ثالثًا: اليقين الخارجي واليقين الداخلي

بعد نشأة النقد التاريخي للكتب المقدسة منذ القرن السابع عشر على يد سبينوزا وريشار سيمون R. Simon وجان أوستريك J. Austric اهتزَّ اليقين التاريخي الذي قامت عليه المسيحية من قبل، ذلك اليقين الذي قام على المصدر الإلهي للكتب المقدسة. فبعد أن أثبت النقد التاريخي تعارضَ الكتب المقدسة مع الحقائق التاريخية وذلك بفضل الأبحاث والدراسات التاريخية والاكتشافات الأثرية بدأ فلاسفة التنوير، ومن قبلهم العقلانيون، في البحث عن أسس أخرى لليقين غير الأساس التاريخي الذي أدى إلى تقويض المسيحية أكثر مما أدى إلى تأسيسها، واكتشفوا اليقين الداخلي المؤسس على الطبيعة، وفي العقل، وفي التجربة، وفي الأخلاق، وفي العمل الصالح.

ومنذ العصور الحديثة ظهر اليقين في الدين نوعين: يقين خارجي يعتمد على الكتاب المقدس وعلى حوادث التاريخ وعلى المؤسسات الدينية، ويقين داخلي يعتمد على العقل أو التجربة أو الفضيلة. وتعتمد الفلسفة والاتجاهات المحافظة بوجه عام على اليقين الخارجي، فيتم البرهنة على حقيقة الدين المسيحي بالكتاب المقدس وبآباء الكنيسة، وبوقائع التاريخ، مولد المسيح وحياته ومماته وبعثه، وبقواعد الإيمان كما وضعتْها الكنيسة. في حين تعتمد الفلسفة التحررية والاتجاهات التقدمية بوجه عام على اليقين الداخلي. فتتم البرهنة على حقيقة الدين المسيحي بالعقل والتجربة واتفاقها مع القيم الخلقية وتطابقها مع الطبيعة الإنسانية. فالنزعة المثالية في الدين تمثِّل تقدمًا على النزعة الشيئية فيه، والنزعة العلمية في الدين — كما حدث في القرن التاسع عشر — تمثِّل تقدمًا على النزعة المثالية فيه.

وقد ظل هذان اليقينان يتجاذبان الفكر المسيحي جذبًا وطردًا، يتغلب أحدهما على الآخر طبقًا للعصور. ففي العصور القديمة — باستثناء أوغسطين — كان اليقين الخارجي هو الغالب على اليقين الداخلي. وفي العصور الحديثة أصبح اليقين الداخلي هو الغالب على اليقين الخارجي، وهذا هو وجه الفرق بين العصرين.

وقد كان موضوع اليقين الديني أو حقيقة المسيحية من أوائل الموضوعات التي شغلت ذهن لسنج. ففي أول دراسة منشورة له عن اللاهوت وهي «دفاع جيروم كاردان»١ سنة ١٧٥٤م — ولسنج ما زال في الخامسة والعشرين — وهو فيلسوف إيطالي من ميلانو في عصر النهضة اتهم بالإلحاد بسبب كتاب «الدقيقات»٢ سنة ١٥٥٢م اعتمد فيه كاردان على الحجج التاريخية التقليدية الثلاث في الدفاع عن المسيحية بالإضافة إلى حجة رابعة وهي:
  • (١)
    تحقيق نبوءة العهد القديم في حياة المسيح، في حين أن الدراسات المعاصرة أثبتت أن هذا التحقيق قد تم بحركة تراجعية Retrespective عندما قرأ كتاب الأناجيل حوادث حياة المسيح، ورجعوا إلى الوراء ووجدوا تبريرًا لها في العهد القديم. فالواقعة هي التي أبرزت النص، ولم يتحقق النص في الواقعة، وهو ما يسمى في منهج التفسير باسم Stereotype.
  • (٢)

    المعجزات التي أجراها المسيح مع أن الدراسات المعاصرة تبيِّن اختلافها كيفًا وكمًّا من إنجيل لآخر، كما تُعطي تعريفات للمعجزة بدأها سبينوزا، وهي الواقعة التي نجهل قانونها الطبيعي. فالإيمان بالمعجزة جهلٌ بقوانين الطبيعة، وكلما ازداد علمُنا بقوانين الطبيعة قلَّ إيمانُنا بالمعجزات.

  • (٣)

    انتشار المسيحية بسرعة في العالم القديم مما يدل على تدخُّل خارجي بفعل الروح القدس، وهو تفسير غير طبيعي لحوادث التاريخ. فانتشار المسيحية ظاهرة تاريخية محضة يمكن تفسيرها بعللها المباشرة؛ مثل دخول قسطنطين إلى المسيحية، والرغبة في الحفاظ على مناصب الدولة، وعصر الشهداء، والقِيَم الخلقية الجديدة … إلخ.

