبعمائة من أعضاء هيئة التدريس بحجَّة أنهم سلاميون ويساريون، بينما حُرمت الأقسام الأكاديمية التي كان يعتبرها النازيون «غير عملية» أو «غير سياسية»، من الدعم المادي ومن الكوادر البشرية. وكان أعضاء الجامعات أنفسهم يساعدونهم في ذلك، «مارتن هيدجر» Martin Heidegger الفيلسوف الشهير، ورئيس جامعة «فراببورج»، ساعدَ في «تطفيش» اليهود من المناصب الأكاديمية. «کارل شمیت» Carl Schmitt، المُنظِّر القانوني، ساعد في إصدار قوانين جديدة للتمييز ضدَّ اليهود «العدو القاتل لكل إنتاجية حقيقية لدى الشعوب الأخرى»، «فيرنر سومبارت» Werner Sombert، و«هانز فراير» Hans Freyer كانَا يمثِّلان علمَ الاجتماع النازي من الناحية السياسية في المؤتمرات الدولية.٩٦ وكما رأينا من قبل، فإن علماء أنثروبولوجيا وبيولوجيا؛ مثل «إيوجين فيشر» Eugen Fischer، و«ألفريد بلويتز» Alfred Ploetz سيتعاونون تمامًا مع النازيِّين.٩٧ وكان أولئك — بالطبع — أفرادًا في مناصب يريدون أن يحافظوا عليها. كان «شبنجلر» بإمكانه أن يكون أكثرَ استقلالية، ولكنه كان تحت نيران متزايدة وضغوط متنامية من كُتَّاب الحزب بسبب تشاؤمه، الأمر الذي كان يعني بالفعل عدمَ استعداده لتأييد نظام «هتلر». وفي صيف ۱۹۳۳م، وتحت ضغوط من أصدقاء وحلفاء سياسيِّين، وافق «شبنجلر» في النهاية أن يلتقيَ «هتلر» في احتفال «بايريث».
كانت لحظة غريبة! الرجلان: المحارب الذي تحوَّل إلى ديماجوجي معادٍ للسامية، والجامعي الذي تحوَّل إلى مشعوذ سياسي، يجدان نفسَيهما على قمَّة تلٍّ، التلُّ نفسه الذي تسلَّقه «ريتشارد فاجنر» و«فردريك نيتشة» معًا تحت المطر عام ١٨٧٦م قبل ستين عامًا. كان الرجلان يقفان عند ملتقى نهرَين عميقَين سريعَين، يجريان عبر المشهد الطبيعي للثقافة الألمانية، أحدهما ينساب من «جوبينو» إلى «فاجنر» و«هوستن تشمبرلین»، والآخر من «نيتشة» وأتباعه القوميِّين الراديكاليِّين، كلاهما: «شبنجلر» و«هتلر» كان نبيًّا للتشاؤمية الثقافية — كلٌّ على طريقته — كلاهما، كان يتطلَّع إلى غروب أصنام النظام الأوروبي القديم Götterdämmerung الذي سيُولد منه عهدٌ جديد، إلا أنَّ اللقاء كان أقلَّ قيمة من ذلك. تناقشَا في السياسة إزاء فرنسا والكنيسة الكاثوليكية. «هتلر» حاول أن يمدح وينافق الرجل الذي كان أكبرَ منه سنًّا، وقال شيئًا عن الحاجة إلى اجتذاب غير الحزبيِّين إلى الحركة النازية، ولكن لا بد أن يكون «شبنجلر» قد أدرك أن الدكتاتور كان لديه مشروعاته وخُطَطه التي لم تكن تضمُّ مَن هم على شاكلته. وفي العام التالي، نشر «شبنجلر»: «ساعة القرار»، كان كتابًا كئيبًا لدرجة كبيرة، كان قد كتب معظمه قبل انتخاب «هتلر» مستشارًا في العام السابق، ولكن «شبنجلر» قرَّر ألَّا يغيِّر شيئًا.٩٨
