ثانيًا: لسنج … بين الأرثوذكسية والتنوير

تعتبر فلسفة التنوير عنوانًا عامًّا للفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر وأفضل ما أنتجه، كما تعتبر إحدى مراحل الفكر الأوروبي؛ إذ إنها وريثُ الإصلاح الديني، فقد نشأت في أحضان البروتستانتية وتأكيدها على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، ورفض كل عناصر التوسط البشرية مثل المسيح، أو التنظيمية؛ مثل: الكنيسة، وتوجيهها البحث في الكتاب المقدس، والتأكيد على حرية تفسيره.

وفلسفة التنوير أيضًا هي الوريث الطبيعي لعصر النهضة في القرن السادس عشر؛ حيث بدأ فيها الاتجاه النقدي للأرثوذكسية، والدعوة إلى البحث الحر في الموروث كما فعل عصر النهضة، والبداية من الإنسان، وإثبات استقلال عقله وإرادته، بل إن فلسفة التنوير بهذا المعنى تعتبر النهضة الأوروبية الثانية أو على الأقل اكتمال النهضة الأولى وتحقيق ما نادت به وما سقط دونه الشهداء، ولو أن سقوط الشهداء من المفكرين الأحرار ظل مستمرًّا حتى القرن الثامن عشر.

وفلسفة التنوير أيضًا نتيجة طبيعية لعقلانية القرن السابع عشر ومنهجيته؛ حيث بدأ الشعور الأوروبي بواقعة الكوجيتو التي يتلخص فيها إثبات الإنسان من حيث هو فكر، ويتأكد فيها المنهج من حيث هو بحثٌ حرٌّ. بل إن بعض فلاسفة القرن السابع عشر؛ مثل ليبنتز وفولف لحقوا بفلاسفة التنوير، وكانوا من روَّادها الأوائل، أي إنهم كانوا من الفلاسفة المخضرمين الذين لحقوا بالعقلانية وشاهدوا بدايات التنوير فكانوا من مؤسِّسيه. ففي فلسفة التنوير تفتَّح العقل، وتحدَّدت حدوده حتى شملت نواحي الحياة كلها الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والفنية، والقانونية؛ فقد نفذ نور العقل في كل مجالات الحياة بلا استثناء، وكان سبينوزا قد أسقط الاستثناءات الديكارتية من حسابه التي استبعدها ديكارت من المنهج، أعني الكتب المقدسة والكنيسة والعقائد والطقوس والشعائر في الدين، ونُظم الحكم والقوانين في السياسة، والعادات والتقاليد في الحياة، وأبقى المنهج في الفكر وحده أو في العلوم بمفردها.

وفلسفة التنوير هي التي ستصبح في القرن التالي لها فلسفة علم، وفلسفة تاريخ، والتي ستتحول إلى ثورة اجتماعية ونهضة صناعية، وتصبح دعامة الحضارة الأوروبية الحديثة وفلسفتها الليبرالية؛ فما من فيلسوف في القرن التاسع عشر إلا ويبدأ بتحديد موقفه من فلسفة التنوير، مبيِّنًا حدودَها، ومطوِّرًا لها، ومكمِّلًا مثاليتها بالواقع، ومُدخلًا في عقلانيتها عالم الحس والمشاهدة، ومضيفًا إلى فرديتها حركة الجماعة ومسار التاريخ.

وفي القرن العشرين بدأ المفكرون يتساءلون عن السبب في الأزمة الطاحنة اليوم، وعادوا إلى فلسفة التنوير؛ فلربما تناساها الشعور الأوروبي، وربما خانت أوروبا مُثُلها، وربما سارت في طريق غير الذي مهَّدَته لنفسها، وربما قصرَت همَّتها عن تحقيق ما نادت به، وربما عاود أوروبا ثقلها الطبيعي، وشعورها المادي والروماني، ورد فعل المسيحية فيه.

وكانت المشكلة الأولى التي فجَّرت فلسفة التنوير هي مشكلة العقل والوحي، أو كما يقول المسلمون القدماء العقل والنقل؛ فكانت الأرثوذكسية تُعطي الأولية للنقل على العقل، وتجعل النقلَ حشوًا للأسرار والمعتقدات والطقوس، فكان الهجوم عليها من التنوير والقنوط، الأول من أجل العقل، والثاني من أجل التقوى؛ الأول يعطي البديل العقلي والثاني البديل الصوفي، وبالتالي يمكن إعادة تأسيس الدين على العقل أو القلب. أما التاريخ وهو الأساس القديم فهو أساسٌ واهٍ لا يمكن تأسيس الدين عليه.

وقد تكوَّن مذهب القنوط أو التقوى Pietisme من ثنايا البروتستانتية اللوثرية الألمانية على يد شبنر Ph. Spener (١٦٣٥–١٧٥٥م) وتلميذه فرانكه Aug. Fnanckea (١٦٦٣–١٧٢٧م) مركِّزًا على تجربة الروح الباطنية وعلى سلطة الروح الداخلية لا الخارجية. أما التنوير فقد بدأ في ألمانيا على مراحل من أجلِ حلِّ إشكال التعارض بين العقل والوحي، وكان أول فلاسفة التنوير هو فولف Ch. Wolff (١٦٦٩–١٧٥٤م) الذي كان يرى أولًا أن الوحيَ أعلى من العقل ولكنه ليس مناقضًا له، فهو يحلُّ التناقض بينهما ولكنه ما يزال يجعل الوحيَ أعلى من العقل. ويرى ثانيًا أن العقل يقدِّم المقاييس التي بها يمكن الحكم على الوحي؛ فالوحي يمكن فهمه والتصديق به بالعقل. هذه الخطوة التنويرية الأولى التي تحلُّ التعارض بين العقل والوحي في الأرثوذكسية لم تكن كافية. فالوحي واقعيٌّ ولكن مضمونه لا يختلف مع الدين الطبيعي، وبالتالي فهو ليس أعلى من العقل. فضلًا عن أن العقل قد يرفض العقائد المناقضة له وبالتالي يتبخر مضمون الوحي. فخطا التنوير خطوةً أخرى على يد فلاسفة التنوير والعقلانيِّين بتأكيدهم على أن العقل هو مقياس الوحي حتى ولو أدَّى ذلك التصديق إلى الهدم أكثر مما يؤدي إلى البناء.
وهنا يظهر ريماروس ليدفع التنوير خطوةً أخرى إلى الأمام، ويأخذ بزمام فلاسفة التنوير والعقلانيِّين معًا، ويُعلن عن موقفه مرة علنًا ومرة سرًّا؛ كما يقتضي الموقف المتزمت للبيئة الدينية في عصره. فالمسيحية دين طبيعي أقدم من المسيحية العقائدية التي صاغها فولف وليبنتز. كما هاجم ريماروس ماديةَ وإلحاد لامتري La Mettrie (١٧٠٩–١٧٥١م) ووحدة الوجود عند سبينوزا. كما عارض الأبيقوريين ولوكريس وبيفون Buffon  (١٧٠٧–١٧٨٨م) وموبريتيوس Maupertius (١٦٩٨–١٧٥٩م) وروسو. أراد ريماروس تأسيس الدين على ما يقول مندلسون، على حجة الخلود حتى ولو هدم الأسس الأرثوذكسية القديمة، واعتبر المعجزات مناقضةً لمبادئ العقل ولقوانين الطبيعة.

كان غرض ريماروس الدفاعَ عن الدين أيضًا ولكن على أسس أقوم وأبقى دون معارضة أسس المعرفة الإنسانية الشاملة. لم يشأ ريماروس أن يكون شهيدًا لأفكاره فأصبح شهيدًا لصمته، وقد كان صمْتُه وسيلةً لتربية الناس مثل تربية لسنج للجنس البشري.

