فبراير

تلال كوانتوك

٥١ درجة شَمالًا

٥ فبراير. استرقتُ النظر إلى داخل خمسة عشر صندوقًا خاويًا من صناديق أعشاش الطيور عند أشجار البلوط حيث كانت المَدبغة القديمة في غابة ريكتوري بالقرب من قرية نيثير ستوي، محاولًا أن أستحضرَ في ذهني صورةَ طيور خطاطيف الذباب الرَّقطاء التي رأيتُها بداخلها الربيعَ الماضي؛ تلك الطيور الصغيرة للغاية ستكون الآن في أشجارٍ أفريقية يانعة الأوراق جنوب خط الاستواء. وبما أنَّ كلَّ شيءٍ موجود تقريبًا في الطبيعة «الآن»، فإننا نادرًا ما تتبادر إلى أذهاننا تلك الأفكار، أو نستحضر تلك العناصر الغائبة. كان ثَمة أعشاش قديمة داخل الصناديق، أكوام من أعواد العشب المنحنية الذابلة، وقصعات من الحزاز والريش، وفراغات صنعتها الطيور التي رقدت فيها. مدَدتُ يديَّ أتحسَّسها وأتحسَّس طيفَ دفئها. بعضُها بدا كقبعاتٍ أو نِعالٍ قديمة في أرضية خِزانة ملابس، وبعضُها كان أشبه بقوالبَ مصوغةٍ لكواكبَ يعلوها الغبار أو لأقمار مُتعرجة الحواف. كانت الطيور بعيدة جدًّا، لكن الأشكال التي بَنت بها بيوتها لا تزال موجودة في الغابة.

تركتُ الأشجار عند الغسق وسِرتُ في الأرض السَّبَخة، أنظرُ فوقي إلى السماء الرمادية في الجنوب. كنت أفكِّر في الأيام الغابرة، حين كانت السماءُ — الذهبية المُشرِقة الملائكية — تسطع أحيانًا عبر الغيوم. لم يكن في السماء الشاحبة الليلة سوى القمر المكتمِل. وحده كان باسقًا على الجدار القاتم لِلَيل الشتاء، بدا أقرب إلى كُوَّة يُغطيها الثلج منه إلى عُش طائر. وكان سطحه الذي يضيئه ضوءُ الشمس يشبه المشهدَ وراءه؛ إذ بدا المشهد الساطع دافئًا ومُفعَمًا بالحياة؛ ربما كان ما وراءه هو أفريقيا.

في الأشهُر الستة من الربيع (أو ما أودُّ أن نعتبره ربيعًا)، يُتمُّ القمرُ بدرًا ست مرَّات (أو سبعًا في بعض الأعوام)، بل يمرُّ كذلك بكل طور من أطواره ست مرَّات (أو سبعًا). لكننا نحن سكان الأرض نرى القمر بهيئةٍ مختلفة كلَّ يوم. فضوءُه لا يتماثل أبدًا في ليلتَين، ولم يحدث أن تماثلَ قط في ليلتَين منذ نشأة القمر. إنه يمضي في دورته لكنه أبدًا لا يشبه ما كان عليه في السابق. حتى البدر في سماءٍ مفتوحة لا يحُدُّه فيها شيءٌ يُطلُّ بوجهٍ جديد كلَّ مرة.

يشير النموذج الذي وضعته نظريةُ الاصطدام الهائل لنشأة القمر إلى أن كوكبًا متصادمًا يُدعى ثيا، أصغر حجمًا من الأرض، اصطدمَ بكوكبنا وأحدثَ التصادمُ سحابةً هائلة من الرُّكام تجمَّعت مُكوِّنةً القمر. ظنَّ البعضُ أن المحيط الأطلنطي كان هو موقع الاصطدام، الموضع الأرضي الذي تأثَّر بالاصطدام وانفصلَ منه القمر. وجاءت النِّسب بين نظائر الأكسجين في القمر مماثلةً لها في الأرض، وهو ما يشير إلى أن لهما أصلًا مشتركًا. كما يشير غبار القمر إلى مكان نشأته، على غرار الريش في حالة الطيور المهاجرة. ويقال أيضًا إن الهِزَّة الناتجة عن ذلك الاصطدام هي التي أمالت الأرضَ عن محورها. ذلك المَيل — زاوية مَيل الأرض بالنسبة إلى الشمس — هو ما يمنحنا، في نِصفَي الكرة الأرضية — الشَّمالي والجنوبي — الفصولَ، وتبايُنَ طول النهار فيها وتغيُّرَ درجات الحرارة، والهجراتَ السنوية للحيوانات التي تتَّبع الضوء. تسير الحياةُ بالتعاقب بالنسبة إلى سكان النصفَين العلوي والسفلي لكوكبنا. تُكشَف الحقيقة بطريقة ملتوية و«متدرجة»، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال مثلما ذكرت إيميلي ديكنسون في قصيدتها. وكلُّ شيء هو نتيجة لذلك الانحراف والتدرُّج.

