جواب ضروري على سؤال غير ضروري للسيد الراعي الرئيسي جوتز في همبورج فولفنبتل (١٧٧٨م)

١

لقد سمى الآباء الأوائل مضمون الإيمان Creed   قواعد الإيمان Regula Fidei.

يشرح لسنج هنا الدين المسيحي الذي رفضه واعتبره معارضًا لدين المسيح، هذا الدين المسيحي من وضع آباء الكنيسة الأوائل من حيث اللفظ. فهم الذين اخترعوا مصطلح «قواعد الإيمان» وهم الذين صاغوها وجعلوها مضمون الإيمان المسيحي. فهم أول مَن قضوا على الإيمان الحي البسيط وحوَّلوه إلى مجموعة من الصياغات المعقدة أصبحت بديلًا عن الإيمان، وكانت ستار الخلاف وسببًا للنزاع ومدعاة للحروب الطائفية.

٢

لم تستنبط قواعد الإيمان هذه من كتابات العهد الجديد.

يبيِّن لسنج في هذه الفقرة نشأةَ قواعد الإيمان من حيث المصدر. فهي لم تخرج من كتابات العهد الجديد سواء من الأناجيل الأربعة أو من أعمال الحواريين أو رسائل بولس أو من الرسائل الكاثوليكية السبعة أو من رؤيا يوحنا، بل أتت من آباء الكنيسة حتى اكتملت في القرون الأربعة المسيحية الأولى. قواعد الإيمان إذن من حيث المصدر ليست من دين المسيح بل من الدين المسيحي، وليست من الوحي بل من التاريخ، وليست من الله بل من الإنسان.

٣

وقد وجدت قواعد الإيمان هذه قبل أن يوجد سِفر واحد من العهد الجديد.

يعترض جوتز على مقالة لسنج «يمكن للمسيحية أن توجد حتى ولو أصبح الكتاب مفقودًا كلية، وحتى ولو كان مفقودًا كلية منذ مدة طويلة، وحتى ولو لم يوجد على الإطلاق». ويسأل ماذا يعني لسنج عندما يتحدث عن «الدين المسيحي» وبعد مقدمة يجيب لسنج بهذه الفقرات.

يخطو لسنج هنا خطوة أبعد ولا يكتفي بإثبات أن قواعد الإيمان ليست مستنبطةً من أسفار العهد الجديد، بل يُضيف إثباتًا آخر وهو أن قواعد الإيمان هذه سابقة في وجودها على العهد الجديد، وأن العهد الجديد ما هو إلا محاولات لتعينها. وهنا يُثبت لسنج حقيقةً يكاد يُجمع عليها نقاد الكتب المقدسة وهي أن العقائد المسيحية لم تخرج من الأناجيل، بل إن الأناجيل هي التي خرجت من العقائد المسيحية. فالعقائد سابقة على الأناجيل، والأناجيل لاحقة على العقائد، آمن الناس أولًا ودون الكتاب ثانيًا، اعتقدت الجماعة أولًا، ثم حرر كتابها معتقداتها فيما بعد حفاظًا عليها. وبالتالي تكون العقائد الإسلامية هي الوحيدة في تاريخ الأديان التي خرجت من القرآن، وأن وجودها لاحق على القرآن وليس سابقًا عليه.

٤

وعلى هذا، فإن قواعد الإيمان أقدم من الكنيسة لأن القصد الذي لجماعة ما، والنظام الذي تتبعه هو بكل تأكيد أسبق من هذه الجماعة ذاتها.

لما كانت العقائد المسيحية أسبق من الأناجيل ومصدرًا لها فإنها أيضًا أسبق من الكنيسة؛ فالكنيسة قد قامت لتحقيق قصد معنى سابق عليها كما قامت على نظام معنى وُجد قبلها. وبالتالي تكون العقائد المسيحية مصدر الكتاب المقدس وسابقة على وجود الكنيسة. أي أن المسيحية ممكنة بلا كتاب ولا كنيسة. فقد آمنت الجماعة المسيحية أولًا بلا كتاب وبلا كنيسة ولم يكن ينقص إيمانها شيء. الكتاب والكنيسة إضافتان تاليتان على قواعد الإيمان، ويمكن الاستغناء عنهما إذا أردنا العودة إلى «دين المسيح» عند لسنج أو «دين الروح» كما تقول البروتستانتية.