كان ريماروس يقول علنًا إن المسيحية دينٌ طبيعي ولكنه كان يؤمن سرًّا بأن هذا الدين الطبيعي يقوم مقام المسيحية ويحلُّ محلَّها. وهنا بدأ الاضطهاد يقع على فلاسفة التنوير كما وقع على لورنز شميت Lorenz Schmidt (١٧٠٢–١٧٤٩م) عندما ترجم الأسفار الخمسة على نحو عقلي، وهو الذي نسب إليه لسنج فقرات ريماروس عند نشرها. كان انتقال فلسفة التنوير من فولف إلى ريماروس هو انتقال من النسبية إلى الجذرية؛ فقد قام مذهب فولف على أن صفات الله نوعان؛ الله قوة فاعلية بالنسبة لذاته، وهو قوة غير محدودة بالنسبة للأشياء، ومن ثَم فالله قادر على إجراء المعجزات. أما بالنسبة للوحي فإنه ضروري ومعرفة أعلى من المعرفة الطبيعية، ومع ذلك فإنه لا يحتوي على أيِّ تناقض. ولكن ريماروس طوَّر هذا المذهب لدرجة هدمِه والقضاء عليه، وانتهى إلى أنه من السهل اتِّباع الدين الطبيعي الذي هو منشأ المسيحية ومصدرها، وأن العقل أساس الوحي، وهو قادر على كشف تناقض العقائد المسيحية.
وقد كان للمفكرين الإنجليز أثرٌ كبيرٌ على حركة التنوير في ألمانيا؛ فقد فرق لوك Lock (١٦٣٢–١٧٠٤م) بين قضايا طبقًا للعقل According to وقضايا ضد العقل Contrary to وقضايا أعلى من العقل. Above صحيح أن البراهين لديه هي المعجزات وتحقق النبوات إلا أنه أراد البحث عن البراهين الداخلية والخارجية معًا كما يفعل ريماروس. ولكن الأثر الحاسم على فلسفة التنوير في ألمانيا أتى من المؤلهة الإنجليز جون تولاند John Toland في كتابه المشهور «المسيحية ليست سرًّا» الذي صدر في ١٦٩٦م ويقرر فيه حقائق ثلاث؛ الأولى: يُحكم على الوحي بناءً على المضمون وحده دون المظاهر الخارجية من سلطة أو علامات أو معجزات، والثانية: يُحكم على الوحي بناءً على مقاييس عقلية ثلاث: أن يكون الوحي نافعًا وضروريًّا، وأن يكون الوحي معقولًا يمكن فهمه بسهولة، وأن يكون الوحي ممكنًا لا تناقض فيه مع العرف ومجرَى العادات، والثالثة: وقع تبديل في دين المسيح، في دين الكنيسة والحواريِّين. ولم تُفلح محاولات ليبنتز وموشيم Mosheim في التصدي لتولاند ووقف أثره على المفكرين الألمان. ومن ناحية أخرى هاجم وولستون المعجزات كبرهان على الدين المسيحي ولم تُفلح محاولات لمكر Lemker في الحد من أثره، كما هاجم بيتر أنيت Peter Annet عقيدةَ البعث، بعث المسيح، بسبب تناقضات الروايات.
وهاجم توماس تشب Thomas Chubb الحواريين لتحريفهم الأناجيل وتبديلهم لها، وأيَّده في ذلك زملر Semler، ثم دعا أنطوني كولين Antony Collin في كتابه «خطاب في أسس الديانة المسيحية ومبرراتها»١ الذي صدر في ١٧٩٤م إلى التأويل الرمزي حتى يتفق النقل مع العقل وحتى يحدث التنوير العقلي، كما بشَّر بظهور مخلِّص زمني قبل المسيح وبعده يخلِّص الناس من الأنظمة الاجتماعية المتسلطة، هذا المخلِّص الزمني الذي حوَّلته المسيحية إلى مخلص روحي.
وقد استمر التنوير الديني بعد القرن الثامن عشر. فقد طبع شارلز فويزي Charles Voysey (١٨٢٨–١٩١٢م) فقرات ريماروس، وترجمها إلى الإنجليزية. وبعد تخرُّجِه من أكسفورد في ١٨٥١م بدأ كمصلح ديني بخطبة في ١٨٦٤م عن «هل كل جملة في الكتاب المقدس عن أبينا السماوي صحيحة تمامًا»،٢ ولكنه طُرد في ١٨٧١م، وبدأ حركته «الكنيسة المؤلهة» The Theistic Church من أجل رفض العقائد، وإنكار المصدر الإلهي للكتاب المقدس، واستبعاد الطقوس، وعدم الاعتراف بألوهية المسيح، وعدم الإيمان بالعقاب الأبدي، وإسقاط المعجزات. واستمر هذا التيار عند شتراوس D. Strauss (١٨٠٨–١٨٧٤م) والمدرسة الأسطورية التي تعتبر روايات الإنجيل مجرد أساطير نسجها الخيال الشعبي كما ينسج أية أسطورة شعبية. وطالب كيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥م) باليقين الداخلي لا الخارجي كأساس وحيد للتصديق. وأقام هارناك Harnack (١٨٥١–١٩٣٠م) ممثل البروتستانتية الحرة المسيحية على أساس خلقي محض وهو الأساس اليقيني الوحيد في المسيحية، وأصبحَت الآن مكتسباتُ عصر التنوير من المسلَّمات في الفكر الديني عند كل المفكرين المعاصرين مثل شفيزر A. Schweitzer (١٨٧٥–١٩٦٥م) وبولتمان R. Bultmann (١٨٨٤–١٩٧٥م)، بل إن اللاهوت الجديد الآن، واللاهوت العلماني، ولاهوت الثورة، ولاهوت الأرض، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم، ولاهوت التحرر كل ذلك من مآثر فلسفة التنوير.٣
تضم فلسفة التنوير إذن جناحَين؛ جناح جذري يسير في العقل إلى ما لا نهاية ويثق في العلم بلا حدود، ولا يقبل أيَّ مساومة مع القديم، ولا يحاول أيَّ تبرير لبقاياه، ولا يضيره أن يصطدم مع التقاليد والمعتقدات والأفكار المسبقة، ولا يخاف من اتهامه بالإلحاد أو الكفر أو المروق على الدين، ويظل دائمًا شوكةً في جنب المحافظة والسلفية، وهو التيار الذي يمثِّله ريماروس Reimarus في القرن الثامن عشر في ألمانيا، وفلاسفة التنوير، وعلى رأسهم فولتير في فرنسا، ومن قبله سبينوزا في القرن السابع عشر، ومن بعده شتراوس ورينان في القرن التاسع عشر، وهو ما يسمَّى النقد الجذري أو الجناح الراديكالي أو البروتستانتية الحرة.
والجناح الآخر نسبي، لا يقبل هدمَ القديم كله، ولا يرضى بهدم الأرثوذكسية بكاملها، ولا ينتسب إلى الجناح الجذري، ولا يؤمن بموافقة الرافضة، ومن ثَم نشأت فلسفةُ تنوير تحاول أن تجد وسطًا متناسبًا بين الطرفَين المتعارضَين؛ الأرثوذكسية والتنوير الجذري، وهو ما حاوله لسنج برفضه الأرثوذكسية دون انتسابه إلى التنوير الجذري مما سبَّب قلقَ فلاسفة التنوير من أمثال مندلسون عليه. ولا مانع من استعمال لسنج بعض أفكار التنوير الجذري لنقد الأرثوذكسية ثم استعمال بعض الآراء الأرثوذكسية لنقد التنوير الجذري. وهذا هو التيار الذي يمثِّله لسنج، وهردر، وكانط، وفلاسفة التنوير في ألمانيا في القرن الثامن عشر بوجه عام. فالتنوير الفرنسي كان أكثر جذرية من التنوير الألماني. أما التنوير الإنجليزي فإنه يمكن وضعه مع التنوير الراديكالي؛ وذلك لأن أصحاب مذهب التأليه الطبيعي Deism الإنجليز من أمثال جون تولاند John Toland، وماثيو تندال Matthiew Tindal وتأسيسهم للدين الطبيعي الذي لا شعائر، ولا طقوس، ولا عقائد، ولا أسرار، ولا كهنوت فيه، كانوا أقرب إلى التنوير الراديكالي الداعي إلى دين عقلي طبيعي خالص.
ويمكن البرهنة على انتساب لسنج إلى التنوير النسبي بمحاولاته الأولى في نشر المخطوطات التي أثارت معركة حامية بين فريقَي المحافظين والتحرريِّين، وموقف لسنج النسبي منها، وهي المعارك الآتية:
  • (١)
    في أول دراسة له سنة ١٧٥٤م وهو ما زال في سن الخامسة والعشرين «دفاع جيروم كاردان»٤ فيلسوف ميلانو، ينقد لسنج كاردان لأنه يأخذ الإسلام نموذجًا لدين العقل ولدين الطبيعة. ويحكم على كاردان بأنه كان ظالمًا في مقارنته للأديان لأن تفوُّق المسيحية على الإسلام يقوم على صحة الحجج التاريخية التي تعتمد عليها المسيحية والتي قلَّل من شأنها المؤلهة الإنجليز. يدافع لسنج هنا عن المسيحية بالحجج التاريخية كما تفعل الأرثوذكسية وليس بالحجج العقلية والخلقية التي يقدِّمها كاردان، والتي هي من دعائم فلسفة التنوير بشقَّيها النسبي والجذري. فدفاع لسنج عن مفكر عصر النهضة يُوحي بأنه من أنصار اللاهوت الجديد الذي مثَّله عصر النهضة، ويكون لسنج في هذه الحالة من أنصار الجديد ولكنه في نفس الوقت يتراجع عن موقفه عندما يريد تأسيس المسيحية من جديد على الحجج التاريخية التقليدية كما تفعل الأرثوذكسية.٥
  • (٢)
    وفي نفس الوقت نشر لسنج «دفاع عن المتدين العاثر»٦ يُبرهن فيه على المصدر الأرثوذكسي لهذا الكتاب الذي ظهر في القرن السابع عشر، محتويًا على أمثال في صورة نصائح في الدين بأسلوب ساخر منعَته الرقابة باعتباره «كتابًا صغيرًا شريرًا لا ألوهية فيه» كما وصفه الراعي يوحنا فوجث Johann Voggel في «الكتالوج النقدي التاريخي للكتب النادرة».٧ الصادر في همبورج سنة ١٧٣٢م مما يدل على أن لسنج لا يرى غضاضة في أن يكون الإنسان أرثوذكسيًّا ناقدًا، وناقدًا أرثوذكسيًّا وهو ما حاول لسنج ذاته أن يقوم به. فالنقد يتم من حظيرة الدين وليس من خارجه، ويهدف إلى إعادة تدعيم الدين وليس إلى هدم عقائده.٨
  • (٣)
    وجد لسنج في أول عام له في المكتبة في فولفنبتل مخطوطًا يحتوي على رد برانجيه التوري Beranger de Tours على لانفران Lanfran، ورأى أن هذا الرد يُحتِّم عليه إعادة تقييم هذا الهرطيق الأخير، وهو ما فعله لسنج سنة ١٧٧٠م. ويبدو أن الدفاع عن الهراطقة كان من الموضوعات المفضلة عند لسنج، مما يشير إلى رغبته في الخروج على التقاليد الموروثة، وإحساسه بأن الهرطقة كانت البزوغ الأول للتنوير في عصر آباء الكنيسة. ولكن لسنج كان يعبِّر عن آرائه هذه عن طريق نشر مخطوطات قديمة معلِّقًا عليها ومعيدًا أحكام التاريخ بإعادة المحاكمات القديمة، فقد تتغير الأحكام طبقًا لتغيُّر العصور، ومن كان متهمًا قديمًا مثل الهرطيق يمكن أن تصدر براءتُه الآن، وما كان بريئًا قديمًا — مثل الأرثوذكسية — يمكن إدانته الآن. ومن ثَم كانت اهتمامات لسنج الأولى تاريخية خالصة؛ وذلك لأن الكتابات التاريخية لا يجب أن تخضع لأيِّ نوع من الدعاية، أو أن تتأثر بالأحكام المسبقة التي تقوم عليها الافتراضات العقائدية. ولأسباب لاهوتية استقبل اللاهوتيون الأرثوذكس ردَّ برانجيه التوري بحماس في حين أن اللاهوتيِّين الأقل الأرثوذكسية، وأصدقاء لسنج من فلاسفة التنوير في برلين نظروا إلى هذه المحاولة اللاهوتية بقلق بالغ؛ فقد كان لسنج أكثرَ دفاعًا عن الأرثوذكسية من الدفاع عن التحررية.٩
  • (٤)
    وعندما بدأ لسنج سنة ١٧٧٣م في نشر سلسلة بعنوان «مساهمات في الأدب والتاريخ» من مكتبة الدوق فولفنبتل، نشر في الجزء الأول منها شرحًا لليبنتز لم يُنشر من قبل عن «آلام الجحيم» حيث دافع ليبنتز — فيما يبدو — عن هذه الآلام ضد نقد إرنست زونر Ernst Soner (١٥٧٢–١٦١٢م) لها، وقد كان أستاذًا للطب في آلتورف Altorf كما كان سوسينيًّا متخفِّيًا.١٠ دافع لسنج عن العقيدة الأرثوذكسية؛ لأنها أقرب إلى الحقيقة من العقيدة المناقضة للسوسنيِّين. وبصرف النظر عن موقف ليبنتز الحقيقي من هذه العقيدة؛ إذ يبدو أنه كان مدافعًا عنها علنًا، منكرًا لها سرًّا — ولو كان الأمر كذلك، لكان ليبنتز في رأيِ لسنج إنسانًا بشعًا — ينقد لسنج وجهة نظر ليبنتز في دفاعه عن آلام الجحيم، معتمدًا على أحد اللاهوتيِّين الأحرار من هالة Halle وهو ج. أ. إبرهارد G. A. Eberhard (١٧٣٨–١٨٠٩م) الذي هاجم في كتابه «دفاع جديد عن سقراط»١١ سنة ١٧٧٢م الفكرة القائلة بخلود كلِّ الوثنيِّين في النار باعتبارها فكرةً لا إنسانية. يرى لسنج أن العقيدة الأرثوذكسية عن العقاب الأبدي تؤكد حقيقةً هامة وهي أن لا شيء في العالم يكون معزولًا عن شيءٍ آخر، وأن لا شيء يحدث في العالم دون أن تكون له نتائج مترتبة عليه، ولا شيء يقع في الزمان دون أن يكون له أثرٌ خالد أبدي. فالجحيم اسم آخر للنتيجة الأبدية للخطيئة، وآلامه نسبية، يمكن التخفيف منها وتجاوزها؛ إذ إنها وسيلة لتحقيق الكمال؛ فالجنة والنار نسبيَّان وليسا مطلقَين. فأفضل إنسان به شرٌّ وأسوأ إنسان به خيرٌ. إن نتائج الشر يجب أن تظلَّ مع الشر حتى في النار؛ ففي الجنة والنار هناك مراتب يتدرج فيها الإنسان من مرتبة إلى أخرى صعودًا أو هبوطًا. يمدح لسنج هذه اللغة الجديدة التي يستعملها مفكر هالة؛ إذ تحاول أن تتخلص من الجحيم، ويُثني على هؤلاء اللاهوتيِّين؛ إذ استطاعوا القضاء على فكرة أن الجنة والنار مطلقان، كما استطاعوا رؤيتهما باستمرار على أنهما يمثِّلان عملية تطهير روحي، وقد تأثر معاصرو لسنج بمحاولة ليبنتز هذه عن العقاب الأبدي والتي تدل بوضوح على دقة تعبيراته وأساليبه في الجدل اللاهوتي.

    ولكن ما الموقف الآن؟ قد يُسَرُّ أيُّ قارئٍ عاديٍّ ذي ميول أرثوذكسية من هذا الدفاع الظاهري عن العقيدة التقليدية، ويُبرهن على أن ليبنتز قد آمن به، ويرحب بهجوم لسنج على إبرهارد ونزعته التحررية والشعبية، ولكن قد يُسَرُّ قارئٌ آخرُ ذو ميول تحررية من لسنج؛ فبالرغم من أنه وجَّه ضرباتٍ قويةً لمصطلحات إبرهارد الجديدة إلا أنه لا يمكننا القول بأنه قد دافع عن الأرثوذكسية طالما أنه من ناحية أخرى استبعد ضمنيًّا فكرةَ ما فوق الطبيعة التي تعتمد عليها العقيدة التقليدية، وأعاد تفسير الجنة والنار على أنهما بمثابة تطهير روحي.