•••

قال إيمي سيزير: «يجب أن يُعاد رسم خريطة الربيع باستمرار». وعبَّر لويس ماكنيس عن ذلك في قصيدة له قائلًا: «ومع ذلك يحل فريدًا في كل مكان من جديد»، وفي حديثه عن ذلك الفصل، قال رينيه ماريا ريلكه الشيء نفسه في قصيدته «دورات» (نسخة دون باترسون)، وهي واحدة من «سوناتات إلى أورفيوس» الخمسة والخمسين الزاخرة بالربيع (١٩٢٢):

هي كلمةٌ قديمة، لكن الزمن أبدًا لم يَعفُ عليها.
وكلَّ عام يحُلُّ ضيفًا جديدًا؛
مع أنَّ مجيئه تكرَّر كثيرًا. تترقَّبه دومًا،
مع أنك لم تدركه يومًا. بل أدرككَ هو.

«الإدراك» هو المغزى، أو الوقوع في «أَسرِ» الفصل إذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية المقابلة.

زاكوما وإنيدي

١١ درجة شَمالًا و١٧ درجة شَمالًا

كي أصلَ إلى تشاد في منتصف فبراير، استقللتُ سيارة أجرة في الساعة الثالثة فجرًا من شقتي في بريستول كي أستقلَّ حافلةً مُبكرة إلى لندن؛ ثم أركب طائرة من مطار هيثرو إلى مطار أتاتورك، وأخرى من إسطنبول إلى كانو، وثالثة من كانو إلى إنجَمِينا. كان سائقُ السيارة الأجرة التي استقللتُها مصريًّا من مدينة الإسكندرية. كان رجلًا مُكتنِز الجسم، بَشوشًا، التَحفَ بمِعطفٍ يحتمي به من برد ساعات النهار الأولى. قلتُ له إنَّ طائرتي ستمرُّ — أثناء سفري إلى وجهتي المنشودة — فوق دياره القديمة. سألني عما سأفعله في تشاد. أخبرتُه أني في مطارَدة للطيور، والهجرات، والربيع. رمقني بنظرةٍ من عينيه ذواتَي اللون البُنِّي الداكن عبر مرآة الرؤية الخلفية.

كان قد درسَ مادة الأحياء في المرحلة الثانوية، بما في ذلك ما أسماه «المراحل الخمس لنظرية التطور».

«الانتخاب الطبيعي؟»

«نعم، الانتخاب الطبيعي!»

كان لديه سؤال لي.

«رأيتُ في بريستول نوارس في أقدامها حلقات. ماذا يجري؟ الحكومة تراقب كلَّ شيء في هذا البلد. هل تستخدم تلك النوارس في التجسس علينا؟»

لقد حذَّر عائلته من ذلك الأمر.

«حسنًا، إني أمزح!»

لكنه مع ذلك يريد أن يعرف الإجابة.

«هل يمكن لتلك الحلقات أن تخبركم، عبر الأقمار الصناعية، بمكان الطائر؟»

في صِباه، رأى الشِّباك التي تُنصَب على شاطئ البحر المتوسط بمصر لاصطياد السمَّان المهاجر. وطائر آخر، بعد موسم المطر في المكان نفسِه، يزيد في حجمه على حجم الإوزَّة المصرية، لا يكاد يستطيع الطيران، أو «يأبى أن يطير».

من اللافت للنظر أنَّ ثَمة العديد من الأشخاص — من غير المَعنيين بالطيور — الذين يحملون معهم ذكرى جَليَّة لبضعة طيور رأوها لكن لا يعرفون أسماءها. يعتاد المعنيُّون بالطيور أن يُسألوا عنها. وهم عادةً لا يَنشُدون في ذلك الوصولَ إلى إجابة دقيقة، ولا يتقبَّلون الإجابة إن حصلوا عليها. فأن يكون الطائر بلا اسم لَهُو أمرٌ أكثر عِظمًا وأشدُّ سحرًا.