٥

ولم يكتفِ المسيحيون الأوائل في عصر الحواريين بقواعد الإيمان هذه فحسب، بل لقد اعتبرها المسيحيون الذين أتوا بعدهم في القرون الأربعة، الأولى كلها كافية تمامًا للمسيحية.

بعدما تمت صياغة قواعد الإيمان في القرون الأربعة الأولى أتت الأجيال التالية واكتفت بها وقامت بدور التقنين، وجعلتها هي والمسيحية شيئًا واحدًا. وبالتالي تحجرت المسيحية، وتحول الإيمان الحي إلى مجرد صيغ وقضايا من صنع البشر، وتم الحجر على العقول إذا ما ناهضت هذه الصيغ وإذا ما اكتشفت معارضتها للعقل أو للواقع أو للتاريخ. مهمة فلسفة التنوير إذن هي كسر هذا الجمود والخروج من القضايا الفارغة والعودة إلى مضمون الإيمان الحي فيما تحت الألفاظ. لذلك كانت فلسفة التنوير دعوة إلى المضمون دون الشكل، وإلى الباطن دون الظاهر، وإلى الحياة دون الموت، وإلى التجديد دون التقليد، وإلى الحركة دون الثبات.

٦

وعلى هذا فإن قواعد الإيمان هذه، دون الكتاب، هي الصخرة التي قامت كنيسة المسيح عليها.

بيَّن لسنج أن تأسيس الكنيسة قد قام بعد تأسيس المسيحية، وبالتالي فإن ادعاءَها معًا أنها موطن الدين وحامله وحاميه ادعاءٌ باطل؛ فالمسيحية سابقة الكنيسة وكما قال ماثيوتندال الإنجليزي «المسيحية قديمة قِدَم الخلق». لقد أقامت الكنيسة شرعيتها على أساس أنها هي التي قامت بصياغة قواعد الإيمان في حين أن الإيمان سابق على وجودها. أما الكتاب فلم يعطِ الكنيسة أية شرعية، ولم تَقُم الكنيسة على أساس معه؛ لأن الكنيسة هي التي قنَّنت الكتاب ورجال الكنيسة هم الذين اختاروا فقراتِه وألَّفوا بين أجزائه وألَّهوا عقائده.

٧

قواعد الإيمان هذه، وليس بطرس. هي الصخرة التي قامت عليها كنيسة المسيح.

يُبطل لسنج هنا أيضًا الادعاء القائل بأن بطرس هو مؤسس الكنيسة طبقًا للآية المشهورة الواردة في إنجيل متى «وأنا أقول لك أنت الصفاة، وعلى هذه الصفاة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما ربطته علي يكون مربوطًا في السموات.» (متى، ١٦: ١٩-٢٠)، هذا الادعاء الذي تعتمد عليه الكاثوليكية الرومانية من أجل تأسيس الكنيسة وشرعيتها. وبالرغم من اعتراف بعض البروتستانت المحدثين من أن تأسيس بطرس للكنيسة لا يعني تأسيس خلفائه لها إلا أن لسنج هنا يرفض تأسيس الكنيسة على الحواريين ويجعل قيام الكنيسة على قواعد الإيمان وحدها.

٨

لم يعرف المسيحيون الأوائل كتابات العهد الجديد الموجودة في الكتاب المقدس الحالي، ولم يبجلوا الأجزاء التي قُدِّر لهم معرفتها بالفعل كما يبجلها البعض منا منذ عصر لوثر.

يشير لسنج هنا إلى حقيقة هامة في تاريخ المسيحية الأولى يكاد يُجمع عليها نقاد الكتب المقدسة ومؤرخو المسيحية في نشأتها وهي أن كتابات العهد الجديد لم يكن لها هذا التقديس الذي نعطيه نحن لها الآن؛ فقد كانت كتابات يُدوِّن فيها المسيحيون ما يسمعونه من أقوال المسيح وأفعاله من أجل الاستعمال الخاص ويتناقلونها فيما بينهم، وأتى مرقص ومتى ولوقا وألَّف بينها طبقًا لخطة خماسية مثل كتب موسى الخمسة، فكانت الأناجيل الثلاثة الأولى، دون أن يكون لها طابع التقديس؛ لأنها لم تكن موحاة لهم لا من الروح القدس مباشرة، ولا منقولة نقلًا متواترًا عن السيد المسيح بل مجرد مذكرات شخصية دوَّنها تلاميذه ومستمعوه في الجو السري الذي كانت فيه المسيحية عند نشأتها. ولقد قامت الكنيسة باقتطاف جزء من هذه الكتابات وفقًا لعقائدها وأعلنت أنها هي الصحيحة والأخرى باطلة، وأضفت عليها طابع التقديس الذي ما زال سائدًا حتى هذه الأيام قبل قيام علم النقد التاريخي للكتب المقدسة لإعادة النظر في المصدر الإلهي للكتاب المقدس.