    وهنا يبدو لسنج مثل ليبنتز، يحاول إيجادَ حلٍّ وسطٍ بين النزعة التحررية التي يمثِّلها إرنست زونر في إنكاره آلامَ الجحيم والنزعة المحافظة التي تُمثِّلها الأرثوذكسية في إثباتها لها؛ وذلك عن طريق إعادة تفسير العقيدة كما يتفق مع العقل والفضيلة، بالالتجاء إلى الفعل وردِّ الفعل أو الأثر والمؤثر؛ فإذا كان لكلِّ فعلٍ ردُّ فعل، وإذا كان لكلِّ مؤثر أثرٌ، فإن آلام الجحيم أو نعيم الرضوان يكونان أثرَين ناتجَين عن أفعالنا السيئة والحسنة. ولمَّا كان لكل إنسان حسناته وسيئاته، وأنْ لا وجودَ لإنسانٍ كلُّه حسناتٌ أو لإنسانٍ كلُّه سيئاتٌ فإن النعيم والعذاب في الآخرة يكونان نسبيَّين، وسينالُ كلُّ إنسانٍ ثوابًا وعقابًا بقدر ما له من حسنات وسيئات؛ فلا خلود في الجنة، ولا خلود في النار.١٢
  • (٥)
    نشر لسنج أيضًا دفاعَ ليبنتز عن عقيدة التثليث كما تصوَّرَتها الأرثوذكسية معلِنًا اشمئزازَه من الأفكار السوسينية والتحررية، وذلك في محاولته «اعتراضات أندرياس فيسوفاسيوس ضد التثليث»١٣ يذكر لسنج اعتراضات السوسنيِّين المعاصرين لليبنتز وردود ليبنتز عليها. وهذا يُوحي بتفسيرَين لموقف لسنج: هل هو من أنصار ليبنتز ضد فيسوفاسيوس والسوسنيِّين، وبالتالي يكون من أنصار التثليث ضد التوحيد، أم هو من أنصار فيسوفاسيوس والسوسنيِّين ضد العقيدة الأرثوذكسية، وبالتالي يكون من أنصار التثليث ضد التوحيد؟ ونفس السؤال يُوجَّه أيضًا لليبنتز: هل أراد بردِّه على فيسوفاسيوس نقدَ وتفنيد حججه ضد التثليث دفاعًا عن العقيدة الأرثوذكسية، أم أن ليبنتز أراد بعرض حجج فيسوفاسيوس ضد التثليث الدفاعَ عن التوحيد بمجرد عرض البديل؟١٤
  • (٦)
    نشر لسنج في الجزء الثالث من «المساهمات» سنة ١٧٧٤م دراسة بعنوان «في آدم نوزر: بعض الحكايات الحقيقية»،١٥ وقد كان نوزر لوثريًّا ثم أصبح كالفنيًّا، واهتمَّ سنة ١٥٧٢م مع ثلاثة آخرين بإنكار التثليث وألوهية المسيح، وحُكم عليه بالسجن، كما حُكم على أحدهم وهو سلفانوس بالإعدام بتهمة التجديف والخيانة، أما الاثنان الآخران فقد اتُّهما بالكفر وحُكم عليهما بالنفي. أما نوزر نفسه فقد هرب إلى القسطنطينية وتحوَّل إلى الإسلام، وتُوفي سنة ١٥٧٦م. كانت صورة نوزر التقليدية أنه هرطيق وشرير وملحد، ولكن لسنج يحكي قصته متعاطفًا معه مصوِّرًا إياه أنه إنسان بائس، اضطر إلى الإلحاد بفضل تعصُّب اللاهوتيِّين الأرثوذكس ضده في هيدلبرج مثل سرفتوس Servtus آخر، وعلى أنه رجل أمين استطاع بمنطق أحكم، وبإخلاص أكثر من السوسنيِّين أن يستخلص من إنكاره لألوهية المسيح هذه النتيجة غير المعقولة وهي أنه يمكن توجيهُ الصلاة لغير المسيح.١٦
  • (٧)
    كان لسنج متعاطفًا مع مبدأ التحفظ في إيصال المعرفة غير المتدينة، ولكن في أثناء إقامته في همبورج تعرَّف على عائلة هرمان صمويل ريماروس H. S. Reimarus أستاذ اللغات الشرقية الذي تُوفي سنة ١٧٦٩م تاركًا بين يدَي ابنته إليز Elise عملًا ضخمًا لم يُنشر بعنوان «دفاع عن العابدين العاقلين لله»،١٧ أعطَته إليز إلى لسنج الذي رأى أنه بالنظر إلى أبعاد العمل ومحتواه لا يمكن نشره، إلا أنه قرر بأن فقرات منه يجب أن تظهر في كتيبات أو فصل مجهولة المؤلف في «مساهمات في الأدب والتاريخ» التي كانت في مأمن من الرقابة.١٨
وقد نشر لسنج ثلاث مجموعات من أعمال ريماروس، وهي:
  • أولًا: «عن تسامح المؤلهة»،١٩ والعنوان من وضع لسنج، وقد ظهرَت هذه المجموعة من الفقرات سنة ١٧٧٤م — مع آدم نوزر — مجهولة المؤلف، وكتب مقدمة ممتازة تحتوي على إثبات أنه «لم يكن باستطاعتي تمامًا أن أكتشفَ كيف ومتى وصلَت هذه الفقرات إلى المكتبة»، واقترح في محاولة لتضليل صيادي المتاعب أن المؤلف قد يكون لورنز شميت G. Lorenz Schmidt (١٧٠٢–١٧٤٩م)، وقد كان شميت مؤلهًا نشر سنة ١٧٣٥م ترجمةً حرة للأسفار الخمسة مع تعليقات عقلية، وقد أدى ذلك إلى غضب المؤسسات الدينية، فتمَّ اعتقالُه وعاش السنوات العشر الأخيرة من حياته في ظلامٍ تامٍّ بأسماء مستعارة بالرغم من أنه استطاع أن يقوم بترجمة ألمانية لكتاب ماتيوتندال «المسيحية قديمة قِدَم الخلق»٢٠ سنة ١٧٤١م، والترجمة الأولى لكتاب «الأخلاق» لسبينوزا تحت قناع الرد على هذا الملحد سنة ١٧٤١م، وقد أعطاه دوق برنشفيج الأمان، وتُوفي مُهانًا في فولفنبتل، وقد تعلَّم لسنج من هذه القصة المؤلمة أنه من الخطر أن يُعلن الإنسان عن اسمه الحقيقي.
    وتؤكد هذه المجموعة الأولى من فقرات ريماروس أنه طالما أن المسيح كان معلِّمًا لدين عقلي وعملي فإن أيَّ إنسان عقلي يتبع تعاليمه الخلقية العملية يمكن أن يسمِّيَ نفسه مسيحيًّا. فالمسيحية إذن لا تعني الإيمان بالدين المسيحي بل تعني ممارسة الأخلاق المسيحية، وهي سابقة على نشأة الدين وانتشاره، مثل قول المعتزلة في معرفة التوحيد والعدل قبل ظهور الرسل والأنبياء. ولكن بساطة تعاليم المسيحية تم تزييفُها وتحريفها وتبديلها، وهذه هي المأساة؛ فقد أقام الحواريون بأفكارهم اليهودية عن المخلِّص والمصدر الإلهي للكتابات العبرية، أقاموا مذهبًا مختلفًا تمامًا عن تعاليم المسيح، ومَلَئوه بالأسرار. والآن يمكن التسامح مع اليهودِ والوثنيِّين، أما مع المؤلهة فلا يمكن ذلك! يجب إذن معاملةُ العقلانيِّين الفضلاء بنفس التسامح الذي أمر الله به قدماء بني إسرائيل أن يُظهروه للغرباء عن أسوارهم. فالمؤلهة مؤمنون وإن لم يحتاجوا في إيمانهم إلى شرائع وإلى نبوات، تكفي عقيدة الله الواحد للإنسان كي يكون مؤمنًا، وتكفي ممارسته للفضيلة وفعله للخير كي يكون تقيًّا، وهو ما قرره سبينوزا من قبل، والإسلام أيضًا بالدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح.٢١
  • ثانيًا: ولمَّا لم تُثِر هذه المجموعة السابقة اهتمامَ أحدٍ نشر لسنج سنة ١٧٧٧م خمسَ مجموعات أخرى لريماروس، وحاول أن يردَّ عليها فأثارت غضب الأرثوذكسية ولم تكتفِ بردود لسنج، وقامت بردودها الخاصة. وهذه المجموعات الخمس هي:
    • (أ) «في طعن العقل في المنبر»٢٢ ويعني بالمنبر، المنبر الذي يُلقي عليه القسيس وعظَه في الكنيسة، أي الكنيسة والدين بوجه عام. ويُبرهن ريماروس أنه طالما أن العقل وحده هو الذي يقوم بالبرهنة على صحة الإيمان المسيحي فإن رجال الدين قد ضلوا بطعنهم فيه، وتقويضهم له، وهم بذلك يقطعون الغصن الذي يقفون عليه، وهو نفس ما قال القسيس السيفوياردي Savoyard في «إميل» Emile  روسو Rousseau عندما قال: «إن مَن يُنكر حقَّ العقل يجب أن يُقنعني دون الاستعانة به.»٢٣
    • (ب) «استحالة وحي يؤمن به كلُّ الناس على أسس عقلية»،٢٤ وهي فقرة أكثر أهمية من الفقرة الأولى، يُثبت فيها ريماروس أن الله لا يمكن أن يعطيَ وحيًا خاصًّا لكل إنسان طالما أن المعجزات المتتالية ستنقض النظام الطبيعي، وبالتالي يكون الله مناقضًا لنفسه. ولهذا لو كان الوحي لا بد وأن يحدث بالمرة فإنه يحدث في مناسبات نادرة لأشخاص معينة يثق الناس بشهادتهم، أما غيرهم فلا يوجد لديهم وحيٌ مباشر، ولكن يوجد فقط شهادة عن الوحي. ولما كان البشر يمكن خدعاهم ويمكنهم أن يخدعوا، فإنه لا يوجد ضمان مطلق للوحي الإلهي؛ فقد يصدق البعض بهذه الشهادات وقد لا يصدق البعض الآخر. ويتضخم هذا الجانب الظني كلما أوغل الوحي في التقدم، واتسعت الفترة بين الإعلان والتدوين. فطالما أن الشهادة تنتقل من فم إلى فم — أو من يد إلى يد — فإنها تفقد بالتدريج جزءًا من يقينها والثقة بها. وفضلًا عن ذلك لا يصدق البعض القليل على الإطلاق بالشهادة غير المباشرة كما يموت كثير غيرهم في شبابهم وقبل أن يصلوا إلى سنِّ الرشد ويفهموها، بالإضافة إلى أن غالبية الناس لم تسمع بها على الإطلاق. كما أن المبشرين المسيحيِّين لم يقوموا إلا بأقل القليل، ومع ذلك دفعوا لهذا القليل تضحياتٍ كبيرةً من الأفراد. ولكن المسيحيين الإسبان قتلوا أيضًا أربعين مليونًا من الأمريكيِّين، سكان أمريكا الأصليين! ولم يظنَّ هؤلاء المساكين أن هؤلاء الغزاة الجدد قد أتَوا بوحي إلهي! إن هؤلاء المبشرين يذهبون إلى البلاد الأجنبية لاكتشاف سكانها الأصليين واستعمار أراضيهم، ولم يستطع ما يدعونه من وحي التخفيف من حدة شهواتهم. فمن الأفضل الكفُّ عن التبشير، وترك المسلمين والكونفوشيوسيين واليهود وشأنهم، فأي أسس عقلية يقوم عليها هذا التبشير؟!

      ويلاحظ أن ريماروس هنا باعتباره مسيحيًّا لا يفرق بين الوحي وانتشار الدين في التاريخ، فكلاهما عملية واحدة لا فرق بين الوحي والتاريخ. فضلًا عن ذلك فإن الوحي — الذي يتصوره ريماروس وحيًا لا يعتريه الخطأ — يفسر بطرق عدة ويحد كل شارح عقائده فيه سواء كان رومانيًّا أو لوثريًّا أو كالفينيًّا أو أرمينيًّا. هذا الكتاب المقدس عرضة للنقد، ولا يثبت أمام قواعد المنهج التاريخي، ومن السخف الاعتقاد بأن موسى هو مؤلف الأسفار الخمسة، وقد كان الشك في نسبتها إلى موسى قد بدأ من قبل منذ القرن السابع عشر على يد ريتشارد سيمون، وجان أوستريك، وسبينوزا. أما كتابات الحواريين فهي كتابات ظهرت في مناسبات عدة ولم يكن في نية كاتبها جعلها حاملةً لعقائد الوحي، وقد ضاع كثير مما كتبوا، فما بين أيدينا من كتابات مقدسة لا يعبر عن الوحي كيفًا أم كمًّا. وكيف يسمح الله بضياع وحيه وفقدانه؟!