کرَّر «شبنجلر» رأيه السابق، وهو أنَّ ألمانيا كانت الآن الدولة الرئيسية في العالم؛ فهي تقع كما كانت بين آسيا بما فيها من ثورتَين عظميَين (في روسيا والصين)، وأوروبا الغربية بما فيها من اضمحلال اقتصادي. كان العالم على وشَك التمزُّق — كما يقول — بين حرب طبقية في الغرب، والدول والإمبراطوريات الجديدة الملونة في الشرق، كانت الأمَّة الألمانية ما تزال «شابةً بما يكفي لتمرَّ بمشكلات عالمية تاريخية»، وتتمكَّن من حلِّها. ولكن مجرد «الرغبة في الحرب» لم تَعُد كافية. كان يخاطب «الشباب الدائم» للنازية، الذي ينقصه النضجُ والحنكة اللازمان لحلِّ أزمة الغرب. «هتلر» تجنَّب التقاليد البروسية الحقيقية والمجرَّبة عن الجيش والأرستقراطية، وكان يتحرَّك نحو نوع آخر من الاشتراكية خطير لم يُجرَّب بعد. «أولئك في الأوساط القومية، الذين اتخذوا الكلمةَ شعارًا، لم يفهموا حتى يومنا هذا أنَّ الاشتراكية هي روح الشعب، وليست سياسةً اقتصادية».٩٩
لم يكن كتاب «ساعة القرار» دعوةً للإطاحة ﺑ «هتلر» بالضبط، لم يكن سوى المعادل الجيرماني لكتاب «بروکس آدمز»: «تفوُّق أمريكا الاقتصادي»، ودعوة لحمل السلاح «الآن وإلا فلا» في الصراع الكوني القادم، والتي سوف تسيطر على أدب الانهيار في عصر النشر الجماهيري، وبعد ذلك تستولي عليه تمامًا، ولكن في المناخ الفكري للرايخ الثالث كان أيُّ شيء يقلُّ عن التقريظ التام يعتبر نقدًا تامًّا. وبالرغم من أنَّ الناشر استطاع أن يوزِّع الطبعة الأولى، إلا أنَّ الكتاب تمَّ حظره، وسرعان ما اختفت النُّسَخ الباقية من فوق أرفف المكتبات. زاد الهجوم على «شبنجلر» في الصحف، كما تزايد أيضًا شعوره بالعزلة، وكما كتب أحد الأصدقاء القليلين الذين ظلُّوا إلى جواره إلى صديق آخر بعد حظر الكتاب: «إنه يُحوِّل نفسه بالتدريج إلى كائن أسطوري مريض، يظلُّ حبيسَ غرفته لا يبرحها بالأسابيع، لم يَعُد قادرًا على احتمال أحد من البشر.»١٠٠
بعد أن استأنس النازيون الجامعات والمثقَّفين، فرضوا المعايير الآرية العِرقية على الجيش الألماني في فبراير ١٩٣٤م، بالرغم من اعتراض عدد كبير من الجنرالات، بعد أشهر جاءت عملية التطهير التي قامت بها جماعات «إرنست رويمز» Ernst Roehms القمصان البُنيَّة والمحاربون، تلك العمليات التي كانت تُسمَّى ﺑ «ليلة السكاكين الطويلة»، وتمَّ إعدامُ عددٍ كبير من القياديِّين المحافظين وجنرالات الجيش، مع النازي الوحيد الذي كان «شبنجلر» يحترمه وهو «جريجور شتراسر».
وفي شهر أكتوبر ۱۹۳٥م تخلَّى «شبنجلر» عن منصبه الشرفي في «مركز أرشيف نيتشة». كانت «إليزابيث فورستر-نيتشة» الآن في التاسعة والثمانين (ستموت بعد أقل من شهر)، وكانت مؤيِّدة صلبة ﻟ «هتلر»، وربما منذ اللحظة الأولى لظهور اسمه في عناوين الصحف.١٠١ صعود «هتلر» إلى السلطة في عام ۱۹۳۳م جعلها «سكرى بالحماس» كما قالت لأحد أصدقائها، حوَّلت المركز إلى مزار نازي بالفعل، وكانت تنظِّم حفلات استقبال يحضرها «هتلر» وزعماء النازية … ولكن ليس «شبنجلر».

