الْفَصْلُ الْخَامِسُ
(١) قِصَّةُ «أَبِي الْفِدَاءِ»
فَقَالَ «زَوَّارُ الْهِنْدِ»: «لَقَدْ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ «أَبَا الْفِدَاءِ» — الْمُلَقَّبَ بِـ «عُصْفُورِ الْفِرْدَوْسِ» جَدَّ «عُصْفُورِ الْأَمَانَةِ» — كَانَ صَدِيقًا لِتِمْثَالِ الْأَمِيرِ السَّعِيدِ، وَقُلْتَ لَنَا إِنَّهُ كَانَ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الْإِيثَارِ وَالْوَفَاءِ. وَلَكِنَّكَ نَسِيتَ أَنْ تُفْضِيَ إِلَيْنَا (تُخْبِرَنَا) بِقِصَّتِهِ، أَوْ تَذْكُرَ لَنَا شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِهِ!»
(٢) ذُيُوعُ الْقِصَّةِ
فَقَالَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ»: «صَدَقْتَ، يَا وَلَدِيَ الْعَزِيزَ. لَقَدْ فَاتَنِي ذَلِكَ، وَلِي مَوْفُورُ الْعُذْرِ إِذَا نَسِيتُ؛ فَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ — لِكَثْرَةِ مَا سَمِعْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ — أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ، مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ وَحَشَرَةٍ وَإِنْسَانٍ، عَلَى عِلْمٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَنَسِيتُ أَنَّكَ وَإِخْوَتَكَ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِهَذِهِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ عَجَبِي لَا يَنْقَضِي إِذَا ذَكَرْتُ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تَقُصَّهَا عَلَيْكَ — مُنْذُ وِلَادَتِكَ — كَمَا تَفْعَلُ أُمَّهَاتُ الْخَطَاطِيفِ جَمِيعًا.»
(٣) الْأَمِيرُ الْمُحْسِنُ
فَاشْتَدَّ شَوْقُ «زَوَّارِ الْهِنْدِ» وَإِخْوَتِهِ إِلَى سَمَاعِ تِلْكَ الْقِصَّةِ الشَّائِقَةِ، وَأَنْشَأَ وَالِدُهُنَّ يُحَدِّثُهُنَّ بِهَا، فَيَقُولُ: «كَانَ يَا مَا كَانَ، فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَغَابِرِ الْأَوَانِ، أَمِيرٌ مَعْرُوفٌ بِطِيبَةِ الْقَلْبِ، مَوْصُوفٌ بِالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْبِرِّ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ.
(٤) التِّمْثَالُ الذَّهَبِيُّ
فَلَمَّا مَاتَ، أَقَامَ لَهُ عَارِفُو فَضْلِهِ تِمْثَالًا كَبِيرًا؛ عِرْفَانًا لِمُرُوءَتِهِ، وَتَخْلِيدًا لِعَظَمَتِهِ، وَكَسَوُا التِّمْثَالَ جِلْبَابًا رَقِيقًا، نَسَجُوا خُيُوطَهُ مِنْ خَالِصِ النُّضَارِ (مِنَ الذَّهَبِ الْحُرِّ).
وَاخْتَارُوا لِهَذَا التِّمْثَالِ — مِنْ زُرْقِ الْيَوَاقِيتِ النَّفِيسَةِ الْبَرَّاقَةِ — أَغْلَى يَاقُوتَتَيْنِ؛ فَصَنَعُوا مِنْهُمَا عَيْنَيِ التِّمْثَالِ، عَلَى أَكْمَلِ مِثَالٍ.

وَاهْتَدَوْا — بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ — إِلَى دُرَّةٍ كَبِيرَةٍ مُؤَتَلِقَةٍ (لَامِعَةٍ) مِنْ أَنْفَسِ الْعَقِيقِ الْأَحْمَرِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى مَقْبِضِ سَيْفِهِ، حِلْيَةً تَبْهَرُ بِمَرْآهَا عَيْنَ مَنْ يَرَاهَا.
(٥) الْفَرَاشَةُ الصَّفْرَاءُ
وَكَانَ «أَبُو الْفِدَاءِ» الْمُلَقَّبُ بِـ «عُصْفُورِ الْفِرْدَوْسِ» يُحَلِّقُ — ذَاتَ لَيْلَةٍ — فِي الْجَوِّ (يَرْتَفِعُ وَيَسْتَدِيرُ فِي طَيَرَانِهِ كَالْحَلْقَةِ)، وَكَانَتْ رِفَاقُهُ الْخَطَاطِيفُ قَدْ سَبَقَتْهُ إِلَى السَّفَرِ، مُنْذُ شَهْرٍ وَنِصْفِ شَهْرٍ، ذَاهِبَةً عَلَى عَادَتِهَا فِي الْهِجْرَةِ السَّنَوِيَّةِ إِلَى «مِصْرَ».