ما تلك الإوزة المصرية الثقيلة التي تأبى مغادرة وطنها؟

«أهي نوع من الحُبارى؟ أو اللقالق ربما؟»

لم يكن يعرف تلك الأسماء. ومع ذلك، ظلَّ يُلحُّ في سؤاله الأول.

«هل تخبركم الحلقات بأماكن الطيور عبر الأقمار الصناعية؟»

«كلَّا، لا بد من الإمساك بالطيور مرةً أخرى. أو تثبيت جهاز «جي بي إس» بها لتتبُّع مكانها أينما ذهبت.»

كان ذهنه منشغلًا بفكرةِ ما رصدته نوارس بريستول عنه. ربما كان يعمل بوظيفة إضافية بخلاف دوامه الكامل.

«إنها ليست آلة بَث إذَن؟»

«كلَّا، ولا جهاز ملاحة عبر الأقمار الصناعية.»

كانت الرحلة بالسيارة لا تستغرق سوى عشر دقائق، وكان الطريقُ سالكًا في الثالثة صباحًا، لكن صديقي الجديد ضلَّ الطريق وسلكَ منعطفًا خطأً.

«أنا مهتم جدًّا بتلك المحادثة!»

•••

أثناء عبورنا الصحراء الكبرى، نظرتُ من الطائرة إلى الصحراء المظلمة الخاوية. أردتُ أن أُسمِّي ما لم يكن بوسعي رؤيته «شسوعًا»؛ كان شكِّي في وجود هكذا كلمة يجعلني أظن أنها قد تكون الكلمة المناسبة. حاولتُ أن أتخيَّل حميراء تطير شَمالًا أسفل طائرتنا فيما كنا نطير نحن جنوبًا. غلَبني النوم بعد ذلك بقليل وأنا جالسٌ في مقعدي المُجاوِر للنافذة، مُسنِدًا جبهتي إلى الكُوَّة البيضاوية.

في إنجَمِينا، التقيتُ كلير وصديقَينا جاس ومارجي ميلز، الذين أتى ثلاثتُهم إلى الشَّمال قادمين من جنوب أفريقيا. كنا ننوي الذَّهاب لمراقبة الطيور في الصحراء الكبرى لمدة أسبوع. أردتُ أن أرى الصحراء وأردتُ أن أرى بعضَ الطيور التي انتظرتُ أن تحلَّ ضيوفًا على أوروبا في الربيع وهي على وَشْك عبور الصحراء. قبل ذلك، سنتوجَّه جنوب شرق إنجَمِينا قاصدين المتنزه الوطني في زاكوما لبضعة أيام. هناك كنا نأمُل أن نرى بعضًا من الطيور المهاجرة نفسِها، بجانب طيور أخرى، في مساحةٍ خضراء على الأطراف الجنوبية للساحل الأفريقي؛ حيث قضت شتاءها.

قبل ذلك، قضينا ليلة في المدينة الحارَّة الغبراء. ومن شرفةٍ راقَبْنا ما كان بوسعنا رؤيته وراء الأسوار الطينية لنُزُلنا. كانت الشوارع خالية من النساء. وكان الصِّبيان يلعبون كرة القدم في ميدان عام فسيح. وتناثرت الدرَّاجاتُ البخارية الصغيرة، التي يرتدي راكبوها أثوابًا وكوفياتٍ بيضاء أو بُنية. وبين الدرَّاجات البخارية ولاعبي كرة القدم يسير رجالٌ يحملون بنادق نِصفَ آلية، ويرتدون نظاراتٍ شمسية وأحذيةً من الجلد الليِّن تشبه الخِفاف.