والآن ستكتب له رسالةً تعبِّر فيها عن حيرتها لانسحابه من المركز، وتردُّده في تأييد «هتلر»… ألم يحقِّق «الفوهرر العظيم» نفسَ الأهداف والطموحات التي تكلَّم عنها «شبنجلر» في كتابه: «البروسية والاشتراكية»؟ ولكن «شبنجلر» لم يردَّ على رسالتها.

في شهر نوفمبر ماتت «إليزابيث فورستر نيتشة»، وحضر «هتلر» جنازتها، كما حضر جنازة «هوستون ستيورات تشمبرلين» قبل ذلك بسبع سنوات.

في شهر مارس التالي، تعرَّض «شبنجلر» لأزمة قلبية حادَّة ومات في منزله. كان في السادسة والخمسين، ومرَّ موته دون أن يلحظَه أحدٌ تقريبًا. كان «توماس مان» واحدًا من قلة علمت بوفاته، وكان يعيش في «زيورخ» منفيًّا من النظام النازي الذي كان يحتقره، بعد أن قرأ نعْيَ «شبنجلر»، کتب «مان» في مفكرته أنه عندما قرأ کتاب «شبنجلر» «أُفُول الغرب» لأول مرة قبل عشرين عامًا تقريبًا، شعر «بصلة قُربى في القيم الروحية». كان «شبنجلر» أيضًا قد «استوحى مفهومه عن «الأُفُول» من «نيتشة» في الأساس: «لقد كان شغله الشاغل هو أُفُول القيم الثقافية».» ولكن، عندما رأی «مان» عمق «احتقار شبنجلر للحرية الإنسانية» عرف كيف يكرهه. كتب «توماس مان»:

«مات صغيرًا، وأحسب أنه مات في مرارة وندم. ولكنه أتى أشياءَ مرعبةً ليمهِّد الطريق لما هو قادم، وأطلق، باكرًا، تلك الألحان التي تُصيبنا اليوم بالصمم.»١٠٢
١  Nietzsche, Thus Spake Zarathustra, p. 75; Hayman, Nietzsche: A Life, pp. 334–37.
٢  Macintire, Forgotten Fatherland.
٣  حسب تقاليد الكنيسة البروتستانتية المتمسِّكة بتعاليم «مارتن لوثر»، المصلح الديني (١٤٨٣–١٥٤٦م). (المترجم)
٤  هناك إشارة واحدة عابرة في كتاب «دو بوا»: «غسق الفجر» إلى فكرة «الإنسان الأرقی» عند «نيتشة»، ص٦٦٣.
٥  Peters, Zarathustra’s Sister ….
٦  Aschheim, The Nietzsche Legacy, p. 23.
٧  Quoted in ibid.
٨  Spengler, Selected Letters, p. 50.
٩  Wohl, Generation of 1914, pp. 126–29.
١٠  Rudolf Pannwitz, quoted in Aschheim, Nietzsche Legacy, p. 76.
١١  Spengler, Selected Letters, p. 70.
١٢  Koktanek, Oswald Spengler in Seiner Zeit, p. 63.
١٣  See Kaufmann, Introduction to Nietzsche, Will to Power, pp. xiii-xviii, Ibid., p. 544.
١٤  Simmel, Conflict in Modern Culture, p. 18.
١٥  Stern, Politics of Cultural Despair, p. 234.
١٦  Ringer, Decline of the German Mandarinus; Jarausch, Students, Society, and Politics in Imperial Germany.
١٧  Cf. Ringer, Decline of the German Mandarins, pp. 48–50. See also Barnouw, Weimar Intellectuals and the Threat of Modernity.
١٨  The issue is also summarized in Elias, History of Manners, Vol. 1 of The Civilizing Process, pp. 8–10.
١٩  Nietzsche, Will to Power, p. 75.
٢٠  الشاعر-صانع، الأحذية في أوبرا «فاجنر»، «أساطين الطرب».