وَلَمْ يُعَوِّقْهُ عَنِ الذَّهَابِ مَعَ رِفَاقِهِ إِلَّا فَرْطُ مَحَبَّتِهِ وَوَفَائِهِ لِنَبْتَةٍ ظَرِيفَةٍ مِنْ عِيدَانِ الْقَصَبِ الطَّوِيلَةِ، تَعَرَّفَ بِهَا، وَسَكَنَ إِلَيْهَا فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ مُسْرِعًا فِي طَيَرَانِهِ — حِينَئِذٍ — خَلْفَ فَرَاشَةٍ كَبِيرَةٍ صَفْرَاءَ.
(٦) فِي جِوَارِ الْقَصَبَةِ
فَشَغَلَهُ جَمَالُ تِلْكَ الْقَصَبَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَوَقَفَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا مُبْتَهِجًا بِلُقْيَاهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهَا مُنْذُ رَآهَا، وَظَلَّ نَاعِمًا بِهَا طَوَالَ فَصْلِ الصَّيْفِ.
وَلَمَّا أَقْبَلَ الْخَرِيفُ، هَاجَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى «مِصْرَ».
وَحَاوَلَ «أَبُو الْفِدَاءِ» أَنْ يُغْرِيَ الْقَصَبَةَ بِالطَّيَرَانِ مَعَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِلَى هَذَا سَبِيلًا؛ لِأَنَّ النَّبَاتَ عَاجِزٌ عَنْ مُفَارَقَةِ مَكَانِهِ.
وَاشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى السَّفَرِ لِلتَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ الْأَهْرَامِ وَالنِّيلِ، بَعْدَ أَنْ وَدَّعَ الْقَصَبَةَ آسِفًا عَلَى فِرَاقِهَا، عَاتِبًا عَلَيْهَا أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْ مُصَاحَبِتِهِ فِي رِحْلَتِهِ.
(٧) تِمْثَالُ الْأَمِيرِ
وَهَبَطَ فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ عَلَى تِمْثَالِ الْأَمِيرِ، وَتَهَيَّأَ لِلرُّقَادِ بَيْنَ قَدَمَيِ التِّمْثَالِ. وَإِنَّهُ لَيَهُمُّ بِالنَّوْمِ (يَعْزِمُ عَلَيْهِ وَيَقْصِدُهُ)، وَاضِعًا رَأْسَهُ تَحْتَ جَنَاحَيْهِ — عَلَى عَادَةِ الْخَطَاطِيفِ حِينَ تَنَامُ — إِذَا بِقَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ تَسْقُطُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَتْبَعُهَا قَطْرَةٌ ثَانِيَةٌ، ثُمَّ تَعْقُبُهُمَا قَطْرَةً ثَالِثَةٌ.
فَلَمْ يَرَ بُدًّا (مَهْرَبًا) مِنْ مُفَارَقَةِ التِّمْثَالِ، مُعْتَزِمًا أَنْ يَأْوِي إِلَى رَأْسِ مِدْخَنَةٍ عَالِيَةٍ.
(٨) دُمُوعُ التِّمْثَالِ
وَلَكِنَّهُ لَمْ يَهُمَّ بِالطَّيَرَانِ، حَتَّى حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى عَيْنَيِ التِّمْثَالِ؛ فَرَأَى الدُّمُوعَ تَتَرَقْرَقُ فِيهِمَا (تَدُورُ فِي بَاطِنِ الْجَفْنَيْنِ مِنْهُمَا) عَلَى خَدَّيْهِ.
(٩) قِصَّةُ الْأَمِيرِ
فَاشْتَدَّ عَجَبُ «أَبِي الْفِدَاءِ» مِمَّا رَأَى، وَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهِ.