٩

ولم تسمح الكنيسة الأولى للعلمانيين بقراءة هذه الكتابات على الإطلاق، أو على الأقل دون أن يصرح لهم بذلك رؤساء كنائسهم التي ينتمون إليها.

وقد بالغت الكنيسة في هذا الطابع المقدس للكتاب الذي أعطتْه لها فجعلت الكتاب سرًّا موقوفًا على رجال الدين وحدهم، يلمسونه ويحملونه أو يقرءونه في صلواتهم. أما عامة الناس فلم يكن يصرح لهم بذلك إلا بعد موافقة رؤساء الكنيسة. وهنا يظهر الطابع التسلطي لرجال الدين، واحتكارهم حتى للكتاب، وإضفاء صفة التقديس عليه حتى تكون لهم ميزة على غيرهم، حتى يدين لهم العامة بالطاعة والولاء.

١٠

بل إنها لم تكن إهانةً صغيرة عندما كان العلمانيون في الكنيسة الأولى يثقون في الكلمات المكتوبة لحواري ما أكثر من ثقتهم في الكلمات الحية لأسقفهم.

وتبدو سطوة الكنيسة أكثر وتسلطها على المؤمنين أنها كانت إهانة كبيرة للأسقف إذا ما عظم كتابات الحواريين أكثر من تعظيمهم لكلماته هو! فحلَّ الأسقف محلَّ الحواري كما حلَّ رئيس الأساقفة محلَّ المسيح، وأصبحت الطاعة للبابا أولًا ثم للمسيح ثانيًا كما كان الشعار في العصر الوسيط.

١١

بل إن كتابات الحواريين قد تم الحكم عليها طبقًا لقواعد الإيمان، وقد اختيرت طبقًا لدرجة اتفاقها مع قواعد الإيمان أو رفضت طبقًا لدرجة اختلافها معًا حتى ولو كان مؤلفوها حواريِّين أو يظن أنهم كذلك.

وهنا يُثبت لسنج حقيقة في غاية الأهمية في تاريخ المسيحية الأولى وهي كيف تم تقنين العهد الجديد. فإن هذا التقنين لم يحدث طبقًا لمناهج الرواية من تواتر وآحاد، ونقل بالمعنى ونقل باللفظ وتحديد لشروط الراوي كما فعل علماء الحديث قديمًا، وكما قام بذلك علماء النقد التاريخي للكتب المقدسة في العصور الحديثة بل حدث طبقًا لقرار تعسفي من الكنيسة. فقد اختارت من الكتابات الأولى ما وافق هواها ولفظت ما خالفه، وكان هواها مركزًا حول تأليه المسيح وسلطة الكنيسة. فأخذت كتابات قد تكون أقل درجة من حيث الصحة التاريخية ورفضت أخرى قد تكون أعلى درجة من حيث الصحة التاريخية قَبِلت كتابات قد لا تحتوي على أقوال المسيح، ورفضت كتابات قد تحتوي على أقوال المسيح كما هو الحال في إنجيل الطفولة وإنجيل العبرانيين، وإنجيل برنابا، وإنجيل توماس، وإنجيل المصريين، وإنجيل الفقراء، وإنجيل بطرس … إلخ، وقد كانت كلها كتابات لها نفس الشيوع ونفس الأثر في الجماعة المسيحية الأولى.

١٢

وفي القرون الأربعة الأولى، لم تتمَّ البرهنة إطلاقًا على الدين المسيحي ابتداءً من كتابات العهد الجديد، بل تم تفسيره وإثباته على نحو عارض إن كان قد حدث على الإطلاق.