  • (٤)
    تماثل تعاليم المسيح مع الأخلاق الطبيعية، وهي الحجة التي تبدأ منها فلسفة التنوير دون الحجج الثلاث الأولى والتي يدافع من أجلها لسنج عن فيلسوف عصر النهضة؛ وذلك لأن فلسفة التنوير كما يمثِّلها لسنج ترفض إقامة اليقين الديني على أساس من التاريخ، فالتاريخ واهٍ، ظني، وخاضع للرواية، في حين أن الأخلاق الطبيعية ثابتة وشاملة ويمكن إدراكها بالعقل البسيط، وبنور الفطرة وبالإحساس الطبيعي.٣

لم يقبل القرن السابع عشر بسهولة لا عقلانية التاريخ وعدم ضبطه، ومن ثَم نشأت المناهج التاريخية لتحويل التاريخ إلى علم مضبوط، وبلغت أوجَها بعد قرنين من الزمان في القرن التاسع عشر، وقد قلل سبينوزا وليبنتز من شأن التاريخ كعماد للقضايا اللاهوتية، باحثين عن أسس أخرى بعد أن وضَّح ضعفَ الأساس التاريخي بعد تحويل التاريخ إلى علم مضبوط. كان لسنج يفضِّل هذين الفيلسوفين سبينوزا وليبنتز على غيرهما من الفلاسفة لهذا السبب؛ فالقانون الإلهي لا يعتمد على الروايات التاريخية عند سبينوزا إنما يعتمد على الطبيعة. القانون الإلهي قانون طبيعي له استقلاله عن روايات الكتاب المقدس التي تخضع لرؤية الراوي وأهوائه ومصالحه ورغباته.

وهذا ما يؤكده لسنج في كتيبه المشهور «في برهان الروح والقوة» والعنوان مستمدٌّ من أوريجين «الرد على سلس ١: ٢» Contna Celsum حيث يذكر كلمات بولس في الرسالة الأولى لأهالي كورنثة (٢: ٥) التي تُشير إلى الدعائم الأساسية في الدفاع عن الدين التقليدي أعني النبوة والمعجزة. والكتيب ذو أهمية كبرى لفهم لسنج وموقفه من أسس اليقين في المسيحية، ولا يوجد كتيب مثله له هذا الأثر الضخم على الفكر الديني الحديث يتميز بهذا القدر من العمق الروحي والغموض المنطقي.
كان همُّ لسنج الأول هو الإقلال من شأن اليقين المطلق الذي يُثبته الدفاع الأرثوذكسي عن الدين معتمدًا على النبوة والمعجزة؛ إذ يقوم كلاهما على شهادة تاريخية يمكن قبولها بناء على صحة هذه الشهادة. إن اليقين المطلق لا يجوز إعطاؤه لأيِّ إنسان لم يشاهد الواقعة بنفسه فإذا كانت «كل الحقائق التاريخية ظنية» فإنها لا يمكن أن تُبرهن على شيء. وباختصار فإن «الحقائق العرضية للتاريخ لا يمكن أن تصبح برهانًا للحقائق الضرورية للعقل». إن بعثَ المسيح حادثة ماضية ولا يمكنها أن تُبرهن على حقيقة أن المسيح هو ابن الله لأنها فكرة «يثور ضدها عقلي». إن هذه الحجة تقفز من نوع الحقائق إلى نوع آخر مختلف تمامًا، وتريد الانتقال من الظن إلى اليقين، ومن التاريخ إلى العقل، ومن العرضي إلى الجوهري، ومن المتغير إلى الثابت. وإن لم يكن هذا تغيُّرًا جذريًّا في النوع Metabasis eis allo génos فماذا تعني عبارة أرسطو إذن؟ هذه هي الفجوة العميقة التي لا يمكن عبورها مهما حاول أحدٌ الانتقال من أحدهما إلى الآخر.
ويحاول لسنج الاستدلال على هذا التعارض بين اليقين الخارجي واليقين الداخلي على النحو الآتي:
  • (١)
    كل يقين بصدد حوادث ماضية مستحيلٌ؛ لأن معرفتنا بها تعتمد على الشهادة وليست على تجربة من الدرجة الأولى. إن معرفة مثل هذه الحوادث لا تصل أكثر من درجة من الاحتمال، أو أقل، طبقًا لدرجة قيمة الشهادة. فاحتمال الخطأ في الشاهد العياني أقل بكثير من احتمال الخطأ في الراوي الثاني الذي لم يشاهد. بل إن هذه الشهادة العيانية كما وضح في علم النقد التاريخي للكتب المقدسة أيضًا لا تمثِّل يقينًا مطلقًا نظرًا لأنها مرتبطة بوجدان الشاهد ودرجة حياد شعوره. فإذا ما كان وجدانه منفعلًا أثَّر ذلك على عمل حواسه ورأى الطبيعة غاضبة إذا كان غاضبًا وسمع نواحًا وبكاءً في الطبيعة إذا كان حزينًا. كما قد يتدخل الشاهد العياني في رؤيته للوقائع بثقافته وعقائده، واهتماماته وتطلعاته، فيرى المسيح مخلصًا ينتظر المخلص، ويراه ابن الله لأنه يؤمن بالمعجزات، ويراه شافيًا لأنه مريض، ومحبًّا لأن أحدًا لم يحبَّه، ويتصوره وقد بعث بعد الموت تعبيرًا عن أمل ورفضه للأمر الواقع.٤
  • (٢)
    كان من الأسهل الإيمان بالمسيح لو كان هناك شخص واحد معاصر له رآه. ولكن حتى في هذه الحالة، يظل الأمرُ خبرَ واحدٍ، كما يقول علماء أصول الفقه، وخبر الواحد لا يعطي إلا الظنَّ، فالتواتر وحده هو الذي يفيد اليقين. وروايات الأناجيل على أحسن تقدير أخبار آحاد لأنها لا تفي بشروط التواتر الأربعة وهي:
    • أولًا: استقلال الرواة؛ فقد ثبت اتصال الأناجيل بعضها ببعض سواء في نظرية المصدرين «مرقص + الأقوال» أو في نظرية المصادر الثلاثة «مرقص + متى الآرامي + الأقوال» أو في نظرية المصادر الأربعة، والخمسة، والستة … إلى نظرية المصادر المتعددة.
    • ثانيًا: العدد الكافي من الرواة الذي يفيد اليقين، والعدد أربعة «أربعة أناجيل» غير كافٍ لأنه لم يرفع بذورَ الشك حول صحة الأناجيل.
    • ثالثًا: تجانس الرواية في الزمان، من حيث درجة انتشارها؛ وذلك لأن إنجيل يوحنا على الأقل لم يكن معروفًا في الجيل الأول والثاني، وبدأ في الظهور ابتداء من الجيل الثالث والرابع.
    • رابعًا: الإخبار عن حسٍّ؛ وذلك لنقله روايات ميلاد المسيح ومعجزاته وبعثه وهي كلها تعارض الحسَّ والمشاهدة.
  • (٣)