قُرْب وقت صلاة المغرب، من صف من شجيرات السَّنط، بدأت ثلاثُ هوازج شجيَّات (سيَصِلن قريبًا إلى وجهتهن في إسبانيا أو فرنسا أو إيطاليا) يُغرِّدن. لم ندرك ما نسمعه إلا بعد فترة من الوقت. كنا في أقصى الشرق بالنسبة إلى طائر متَّجِه غربًا كهذا. في البداية، لم أكُن متيقِّنًا من عدد الطيور ولا عدد الأنواع الموجودة منها. كانت أغرودتها ثرية، تفيض بالنغمات، وبعض المقاطع أو الجُمل الموسيقية بدت وكأنها تعلو فوق غيرها. الاسم العلمي لهذا النوع هو «هيبولايس بوليجلوتا»، وما سمعناه بدا كحديث بلسان أعجمي غريب عليها. في الحر والغبار، امتزجت الأغرودة بلزوجةٍ تُشبِه لُزوجة الشَّهد (لثلاثة طيور كلٌّ منها يغرِّد مرتَين في آنٍ واحد) مع أصوات المؤذِّنين القادمة عبر مكبِّرات الصوت من مآذن ثلاثة مساجد (أم تُراها كانت أربعة؟) تقطَّعت وجاشت كلُّها لتصنع حساءً ساخنًا راكدًا.

سجَّلت كلير أصوات الهوازج على هاتفها المحمول. حين أعدنا تشغيل أصواتها المسجَّلة، هبَّت الطيور من الأشجار محاولةً معرفةَ أيِّ شيءٍ ذلك الذي يغرِّد مثلها تمامًا. اعتبرتُ ريشها الأخضر اليانع لونًا أوروبيًّا — مزيجًا متنوعًا من ألوان الربيع في الوجهة التي تقصدها — إذ بدا نقيضًا لغبار إنجَمِينا. بيدَ أنَّ الطيور كانت قد نفضت ريشَها ونبتَ لها ريشٌ جديد في ذلك المكان الظَّمِئ أو في مكانٍ آخر يُشبِهه (في واقع الأمر، يحدث ذلك مرتَين؛ نفضٌ لكامل ريشها بعد قدومها من أوروبا في الخريف، يليه نفضٌ لريش الجسد وبعضٍ من ريش الذَّنَب في بداية الربيع قبل اتجاهها شَمالًا). لم تكن رهينة أي مكان.

علا صوتُ الأذان الشريف، فبدأت أغرودة الهوازج تنحسر. وغربت الشمس. ومن أحد أركان السماء التي خمدَ أجيجُ الشمس بها، رفرفت خفافيشُ فاكهة لها لون القَش. بعضها بدا مثل نحلاتٍ كبيرة مكسوَّة بالجلد، والبعضُ الآخر بدا مثل آلاتٍ طائرة صُنِعَت من الأسلاك والورق البُني اللامع. أحنَت رءوسَها أثناء الطيران، وكأنما تنظر إلى ما تفعله مذهولة. فقدَ أربعةٌ أو خمسةٌ منها أعصابها فهبطت اضطراريًّا على الشجر، طاويةً أجنحتَها المضطرِبة وقابضةً بمخالبها على أوراقه.

•••

إنَّ مراقبة الطيور في أفريقيا لا تكاد تخلو دائمًا من مزيجٍ من الأنواع المستوطنة والطيور الزائرة التي تكون مألوفةً أكثرَ لمسافر من أوروبا. بتلك المفارقات واللقطات التقابلية يزداد وضوح العالَم. في مدغشقر، رأيتُ سُنونوات حظائر قادمة من أوروبا تقتاتُ بالقرب من حيوانات الليمور وطيور شقراق الأرض. طائرٌ قَدِمَ من مكانٍ آخر كي يكون هنا. وطائرٌ يعيش هنا طوال الوقت يتقاسم تلك البِرك أو تلك الشجيرة الشوكية مع آخرَ يأتي ليمكث شهرًا واحدًا أو نحوه كلَّ عام. أحدُهما مهاجرٌ مخضرم، والآخر ربما يقضي حياته بأكملها في كَنف شجرة واحدة. يقف حوَّامُ سهولٍ فوق أحد أعمدة أسلاك الهاتف في الأرض العراء في المناطق الداخلية بمدينة كيب تاون وعلى العمود المُجاوِر له يقف حوَّام ابن آوى. يتكاثر حوَّام ابن آوى في أشجار الصمغ العربي حول البيت الريفي الذي يقع على بُعد حوالَي كيلومتر واحد، أما حوَّام السهول فعليه أن يطير إلى بحر آرال. يَعتبر هذا الطائرُ أيلًا ونَمرًا أرقطَ جيرانًا له من الثدييات؛ أما ذاك فلا يعرف سوى النَّمر الأرقط.