      وباختصار، لا يوجد وحيٌ خاصٌّ لأحد. ويتم الخلاص من خلال كتاب الطبيعة عن طريق الإيمان بالدين الطبعي الذي يؤمن به كلُّ الناس في كل العصور وفي كل الأمكنة «في كل مكان، وفي كل زمان، ولكل إنسان»٢٥ وهي نفس الحجة التي يستعملها القسيس السيفوياردي في «أميل» روسو.
    • (جـ) «عبور الإسرائيليين في البحر الأحمر»٢٦ ويبيِّن ريماروس الصعوبات المتضمنة في هذه القصة — سِفر الخروج، ١٢: ٣٧ وما بعدها — التي تتلخص في أن ستمائة ألف من المحاربين بالإضافة إلى عائلاتِهم وخَدَمِهم قد عبروا البحر الأحمر في ليلة واحدة! ويُعيد ريماروس الحساب بأنه لو كان هناك مثل هذا العدد الغفير من المحاربين لكان عدد أفراد الشعب كله حوالي ثلاثة ملايين؛ نظرًا لأن كل محارب يدافع عن أربعة مواطنين على الأقل. وكانت هناك أيضًا حيوانات، حوالي ثلاثمائة ألف من الثيران والأبقار وستمائة ألف من الأغنام والماعز … إلخ. فلو عبرَ الإسرائيليون على معبر عمقه عشرة أمتار يكون طوله مائة وثمانين ميلًا، ويستغرقون تسعة أيام على الأقل وهنا يبدو تعارض النص الذي يحتوي على هذه القصة مع العلم ومع العقل ومع الواقع، حسًّا ومشاهدة وتجربة، ومن ثَم بدأ الشك في نصوص الكتاب المقدس وفي صحتها وصحة نقلها ومؤلفيها.
    • (د) «في أن أسفار العهد القديم لم تدوَّن كي توحيَ بدين»٢٧ وتُثبت هذه الفقرات أن الأسفار في العهد القديم لم يتمَّ تدوينها لتبليغها بدين الوحي؛ وذلك لأنها لا تتضمن عقيدة الحياة الأخرى. فإن عقيدة خلود النفس تدخل ضمن حقائق الدين الطبيعي. فإن لم يتحدث العهد القديم عنها فإن ذلك يكون مدعاة للطعن فيه إذا ما ادَّعى أنه يهدف إلى إعطاء البشرية حقائق دينية؛ فحقائق الدين في العهد القديم غير كاملة ومنقوصة، وكيف يحدث ذلك في دين الوحي! وعلى هذا فدين العقل ودين الطبيعة أكمل.
    • (هـ) «في رواية البعث»٢٨ وتبيِّن هذه الفقرات التضارب بين كتاب الأناجيل في رواية البعث، وتنتهي إلى أنه طالما أنها مختلفة فيما بينها في الظروف والوقائع التفصيلية فإنها تكون كلها مخطئة في روايتها للواقعة، فتناقض الروايات يُثبت أنها تحتوي وجهات نظر كاتبيها، أكثر مما تحتوي على وصفٍ للوقائع ذاتها، ومن ثَم فليس أمامنا إلا مسيح الإيمان  Christ of Faith أما مسيح التاريخ Christ of history فلا يعلمه أحدٌ لأنه لم يُنقله إلينا في شهادة صادقة برواية صحيحة. وهي نفس التفرقة التي يعتمد عليها القرآن في إثبات تحريف الكتاب المقدس، وتغيير كلام المسيح، وتبديل العقائد.

    وينتهي لسنج بوضع ختام للناشر يضع فيه قضايا مضادة محاولًا الرد على ما تتضمنه هذه الفقرات الخمس قائلًا: «والآن كفى من هذه الفقرات، إن أيَّ قارئ من قرَّائي يفضل ألا أذكرها على الإطلاق. هل حياؤه أكثر من علمه؟ قد يكون مسيحيًّا مخلصًا ولكنه لا يكون مسيحيًّا مستنيرًا. قد يكون مؤمنًا بالدين بكل قلبه، متمسكًا به، ولكنه يجب أيضًا أن يكون على ثقة مطلقة به».

    ما أكثر ما يمكن أن نقوله في مواجهة مثل هذه الاعتراضات والصعوبات، وماذا يحدث لو لم نجد على الإطلاق أية إجابة عليها؟ قد يرتبك اللاهوتي العالم في النهاية ولكن لا يرتبك المسيحي أبدًا. قد تسبب للاهوتي الخلط والاضطراب عندما يجد أن الدعائم التي أقام عليها المسيحية وقد تم تقويضها. قد يجد الحصون وقد تهدمت والتي ظن — أعوذ بالله من ذلك — أنها في مأمن حصين: ولكن كيف تؤثر هذه الافتراضات والشروح والبراهين على المسيحية؟ إنه يظن أن المسيحية واقعة — المسيحية التي يشعر بها والتي يجد فيها سعادته. عندما يشعر المشلول بالصدمات الكهربائية وبفائدتها هل يهمُّه سواء كان نولت Nollot أو فرانكلين Franklin أو لا أحدَ منهما على حق؟٢٩
    وباختصار فإن الحرف ليس هو الروح، والكتاب المقدس ليس هو الدين، وبالتالي فالاعتراضات الموجهة للكتاب المقدس وللحرف ليست اعتراضات ضد الروح وضد الدين.٣٠

    وهنا يحاول لسنج أن يُقيم المسيحية على دعائم أخرى، ليست هذه الدعائم التي أثبت التاريخ والبحث العلمي والعقل أنها دعائم هشة يسهل تقويضها، بل دعائم لا يمكن تقويضها، ومن ثَم تتحقق وحدة المسيحي الداخلية بين العلم والتقوى. يحاول لسنج ذلك بالطريق الآتي فيقول: الآن الكتاب المقدس يحتوي على أكثر مما هو ضروري للدين، فالدين لا يتطلب أكثر من عمل الخير والفضيلة، وأنه لمجرد افتراض إذا ادعى أحد أن الكتاب معصوم من الخطأ في هذه الزيادة، فضلًا عن ذلك كان الدين موجودًا قبل الكتاب المقدس، وكانت المسيحية موجودة قبل أن يكتب كتاب الأناجيل والحواريون أناجيلهم ورسائلهم وأعمالهم ورؤياهم، وقد مرت فترة طويلة قبل أن يكتب أحد منهما شيئًا. ومرت فترة أطول قبل أن يكتمل الكتاب المقدس كله. إذ ظهرت أول كتابات العهد الجديد بعد حوالي أربعين عامًا من موت السيد المسيح عند أكثر النظريات محافظة، وبعد حوالي ستين عامًا من موت المسيح عند النظريات الأكثر تحررًا. كما يتفق جميع النقاد وعلماء الكتاب المقدس على أن الأناجيل قد ظهرت مكتملة في القرن الثاني بعد موت المسيح، وأنها قد تقنَّنت في القرن الرابع. ولهذا، فبالرغم من أن كثيرًا من الأشياء يمكن أن تعتمد على هذه الكتابات، فإنه من المستحيل اعتبار كل الحقيقة تعتمد عليها. فإذا كانت هناك فترة انتشر فيها الدين، وآمن به الكثيرون دون أن يوجد وقتها حرفٌ واحد مكتوب فمن المحتمل أن يضيع كلُّ شيء كتبه الحواريون وكتَّاب الأناجيل دون أن يضع الدين ذاته الذي علموه وبشَّروا به. فإذا ضاعت صياغات الإيمان، فإن الإيمان ذاته لا يضيع. وصياغات الإيمان لاحقة على الإيمان والإيمان سابق عليها، فالإيمان هو المصدر والأساس وصياغات العقائد وتدوين النصوص الدينية هي النتيجة والفرع. إن الدين ليس صحيحًا؛ لأن كتَّاب الأناجيل والحواريين قد علموه ولكنهم علموه لأنه صحيحًا. يجب إذن تفسير التراث المكتوب بالحقيقة الداخلية، فلا يمكن لأي تراث مكتوب أن يعطيَ الدين أية حقيقة داخلية إن كان له مثل هذه الحقيقة الأخيرة على الإطلاق.

    هذه هي إجابة لسنج على هذه الفقرات على أسوأ الفروض — كما يقول هو — وتظهر أفكار ماثيوتندال Matthiew Tindal في كتابه المشهور «المسيحية القديمة قِدَم الخلق» الذي ظهر سنة ١٧٣٠م عندما يقول لا يؤمن المسيحيون المؤلهة بالعقائد لأنها موجودة في الكتب المقدسة، بل يؤمنون بالكتب لأنها تحتوي على هذه العقائد. فصحة الكتاب تأتي من احتوائه على العقيدة، ولا تأتي صحة العقيدة من وجودها في الكتاب. والحقيقة أن هذا حقٌّ يراد به باطل. فهو حقٌّ لأن العقائد لها يقينها الداخلي بصرف النظر عن يقينها الخارجي في الكتاب المقدس أو في التاريخ نظرًا للشك في صحة روايات الكتاب المقدس وتعارضها مع العقل والواقع والفضيلة. ولكن أمثال هذه العقائد هي العقائد العقلية الخالصة مثل التوحيد، والعدل، أي الله الواحد والعمل الصالح، وهو ما كان المؤلهة الإنجليز يقصدونه ولسنج معهم. ولكن هذا القول الحق يراد به باطل لأنه يجعل صحة الكتاب المقدس في احتوائه على العقائد من نوع مخالف. وهو ما حدث في تاريخ الكتاب المقدس في الجماعة المسيحية الأولى، وكيف أنها اعتبرت صحيحة كل الأناجيل التي تتحدث عن ألوهية المسيح، واعتبرت زائفة كل الأناجيل التي تتحدث عن إنسانيته مثل إنجيل الطفولة وإنجيل توماس، وإنجيل العبرانيين، وإنجيل المصريين، وإنجيل بطرس، وإنجيل برنابه. فألوهية المسيح ليست عقيدة من عقائد الدين العقلي أو الدين الطبيعي.

    وهذا القول في النهاية هو الذي تعتمد عليه الكاثوليكية الرومانية في مهاجمة النقد البروتستانتي الحر، ومحاولتها طمْس معالم النقد التاريخي للكتب المقدسة، الذي أثبت تحريف الكتاب المقدس؛ إذ تقول: مهما كان الكتاب المقدس مشكوكًا في صحته تاريخيًّا فإن العقائد لها يقينها الذي لا يعتمد على التاريخ، فهي سابقة على التاريخ ولاحقة عليه، فبدل أن تُطبَّق نظريتَا المصدر الإلهي والعصمة على الكتاب المقدس، تُطبَّقان الآن على العقائد. ويكون لسنج في النهاية قد أعاد بناء العقائد الأرثوذكسية على أساس أفضل ويكون قد استعمل آراء المؤلهة الإنجليز من أمثال ماثيو تندال وجون تولاند لصالح الأرثوذكسية.

    لقد كان همُّ لسنج هو أنه بعد هذا الانفجار الحتمي الذي يتبع نشْر هذه الفقرات لريماروس يجب أن تظلَّ عامةُ الناس غير المتبحرة في الدين خارجَ الصراع فيعطيها لسنج هذا البديل وهو اليقين الداخلي واستقلال العقائد عن التاريخ، كتابًا مقدسًا ووقائعَ مادية. إن المعركة سهلة لو كان التعامل فيها مع رجال الدين فقط، لأنه يمكن إقناع اللاهوتيين المحافظين والمتحررين في بداية المعركة حتى لا يتحدوا ويوجهوا ضربة قاضية ضد الدين وأسسِه القديمة كما فعل ريماروس. ومن ثَم تأتي صعوبة المعركة من الرغبة في الحرص على البحث العلمي والنقد التاريخي للكتب المقدسة وفي نفس الوقت المحافظة على إيمان العامة والإبقاء على جوهر الدين.