فَقَالَ التِّمْثَالُ فِيمَا قَالَ: «لَقَدْ عِشْتُ حَيَاةً سَعِيدَةً، وَلَمْ تَذْرِفْ عَيْنَايَ (لَمْ تُسِيلَا) دَمْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّنِي لَمْ أَعْرِفْ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ النَّاسُ مِنْ بُؤْسٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. فَلَمَّا حَانَ حَيْنِي (مَوْتِي)، وَانْتَقَلْتُ مِنْ عَالَمِ الْأَحْيَاءِ إِلَى عَالَمِ الْأَمْوَاتِ، أَصْبَحْتُ أَرَى — وَأَنَا عَلَى هَذَا الِارْتِفَاعِ الشَّاهِقِ (الْعَالِي) — مَا يُبْكِينِي مِنْ مَصَائِبِ النَّاسِ، وَيَكَادُ يَذُوبُ لَهُ قَلْبِي الْمَصْنُوعُ مِنَ الرَّصَاصِ.

(١٠) الْأَرْمَلَةُ الْفَقِيرَةُ
وَهَأَنَذَا أَرَى فَقِيرَةً أَرْمَلَةً (امْرَأَةً مَاتَ زَوْجُهَا)، تَكْسِبُ قُوتَهَا بِعَرَقِ جَبِينِهَا، وَلَا تَكَادُ تَظْفَرُ بِالْكَفَافِ مِنَ الرِّزْقِ (بِمَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ وَأَغْنَى) إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ (بِمَشَقَّتِهَا). وَهِيَ دَائِبَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، لِتُدَاوِي — بِمَا تَنَالُهُ مِنْ أَجْرٍ ضَئِيلٍ — وَلَدَهَا الْعَلِيلَ. وَلَوِ اسْتَطَعْتُ لَأَهْدَيْتُ إِلَيْهَاَ تِلْكَ الْعَقِيقَةَ الثَّمِينَةَ الَّتِي تُحَلِّي مَقْبِضَ سَيْفِي. وَلَكِنَّنِي عَاجِزٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ، كَمَا تَرَى.
فَهَلْ تُبْلِغُهَا (تُوصِلُهَا) إِلَيْهَا مَشْكُورًا مَأْجُورًا، لِتَسْتَعِينَ — بِثَمَنِهَا — عَلَى مُدَاوَاةِ ابْنِهَا؟»
(١١) أَشْرَارُ النَّاسِ
فَقَالَ «أَبُو الْفِدَاءِ»: «مَا أَحْوَجَنِي إِلَى اللِّحَاقِ بِإِخْوَانِي الَّذِينَ سَبَقُونِي إِلَى «مِصْرَ»! عَلَى أَنِّي سَأَبْقَى مَعَكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، تَلْبِيَةً لِأَمْرِكَ، وَإِعْجَابًا بِمُرُوءَتِكَ، وَمُشَارَكَةً لَكَ فِي عَاطِفَتِكَ، وَمُعَاوَنَةً لَكَ عَلَى إِنْجَازِ أُمْنِيَّتِكَ بِرَغْمِ قَسْوَةِ الْجَوِّ، وَاشْتِدَادِ الْبَرْدِ، وَكَرَاهِيَتِي لِلْأَطْفَالِ، بَعْدَمَا رَأَيْتُ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا بَغَّضَهُمْ إِلَيَّ.
وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ وَلَدَيْنِ مِنْ أَشْرَارِ الْإِنْسِ، رَمَيَانِي فِي الصَّيْفِ الْمَاضِي بِالْحِجَارَةِ حِينَ رَأَيَانِي، وَلَوْلَا مَا تَمَيَّزْنَا بِهِ — مَعْشَرَ الْخَطَاطِيفِ — مِنْ مَهَارَةٍ وَبَرَاعَةٍ نَادِرَتَيْنِ فِي الطَّيَرَانِ، لَأَلْحَقَا بِي أَذًى بَلِيغًا.
وَلَكِنَّنِي لَنْ آخُذَ الطِّفْلَ الْمَرِيضَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ مِنْ أَشْرَارِ الْإِنْسِ. وَسَأَكُونُ سَفِيرَكَ (رَسُولَكَ) إِلَيْهِ؛ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِ وَلَا تَبْتَئِسْ (لَا تَشْتَكِ وَلَا تَكْتَئِبْ).»
(١٢) الْعَقِيقَةُ الثَّمِينَةُ
فَشَكَرَ لَهُ التِّمْثَالُ أَرِيحِيَّتَهُ (سَعَةَ خُلُقِهِ وَارْتِيَاحَهُ إِلَى الْخَيْرِ)، وَحَمِدَ لَهُ عَطْفَهُ وَمُرُوءَتَهُ وَكَرَمَ أَخْلَاقِهِ.