    إن تصور أن إنسانًا اسمه يسوع المسيح كان وما زال ابن الله جوهر واحد مع الأب، معارض للعقل، وقد ظلت العقائد المسيحية في العقل الأوروبي بمثابة منبه له ومنشط حتى يفيق ويؤكد سلطانه، كانت تمثِّل تحديًا بالنسبة له؛ فإما أن يلين ويطيع ويعلن تخليه عن سلطته أمام السر الذي يفوق قدرته، وإما أن يثق بنفسه، ويُثبت قدرته. ويكشف هذا السر الذي اتخذتْه الكنيسة وسيلةً للسيطرة بها على مقدرات الإنسان، عقلًا وإرادة، وبهذا المعنى تعني فلسفة التنوير الاختيار الثاني أي انتصار العقل على السر.

  • (٤)

    إن الحوادث لا يمكنها أن تُبرهن على الحقائق؛ لأن حقائق الأخلاق والميتافيزيقا لا تدخل تحت مقولة الحوادث. فالحوادث عارضة والأخلاق جوهرية، ولا يمكن تأسيس الخالد على الزمني، والأساسي على الفرعي، والثابت على المتغير. فإذا كانت المسيحية قد فصلت الروحي والزمني فما بالها تخلط بينهما عند تأسيس المسيحية والبحث عن أسس لليقين. إن هذا الفصل لا يعني فقط الاجتماع والسياسة وحدهما، بل يعني أيضًا نظرية في الصدق المنطقي، وهو أن الروحي له أسسه الخاصة غير الزمني العارض.