    وبعد هذا الرد العام يردُّ لسنج على كل حجة بالتفصيل، فبالنسبة للحجة الأولى الخاصة ﺑ «تقويض العقل والطعن فيه داخل الكنيسة» يردُّ لسنج عليها بتأكيده على أن الوعاظ الليبراليين المعاصرين له يؤكدون باستمرار على الرباط بين العقل والإيمان. ويقولون إن الإيمان هو الفعل بعد أن يتمَّ تقويته بالآيات والمعجزات، والعقل هو الإيمان بعد أن يتم تعقيله. إن دين الوحي كله هو ببساطة تأكيد جديد لدين العقل، أما موضوع الأسرار — إذا كانت موجودة أو غير موجودة — فهو موضوع لا أهمية له إذا ما أدرك المسيحيون هذا الرباط الوثيق بين الإيمان والعقل، كما لا يهمُّ على الإطلاق سواء ربط المسيحيون بعض مفاهيم بهذا الموضوع أم لا.

    يحاول لسنج إذن أن يُثبت بهذا الرد على وجود «عقل الإيمان» L’Inteiligence de la foi المعروف في العصر الوسيط خاصة عند توما الأكويني، لمحو التناقض بين العقل والإيمان والدفاع عن اتهام ريماروس للكنيسة بأنها تقوض العقل وتهدمه من أساسه على أيدي الوعاظ.
    ولكن في نفس الوقت يعيب لسنج على هؤلاء الوعاظ أنهم السبب في ضياع الإيمان عند العلمانيين وبُعْدهم عن طريق الدين، ونفورهم من الكنيسة قولًا وعملًا. ولذلك يجب المحافظة عليهم وإرجاعهم إلى طريق الدين؛ وذلك بإقناعهم أن «الحقيقة توجد دائمًا بين طرفين» وهو موقف لسنج المتوسط بين الأرثوذكسية والتنوير. فالعقل وحده يمكن أن يقرر إمكانيةَ دعاوى الوحي وعدم استحالتها. فإذا ما قرر العقل هذه الإمكانية يصبح حجةً أخرى على صحة الوحي أكثر من كونه حجةً ضدها. فإذا وجد العقل أشياء تتجاوز حدود تصوره ثم وجد هذه الأشياء في الوحي كان ذلك دليلًا على ضرورة الوحي، أما إذا وجد العقل كل شيء فيه، فما ضرورة الوحي إذن؟ ويكون مَن له دين كمثل مَن لا دين له على الإطلاق. ولكن ما مبرر هذا الوحي الذي لا يوحي بشيء؟ وماذا يفيد مجرد الاحتفاظ بالاسم مع تفريغه من محتواه؟ وهنا يبدو لسنج مدافعًا عن الوحي كما دافع عن العقل من قبل، مبررًا وجوده لفظًا ومعنًى وصورة ومضمونًا، ويكون بذلك قد أرسى قواعد الأرثوذكسية بطريقة جديدة امتصت اعتراضات ريماروس وفلاسفة التنوير الجذريين. بل إن لسنج يقلب الآية ويجعل دين الوحي لا يفترض على الأقل دين العقل، بمعنى أن دين الوحي بدون دين العقل لا يكون معقولًا؛ وذلك لأن دين الوحي يتضمن دين العقل في داخله، بمعنى أنه يحتوي على كل الحقائق التي يعلمها دين العقل، ولكنه يؤيدها بنوع مختلف من الحجج (مثل الآيات والمعجزات). وهكذا يظل لسنج متأرجحًا بين الموقفين، الأرثوذكسية والتنوير. يكمل أحدهما بالآخر دون أن يحدث الفرقة بين دين الوحي ودين العقل.٣١
    وبالنسبة للرد على الحجة الثانية الخاصة «باستحالة وحيٍ يؤمن به كلُّ الناس على أسس عقلية» يستعمل لسنج قضية بسيطة وهي: «أن الوحي ضروري للخلاص» حتى بالنسبة لهؤلاء الناس الذين لم يحصلوا على أيِّ معرفة به على الإطلاق، إن أي درجة من المعرفة العقلية به ليست جزءًا من تعاليم المسيح ولا يمكن أن تكون من تعاليم الكنيسة. وبالتالي أخطأ ريماروس في التمييز بين أقوال المسيح وأقوال المسيحية الرديئة ويضع كليهما على نفس المستوى. ويبدو أن لسنج هنا في ردِّه على ريماروس لا يزيد على مصادرة الأرثوذكسية شيئًا وهي «أن الوحي ضروري للخلاص»، كما يخرج لسنج كل تأويلات الوحي من الوحي ويضيع ذلك على حساب التراث والتاريخ والكنيسة. ولكن هذا الوحي الخالص افتراض محض في التاريخ المسيحي؛ فالوحي لم يظهر إلا في تفسير معين منذ بدايته على يدي كتَّاب الأناجيل في كتابات الحواريين وفي قرارات الكنيسة وتعاليمها، فالكتاب نفسه قد خرج من التراث ولم يخرج التراث من الكتاب. ولكن ظل هذا الافتراض أملًا يراود فلاسفة التنوير ويحاولون تحقيقه عن طريق البحث عن أسس أخرى لهذا الوحي الخالص غير أسس التاريخ وهما على الأقل أساسان، العقل والطبيعة.٣٢
    وبالنسبة للحجة الثالثة الخاصة «بعبور الإسرائيليين في البحر الأحمر» فإن لسنج لا يعترض عليها اعتراضات خاصة؛ لأنها تقوم على العقل وعلى العلم، وتشير إلى استحالة فعلية أن يتم العبور على هذا النحو الموصوف في رواية الكتاب. وكأن لسنج يسلم مع ريماروس بأن روايات الكتاب أقرب إلى روايات المؤرخين التي يعتريها الصواب والخطأ في النقل أكثر منها روايات تحتوي على وحي، وهو ما أعلن عنه لسنج صراحة في دراسته عن الأناجيل «فرض جديد خاص بكتَّاب الأناجيل باعتبارهم مؤرخين بشر فحسب» سنة ١٧٧٨م.٣٣
    وبالنسبة للحجة الرابعة الخاصة «بأن أسفار العهد القديم لم تُدوَّن كي توحي بدين» يرد لسنج عليها بكتيب آخر بأكمله وهو «تربية الجنس البشري» معتمدًا على فكرة تطور البشرية وتقدم الوعي الإنساني. فالعهد القديم يمثل طورًا أوليًّا في تطور الجنس البشري، وكان الوحي آنذاك أقرب إلى طبيعة الجنس البشري في تلك المرحلة الأولى في تطور الطبيعة المادية الحسية التي لا تقدر على إدراك المجردات والموضوعات الخالصة. فالوحي في العهد القديم وحيٌ على مستوى الطفولة ومن أجل تربية الإنسانية وهي في طور الطفولة عن طريق الحساب والعقاب.٣٤
    وبالنسبة للحجة الخامسة والأخيرة «رواية البعث» وما فيها من تناقضات بين كتَّاب الأناجيل يلاحظ لسنج أن كتَّاب الأناجيل لم يكونوا نفس الأشخاص الذين شاهدوا البعث؛ لذلك يجب التفرقة بين التناقضات بين الشهود والتناقضات بين كتَّاب الأناجيل. ومن الطبيعي أن تكون هناك تناقضات بين الشهود؛ إذ تدل التجربة على أن شهود العيان لأية حادثة يختلفون فيما بينهم في روايتهم إذا ما رأوها في أزمنة عدة وعلى فترات متباعدة. وبهذا المعنى لا يمكن البحث عن واقعة البعث كحادثة تاريخية ولكن يمكن معرفة شهادات البعث كتجارب إنسانية وبالتالي يتحول البعث إلى رؤية إنسانية دون أن يكون واقعة تاريخية وهو الإنجاز الضخم للفلسفة الحديثة وللمثالية الغربية، عندما ميزت بين «مسيح التاريخ» الذي لا ندري عنه شيئًا و«مسيح الإيمان» الذي تختلف النظريات حوله، وكلها صحيحة لأنها كلها تعبِّر عن تجارب بشرية. وعلى هذا النحو يوفق لسنج بين الأرثوذكسية القائلة بصحة «روايات البعث» وبين التنوير الذي يثبت تناقضها.٣٥
    ولم تكن هذه الحجة شائعة كما أصبحت في القرن الثامن عشر لأنها تفترض ترك الفكرة التقليدية القائلة بأن كتَّاب الأناجيل كانوا معصومين من الخطأ بفعل الإلهام الخارق للعادة. وهنا يبدو دفاع لسنج الموجَّه إلى ريماروس أقوى دفاع قدَّمَته الأرثوذكسية حتى الآن؛ سواء كان بروتستانتيًّا أم رومانيًّا؛ وذلك لأن لسنج لم يكن باستطاعته التصديق بالتصور التقليدي للوحي المعصوم من الخطأ Infallable وكان باستطاعته قراءة الكتاب المقدس كقراءة أيِّ كتاب آخر.
    وفي منشور القرن السابع عشر الذي دافع عنه من قبل «دفاع المتدين العاثر» يقول لسنج «اقرأ الكتاب المقدس كما تقرأ ليفي» Lèvy،٣٦ وقد كانت هذه الدعوة موجودة أيضًا عند المؤلهة الإنجليز مثل جون تولاند John Toland؛ إذ يقول في كتابه «المسيحية ليست سرًّا»٣٧ لا توجد أيُّ قاعدة تتبع في تفسير الكتاب المقدس عما هو شائع في الكتب الأخرى وقد استطاع لسنج تطبيق هذه القاعدة، وأثار مسألة مصادر الأناجيل دون تحرُّز أو ضيق أو حرج. لذلك اعتبر لسنج كتابه (فرض جديد خاص بكتاب الأناجيل باعتبارهم مؤرخين بشر فحسب) الذي كتبه سنة (١٧٧٧-١٧٧٨م) أفضل أعماله في ميدان البحث اللاهوتي وباعتباره أفضل هجوم على الأرثوذكسية كتبه حتى الآن، وقد أصبح الجدل حول فقرات ريماروس شديدًا للغاية لدرجة أن لسنج اضطر إلى إخفاء القصد من نشره. فقد نشر أول مرة سنة ١٧٨٤م، وكان الناشر أخوه كارل. ولا شك أن لسنج كان على حقٍّ في اعتبار هذا الكتاب أفضل مساهمة في تقدُّم المعرفة فقد تناول الأناجيل الأولى في مجموعة مستقلة عن الإنجيل الرابع؛ لأن الإنجيل الرابع يحتوي على تصور مختلف تمامًا عن شخص المسيح كما هو معروض في الأناجيل الثلاثة الأولى. كان هدف الإنجيل الرابع أن يعطيَ أساسًا لاهوتيًّا للكنيسة الوثنية المسيحية في مرحلة من تطورها عندما انفصلت عن المصدر الفلسطيني الذي منه نشأت الأناجيل المتقابلة (متى – مرقص – يوحنا) ومن ناحية أخرى فإن هذه الأناجيل الثلاثة لا تحتوي على عقيدة في شخص المسيح أكثر مما أوحي به المسيح ذاته: إنسان قادر على إجراء المعجزات، المخلص، الموعود الحقيقي، وكانت أقرب إلى البيئة اليهودية وأكثر اتصالًا باليهود. ومن ثَم يمكن تفسير هذه الظاهرة الأدبية كالآتي: اعتمدَت كلُّ الأناجيل على إنجيل أصلي عبراني احتوى على ذكريات مباشرة للحواريين تم الاحتفاظُ بها بين المسيحيين اليهود وتابعيهم من الإبيونيين Ebionites المتأخرين٣٨ وهذه الوثيقة التي احتفظت بها الجماعة الإبيونية أطلق عليها آباءُ الكنيسة اسمَ «إنجيل العبرانيين» أو «إنجيل الناصريين»، وبالرغم من أن فرض لسنج الأدبي ينقصه الأساس التاريخي والنقدي المتين، إلا أن عمله كان أول عمل في سلسلة طويلة من الدراسات على الأناجيل، بدأت من وجهة النظر اللاهوتية التي تصنع الإنجيل الرابع في مقولة مستقلة عن الأناجيل الثلاثة الأولى. ومن ثَم أصبح البحث النقدي في المصادر المقدمة الضرورية لأية مناقشة جادة للمسائل التي أثارها ريماروس خاصة بالمسيح التاريخي.٣٩
    فإذا كان لسنج قد أُصيب بخيبة أمل من ردود الفعل القليلة التي حدثت بعد نشره «في تسامح المؤلهة» سنة ١٧٧٤م فإنه قد نال ما أراد وذلك بفضل ردود الفعل التي نشأت من نشره هذه المجموعات الخمس من فقرات ريماروس سنة ١٧٧٧م، فقد كانت هناك تعبئة عامة للأرثوذكسية للرد على ريماروس وعلى ناشره لسنج، لو كانت نيته من النشر ترويج أفكار ريماروس وليس الرد عليها. وتتمثل ردود الأرثوذكسية في الآتي:
    • (أ) «في وضوح البراهين على حقيقة الدين المسيحي»٤٠ وهو ردٌّ مهذب وجاد، كتبه ج. د. شومان G. D. Schumann من هانوفر، كرر فيه من جديد الحجة التاريخية التقليدية عن المعجزات والنبوة، وهو بذلك يرد على كتاب لسنج الشهير «عن برهان الروح والقوة» الذي يُنكر فيه إقامة المسيحية على المعجزات، وعلى ملحقه «وصية يوحنا».