يزخر شهرُ فبراير في تشاد بمزيجٍ متنوع من حياة الطيور. في أول يوم لنا خارج إنجَمِينا، رأينا طائرَ أبو شودة، وثلاثة لقالق بيضاء، وأبلقَين شَماليَّين، وخمسةً وعشرين عوسقًا تحوم لصيد الحشرات، بالإضافة إلى هدهدِ غاباتٍ أسوَد معقوف المنقار، وطائر أبي قرن رمادي أفريقي، وعشرة من لقالق أبي سعن الأفريقي، وعشرين غرابًا مروحية الذَّنَب تدور في دائرة، وشرذمة من القنابر العصفورية الكستنائية الظهر مبعثَرة في الأخاديد الغبراء للطريق الترابي. وكلَّ يوم أعقبَ ذلك كانت الطيور تمتزج على ذلك النحو.

في زاكوما، قضينا خمسة أيام نتجوَّل في أرجاء المتنزَّه نراقب كلَّ ما بوسعنا مراقبته. مثل الوراور الجاثمة خارج أكواخنا — وراور كارمينية شَمالية ووراور شرقية صغيرة — كنا ندور في حلقات ونخرج في رِحلاتٍ استكشافية، ننطلق، ونقطع دروبًا، ثم نعود أدراجنا؛ خرجنا في رِحلات بالسيارة في الفجر والغسق؛ وسِرنا حين كان باستطاعتنا ذلك؛ ووقفنا وسط عاصفة من ملايين طيور الصعب الأحمر المنقار؛ وطُفْنا السماءَ في جولةٍ بالطائرة بحثًا عن الأفيال؛ وصافحنا بعض حُرَّاس المتنزه الذين خرجوا في دورية لمكافحة الصيد غير المشروع؛ وصافحنا بَدوًا كانوا يرعَون قطيعَهم عند الماء؛ وتفادينا الجواميسَ وتبِعنا الفهودَ؛ وطوال الوقت كانت تحيط بنا دوامةٌ من الطيور — بعضُها كان في موطنه الدائم، والبعضُ الآخر يعيش في موطنه المؤقت، بعيدًا كما عرفت عن موطنه المؤقت الآخر؛ إذ يُوشِك موسم الهجرة إلى أوروبا أن يبدأ للعديد من تلك الطيور في غضون شهر أو نحوه.

كان صنبور يقطر على الجانب الآخر من المُخيَّم من كوخنا بمثابة واحةٍ وسط أيكة الفَصل الجاف. أولُ طائر رأيتُه هناك تقريبًا كان ذكر حميراء، أكثر طائر أحتاج إليه كلَّ ربيع في حياتي في الشَّمال. بَدَت لفتة تحليقه مُهدَاةً إليَّ كهِبَة: انبساطُ جناحَيه وذنَبه كراحةِ يدٍ مفتوحة، تقول: سلام عليك، ومَرحبًا بك، أجل، هنا أيضًا بوسعك أن تزدهر.

يتبدَّل على زاكوما موسمان فقط: موسم الجفاف وموسم المطر. تمطر السماءُ بين شهرَي أبريل وأكتوبر. في ذلك الوقت تكون جميع الطيور الأوروبية المهاجرة قد اتجهت شَمالًا. لا تمطر السماءُ أبدًا في موسم الجفاف. تصل طيورُ الحميراء التي تقضي الشتاءَ هنا بعد مطر عام وتغادر قبل مطر العام الذي يليه؛ لن تَخبُر المطر أبدًا طوال الوقت الذي تقضيه في تشاد.