٢١  Herf, Reactionary Modernism, pp. 133–151.
٢٢  Eksteins, Rites of Spring, p. 117.
٢٣  Simmel, Conflict in Modern Culture, p. 281.
٢٤  Third Reich (1923: English trans. 1934; New York, 1971), pp. 87, 90.
٢٥  Mediocrity: التوسطية: كون الشيء معتدلَ الجودة أو ضئيلها. (المترجم)
٢٦  Mann, Reflections of a Non-Political Man, p. 46.
٢٧  Quoted In Ringer, Decline of the German Mandarins, pp. 183-84.
٢٨  Simmel, “Sociological Significance of the Stranger,” in K. Wolff, Sociology of Georg Simmel (New York, 1950), pp. 322–27.
٢٩  Cosmopolis: المدينة الكبرى التي يتألَّف سكانها من عناصر اجتمعت من مختلف أرجاء العالم. (المترجم)
٣٠  Spengler, Decline of the West, p. 379.
٣١  Sombart, Towards a New Social Philosophy, p. 32.
٣٢  Mann, Reflections of a Non-Political Man, p. 36.
٣٣  Fennelly, Twilight of the Evening Lands, p. 13.
٣٤  كان الاقتصادي «جوهان بلد ج» هو الاستثناء الوحيد، ج. موللر: «الإله الآخر الذي فشل».
٣٥  Cecil, Myth of the Master Race, pp. 23–25.
٣٦  Cf. Chickering, We Men Who Feel Most German, pp. 95–97.
٣٧  Mann, Reflections of a Non-Political Man, p. 34.
٣٨  E. g., Nietzsche, Gay Science, pp. 57-58; Will to Power, p. 78.
٣٩  Chickering, We Men Who Feel Most German, pp. 285–88.
٤٠  Spengler Preface to Decline of the West, Vol. I, p. xv.
٤١  Bridgwater, Poet of Expressionist Berlin, pp. 116, 130; Stern, Politics of Cultural Despair, p. 237.
٤٢  وعندما جاءت الحرب، كتب «توماس مان»، إلى صديق له: «ألَا يجب أن نشعر بالامتنان لتلك الفرصة غير المتوقعة التي تجعلنا نمارس هذه المشاعر القومية؟» «رسال توماس مان» (۱۸۸۹-۱۹٥٥م)، ص٦٧.
٤٣  Quoted in R. Wohl, Generation of 1914, p. 42.
٤٤  Quoted in Johnson, Modern Times, p. 12.
٤٥  Quoted in Muller, Other God That Failed, p. 61.
٤٦  Simmel, Conflict in Modern Culture, p. 281.
٤٧  Spengler, Decline of the West, p. xiv.
٤٨  أشار إلى ذلك أحدُ المراجعين وهو «هانز فراير» عند صدور الكتاب. (ج . موللر: «الإله الآخر الذي فشل»، ص۷۸).
٤٩  Spengler, Decline of the West, Vol. I, pp. 21; 3.
٥٠  ذكرُ الثقافة المجوسية هنا، تعبيرٌ عن تقدير «شبنجلر» لتراث «شوبنهاور»، و«شليجل» الاستشراقي، ذلك التراث الذي يعتبر الشرق هو المصدر «الحقيقي» الخلَّاق للمسيحية ولحكمة الغرب الدينية والفلسفية. (المترجم)