    • (ب) «دفاع عن قصة بعث يسوع المسيح»٤١ كتبه ج و. ﻫ. رس G. H. Ress الملاحظ العام اللوثري في فولفنبتل، وحاول فيه بيان اتفاق روايات الأناجيل كما تفعل الأرثوذكسية مما دفع لسنج إلى كتابة «ردٍّ ثانٍ»٤٢ بأسلوب ساخر وبروح يائسة من إقناع الأرثوذكسية بنتائج النقد التاريخي.
    • (جـ) ولكن الدفاع الرئيسي عن وجهة النظر التقليدية في الكتب المقدسة قام به جوتز Johann Melchior Goeze (١٧١٧–١٧٨٦م) راعي الكنيسة اللوثرية للقديسة كاترين في همبورج. كان لسنج أثناء إقامته في همبورج في علاقة طيبة معه، ولكن ساءت هذه العلاقة بسبب عدم ردِّ لسنج على أسئلة جوتز التي تتعلق بالكتب المقدسة القديمة الموجودة في مكتبة فولفنبتل. لم يوجه جوتز هجومه إلى ريماروس بل وجَّهه إلى لسنج نفسه. ومعظم الدراسات التي تتناول علاقة لسنج بجوتز، تتناول هذه العلاقة من وجهة نظر لسنج وتجعله بطلًا، وتُظهر جوتز في صورة الرجعي الغبي الجاهل الذي لا استنارة فيه. صحيح أن جوتز لا ينافس لسنج ولا يرتقي إلى مستوى علمه في فن النقد التاريخي؛ لأنه لا يرتقي إلى مستوى لسنج إلا القديس جيروم Saint Jerôme نفسه. ولكننا إذا لم نقرأ جوتز من خلال لسنج لوجدناه راعيًا لشعبه، محافظًا عليه، مخلصًا ومتحمسًا له، لديه بعض العلم يحاول به حماية شعبه من الشكوك والتساؤلات المقلقة، وهو لم يستعدَّ للتعامل معها بعد. ويبرر جوتز موقفه هذا في إيمانه الراسخ بأن فقرات ريماروس تقلب إيمان البسطاء، وتُثير الشكوك في نفوسهم. فقد أذاع لسنج على الملأ موضوعًا لا يجب أن يخرج عن دائرة الباحثين المتخصصين، وجعله موضوع نقاش عام في الشوارع ولدى العامة. كان يمكنه أن ينشر ريماروس في ترجمة لاتينية في حياء وسرية دون الإعلان والدعاية لها. لذلك اتهمه لسنج بأنه من أنصار الثقافة اللاتينية. وعلى أية حال يمثل جوتز التقليدي المحافظ الرجعي المعتم الموجود في كل عصر كما يمثل ريماروس المجدد المتحرر التقدمي المستنير الموجود أيضًا في كل عصر، كما يمثل لسنج هذا التوتر بين الموقفين محاولًا نقْدَ أحدهما بالآخر.٤٣
    كتب لسنج ردوده على جوتز، وهو في غمرة من الحسرة والألم — فقد تزوج إيفا Eva في أكتوبر سنة ١٧٧٦م، وأنجب منها طفلًا في ٢٤ ديسمبر سنة ١٧٧٧م، تُوفي بعد عدة ساعات، ثم ماتت هي في ١٠ يناير سنة ١٧٧٧م — وكانت هذه الردود كالآتي:
    • (أ) «مثل» A Parabole وهو أولُ ردٍّ له في صيغة مثل، كعادة المسيح في ضرب الأمثال. وخلاصة هذا «المثل» أنه كان هناك ملكٌ حكيم له قصر واسع وعظيم وكان بناؤه غريبًا مخالفًا لكل أساليب البناء المعروفة — يرى ليبنتز أيضًا أن الله مهندس لقصر جميل — ومع ذلك بقيَ القصر وكان مريحًا. فإذا نظر إليه أحدٌ من الخارج وجده غير معقول، ولكن إذا نظر إليه من الداخل وجده مملوءًا بالنور، ووجد بناءَه منسَّقًا، وقد ادَّعى مهندسون عديدون أن لديهم الخطة الأصلية للقصر، مكتوب عليها بعض الكلمات المبهمة بلغة مفقودة. فأخذ كلُّ مهندس على عاتقه أن يُدخل بعض التحسينات طبقًا لفهمه الخاص لهذه الكلمات، ولكن قال البعض وهم القلة: ما جدوى خططكم بالنسبة لنا؟ سواء كانت هذه الخطة أو تلك، فكلُّها بالنسبة لنا سواء! يكفي أن نعلم في كل وقت أن الحكمة الرائعة تملأ هذا القصر، وأن من هذا المكان لا يخرج إلا الجمال الذي ينتشر في كل أرجاء البلاد، ولكن في ليلة ما كان كل المهندسين المتنافسين نائمين وصاح الحارس: النار! النار في القصر! حينئذٍ لم يفكر كلُّ واحد منهم في إنقاذ القصر بل فكر في إنقاذ خطته الخاصة، وفي هذا الاضطراب سقطوا جميعًا متخبطين في بعضهم البعض وكان يمكن أن يحترق القصر لو كانت هناك نار حقيقية، ولكن الحارس قد أخطأ فقط خلط بين النور الشمالي واندلاع الحريق!
      ولا يحتاج هذا المثل إلى شرح، يقصد لسنج أن لا أحدَ من اللاهوتيِّين يهتم بالبقاء على المسيحية ولكن يهتمُّ كلٌّ منهم بعقيدته الخاصة يدافع عنها، فهي معركة بين اللاهوتيين وليست معركة في المسيحية، وبعد هذا المثل طالب لسنج جوتز بأن يراجع حكمه بأن لسنج قد قصد بنشره هذه الفقرات إلى الهجوم على المسيحية، كما أراد بها أن يتحدَّى الأرثوذكسية وأن يقضيَ على مؤامرة الصمت حول المسائل النقدية، وأن يعطيَ لنفسه حقَّ الاعتراض على التراث المتهاوي كما كان يفعل لوثر. وهذا ما فعله لسنج بالفعل، وما صرح به فيما بعد بقوله «إن اللوثري الحقيقي لا يرغب في الدفاع عنه بكتابات لوثر بل بروح لوثر، وتتطلب روح لوثر عدم منع أيِّ إنسان من التقدم في المعرفة الحقيقية طبقًا لحكمه الخاص.» وبهذه الدعوى، أدخل لسنج في البروتستانتية الألمانية وفي كثير من كتب التاريخ الرأي القائل بأن المبدأ الأساسي في الإصلاح هو حقُّ كلِّ إنسان في أن يمارس حقَّه الخاص في الحكم بلا حدود. ولم يكن هذا الرأي من اختراعه طالما سبقه إليه المؤلهة الإنجليز وزملر Semler، وهي دعوى كان لها أثرٌ عظيم في العقل الأوروبي لدرجة اعتبار كلِّ اللاهوت العقائدي غير الروماني مجموعة من وجهات النظر الخاصة المهمة أو الأحكام المسبقة يؤمن بها الأفراد نتيجة لحكمهم الخاص أكثر من إيمانهم بها، لأنها موحًى بها من سلطة خارج الطبيعة.٤٤
    • (ب) «المبادئ الأولى إذا كان هناك أيٌّ منها في مثل هذه الأمور»،٤٥ وفي هذا الكتاب اخترع لسنج كلمة جديدة يهاجم بها جوتز والأرثوذكسية وهي «وثنية الكتاب المقدس» Bibliolatry التي تجعل الكتاب مقدسًا بصرف النظر عن النقد التاريخي، ونظرًا لوضع جوتز كراعي الكنيسة، رأى في القضايا المضادة التي صدرها لسنج لطبعته لفقرات ريماروس خطرًا أعظم وأفدح على شعبه المؤمن من اثنتي عشرة فقرة لريماروس، وأن تأكيدات لسنج للعلمانيين قد تخدع الخاصة منهم قبل العامة، فاستقى جوتز من كتاب «المبادئ الأولى» التي دافع عنها لسنج عن قضاياه المضادة لريماروس بعض المبادئ وبيَّن خطورتها على الإيمان، وأن لسنج الذي يبدو مناقضًا لريماروس رادًّا عليه أخطر في ردِّه من قضايا ريماروس ذاته، ومن ثَم تحوَّل الجدل بين لسنج وجوتز إلى حرب سباق، كلٌّ منها يسارع في نشر ردٍّ على الآخر، وكان أهمها:٤٦
    • (جـ) «الرد على جوتز» Anti–Goeze ويحتوي على أحد عشر ردًّا تسببت في سخونة الحرب بينها دون أن توضح المسائل المختلف عليها، ولم تتعد كونها لغة لاهوتية شعبية تهدف إلى تجنيد العامة وراء كلٍّ منهما، ثم دفعت «المبادئ الأولى» جوتز إلى مطالبة لسنج بتوضيح موقفه من الدين المسيحي وفهمه له عندما قال: توجد المسيحية إذا ما فقد الكتاب المقدس وإذا لم يكتب على الإطلاق! فردَّ عليه لسنج بكتيب آخر هو:
    • (د) «جواب ضروري على سؤال غير ضروري جدًّا للسيد الراعي جوتز في همبورج»٤٧ وقد توقَّع جوتز أن يُعلن لسنج عن نفسه، وظن أنه مؤلهًا يؤمن بدين طبيعي وأنه تلميذ لتولاند Toland وتندال Tindal، ولكن لسنج كان ماهرًا في الرد ولم يشأ أن يكشف عن عقائده وأجاب «أعني بالدين المسيحي كلَّ العقائد الموجودة في قواعد الإيمان Credo في القرون الأربعة الأولى للكتب المسيحية» ثم يضيف بسخرية: «إن ذلك يشمل أيضًا ما يسمى قواعد إيمان الحواريين Apostles Creed وما يسمى بقواعد إيمان أثناسيوس Athanasian Creed — وقد كانت هذه الحجة معروفة في ذلك الوقت وهي أن هذه القواعد الثلاثة للإيمان، قواعد الحواريين وقواعد نيقيا، وقواعد أثناسيوس لم يكتبها هؤلاء الذين سميت باسمهم: أي الحواريون، ومجمع نيقيا، وأثناسيوس — تحاشى لسنج إعطاء ردٍّ حاسم واكتفى بإعطاء ردٍّ تاريخي صرف.»
    وأخيرًا أدرج جوتز كما أدرك شومان من قبل أن العدو اللدود للأرثوذكسية هو لسنج نفسه وأنه في غاية الذكاء والمهارة وأنه «دحلاب» يستطيع أن يقول ما يريد دون أن يُمسك عليه أحد شيئًا. وهذا صحيح فإن الطريقة التي حاور بها لسنج تهدف إلى عدم الكشف عن آرائه الحقيقية وعلى هذا المعنى يكتب لسنج في ١٦ مارس سنة ١٧٧٨م لأخيه خطابًا يقول فيه: «يجب توجيه أسلحتي لخصومي، فإن كل ما أكتبه ليس مجرد تمرينات، بل إني أكتب أيضًا عما أعتقده.» وفي خطاب آخر إلى اليزريماروس في ٩ أغسطس سنة ١٧٧٨م بعد نشر «الجواب الضروري» بفترة وجيزة يكشف لسنج عن مناهجه وأساليبه فيقول: «إني مسرور أنك قد فهمت أساليبي في كتيبي الأخير … طالما أنه وقع في الخطأ التكتيكي في الإعلان عن رغبة في معرفة ليس ما أومن به في الدين المسيحي، بل ما أفهم به الدين المسيحي، فإني قد سجلت نصرًا عليه، ويجب أن يدافع عني نصفُ المسيحيين في تحصيني ضد النصف الآخر، وهكذا قسم بولس السنهدرين Sanhédrin وإني أحتاج فقط إلى أن أحاول منع البابويين من أن يصبحوا لوثريين، وأن أمنع اللوثريين من أن يصبحوا بابويين.»
  • ثالثًا: وقد صب لسنج الوقود على النار بنشره أطول فقرات لريماروس وأخطرها بعنوان «في مقاصد المسيح وتلاميذه».٤٨
    يميز فيها ريماروس بين عقائد المسيح ومقاصده وبين عقائد الكنيسة ومقاصدها، لم يكن قصْد المسيح أبدًا أن يعلم لاهوتًا عقائديًّا معقدًا مثل التثليث، النبوة الإلهية، القداسات وغيرها. ويدل متى (٥: ٢٧ وما بعدها، وأيضًا ٢٣: ٣ وما بعدها) أنه لم يقصد أبدًا أن يمنع تلاميذه من تطبيق القانون الشعائري.٤٩ وكان المسيح يشير إلى مصادره في أقل الحدود، وكانت أفكاره ولغته عن ملكوت السماوات والأرض هي لغة وأفكار الرؤى اليهودية. فقد قبل المسيح انتظار اليهود الحار للمخلص المسياني Messianie من السيطرة الأجنبية، وتطلَّع إلى أن يساعده الله على تحقيق هذه الغاية ولكن ذلك كان حلمًا فقط، وكانت صيحته المدهشة على الصليب تعبِّر عن خيبة أمله. قد تكون هناك فقرات في الإنجيل لا تؤيد هذا التفسير للقصة، ولكن هذه الفقرات ترجع إلى تأكيدات كنيسة الحواريين التي كان لها قصدٌ مخالف تمامًا عن قصد المسيح؛ فقد صاغت المسيحية العقيدة القائلة بأن موت المسيح قد كفَّر عن خطايا البشر، وأنه دخل في العظمة ببعثه، وأنه سيعود ليحاكم الناس، ويُدين كلَّ الذين لم يؤمنوا به، وقد أصبحت هذه العقيدة أساس التفرقة بين الكنيسة وبين اليهودية، ولم يكن يقصدها المسيح، وفي الوقت الذي تكونت فيه هذه العقيدة كان على الكنيسة أن تراجع الأناجيل وأن تزيد عليها ما يتفق وهذه العقيدة.