وَأَمْسَكَ الْخُطَّافُ بِالْعَقِيقَةِ الثَّمِينَةِ، وَانْتَزَعَهَا بِمِنْقَارِهِ الصُّلْبِ مِنْ مَقْبِضِ السَّيْفِ، ثُمَّ طَارَ بِهَا — وَهِيَ فِي مِنْقَارِهِ — حَتَّى بَلَغَ بَيْتَ الصَّبِيِّ الْفَقِيرِ، وَوَضَعَهَا فِي مَكَانٍ أَمِينٍ بِالْقُرْبِ مِنْ سَرِيرِ الْمَرِيضِ الْمَحْمُومِ (الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى).
(١٣) ثَوَابُ الْخَيْرِ
وَلَمَّا عَادَ إِلَى التِّمْثَالِ، وَأَخْبَرَهُ بِقِصَّتِهِ، شَكَرَ لَهُ التِّمْثَالُ صَنِيعَهُ (مَعْرُوفَهُ). وَأَحَسَّ «أَبُو الْفِدَاءِ» بِالْحَرَارَةِ وَالدِّفْءِ يَسْرِيَانِ فِي جَسَدِهِ بِرَغْمِ بُرُودَةِ الْجَوِّ. فَسَأَلَ التِّمْثَالَ عَنِ السِّرِّ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ التِّمْثَالُ: «إِنْ لِكُلِّ صَنِيعٍ مِنَ الْخَيْرِ ثَوَابَهُ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.»
وَمَا لَبِثَ أَنْ اسْتَسْلَمَ لِلْكَرَى (لِلنَّوْمِ) فِي دَعَةٍ (رَاحَةٍ) وَاطْمِئْنَانٍ.
(١٤) الْكَاتِبُ الْبَائِسُ
وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، أَقْبَلَ عَلَى صَدِيقِهِ التِّمْثَالِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي السَّفَرِ إِلَى «مِصْرَ». وَلَكِنَّ التِّمْثَالَ رَجَاهُ مُسْتَعْطِفًا أَنْ يَبْقَى مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى؛ لِيُعَاوِنَ فَتًى بَائِسًا مِنَ النَّابِغِينَ، مَشْغُولًا بِكِتَابَةِ قِصَّةٍ مَسْرَحِيَّةٍ بَارِعَةٍ، وَلَكِنَّ الْجُوعَ يَعُوقُهُ (يُؤَخِّرُهُ) عَنْ إِتْمَامِهَا، وَيَكَادُ يَقْتُلُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: «لَيْتَكَ تَأْخُذُ إِحْدَى عَيْنَيِّ لِتَحْمِلَهَا إِلَيْهِ؛ فَهِيَ — كَمَا تَرَى — يَاقُوتَةٌ زَرْقَاءً مِنْ أَنْفَسِ اللَّآلِئِ النَّادِرَةِ، لِيَسْتَعِينَ — بِثَمَنِهَا — عَلَى إِنْجَازِ مُهِمِّهِ.»
وَتَرَدَّدَ الْخُطَّافُ فِي تَلْبِيَةِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، وَبَكَى رَحْمَةً لَهُ وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ التِّمْثَالَ أَلَحَّ فِي الرَّجَاءِ؛ فَلَمْ يَسْتَطِعْ «أَبُو الْفِدَاءِ» مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ.
وَطَارَ «أَبُو الْفِدَاءِ» وَفِي مِنْقَارِهِ عَيْنُ التِّمْثَالِ، بَعْدَ أَنْ نَقَرَهَا وَانْتَزَعَهَا مِنْ مَكَانِهَا. وَمَا زَالَ يَطِيرُ بِهَا حَتَّى بَلَغَ حُجْرَةَ الْفَتَى النَّابِغَةِ؛ فَوَضَعَهَا بِحَيْثُ تَقَعُ عَلَيْهَا عَيْنَاهُ.
وَكَانَ لِهَذِهِ الْيَاقُوتَةِ الثَّمِينَةِ أَكْبَرُ أَثَرٍ فِي تَشْجِيعِ الْمُؤَلِّفِ الْفَتَى، وَانْتِعَاشِ أَمَلِهِ، وَمُضَاعَفَةِ نَشَاطِهِ فِي تَجْوِيدِ عَمَلِهِ.