يحاول لسنج هنا تقويض الأسس التاريخية للاهوت العقائدي التبريري كما مثَّلتْه الأرثوذكسية الدينية بأنه لم يحدث في القرون الأربعة الأولى أية محاولات لإثبات الدين المسيحي بالاعتماد على العهد الجديد؛ وذلك لأن العهد الجديد لم يكن مصدرًا للدين المسيحي، بل كان الدين المسيحي مصدرًا للعهد الجديد. لم يكن العهد الجديد حجة لتأسيس الدين المسيحي بل كان الدين المسيحي حجة لإثبات العهد الجديد، فقد خرج النص من العقيدة ولم تخرج العقيدة من النص. وهذا ما سماه اللاهوتيون وعلماء النقد أن الكتب المقدسة Scripture خرجت من التراث Tradition ولم يخرج التراث من الكتب المقدسة، فكل محاولات تقريظ الدين المسيحي لا أساس لها فلم يحدث ذلك في التاريخ إلا على نحوٍ عارضٍ إن كان قد حدث على الإطلاق. الدفاع عن الدين ظاهرة مهنية خالصة يدافع بها المدافعون عن أنفسهم من أجل الإبقاء على مناصبهم، وإضفاء الشريعة على وجودهم وإمعانًا في التسلط والكسب طمعًا في الشهرة والمال.

١٣

إن الحجة القائلة بأن الحواريين وكتَّاب الأناجيل قد دوَّنوا أعمالهم حتى يمكن استكمال الدين المسيحي تمامًا والبرهنة عليه حجةٌ باطلة.

يرفض لسنج أيَّ دور عقائدي للعهد الجديد. فلم يكتبه الحواريون من أجل تأسيس الدين المسيحي أو البرهنة على صحته أو الدفاع عنه، بل كان تدوينًا لعقائد موجودة سلفًا عند الجماعة المسيحية الأولى. فالعهد الجديد لا يحتوي على عقيدة مقصودة لغاية محددة بل هو صورة لما كانت عليه العقائد المسيحية في القرون الأولى. وبالتالي كان أقربَ إلى الأدب الشعبي والأمثال العامية وحِكَم الشعوب، خاصة وأن مؤلِّفي أجزائه الصغيرة التي تم التأليف بينها فيما بعدُ مجهولون كمؤلِّفي الأدب الشعبي.

١٤

إن الحجة القائلة بأن الروح القدس هي التي أمرت بهذه الأعمال ونظمتها بإرشاد منها، بل وبدون وعي الكتَّاب هي أيضًا حجة أكثر بطلانًا.

يرفض لسنج هنا نظرية المصدر الإلهي للكتب المقدسة عن طريق الروح القدس وفعْلها في نفس الحواري، كاتب السفر، سواء على وعيٍ منه أو بدونه، وهي النظرية التي ما زالت سائدةً في الأروقة المسيحية المحافظة خاصة الكاثوليكية منها. ولم تَزِد المساومات النظرية على أكثر من التخلِّي عن وحي الألفاظ، وتركت لاختيار كاتب السِّفر وبقيَ وحيُ المعاني من فعل الروح القدس، فإذا وقع الخطأ في الألفاظ فإن المعاني لا تُخطئ!

١٥

إن البرهنة على صحة قواعد الإيمان أسهل وأوضح من البرهنة على صحة كتابات العهد الجديد.

تتم البرهنة على صحة قواعد الإيمان بالعقل والنور الطبيعي ومدى اتفاقها مع الدين الطبيعي والتنوير بوجه عام. لا تتم البرهنة عليها اعتمادًا على كتابات العهد الجديد لأنه لا يجوز تأسيس السابق، وهو قواعد الإيمان، على اللاحق، وهو العهد الجديد. كما أن قواعد الإيمان يقينية أما كتابات العهد الجديد فظنية، ولا يمكن تأسيس اليقين على الظن.

١٦

يمكن البرهنة على الطبيعة الإلهية لقواعد الإيمان عن طريق البرهنة على صحتها المطلقة على نحوٍ أكثر يقينًا من البرهنة على أن كتابات العهد الجديد وحيٌ من الله. ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الخطوة الجزئية هي التي تجعل أمين المكتبة١ غيرَ راضٍ عن كل البراهين الحديثة على صحة الدين المسيحي.