  • (٥)
    إن عالم التجربة التاريخية هو عالم الصيرورة والحركة والتغير وليس عالم الكون والسكون والثبات. وكلُّ شخص في هذه الصيرورة الدائبة للتاريخ نسبيٌّ ولا شيء مطلق. فإذا كان الله كما هو الحال في العقائد التقليدية مرتبطًا بالتاريخ بواقعة التجسد، فإن الله أيضًا يشير إلى المطلق وإلى الخالص المنزه، وإذا كانت حقائق الوحي تظهر في التاريخ فهي أيضًا حقائق أبدية تتجاوز حدود الزمان والمكان.٥
إن تفرقة لسنج بين حقائق التاريخ العرضية وحقائق العقل الضرورية توحي بلغة المثالية الألمانية. يقول نيتشه مثلًا — وهو الذي تأثَّر بلسنج — «إن الميتافيزيقي وحده هو الذي ينقذ أما التاريخ فلا» وقد قال كانط من: «إن التاريخي يستخدم فقط للتصوير لا في البرهان». يفصل لسنج تمامًا بين الواقعة والحقيقة، هذه التفرقة التي تمهد الطريق إلى التمييز بين إنجيل التاريخ وإنجيل الحقائق الأبدية في المسيحية لدى شتراوس، وهو ما سبق إليه شلير ماخر Schleier Macher في سنة ١٨٠٦م «ليلة عيد الميلاد» Chrismas Eve، كما ظلت هذه التفرقة عنوان التجديد والتحديث في الفكر المسيحي، كما بدَا ذلك عند نيومان J. H. Neuman في «محاولة في التطور» Essay on Development عندما ميَّز بين الفكرة والحوادث التاريخية، وأعلن استقلال الأولى عن الثانية، بل إن كل الفكر المسيحي المعاصر في تمييزه بين إنجيل الحقيقة البسيطة وإنجيل التاريخ كما هو الحال عند هارناك والبروتستانتية الحرة وبرجسون وغيره من فلاسفة الأخلاق والكانطيين الجدد في فرنسا — رينوفيه Renouvier — ولا نُغالي إذا قلنا إن الفينومينولوجيا بتفرقتها بين «الواقعية» و «الماهية» إنما تُلبِّي هذا المطلب في الشعور الأوروبي. وترفع هذا الخلط الذي استمر منذ بداية العصور الحديثة بين المادي والصوري، وبين الشائب والخالص.

فإذا استحال إقامة اليقين في المسيحية على أساس الكتاب المقدس وهو النبوة المدونة، نظرًا لما وقع فيه من تبديل وتحريف وتغيير كما أثبت ذلك علمُ النقد التاريخي للكتب المقدسة، ونظرًا لأنه كان في ظهورها لاحقًا على العقيدة وتعبيرًا عنها وليس سابقًا عليها أو مصدرًا لها كان من الضروري البحث عن أسس أخرى لليقين وجدَها لسنج في العقل أو في القلب. فإذا غاب اليقين الخارجي القائم على شهادة التاريخ يبقى اليقين الداخلي القائم على شهادة الروح، وقد حاولت الكاثولوكية الرومانية المعاصرة أخْذَ هذه النتيجة والاعتماد عليها في إعادة بناء العقائد المسيحية بعد أن هوى الأساس التاريخي، وأعادت تصورها للوحي على أنه شهادة الروح وليس شهادةً التاريخ. فما وصل إليه التنوير بعد جهد ويُستغل من جديد لإثبات مضادات التنوير أعني تبرير القديم.

ولهذا السبب فرَّق لسنج بين الدين المسيحي The Christian Religiou وبين دين المسيح The Religion of Christ؛ فالدين المسيحي نتاجٌ للتاريخ ومن وضع البشر، اختلطت فيه الأهواء بالمصالح، وتداخلت فيه الحوادث ومصادفات التاريخ، ولم يصدر منه بل نشأ من وضْع الجماعة المسيحية الأولى، والحواريون من بينهم. هو دين ظنيٌّ خالص لا يقينَ فيه، ولا يقوم لا على شهادة التاريخ المضبوطة ولا على برهان العقل البسيط. دين شغوف بالعقائد وبالطقوس وبالمؤسسات كي يعوض نقصه في اليقين النظري وفي العمل الأخلاقي وفي التغيير الاجتماعي.

أما دين المسيح فهو ما أتى به المسيح وما عبر عنه في كلامه، دين بسيط واضح لم تتدخل في صياغته أهواءُ الناس أو مصالح الجماعات، لا يحتاج إلى عقائد أو طقوس أو مؤسسات، بل لا يحتاج إلا إلى العقل البسيط، أو القلب السليم — كما يقول القرآن — وهو دين يقيني يعتمد على أسس اليقين الداخلي لا الخارجي، وهو الدين الحقيقي وكل ما عداه زيفٌ وبطلان.