(١٥) الْفَتَاةُ الْبَائِسَةُ
وَعَادَ الْخُطَّافُ إِلَى صَاحِبِهِ التِّمْثَالِ؛ لِيُودِّعَهُ، مُسْتَأْذِنًا فِي السَّفَرِ إِلَى «مِصْرَ». وَلَكِنَّ التِّمْثَالَ أَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الرَّجَاءِ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ لَيْلَةً ثَالِثَةً، لِيَنْتَزِعَ الْجَوْهَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ عَيْنِهِ الْأُخْرَى، وَيَحْمِلَهَا إِلَى فَتَاةٍ فَقِيرَةٍ فَقَدَتْ عَائِلَهَا (كَافِلَهَا الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهَا)، وَكَادَ الْيَأْسُ — مِنْ بَعْدِهِ — أَنْ يَقْتُلَهَا. فَقَدْ أَعْوَزَهَا الْكِسَاءُ وَالطَّعَامُ (أَعْجَزَهَا أَنْ تَحْصُلَ عَلَى الْمَلْبَسِ وْالْمَأْكَلِ)، وَحَرَمَهَا الْبَرْدُ وَالْجُوعُ طِيبَ الْمَنَامِ.

وَتَرَدَّدَ «أَبُو الْفِدَاءِ» فِي نَقْرِ عَيْنِهِ الْأُخْرَى، مُشْفِقًا عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى؛ وَلَكِنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى الْإِذْعَانِ (الْخُضُوعِ) لِأَمْرِ صَاحِبِهِ التِّمْثَالِ، وَنَقَرَ عَيْنَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى الْفَتَاةِ، لِتَغْنَى (لِتَعِيشَ) بِثَمَنِهَا طُولَ الْحَيَاةِ.
(١٦) وَفَاءُ الْخُطَّافِ
وَلَمَّا عَادَ الْخُطَّافُ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: «لَنْ أَتْرُكَ صُحْبَتَكَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، لَأًؤَسِّيَكَ فِي مِحْنَتِكَ بَعْدَ أَنْ فَقَدْتَ عَيْنَيْكَ جَمِيعًا.»
وَحَاوَلَ التِّمْثَالُ أَنْ يَثْنِيَهُ (يَرْجِعَهُ) عَنْ عَزْمِهِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الرَّجَاءِ أَنْ يَتْرُكَهُ لِيُتِمَّ رِحْلَتهُ السَّنَوِيَّةَ إِلَى «مِصْرَ».
وَلَكِنَّ وَفَاءَ «أَبِي الْفِدَاءِ» أَبَى عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ ذَلِكَ الْمُحْسِنَ الْكَرِيمَ، الَّذِي جَادَ بِأَنْفَسِ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ مُعَاوَنَةِ الْبَائِسِينِ.
(١٧) الْجَائِعَانِ الصَّغِيرَانِ
وَاقْتَرَحَ عَلَيْهِ التِّمْثَالُ أَنْ يَرْتَادَ (يَطْلُبَ) شَوَارِعَ الْمَدِينَةِ وَبُيُوتَهَا، لِيُفْضِيَ إِلَيْهِ بِأَنْبَاءِ فُقَرَائِهَا وَمَنْكُوبِيهَا؛ لَعَلَّهُ يَسْتَطِيعُ إِسْدَاءَ الْمَعُونَةِ إِلَيْهِمْ. وَمَا لَبِثَ «أَبُو الْفِدَاءِ» أَنْ رَأَى طِفْلَيْنِ صَغِيرَيْنِ نَائِمَيْنِ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، تَحْتَ الْجِسْرِ، وَهُمَا يَتَضَوَّرَانِ جُوعًا، وَقَدْ أَقْبَلَ الْعَسَسُ (الَّذِينَ يَحْرُسُونَ النَّاسَ لَيْلًا). فَلَمَّا رَآهُمَا الْعَسَسُ أَيْقَظُوهُمَا مِنْ رُقَادِهِمَا؛ فَذَهَب الطِّفْلَانِ يَجُوبَانِ (يَقْطَعَانِ) شَوَارِعَ الْمَدِينَةِ، وَالْمَطَرُ يَنْهَمِرُ (يَنْسَكِبُ) عَلَيْهِمَا، وَقَدْ عَزَّ عَلَيْهِمَا الْمَلْجَأُ وَالْمَأْكَلُ وَالْكِسَاءُ.
فَلَمَّا أَفْضَى الْخُطَّافُ بِقِصَّتِهِمَا إِلَى صَاحِبِهِ التِّمْثَالِ، رَجَاهُ أَنْ يَنْتَزِعَ قِطْعَةً مِنْ ثِيَابِهِ الذَّهَبِيَّةِ؛ لِيَمْنَحَ الطِّفْلَيْنِ مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمَا، وَيُعِيدَ الْحَيَاةَ إِلَيْهِمَا.