إن البرهنة على صحة عقائد الإيمان وطبيعتها الإلهية أكثر يقينًا من البرهنة على المصدر الإلهي للعهد الجديد؛ وذلك أن قواعد الإيمان يمكن عرضها على العقل وعلى الطبيعة كما أنه يمكن معرفة التجارب الإنسانية التي نشأت منها. أما إثبات المصدر الإلهي للعهد الجديد فقد يستحيل؛ لأن العهد الجديد ظهر متأخرًا على قواعد الإيمان، ككتابات متفرقة من وضع الجماعة المسيحية الأولى اختارت الكنيسة من بينها على نحوٍ تعسفي خالص وبناء على عقائدها وأهوائها أجزاء منها جعلتْها صحيحة دون الأخرى. كما أن نتائج علم النقد التاريخي للكتب المقدسة التي تبيِّن المصدر الإنساني للعهد الجديد يصعب تجاهلها؛ إذ إنها تقوم على البحث التاريخي واللغوي. فالسبيل الوحيد إذن للدفاع عن الدين في رأْي لسنج ليس هو العهد الجيد بل عرْض قواعد الإيمان على العقل والطبيعة والتجربة الإنسانية، وهي مقاييس فلسفة التنوير التي لم تتعود الأرثوذكسية على قبولها بعد.

١٧

وفي القرون الأولى لم يكن ينظر حتى إلى كتابات الحواريين على أنها شروح صحيحة على قواعد الإيمان بأكملها.

يُثبت لسنج هنا أن كتابات العهد الجديد لم تبلغ حتى درجة الشروح على قواعد الإيمان بل كانت أقلَّ من ذلك مما يدل على أنها لم تكن لها كل هذه الأهمية التي نعطيها نحن لها الآن حتى أصبحنا عبدةَ الحِرَف، وشارحي النصوص.

١٨

وهذا هو على وجه التحديد السبب الذي دفع الكنيسة الأولى إلى عدم السماح للهراطقة بالاعتماد على الكتاب، وهو السبب أيضًا في أنهم لن يتنازعوا مع هرطيق معتمدين على الكتاب.

ونظرًا لأن الكتاب المقدس ليس هو أساس العقيدة المسيحية لم تكن تسمح الكنيسة للهراطقة بتأييد عقائدهم مستشهدين بالكتاب لأن الكتاب تابع للعقيدة. وليست العقيدة تابعة للكتاب، وقد أخذت الكنيسة هذا الموقف من أجل تقوية جانبها ضد الهراطقة، فهي التي تقوم على قواعد الإيمان الصحيح لا على الكتاب الظني في حين أن الهراطقة لا يعتمدون إلا على تأويل الكتاب.

١٩

إن القيمة الحقيقية الكاملة لكتابات الحواريين بالنسبة للإيمان Creed تتفق ببساطة مع كتابات معلِّمي المسيحية، وبقدر ما تتفق مع قواعد الإيمان تكون النماذج الأولى منها وليست مصدرًا لها.

إن قيمة العهد الجديد ودلالته على الإيمان هي في مدى اتفاقه مع مؤسسي المسيحية؛ فقواعد الإيمان هي الأساس الذي يتكيف العهد الجديد طبقًا له. فإذا ما اتفقت معها كانت أسفار العهد الجديد نماذجَ أولية من قواعد الإيمان وليست مصدرًا لها. قواعد الإيمان هي الأصل وأسفار العهد الجديد هي الفروع، ولا يقاس الأصل على الفرع.

٢٠

وإن ما تحتويه من زيادة على قواعد الإيمان وما يتجاوزها في نظر القرون الأربعة الأولى ليس ضروريًّا للخلاص. قد يكون صحيحًا أو باطلًا، وقد يمكن تفسيره بطريقة أو بأخرى.

إذا ما زادت أسفار العهد الجديد على قواعد الإيمان شيئًا فإن هذه الزيادة لا تكون ضرورية للخلاص؛ لأن كل ما هو ضروريٌّ للخلاص ومهمٌّ في الدين قد ورد أولًا في قواعد الإيمان. قد تكون هذه الزيادة صحيحة أو موضوعة وبالتالي فهي ليست يقينية على الإطلاق بالإضافة إلى عدم يقين الكتاب ذاته حتى إن كان متفقًا مع قواعد الإيمان لأنها هي الأصل وهو الفرع. كما يجوز تفسير هذه الزيادة بطريقة أو بأخرى لأنها لا تحتوي على شيء به خلاص الإنسان، ومن ثَم فلا حرج من التخريج.