وهذه التفرقة هي التي أجمعت عليها الفلسفة الحديثة وتعتبر من أفضل ما أنتج الوعي الأوروبي، وهي التفرقة بين الدين الباطل والدين الحق، الأول دين الشعائر والطقوس والعقائد والمؤسسات الكنيسية والطبقات الاجتماعية، والثاني دين العقل البسيط والأخلاق العملية والعدالة والمساواة. لقد سمى كانط الأول «دين المؤسسات»، والثاني «الدين في حدود العقل البسيط». كما سمى كيركجارد الأول «المسيحية التاريخية» Christianism، والثاني «المسيحية القلبية Christianity». وهي التفرقة التي بدأها الإصلاح الديني في بدايات العصور الحديثة؛ فالدين الأول هو ما أصبح فما بعد الكاثوليكية الرومانية، والثاني هو البروتستانتية. وكأن العصور الحديثة في أية حضارة لا تبدأ إلا بالتفرقة بين هذين الدينَين.٦
وقد طرح القرن التاسع عشر السؤال الآتي: هل آمن لسنج بوحي من خارج الطبيعة؟ يرى لوفز Loffs أن لسنج من أخطر الفلاسفة وأن أسلوبه مخادع، وأنه أكثر جذرية من أصدقائه في برلين، وأن لسنج من أنصار تولاند Toland المؤله الإنجليزي الذي أعلن صراحة أن هناك لغتين لغة للعامة وأخرى للخاصة. ويرى لوفز أن لسنج يُنكر كلَّ ما يأتي من خارج الطبيعة. لذلك يرفض الوحي والمعجزة معًا بهذا المعنى. كما يرى تليك Thielicke أن لسنج مؤلهًا يرى أن الطبيعة هي مصدر الوحي وأساس الدين. والحقيقة أن لسنج يُنكر فهْمَ الوحي فهمًا واحدًا على أنه وحيٌ خاص؛ وذلك لأن الحقيقة ليست في العقيدة بل في غياب العقيدة. الحقيقة تتمثل في الحب الأخوي والإخلاص والتسامح أكثر من كونها تفسيرًا ميتافيزيقيًّا عن طبيعة الإنسان والطبيعة والله. يقين الحقيقة أخلاقي لا يقوم على كتاب أو معجزة، فكلاهما مضادان للطبيعة.

لم يرفض فلاسفة التنوير الكتاب المقدس بل وجدوا فيه أسسَ الدين الطبيعي، ولم يعتمدوا في تأسيس الدين على النبوات أو المعجزات ولكنهم جعلوا «مقولة ما بعد الطبيعة» مقولة التنزيه، والتنزيه دينٌ طبيعي يقوم على ما هو دائم في الطبيعة، ومن ثَم يكون ليبنتز هو أول المؤسسين للدين الطبيعي، ليبنتز الفيلسوف الديكارتي وليس اللاهوتي البروتستانتي؛ فالتعالي لديه ليس خارج الطبيعة بل هو الطبيعية في هدوئها واتساعها. لذلك أسَّس ليبنتز السيكولوجيا على الأنطولوجيا في «المونادولوجيا». كتاب الطبيعة هو مصدر دين الطبيعة، ومن ثَم فالله افتراض غير ضروري لإعطاء وحي أو لإجراء معجزة أو كما يقول المحدثون على لسان نيتشه — إن الله قد مات — لا لزوم له في العالم ولا يكشف عن ذاته، لا عمل له في الدين، ومع ذلك فهو موجود في الطبيعة والتاريخ، يظهر كقوة وحركة ونشاط ويثبت بالتقدم والرقي والارتقاء.

ويعتمد الدفاع عن الدين التقليدي بالإضافة إلى النبوة والمعجزة على حجة ثالثة لها جذورها في الكنيسة القديمة وهو الانتشار السريع الهائل للمسيحية في العالم القديم، وتطور الكنيسة من فرقة صغيرة في فلسطين يقودها بعض الصيادين كي تصبح في أقل من ثلاثمائة عام دينَ الإمبراطورية الرومانية ودين الإمبراطور نفسه، وهذا الانتشار لا يكون إلا من صنْع الله.

وقد دوَّن لسنج بعض الملاحظات سنة (١٧٦٣-١٧٦٤م) — نشرها أخوه كارل بعد وفاته — بعنوان «في فنِّ البرهنة على تأسيس الدين المسيحي وانتشاره».٧ يبحث فيه لسنج هذا البرهان التقليدي القديم وينتهي إلى أن انتشار المسيحية كان ظاهرة طبيعية صرفة، وقد غالى المدافعون عن المسيحية في تقدير أثر الاضطهاد للمسيحيين الأوائل، وعدد الشهداء حتى يمكنهم تفسير الانتشار الواسع للمسيحية باللجوء إلى عوامل خارجية خارقة للعادة من وراء الطبيعة.