    كان ريماروس على يقين من أنه اكتشف مسيح التاريخ الذي طمست معالمه الكنيسة الأولى، وهو أنه كان فلاحًا متعصبًا يهوديًّا، ذا ذكاء محدود، ولم تكن لديه فكرة عن كنيسة واسعة الانتشار تؤمن بموته الذي يكفر عن الخطايا وببعثه العظيم. وبهذه الفكرة — التي حصل عليها ريماروس قبليًّا — كان باستطاعته أن يحصل على مقياس للتفرقة بين المسيحية الحقة التي خرجت من المسيح التاريخي — وهي التي عبر عنها القرآن — وبين عقائد الكنيسة حوله.

    ولكن في ١٣ يوليو ١٧٧٨م — بينما «الجواب الضروري» ماثل للطبع — أخبر دوق برنشفيج بأن كتاباته في المستقبل عن الدين لا بد وأن تخضع للرقابة، وقد تألَّم لسنج من هذا القرار الذي أوقف كتاباته الحامية ضد جوتز المسكين. ومع ذلك فقد اضطر لسنج في نهاية الأمر إلى تغيير أسلوبه وتحويل لاهوته والتعبير عنه في صورة مسرحية تعكر صفو اللاهوتيين أكثر مما تعكره فقرات عشر، وبالتالي عاد لسنج إلى مكانه السابق وهو المسرح.

    والآن، ما هو موقف لسنج بالضبط بين الأرثوذكسية والتنوير؟ هل هو المدافع عن الأرثوذكسية ضد التنوير، أم هو المدافع عن التنوير ضد الأرثوذكسية؟ أم أنه صاحب موقف وسط بينهما يضرب أحدهما بالآخر بذكاء ومهارة نظرًا للحظة التاريخية التي يمر بها المجتمع الألماني؟

    يبدو لسنج المدافع عن الأرثوذكسية في خطابَين لأخيه كارل سنة ١٧٧٧م؛ ففي ٢٠ مارس كتب لسنج لأخيه مدافعًا عن تغيير اهتمامه من المسرح إلى اللاهوت، وهو ما رآه كارل شيئًا مؤسفًا حقًّا ولا يدل على أيِّ ذوق رفيع، ومدافعًا عن قضاياه المضادة لريماروس، والتي ظن كارل أنها ستؤدي لا محالة إلى عقلانية مختلطة، تشوبها كثير من الأمور غير العقلية «إني أفضِّل فقط اللاهوت الأرثوذكسي القديم — ووضع في الهامش: المتسامح — على الجديد — وفي الهامش غير المتسامح — لأن الأول في تعارض صريح مع العقل، في حين أن الثاني قد يقنع الإنسان. لقد عقدت اتفاقًا مع أعدائي القدماء حتى أكون قادرًا على أن أكون أكثر حذرًا من أعدائي المتخفيين.» وفي ٢٥ مايو كتب لسنج من جديد لأخيه كارل «أنه إذا استمر العالم مع اللاحقائق فإن القديم الذي يمارسه الناس له نفس الجودة التي للجديد».

    وفي نفس الوقت كان لسنج على وعيٍ تامٍّ أنه بتقديم حججه في صورة دراسات أكاديمية فإنه يعطيها طابع النزاهة العلمية التي قد تحميه من الهجوم عليه. كما كان على علم بأن هناك فرقًا بين قول الحقيقة كلها وبين عدم قول شيء إلا الحقيقة. وتحتوي مقدمته لكتابه عن «برانجيه التوري» على تعليق مميز ردًّا على اقتراح من المؤرخ العالم موشيم Mosheim بأن لاهوت المناولة لبرانجيه لا يمكن معرفته الآن نظرًا لأن برانجيه قد عبَّر عن نفسه على نحو غامض حتى يتخلص من الإدانة. يقول لسنج مناقضًا هذا الموقف «إني لا أعلم إذا كان من الواجب التضحية بالحياة من أجل الحقيقة، ولكن على الأقل فإن الشجاعة والحزم المطلوبَين لهذا ليست مواهب ندَّعيها لأنفسنا.» يلتزم الكاتب فقط عندما يقول الحقيقة أن يقولها كلية وصراحة، وألا يقدِّم خليطًا مشوهًا من الحق والباطل مما يجعل التمييز بينهما أصعب من معرفة الباطل وحده. يفضِّل لسنج هنا عدمَ الجهر بالموقفِ كلِّه والتضحية بالحياة، وألَّا يقول إلا الحق دون أن يقول الحق كله.

هذه الأمثلة وغيرها توحي بأن لسنج فيما يبدو قد نصب نفسه مدافعًا عن الأرثوذكسية ضد السوسنيين وفلاسفة التنوير المحدثين. ولكن الأمر يحتاج إلى دفعة أكثر؛ وذلك أن تأييده للأرثوذكسية ليس هو موقفه الدفين. بل إن أصدقاء لسنج أنفسهم قد خُدعوا بمواقفِه لدرجة أن فلاسفة التنوير في برلين قد اعتبروه نصيرًا للأرثوذكسية، وحذَّروه من هذا الموقف بقد ما سرت الأرثوذكسية منه. ويكشف هذا الخطاب الذي أرسله لسنح في ٢٠ فبراير ١٧٧٤م إلى أخيه كارل الذي لم يستطع أولًا أن يفهم كيف شرع أخوه المستنير في دراساته اللاهوتية بدلًا من المسرح، يكشف عن أسلوب لسنج وموقفه الذي يُبطن غير ما يُظهر فيقول: «وكان هناك بفضل الأرثوذكسية والحمد لله فهمٌ واضح متسامح ثم أسدل ستارًا بينه وبين الفلسفة — مثلًا بواسطة ليبنتز — ويستطيع كلٌّ منهما — الأرثوذكسية والفلسفة — أن يسير في طريقه الخاص دون أن تتدخل في الأخرى. ولكن ما الذي يحدث الآن؟ لقد تمزق الستار وبحجة جعل المسيحيين أكثر عقلًا، واتجهنا إلى فلاسفة لا عقليين بالمرة. إني أرجوك يا أخي العزيز ألا تنظر إلى ما يرفضه اللاهوتيون المحدثون أقل مما تنظر إلى ما يريدون وضعه مكانه. فإنا نؤمن معًا بأن مذهبنا الديني القديم مذهب باطل، ولكني لا أستطيع أن أوافقك على أنه خليط من أنصاف كتبة وأنصاف فلاسفة. إني لا أعلم شيئًا في العالم مارس فيه العقل ذكاءَه على نحو أدق مما فعل. إن الخليط الحقيقي من أنصاف الكتبة وأنصاف الفلاسفة هو المذهب الديني الذي يريدون الآن أن يضعوه بدل المذهب القديم معتمدين في ذلك على العقل والفلسفة أكثر مما اعتمد على المذهب القديم نفسه.» وهنا يبدو لسنج مدافعًا عن الأرثوذكسية مهاجمًا فلسفة التنوير، مقررًا بأن عيوب الأرثوذكسية أخفُّ بكثير من عيوب المذهب الجديد.

ويبدو أن لسنج قد أقام خطته على تمهيد الطريق للعلم الجديد الذي أقامه زملر  Semler واللاهوتيون الجدد في هالة Halle من أجل نهوض جذري بالدين القديم. ولكن كتاب زملر العظيم «فحص حر لقواعد الإيمان»٥٠ (١٧٧١–١٧٧٥م) أثار اشمئزازه؛ ففي ١١ نوفمبر ١٧٧٤م كتب بمرارة إلى أخيه أنه ينوي نشرَ فحص أكثر تحررًا من قواعد الإيمان؛ إذ يجب تأييد الأرثوذكسية من أجل أن يكون سقوطها ممكنًا. إن اللاهوت الحر لزملر ومدرسته يمكن تصديقه ولكن بناء على خداع. فقد بدت الأرثوذكسية متناقضة ويجب الدفاع عنها حتى نُسرع في هدمها.

ولكن من ناحية أخرى، هناك براهين قوية تدل على أن موقف لسنج كان أقرب أحيانًا إلى التنوير الجذري منه إلى التنوير النسبي، حتى إن دوق برشفيج قرر في ٢٣ فبراير ١٧٧٢م ألَّا يخضع لسنج لسلطة الرقيب بشرط ألَّا يهاجم الدين. ومع ذلك فرضت الرقابة عليه عندما أحست الأرثوذكسية أن موقف لسنج أقرب إلى الهجوم عليها من الدفاع عنها.