خرجنا. كان ثَمة ستة أُسود غافية تحت شجرة سنطٍ شوكية، تكاد أنفاسُها تنطق بأحلامها عن اللحم؛ وفوقها تكتكَت دُخلةٌ بيضاء العُنق — رفيقتي في جولات الركض الربيعية في سَبَخات كامبريدجشاير — وتململت بين الأوراق. من مراقبتي لها، فهمتُ أن كلَّ شيء يسكن زاكوما متأقلم بها. لا شيءَ هنا «غريب». لاحقًا رأينا بط صواي في بِركةٍ متلألئة من مياه الفيضانات: ما كان ينبغي لها أن تقطع كلَّ تلك المسافة جنوبًا (تقضي الشتاء في بريطانيا عادةً، وتتكاثر في أيسلندا وشَمال اسكندنافيا)، لكنها مع ذلك لم تبدُ غريبة على المكان. فوق الأسُود، على شجرة السنط المجاورة لتلك التي تقف عليها الدخلة البيضاء العُنق، كان ثَمة دخلةٌ بيضاء العُنق صغرى. وهما يُزقزِقان من السياجِ الشجري نفسِه الذي تغرِّد فوقه هازجةٌ بيضاء العُنق بصوتها الحادِّ أثناء جولاتي في الأراضي السَّبَخة. أصبح الطائر الآن جارًا للدخلة البيضاء العُنق، وربما يكون جارًا لها فيما بعد. ما بين أشجار السنط في تشاد وتلك في كامبريدجشاير، ستطير الدخلة البيضاء العُنق على الأرجح صوبَ الشَّمال الغربي مغادرةً أفريقيا؛ أما الدخلة البيضاء العُنق الصغرى، حتى إن كانت متجهة إلى حافة السبخات المُقفِرة المكسوَّة بالشجيرات الخفيضة نفسِها في غرب أوروبا، فستسافر بعيدًا إلى الشرق حول الجانب التركي من البحر المتوسط. تتضمَّن نفحةُ الربيع العظيمة التي تستنشقها أوروبا تلك الرِّحلات إلى كلا طرَفَي أفريقيا وأشجار السنط الشوكية المتشاركة في مُستهل الرِّحلات الطويلة التي تقطعها تلك الهوازج الصغيرة ومُنتهاها. ها هي ذي تلتقي هنا، وربما تلتقي هناك أيضًا؛ وبين هنا وهناك تقبعُ الصحراء.

في عصر أحد الأيام، حلَّقنا فوق زاكوما لمدة ساعة؛ تطفَّلنا بالركوب على رحلة طائرة استطلاع يقودها ناظِر المتنزه ريان لابوشين. حماية الأفيال هناك جزءٌ مهم من عمله (وهو شيءٌ نجحَ فيه، لكنه دفع ثمنًا باهظًا في المقابل). على المستوى المحلي، تُعَدُّ أفيال زاكوما مرغوبةً وغير مرغوبة على حدٍّ سواء. كما أن العالَم الأوسع مهتمٌّ بها كذلك. الأفيال سلعةٌ ذات رواج عالمي — فهي بمثابة وعاء ضخم للعديد من خيالات البشَر وانعكاس رمادي للعديد من رغباتهم. كما أنها ذات مقياس غير متناسب مع الزمن. تعيش في قطعان وتقطع أشواطًا طويلة، غير عابئة بالحدود. وهي كائناتٌ ضخمة، ويبدو أن مصيرها سيكون الهلاك؛ لأنها لم تعُدْ تُلائم الشروط والأحكام التي جهَّزنا بها العالم.

بعد الخُضرة التي تأتي مع المطر، ترتحل أفيال زاكوما شأنها شأن بَدو المنطقة — وللأسباب نفسِها — فتعرج جنوبًا عبر تشاد. ولأنَّ الأفيال تبحث عما يبحث عنه البدو الرحَّالة لأجل ماشيتهم وخِرافهم وماعزهم، فإنها تصبح غريمًا لهم. يقول ريان إنَّ البدو يظنون أنهم يملكون كلَّ شيء أينما حَلُّوا؛ والأفيال تسلك هذا السلوك جماعيًّا دونما وعي. تشتبك الأفيالُ أيضًا مع السكان المستوطنين حين تضع الهجراتُ الموسمية بحثًا عن النباتات القابلة للأكل آكلاتِ العُشب تلك في صدامٍ مع القرويين الزارعي المحاصيل. حتى إن بإمكانها أن تلتهم كلَّ طعامهم ومؤنهم.

كما أن هناك الصيادين غير الشرعيين الذين يسعون خلف عاج الأفيال لأجل قيمته المرتفعة، باعتباره منشِّطًا سحريًّا في بعض الثقافات الآسيوية، وباعتباره رمزًا للاستبسال والنضال والرجولة في بعض الثقافات العربية. يعتقد ريان أن أغلب عمليات الصيد غير الشرعي للأفيال في قطاعٍ كبير من أفريقيا، قام بها بضعة أشخاص فحسب خرجوا من السودان إلى بقية أرجاء القارة على ظهور الخيل. يستطيع أولئك الصيادون، إن احتاجوا لذلك، أن يقطعوا أربعين أو خمسين كيلومترًا خلال الشجيرات كلَّ يوم، مُتفادين الطُّرق ومتعقِّبين فريستهم. ويستطيع فيلٌ أن يسير مسافةً مشابهة. إذا تحرَّكت الأفيال، يتبعها الصيادون. وبعد أن يحصل كلُّ رجل منهم على ناب فيل، يعودون من حيث أتَوا، يحمل كلٌّ منهم الناب العاجي المقوَّس على ظهر فرسٍ أو جَمَل.