هذه الحجج التاريخية الثلاث: النبوة، والمعجزة، وسرعة انتشار المسيحية، قد رفضها المؤلهة الإنجليز كما رفضها فلاسفة التنوير، وقد تناول سبينوزا نفس الموضوع في «رسالة في اللاهوت والسياسة». المعجزة مسألة فلسفية وليس موضوعًا ميتافيزيقيًّا، فهي ظاهرة طبيعية نجهل قانونها، أي أنها مسألة تتعلق بالمعرفة ولا تتعلق بالوجود، والنبوة ممكنة ولكن التنبؤ بالمستقبل مستعبد ولا تتجاوز رؤية مباشرة لدلالات حوادث العصر، وفي عصر العقل يتم قبول المسيحية بناء على تعاليمها الخلقية وليس بناء على سرعة انتشارها في التاريخ، فهذا الانتشار الكمي قد يكون انحرافًا عن مسارها الكيفي، مهمة العقل إعادة اليقين للمسيحية عن طريق تفسيرها، فالمسيح ابن الله تعني أنه يجسد مُثُل الإنسان وتطلعاته العليا وأنه مؤشر على أهدافه ومشير إلى رسالته. قد يحاول المدافع عن الدين إثبات اليقين للمسيحية عن طريق أنه لو كان الله حقيقية في المسيح لأمكن قبول المعجزة ولأمكن تحقيق النبوة. أو يقول على الأقل أن الإيمان بالمعجزة يمثل اتجاهًا نحو المسيح، وهو الاتجاه الصحيح. والحقيقة أن المعجزة والنبوة لم تَعُد براهين في ذاتها على صحة الإيمان، وبدلًا من أن يكونَا معًا أكبر دعامتين للدين أصبحَا أكبر نقطتين ضعف فيه وأكثرهما تعريضًا للتجريح.

يمكن تفسير الدين من داخله وتأسيسه على يقينه الذاتي كنظام مستقل، وبالتالي يصبح اللجوء إلى ما هو خارج الطبيعة لا لزوم له بل يصبح فرضًا خطيرًا. لقد تحدث المدافعون عن المسيحية مدة طويلة وكأن الله كان ضمنيًّا اسمًا آخر لمجموعة من المعارف المجهولة في ذلك الوقت، وكأن الدين كان مجرد أمور مهمتها ملء الفراغات المنطقية في الذهن بمادة من التقوى والإيمان، وكأنها كانت بعض العزاء للمؤمنين.

إن «زملاء الجمعية الملكية» لم يفسروا بعد كل شيء ولم يَصِل العلماء إلى فهْم كلِّ شيء في الطبيعة وبالتالي ما زال هناك مكان شاغر لله في تصور العالم، وكأن النبوة والمعجزة تشيران إلى الحوادث التي استعصى فهمها على الإنسان العاقل فيكمل نقصه ويستعيض عن جهله بتدخل الله الحاسم في الطبيعة والتاريخ، وبالتالي يتصور أنه قد تم له إثبات حقيقة الدين المسيحي.

وبالنسبة للمدافعين البروتستانت عن الدين فإنهم يتحدثون عن ضمان مطلق للوحي وهو الكتاب المقدس المعصوم من الخطأ وكأنهم كانوا مرة يعبثون في مكتبه وأتوا إلى مجموعة من الكتب القديمة مجلدة في كتاب واحد وبدءوا في قراءتها ووجدوا لدهشتهم أنها خالية من الأخطاء سواء في الإيمان، أو في الأخلاق، أو في التاريخ، أو في العلم، حتى انتهوا إلى أن هذا الكتاب بالضرورة كتابٌ واحد من عمل عقل إلهي دوَّنه بإرشاد من الروح القدس! وهنا ينقد لسنج فكرة وحدة الكتاب المقدس ونظرية المصدر الإلهي، وعصمة الكتاب من الخطأ، مما سبب فيما بعد نشأة النقد التاريخي للكتب المقدسة حتى سبق البروتستانت في ذلك الكاثوليك.

أما بالنسبة للمدافعين الكاثوليك الرومان عن الدين فإنهم يتحدثون وكأنهم قضوا عدة سنوات في دراسة قضايا أساقفة روما واكتشفوا أن البابوات لم يخطئوا أبدًا، وانتهوا إلى أنهم لا بد وأن يكونوا بالضرورة معصومين من الخطأ، وبالتالي فإن أقوالهم تكون هي الضامن الخارجي الإلهي على حقائق العقائد المسيحية. فالعصمة التي يتصورها البروتستانت في الكتاب المقدس يضعها الكاثوليك الرومان في البابوات. وكلاهما يقيم دعواه على أسس قبلية وكأنهم وصلوا إليها بمناهج تجريبية. كلاهما يقيم دعواه على أن الخارق للطبيعة ضروري وإلا لاستحال فهمُ ظاهرة خرق النظام الطبيعي الموجود في الكتاب المقدس وفي الكنيسة.