وقد يرى البعض في بداية حياة لسنج كناشرٍ وكمقدِّم وكمعلق قبل أن يكون مفكرًا ومؤلفًا ومنظِّرًا أنه حاول أن يعبِّر عن نفسه من خلال كتابات الآخرين، وأن ينشر المؤلفات التحررية على مسئولية أصحابها حماية للمؤلف بأن يجعل الآخرين يتحدثون نيابةً عنه، خاصة إذا كانوا قد غادروا هذا العالم منذ مئات السنين مثل برانجيه التوري، أو منذ عدة سنوات مثل ريماروس. فنشر القديم المتحرر وترجمة المؤلفات الأجنبية المتحررة تساعد على نشر الأفكار التحررية في مواجهة التيارات المحافظة السائدة، حتى إذا ما تعوَّد الذهن الشعبي على هذا البديل الفكري تبدأ مرحلة التأليف التحرري؛ فالنشر تمهيد للتأليف، والترجمة إعداد للعقلية المعاصرة على تقبُّل الأفكار التحررية. وهنا يبدو لسنج أقرب إلى التنوير منه إلى الأرثوذكسية بديل معاداة هذه الأخيرة له.٥١

ولكن يبدو أحيانًا أخرى أن لسنج يأخذ موقفًا وسطًا بين الأرثوذكسية والتنوير. ففي خطاب له كتبَه إلى هردر في ٢٥ يناير ١٨٧٠م يدل على أنه يشعر بأنه يمثِّل موقفًا وسطًا بين الأرثوذكسية والتأليه الجذري، وأنه يختلف مع التأليه الجذري في بعض النقاط مثل المسائل الخاصة بالتاريخ وهي التي حاول فيها التأليه الجذري إثبات تحريف النصوص الدينية والقضاء على الأساس التاريخي للمسيحية، وبعض المسائل الخاصة الناتجة عن فلسفة ليبنتز مثل إنكار بعض العقائد والشعائر المسيحية، وأخيرًا بعض المسائل المتفرعة من فلسفة سبينوزا خاصة بوحدة الوجود.

ويبدو الموقف الوسط الذي اتخذه لسنج أكثر في ردوده على فقرات ريماروس، فهذه الفقرات تمثِّل أسئلة أكثر مما تمثِّل أجوبة في ذهنه، فالسؤال صحيح ولكن الإجابة مختلف عليها، وبالتالي رفض لسنج أن يضع يده في يد ريماروس إجابةً على السؤال، وفضَّل أن يترك السؤال معلقًا. هناك إذن فيما يبدو فجوة عميقة بين لسنج وفلسفة التنوير أكثر مما تجعلنا هذه الفقرات نتصور؛ ففي ذهن لسنج يبدو أن هناك إمكانيات قليلة. فالأرثوذكس مجانين، واللاهوتيون الليبراليون في هالة محتالون، والمستنيرون يمكن أن يكونوا سطحيين بمهارة، وقد ظل لسنج في علاقة طيبة بالمراسلة مع أصدقائه المستنيرين مثل نيقولاي ومندلسون، ولكن عدم درايتهم بأسلوبه في التفكير وطريقته في التعبير جعلهم بعيدين عنه، فأخذ منهم لسنج موقفًا سلبيًّا كموقفِه من الأرثوذكسية والديانات الوضعية. والحقيقة أن لسنج كان أقرب إلى أصدقائه فلاسفة التنوير في برلين من سقراط إلى السوفسطائيين المستنيرين في أثينا. فهو في النهاية واحد منهم وإن اختلف معهم في درجة تبنِّي النتائج النهائية لفلسفة التنوير، فقد كان لسنج يريد البناء مع الهدم ولا يكتفي بالهدم وحده.

وقد أدَّى هذا الموقف الوسط للسنج أنه لم يكن لديه مانعٌ من ضرب الفريقين أحدهما بالآخر حتى تبدوَ حدودهما. فيهاجم ليبنتز العقيدة الأرثوذكسية معتمدًا على المفكر الحر إبرهارد، ثم ينقد لسنج إبرهارد من أجل الدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية وبالتالي يرفض المتعارضين بغية الحصول على حلٍّ وسط قد يوجد وقد لا يوجد. ولكن يظل ليبنتز ولسنج على يقين من أن الموقفَين الحر والمحافظ قد جانبهما الصواب.

والسؤال الآن هو الآتي: هل هذا الموقف المتأرجح بين التحرر والمحافظة، وبين التقدمية والرجعية، وبين التنوير والأرثوذكسية، موقف شعوري أراده ليبنتز ولسنج أم هو لا شعوري يكشف عن التنوير النسبي الذي يحاول لسنج أن يؤسسه ضد التنوير الجذري الذي يمثِّله ريماروس وضد الأرثوذكسية التي يمثلها جوتز؟

يرى البعض أن موقف ليبنتز ولسنج وديكارت من قبلهما هو موقف شعوري مزدوج، له ظاهر وباطن، فظاهره الدفاع عن العقيدة التقليدية ومهاجمة النزعة التحررية، وباطنه هو الهجوم على الأرثوذكسية والدفاع عن التنوير وهذا هو أسلوب الجدل: الضرب مع تأمين الظهر، والحرب بوسائل الإبهام، ونصب شِراك الخداع. فإهداء ديكارت تأملاته لعلماء أصول الدين لم يكن دفاعًا عنهم بل هجومًا ذكيًّا عليهم، وهدمًا لعقائدهم، وبيان عورة أساليبهم. وإعادة تفسير ليبنتز ولسنج لعقيدة آلام الجحيم والخلود في النار تهدف إلى هدم التصور التقليدي أكثر مما تهدف إلى هدْم الموقف التحرري الذي يمثِّله زونر Soner وإبرهارد Eberhard. بل لقد غالى البعض وجعل من هذا الموقف المزدوج ليس مجرد أسلوب في الجدل، بل موقفًا متعمدًا من ليبنتز حيث كان مدافعًا عن العقيدة في العلن أمام العامة ومنكرًا لها في السر مع الخاصة. يرفض لسنج هذه الازدواجية المتعمدة، ولو كان موقف ليبنتز هو هذا لكان إنسانًا بشعًا حقًّا تنقصه الشجاعة الأدبية في الإعلان عنه صراحة وبجرأة. يبدو إذن أن لسنج كان مثل ديكارت، وكما يقول المثل الشعبي: «يضرب ويلاقي». يدافع عن الأرثوذكسية ظاهرًا وهو ينقدها باطنًا، وينقد اللاهوت التحرري ظاهرًا وهو يدافع عنه باطنًا. يدافع عن هجوم الأعداء ولكنه يهاجم تلقائيًّا مبرراته في عورات الأصدقاء، ويدافع عن الأصدقاء وهو يكشف لهم عن عوراتهم ويبيِّن لهم صدْقَ مبررات هجوم الأعداء.

وقد يرى البعض أن السبب في أن لسنج استعمل هذا الأسلوب المزدوج بين المحافظة والتحررية طبقًا لطبيعة المرحلة التي يمر بها مجتمعه، المجتمع الألماني. فقد كان مجتمعًا ما زال خارجًا عن رقبة التقليد، وما زالت النزعة المحافظة فيه هي الغالبة، وما زالت الأرثوذكسية فيه هي التيار المسيطر في العقائد، وفي مثل هذا المجتمع تكون الأفكار التحررية الجذرية نوعًا من الفرقعة الفكرية، توقظ النائم عن طريق صوت المفجرات ولكنه يُزعجه أكثر مما يوقظه، ويدافع أصحابها عن أنفسهم ضد شظاياها، وتكون الخطورة عليهم في لفظهم عن المجتمع وتحجيم أثرهم. واتهامهم بالكفر والإلحاد، والخروج على الدين، والمطالبة بحماية الناس منهم واستئصالهم في النهاية. ولذلك يأتي مفكرون مهمتهم إيقاظ المجتمع في هدوء، ونشْر الأفكار التحررية بقدر ما تسمح عقلية الناس، فيأخذون في التنوير الجذري ما يمكن نشره بنجاح، دون صوت أو فرقعة ولكن بوضع قنابل يدوية قد تهيأ لقبولها. وهذا ما فعله لسنج، وبالتالي يكون مثل ديكارت في وضع القنابل الزمنية التي انفجرت بعد ديكارت في سبينوزا والتي انفجرت بعد لسنج في النقد التاريخي للكتب المقدسة وفي تأسيس فلسفة التاريخ، وفي تحويل فلسفة التنوير إلى ثورة اجتماعية فعلية في القرن التاسع عشر.

١  A Discourse on the Grounds & Reasons of the Christian Religion.
٢  Is evry statement in the Bible about our Heavenly Father Strictly true؟
٣  Reimarus: Fragments, Trans. R. S. Fraser, Ed. Ch. H. Talberr Fottress Press, Phila., Pa., USA, 1970, pp.5–18.
٤  Vindication of Hier Jerome Cardan.
٥  Chadwick, pp. 9-10.
٦  Vindication of the Ineptus Religiosus.
٧  Catalogus historico-Critiucus Librorum rariorum.
٨  Chadwick, p.10.
٩  Chadwick, pp. 10-11.
١٠  Secret Socinian. نسبةً إلى سوسينوس Socinus أو سوسان Socin وهو الاسم اللاتيني للمصلحين ليليو فرانسسكو ماريا سوسيني (١٥٢٥–١٥٦٢م) Lelio FrancescoMaria Sozini وابن عمه فاوستو باولو سوسيني Fousto Paola Sozini (١٥٣٩–١٦٠٤م)، ويعتبر هذا الأخير مؤسس السوسينية منشأ المذهب التوحيد الحديث Unitarianism ويقوم المذهب على الشك في عقيدة التثليث.
١١  New Apoilogy for Socrates.
١٢  Chadwick, p.11.
١٣  The Objections of Andseas Wissowatius against the Trinity.
١٤  Chadwick, p.11–12.
١٥  Of Adam Neuser, some Authentie Accounts.
١٦  Chadwick, p. 12.
١٧  Apology for Rational worshippers of God.
١٨  لقد ساعد احترام لسنج لأبيه — ولا شك — أن يكبح جماحَه قبل وصوله إلى فولفنبتل، ولكن موت أبيه سنة ١٧٧٠م ورفع الرقابة عنه أعطَته حريةً لم تكن لديه من قبل.
١٩  On the Toleration of the Deists.
٢٠  Christianity as old as Creation.
٢١  Chadwick, p. 15.
٢٢  On the Decrying of Reason in the Palpit.
٢٣  Chadwick, p. 15.
٢٤  The Impossibility of a Revelation which all can believe on Rational Grounds.
٢٥  Quod ubriqae, quod sember, quod ab omnibus.
٢٦  The passage of the Israelite through the Red Sea.
٢٧  That the Book of the Old Testament were not written to reveal religion.
٢٨  On the Resurrection Narration.
٢٩  هما لاهوتيان أرثوذكسيان يضرب لسنج بهما المثل.
٣٠  Chadwick, pp. 17-18.
٣١  Chadwick, pp. 18-9.
٣٢  Chadwick, p. 19.
٣٣  Ibid., p. 19.
٣٤  Ibid, p.20.
٣٥  Chadwick, p. 20.
٣٦  مؤلف كتب بعض الأعمال الأدبية الشعبية.
٣٧  Chrsistianity is not mysterious.
٣٨  وهم الفقراء اليهود والمسيحيون الأوائل كانوا يعتبرون المسيح مجردَ نبي من أنبياء بني إسرائيل حامل رسالة إلهية، ولكنهم يكفِّرون بولس لإنكاره شريعة موسى. يمارسون الختان ويطيعون قوانين السبت والأحد.
٣٩  Chadwick, pp. 20-21.
٤٠  On the Evidence of the Proofs of the Truth of the Christian Religion.
٤١  Defence of the story of the Resurrection of Jesus Christ.
٤٢  Rejoinder (Ein Duplik).
٤٣  Chadwick, pp. 21-22.
٤٤  Chadwick, pp. 22–24.
٤٥  Axioms, if there are any in such matters.
٤٦  Chadwick, p.24.
٤٧  G. E. Lessing Neceesary Answer to a very Unnecessary Question For Herr Hauptpastor Gorze in Hambourg.
٤٨  On the Intentions of Jesus and His Disciples.
٤٩  هي الآية المشهورة: «لا تظنوا أني أتيت لأحل الناموس والأنبياء، إني لم آت لأحل ولكن لأتم» (متى، ٤: ١٧)، والآية الأخرى «فمهما قالوا لكم فاحفظوه، واعملوا به، وأما مثل أعمالهم فلا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون» (متى، ٢٣: ٣).
٥٠  A Free Investigation of the Canon.
٥١  انظر سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة ص٥: ٨ الهيئة العامة للكتاب. القاهرة ۱۹۷۱م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