٢١

لقد جمعت هذه القضايا من قراءاتي الخاصة المتمحصة التي لم تنقطع لآباء الكنيسة في القرون الأربعة الأولى. وأنا على استعداد للدخول في نقاش أيٍّ منها مهما بلغت دقتُه مع أكبر المتخصصين في آباء الكنيسة. فإن أفضل دارس مدقق في هذا الموضوع ليس لديه مصادر أكثر مما لديَّ. وعلى هذا لا يستطيع أفضل دارس أن يعلم أكثر مما أعلم. وليس صحيحًا تمامًا أن الوصول إلى حقيقة كل هذه الأمور يتطلب معرفة عميقة وواسعة كما قد يتخيل الكثير وكما يحاول إيهام الناس.

وقد ينبغي عليَّ أن أُضيفَ شيئًا آخر فيما يتعلق بعدم ضرر مذهبي هذا وأن أُبيِّن في نفس الوقت النفع الذي يعود على الدين المسيحي من استعماله الخاص في مواجهة أعدائه. وسأبين ذلك في حينه كلما تقدم بنا النقاش، خاصة إذا ما رغب السيد الراعي الرئيسي جوتز فصْلَه عن باقي معركتنا الصغيرة ومعالجته دون خلطِه بافتراءات جديدة.

ومن أجل تسهيل الأمر عليه في هذا الكتيب، امتنعتُ تمامًا عن الإشارة إلى كل الأمثال والشواهد والإشارات. وأنا على استعداد لأَنْ أستمرَّ على هذا المنوال إذا كان راغبًا في استعمال نفس الدقة والبساطة في قضاياه المضادة.

يقارن لسنج هنا بين موقفه كعالم قادر على التعبير عن قضاياه بصورة بسيطة ودقيقة وبين جوتز رجل الدين الذي لا علمَ له ولا قدرة له على التعبير عما يعلم بمثل البساطة والدقة. ويتحدَّى لسنج رجل الدين ويطالبه بالدخول في النقاش؛ فقد كان لسنج لا يباري في مدى معرفته بآباء الكنيسة. فقد جمع بين العلم الغزير والاستدلال الواضح ونزاهة الشعور في مقابل جوتز الذي يجهل آباء الكنيسة ولا يعرف كيف يستدل من كتاباتهم على شيء، والذي تحزَّب وتعصَّب لهواه وفقدَ الموضوعية والنزاهة. فليس العلم هو التعامل بالإكثار من الشواهد والأمثلة كما يفعل رجال الدين تعميةً وتستُّرًا على الجهل بالدلالات والحقائق البسيطة وعلى سوء النية، بل العلم هو القدرة على إيجاد الدلالة والتعبير عنها بأبسط القضايا وأوضح العبارات كما فعل لسنج.٢

ويُبدِّد لسنج أوهامَ رجال الدين وتخوُّفهم من فلسفة التنوير، ومذهب لسنج النقدي بأن هذا الاتجاه الجديد في التسليم بهذه الحقائق البسيطة لا يمثِّل ضررًا على العقيدة بل يجلب لها النفع الكثير. وهي نفس النصيحة التي أعطاها ديكارت وسبينوزا لرجل الدين كقلبهم المنهج الجديد واستعماله للدفاع عن الدين حتى يتأسس الدين على نحو أوضح، وبمنهج أدق. والتاريخ يُثبت إن كان تخوُّف رجال الدين من المناهج الجديدة واقعًا أم وهمًا.

١  وهو لسنج نفسه.
٢  درس لسنج نفس الموضوع مدعمًا بالأدلة والشواهد والأمثلة، ومكثرًا من الإشارات إلى كتابات آباء الكنيسة في كتيِّبه العظيم «فرض جديد خاص بكتاب الأناجيل باعتبارهم مؤرخين بشر» ١٧٧٨م الذي أجَّلنا نشره بعد ترجمته لطبعة ثانية لما تحتاجه من جهد عظيم في مراجعة الشواهد وترجمتها من لغاتها الأصلية في مؤلفات آباء الكنيسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