لقد كان البحث عن أسس اليقين في المسيحية قديمًا ومستمرًّا منذ نشأة المسيحية حتى الآن. وتختلف هذه الأسس طبقًا للعصور المختلفة، روحها وعلومها وثقافتها. فقط عرض أوريجين Origéne في ردِّه على سلس Contra Celsum لعدم يقين المعرفة التاريخية ولضرورة البحث عن يقين آخر. فقد كان الموقف الفلسفي في القرن الثاني هو نفس الموقف الفلسفي في القرن الثامن عشر. وجد أوريجين أن المسيحية قد اعتمدت على سلطة الكنيسة وحدها كما وجد لسنج أن المسيحية قد تاهت وسط العقائد والمعجزات والشعائر والطقوس. أراد كلاهما إعادة تأسيس اليقين في المسيحية على أسس غير تاريخية. فالكنيسة نظام تاريخي أكثر منه نظام وحي، والكتاب المقدس كتاب تاريخي أكثر منه كتاب وحي. بالإضافة إلى أن الإقلال من شأن المعرفة التاريخية يميز كلَّ حركات التأليه منذ أفلاطون وكلمنت Clement وأوريجين حتى ليبنتز ولسنج وإنجه Inge وبوزانكويه Bosanquet فإذا كان لسنج في كتيبه «في برهان الروح والقوة» قد أنكر التصديق بالمعجزات والنبوات، فما يأتي من خارج الطبيعة افتراض زائد لا يجوز استعماله؛ فذلك لأن العصر عصر العقل، أي أنه عصرٌ معادٍ لما فوق الطبيعة. وإذا كان التراث المسيحي القديم منذ القديس جيستان Justin حتى الآن قد رأى في المعجزات والنبوات الدعائم الأساسية على حقيقة المسيحية فذلك لأن العصر القديم كان معتادًا على فكرة ما فوق الطبيعة. وعلى هذا الأساس اعتمد المدافعون عن المسيحية القدماء. ويحاول لسنج ردَّ الاعتبار لسلس قائلًا بأن سلس الناقد الوثني للمسيحية لم يُنكر وهو يكتب سنة (١٧٧–١٨٠م) معجزات المسيح، ولكنه كان يظن أن المسيح قد قام بها كساحر تعلَّم السحر أثناء إقامته في مصر. كما يعيد لسنج تفسير ردِّ أوريجين قائلًا إن أوريجين لا يثبت معجزات المسيح بل يؤكد طابعها الخلقي والعملي على خلاف معجزات السحرة، ومع ذلك فلا يجد المسيحي أو الوثني صعوبة في تصور حادثة خارجة على الطبيعة، كما يحاول لسنج الدفاع عن سلس في موضوع النبوة فيرى أن سلس في نقده لتحقيق نبوات العهد القديم لا يرفض فكرة التنبؤ في حد ذاتها؛ فقد كان ذلك معروفًا في العهد القديم الذي يزخر بالمتنبئين والعرافين وأصحاب الرؤى والمتنبئين بالمستقبل ولكن اعتراض سلس كان ضد فكرة أن أنبياء بني إسرائيل الذين عاشوا عدة مئات من السنين قبل المسيح قد تنبئوا تمامًا بالحوادث التي وقعت في حياته. وكان يرى أن النبوات التي طبقها المسيحيون على المسيح غامضة الكلمات، ويمكنها أن تشير إلى مئات أخرى من الحوادث لدى الشعوب الأخرى. وهو الرأي الأقرب إلى علم النقد التاريخي الذي جعل تحقيق النبوة يتم عن طريق قراءة الحاضر في الماضي، رجوعًا إلى الوراء Retrospectivement وليس عن طريق تنبؤ الماضي للحاضر، تقدمًا إلى الأمام Progressivement.
وقد استمر البحث في أسس اليقين في المسيحية في العصور الحديثة خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر قبل لسنج، وأصبح نقد الأسس التاريخية القديمة شائعًا يتناوله كلُّ المفكرين مع اختلافهم في الجرأة عليه. فمثلًا يقول لوك Lock: «إن أية شهادة كلما كانت أبعد من الحقيقة الأصلية كانت أقل قوة من حيث البرهنة عليها وذلك ضد الميل الإنساني إلى افتراض أن الأفكار تقوى كلما كانت أقدم …» وبالتالي يكون بعدنا عن نشأة المسيحية واعتمادها على التاريخ مظهرَ ضعف وليس مظهر قوة، ويكون الاحتمال فيه للخطأ أكثر مما لو كنا حديثي العهد بالمسيحية. كلما أوغلنا في الزمان بعُدنا عن الأصل في حين تقول الكاثوليكية الرومانية كلما أوغلنا في الزمان اكتشفنا الكامن وظهر المستور، وبان الضمني، فنحن أكثر مسيحية من المسيحيين الأوائل، وعقائد المعاصرين أكمل من عقائد السابقين.