(١٨) خَاتِمَةُ «أَبِي الْفِدَاءِ»

وَمَا زَالَ «أَبُو الْفِدَاءِ» يَنْتَزِعُ مِنْ ثِيَابِ صَاحِبِهِ قِطْعَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيَهَبُهَا لِفَقِيرٍ بَعْدَ آخَرَ؛ حَتَّى فَنِيَ الْكِسَاءُ الذَّهَبِيُّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَأَشْرَفَ «أَبُو الْفِدَاءِ» عَلَى التَّلَفِ (قَرُبَ مَوْتُهُ)؛ فَأَقْبَلَ عَلَى التِّمْثَالِ يُقَبِّلُهُ مُوَدِّعًا إِيَّاهُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ هَوَى (سَقَطَ) عَلَى قَدَمَيْهِ — مِنْ فَوْرِهِ (لِلْحَالِ) — مَيِّتًا.
(١٩) قَلْبُ التِّمْثَالِ
وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَتَسَاقَطَ الْجَلِيدُ؛ فَتَحَطَّمَ قَلْبُ التِّمْثَالِ.
وَلَعَلَّهُ انْشَقَّ حُزْنًا لِمَصْرَعِ صَاحِبِهِ «أَبِي الْفِدَاءِ».
•••
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي مَرَّ مُهَنْدِسُ الْمَدِينَةِ بِالتِّمْثَالِ الْمُحَطَّمِ؛ فَاقْتَرَحَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ أَنْ يُزِيلُوهُ، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ لَا نَفْعَ فِيهِ، وَلَا فَائِدَةَ تُرْجَى مِنْ بَقَائِهِ.
(٢٠) مَلَكٌ كَرِيمٌ
وَجَاءَ مَلَكٌ كَرِيمٌ، فَحَمَلَ قَلْبَ التِّمْثَالِ وَجَسَدَ الطَّائِرِ الْمَيِّتِ إِلَى السَّمَاءِ: تَكْرِيمًا لَهُمَا عَلَى مَا بَذَلَاهُ، وَتَخْلِيدًا لِذِكْرَاهُمَا، وَتَقْدِيرًا لَهُمَا عَلَى مَا صَنَعَاهُ بَعْدَ أَنْ جَادَ كِلَاهُمَا بِأَنْفَسِ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَيَاةِ.»
(٢١) دَهْشَةُ الْخَطَاطِيفِ
فَلَمَّا أَتَمَّ «زَوَّارُ الْهِنْدِ» قِصَّتَهُ، أُعْجِبَ بِهَا أَبْنَاؤُهُ، كَمَا أُعْجِبْتَ بِهَا أَنْتَ، وَكَمَا أُعْجِبَ بِهَا — مِنْ قَبْلِكَ — الشَّاعِرُ الْمُبْدِعُ «أُسْكَار وَيِلْد»، فَصَاغَ مِنْهَا تِلْكَ الْقِصَّةَ الرَّائِعَةَ، بَعْدَ أَنِ افْتَنَّ فِي إِبْدَاعِهَا كُلَّ الِافْتِنَانِ، وَأَحْسَنَ فِي تَصْوِيرِ حَوَادِثِهَا كُلَّ الْإِحْسَانِ، وَخَلَّدَهَا بَيَانُهِ السَّاحِرُ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ.
(٢٢) طَعَامُ الْعَشَاءِ
وَأَحَسَّ الْخَطَاطِيفُ أَلَمَ الْجُوعِ؛ فَسَأَلُوا أَبَاهُمْ أُنْ يُحْضِرَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الزَّادِ.
فَقَالَ لَهُمْ فِي صَوْتٍ خَافِتٍ: «خَفِّضُوا مِنْ أَصْوَاتِكُمْ — أَيُّهَا الصِّغَارُ — فَإِنَّ أُمَّكُمْ نَائِمَةٌ؛ لِتَسْتَرِيحَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِمَّا أَنْقَضَ ظَهْرَهَا (مِمَّا أَثْقَلَهُ حَتَّى جَعَلَهُ مَهْزُولًا مِنْ جُهْدٍ مُضْنٍ)، وَاصْبِرُوا قَلِيلًا، حَتَّى أُحْضِرَ لَكُمْ طَعَامَ الْعَشَاءِ.»