عرفنا تلك الأنباء الحزينة في نهاية رحلتنا بالطائرة، لكن قبل أن تنتهي، أخذتنا الرحلة إلى ما وراء العالَم الصاخب الذي من صنع البشر؛ إلى الفردوس. كانت أفضل رحلة جوية أذهب بها في حياتي. حلَّقنا منذ الرابعة والنصف عصرًا ولمدة ساعة، على ارتفاع تسعين مترًا والنوافذ مفتوحة، فوق غابات السنط والأجَمات الشوكية والأنهار البالغة الزُّرقة والأراضي الرطبة المُترقرِقة والسهل العُشبي الشاسع، تكشف لنا كلُّ لحظة تمرُّ حقائقَ كاملةً مُفرَّقة — إذ كان أسفل منا «دليلٌ كامل للأرض». حين يراه المرءُ من الجو وهو مُحلِّق فوقه مباشرة، يبدو الكوكب أكثرَ قابلية بكثير لأن يقع المرءُ في حبه مما يكون حين يُرى من الأرض. تحت الضوء الكاشف، بَدَت مَعالمُ الأرض واضحةً بدرجة باهرة. جدير بالذِّكر أيضًا: أن تضاريسه قابلة للفهم — مثل «كتاب نحو أرضي» — وهو ما لا يسعُ المرءَ إدراكُه حين يسافر عبر أراضيه الكثَّة. من هنا تبدو الحياة «مُنمَّقة». من هنا يُرى كلُّ شيء في الحاضر. طارت خمسةٌ من هداهد الغابات ذات اللون الأخضر القُزَحي من تاج شجرة سنط، وكان ثَمة قطيع من الجاموس لا ينفكُّ أفراده يخرجون من سحابة الغبار التي يُحدِثها ويعودون إليها، وانسلَّت دَزِّينة من التماسيح إلى نهرٍ حين أقلقها خيالُنا؛ هنا أرض مستنقعية برَّاقة تناثرَ عليها خمسون من طيور الكركي المتوَّج، وهنا «مدينة بجع» تحلِّق مبتعدةً، وهنا أول عشرة أفيال من أصل قطيع مُكوَّن من ٢٥٠ فيلًا بين بعض الأشجار، في سهلٍ عُشبي لغابة مفتوحة، تبدو ظهورها العريضة ذات اللون الرمادي الترابي أقربَ إلى تلالٍ منها إلى حيوانات، وتظهر كأنَّها حتمًا جزءٌ من المكان، وتبدو قريبةً منَّا للغاية حتى إننا كنَّا نهبِط إليها ونمتطيها.

كان كلُّ مكان مأهولًا على نحو بديع. كنا نصدر ضوضاء فجَّة ونحرق أحشاءَ الأرض كي نطوف بها، نُثير الحيوانات ونُفسِد الهواء، لكن من النوافذ المفتوحة، رأينا بالأسفل آليةَ عمل مختلفة للعالَم، بَدَت مُتقَنةً حَدَّ الكمال: «كائن حي» هائل، قارة تمتد في جميع الاتجاهات، دروب وممرات صنعتها الحيوانات، مسارات تحليق الطيور، آثار حوافر، عواصف الغبار التي تثيرها الأفيال، ذَكر مرزة باهتة يشرب من بِركة، آثار رماد جذوع شجر محترقة ضربها البرق فأضرمَ بها النار، أشجار تين وسنط، وقباب تيجانها الريعان، وزنابق الماء التي تشبه نجومًا منثورة بالأسفل تضيء لأولئك المتوارين في السماء الزرقاء بالأعلى، آثار الحياة على الكوكب، البَلى والتلف والإصلاح، التقاؤها وتزايُغها البهيج.