٥١  Ibid., pp. 18, 24.
٥٢  Ibid., pp. 22, 106-07.
٥٣  Spengler, Decline of the West, Vol. II, pp. 90, 165.
٥٤  Ibid., pp. 100; 95.
٥٥  Spengler, Decline of the West, Vol. I, pp. 28, 106-7.
٥٦  Ibid., p. 31.
٥٧  Ibid., p. 360.
٥٨  Ibid., p. 40.
٥٩  Ibid., pp. 20-21.
٦٠  Spengler, Decline of the West, Vol. II, pp. 46; 44.
٦١  Mann, Reflections of a Non-Political Man, p. 33.
٦٢  Spengler, Decline of the West, p. 37.
٦٣  Spengler, Selected Letters, p. 31; Spengler, Decline of the West, Vol. II, p. 49.
٦٤  Hitler, Mein Kampf, p. 163.
٦٥  Spengler, Selected Letters, p. 28.
٦٦  Ibid., p. 80.
٦٧  Ibid., p. 69.
٦٨  Quoted in Wohl, Generation of 1914, p. 53.
٦٩  Quoted in Holmes, Anatomy of Anti-Liberalism, p. 37.
٧٠  أبلغ «أدولف فون هارناك» زعيم مدرسة «النقد الأعلى»، «شبنجلر» في رسالة أنه وجد كتابه «ملتبسًا، واعتباطيًّا، ولا سند له» الرسائل (ص٨٥-٨٦).
٧١  Mann, Diaries 1918–1939, pp. 61–64; Mann, Letters, p. 90.
٧٢  Monk, Ludwig Wittgenstein, pp. 315–17.
٧٣  Described in Hughes’s Introduction to the abridged edition of Spengler, Decline of the West, p. xvi.
٧٤  Prussianism: البروسية، النزعة العسكرية البروسية، وما اتصفت به من ميول وتوجُّهات استبدادية، وبخاصة منذ «فردريك الكبير»، الذي حكم من ١٧٤٠م إلى ١٧٨٦م. (المترجم)
٧٥  Spengler, Selected Letters, p. 94.
٧٦  Contrary to Struve, Elites Against Democracy.
٧٧  Spengler, “Prussianism and Socialism,” in D.O. White, ed., Oswald Spengler, Selected Essays (Chicago, 1967), pp. 17-18; Spengler, Selected Letters, p. 69.
٧٨  “Prussianism and Socialism,” p. 3.
٧٩  Spengler, Selected Letters, p. 94.
٨٠  Spengler, Decline of the West, Vol. II, p. 464.
٨١  Alaric: زعيم القوطيين وقائد الجيش الذي طوَّق «روما» في أغسطس ٤١٠، ويمثِّل هذا الحدث بالنسبة لكثير من معاصريه سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. (المترجم)
٨٢  Theodoric: ثيودوريك العظيم، أحد أبرز حُكَّام أوروبا في العصور الوسطى، كان ملكًا على إيطاليا ٤٩٢–٥٢٦م، وهو قوطي شرقي. (المترجم)
٨٣  Ibid., pp. 441-42, 506.
٨٤  Quoted in Ringer, Decline of the German Mandarins, p. 223.
٨٥  “Prussianism and Socialism,” p. 11; Herf, Reactionary Modernism, pp. 65–67.
٨٦  “Prussianism and Socialism,” p. 130.
٨٧  Spengler, Selected Letters, pp. 818; 184.
٨٨  Struve, Elites Against Democracy, p. 273.
٨٩  Quoted in ibid., p. 258.
٩٠  Hitler’s remarks to Walter Rauschning quoted in Toland, Life of Adolf Hitler, Vol. I, p. 331.
٩١  Koktanek, Oswald Spengler in Seiner Zeit, pp. 304-05.
٩٢  Sombart, Towards a New Social Philosophy, p. 5.
٩٣  Hitler, Mein Kampf, p. 255.
٩٤  Giles, Students and National Socialism in Germany.
٩٥  Quoted in Ringer, Decline of the Mandarins, p. 439.
٩٦  Ott, Martin Heidegger: A Political Life; Holmes, Anatomy of Antiliberalism, pp. 37–39; Muller, Other God That Failed, pp. 261-62.
٩٧  انظر الفصل الرابع.
٩٨  أرسل نسخةً منه إلى «هتلر» عند صدوره.
٩٩  Spengler, Hour of Decision, pp. xiii-xv.
١٠٠  H. Schaeder to A. Alpers, Spengler, Selected Letters, p. 295.
١٠١  يقول أحد المراقبين: إنَّ جميع مَن كانوا يعملون في «مركز أرشيف نيتشة»، بدءًا من «فورستر نيتشة» وانتهاءً بالبوَّاب كانوا من النازيِّين المتعصِّبين.
١٠٢  Mann, Diaries: 1918–1939, p. 261.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