وقد حاول اللورد هربرت من شاربوري Herbert of Cherbury قبل لوك إعادة النظر في الأسس التاريخية القديمة بقوله «كل التراث والتاريخ، كل شيءٍ يتعلق بالماضي — خيرًا أم شرًّا — محتمل فحسب طالما أنه يعتمد على سلطنة الراوي، وطالما أن ما نؤمن به لم نُدركه إدراكًا مباشرًا، ربما كان صحيحًا بالنسبة للراوي ولكنه يكون محتملًا بالنسبة لنا.» فطالما تعتمد المسيحية على الرواية التاريخية فستكون ذات يقين واهٍ؛ لأن الرواية تعتمد على سلامة أعضاء الراوي وحياده كما تعتمد على صحة نقل الرواية بالتواتر على ما يصف علماء الأصول.
وقد أعاد ماثيو تندال Matthew Tindal ما قاله هربرت من شربوري من أن الدعوى القائلة بأن الوحي المسيحي قائم على حوادث لا نعلمها إلا عن طريق روايات محتملة هي جزء من دعاوى المؤلهة. فالتأليه يعتمد على العقل والطبيعة ولا يعتمد على الروايات التاريخية.
وقد تابع جون تولاند John Toland أيضًا قول هربرت من شربوري من أن التاريخ لا دلالة له من حيث اللاهوت لأن «إيماني بالله … لم يأتِ من التاريخ بل من تعليم الأفكار الشائعة»، وقال بطريقة أكثر وضوحًا مشيرًا إلى التواتر كيقينٍ تاريخي: «إن كل الوقائع Matters of Facts التي شهد المعاصرون لها كما يجب وكما عرفوها والتي رواها الآخرون بصدق في أزمان عديدة، والتي روَتها الشعوب أو حدَّدَتها المصالح والتي لا يمكن فرضها عليهم أو الشك فيها مجرد الشك بأنها توليفات تهدف إلى خداع الآخرين يجب أن نقبلها باعتبارها يقينًا لا شك فيه وكأننا رأيناها بأعيننا وسمعناها بآذاننا. وعلى هذا النحو نعلم أن هناك مدينة قرطاجة والمصلح الديني لوثر ومملكته بولندا. فإذا ما اكتشف النقد التاريخي عدم توافر شروط التواتر انعدم اليقين التاريخي.»
وعلى هذا النحو أيضًا يقول روسو على لسان القسيس السفوياردي Savoyard «انظر إلى ما تؤدي إليه ما نسميه البراهين الآتية من فوق الطبيعة معجزاتك ونبواتك: أن تؤمن بكل هذا بناء على كلمة آخر، وأن تخضع لسلطات البشر سلطة الله الذي يتحدث لعقلي. فإذا ما تحملت الحقائق الأبدية التي يدرجها عقلي كل هذه الصدمات فإنه لا يعود أيُّ يقين لي. وكما أني لا أثق بأنك تتحدث باسم الله فإني لا أثق بأن الله موجود. فإذا كانت الشهادة هي أساس الإيمان وكانت الشهادة واهية فكيف يصبح الإيمان؟»٨

لقد كانت مشكلة لسنج الأساسية هي صراعه مع الأرثوذكسية في ثقتها المطلقة بالأسس التاريخية، ويعترض على تأسيس المسيحية على مجرد احتمالات وافتراضات ظنية يقدمها التاريخ، كما يعترض أيضًا على أن يكون هذا اليقين التاريخي الغائب حجة على ضعف المسيحية. فالمسيحية لها يقينها الداخلي، لذلك يعترض لسنج أيضًا على النبوءات والتنجيم بأن الإنسان لا يمكنه معرفة المستقبل، فكلما كانت دعاوى دين الوحي متجاوزة حدود العقل ومتعالية على الطبيعة كانت أقلَّ يقينًا.

١  Vindication of Jerome Cardan.
٢  De Subtilitate.
٣  Chadwick, pp. 9-10.
٤  في تعليقات كوليرج على نسخته من كتيب لسنج نجده يسلم بالشهادة من الدرجة الثانية.
٥  Chadwick, pp. 30–32.
٦  Chadwick, p. 29.
٧  On the manner and Method of Expansion and Spread of Christian Religion.
٨  Chadwick, pp. 32–4.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