ما ماهية ذلك الحُب الذي شعرتُ به تُجاه تحليقنا في الجو عابرين فوق ذلك العالَم؟ ربما كان هو الحب الذي أشعر به حين أتصوَّر قُلَيعيًّا أحمر يحلِّق على ارتفاع تسعين مترًا، مُفعَمًا بالحياة وكأنما يطير وقد فتحَ جميع نوافذه، يحلِّق في تلك الأماكن لأول مرة، في خريف العام الذي فقسَت فيه بيضتُه في عشٍّ من العُشب المنسوج على رابيةٍ منحدرة باسكتلندا، وقد انغرست بالفعل خريطةُ رحلته داخل جمجمته الرقيقة كالورق بينما هو مُتكوِّم في ظلام بيضته الكِلسية، أو الحُب المماثل الذي أشعر به حين أفكِّر في عودة طائر، عودة ذلك القُلَيعي الأحمر نفسِه العامَ المقبل، وقد اختلفت معرفتُه بالمكان بعد أن ورَدَه بالفعل، بَيدَ أنه يأتي مجددًا ليحلِّق فوق تلك الأشجار المتناثرة والعُشب الجاف بينها، ثم يهبط ليجد مكانه.

كلُّ شيء بالأسفل مؤاتٍ — هنا «سَكن». تتباعد المسافات التي تتخلَّل الغابة المفتوحة حتى يصير العشبُ أكثرَ من الأشجار، ثم لا يعود ثَمة شيءٌ سوى شجرة واحدة في وسط رقعة من العُشب، ثم لا يعود ثَمة شيءٌ سوى العشب. ذكَّرتني رؤية ذلك بفقرة في بداية كتاب «الرياح والرمال والنجوم» يسترجع فيها أنطوان دي سانت إكزوبيري أيامَه حين كان طيَّارًا مبتدئًا، حين نصحه الطيَّار المخضرم جيوم بشأن رحلةٍ كان من المُزمَع أن ينطلق بها عبر إسبانيا.

يا له من درس جغرافيا غريب ذلك الذي أعطانيه! لم يحاضرني جيوم عن إسبانيا، بل جعلني أصادقها. لم يحدِّثني عن جغرافيا المسطَّحات المائية أو تَعداد السكان أو الماشية. عوضًا عن الحديث عن وادي آش، تحدَّث عن ثلاث من شجرات البرتقال على طرَف حقل بالقرب من وادي آش: «ترقَّب تلك الشجرات، وحدِّد موضعها على خريطتك …» ومنذ ذلك الحين صارت شجرات البرتقال الثلاث تلك أهمَّ لديَّ من سلسلة جبال سييرا نيفادا.

«جعلني أصادقها». منذ أن قرأتُ لسانت إكزوبيري أول مرة، منذ أربعين عامًا حين كنتُ أتجوَّل في يوغوسلافيا، وأنا أحاول إيجاد شجرات البرتقال تلك. واليوم، بفضل التقنيات العسكرية وتقنيات التجسُّس الأمريكية، صار بوسعنا جميعًا أن نرى — على أي شاشة — ثلاثَ شجرات برتقال (بل أكثر من ثلاثة) لا تزال موجودة في نطاق وادي آش. لكنها موجودة في أماكنَ أخرى أيضًا. خُيِّل إليَّ أني ربما رأيتُها يوم عيد الربيع، حين سافرتُ من جزيرة فولا إلى البَر الرئيسي لجزر شِتلاند على متن طائرة صغيرة اضطُرَّت للانزلاق من فوق جُرف كي تحلِّق في الهواء، تشاركتُها مع تلاميذ الجزيرة الثلاثة الذين كانوا في طريقهم إلى درس سباحة، وقد ارتدَوا بالفعل لباسَ السباحة وتلحَّفوا مناشفهم. كان المهبط الحجري الذي سلكناه إلى الجرف هو المكان الذي وجدتُ فيه منذ ساعة كروانَ حصًى، ذلك المهاجر الربيعي النادر ذو السرعة الفائقة، وفيما كنا نزيد من سرعتنا للإقلاع، طار من حافة المهبط العشبية ولبرهةٍ رافقنا. خُيِّل إليَّ أني رأيتُ جوهر شجرات البرتقال الثلاث تلك مرةً أخرى بينما كنا ندنو من الأرض في مهبط الطائرات ببلدة ماروانتسيترا شرق مدغشقر، بعد رحلة جوية محلية من العاصمة أنتاناناريفو تشاركتُها أنا وكلير مع صفٍّ من الدجاجات والديوك الصغيرة في سلَّاتٍ منسوجة كانت تقيق وتصيح حين بدأنا في الهبوط. كانت تجلس في مقاعد الدرجة الأولى، بينما كنا نحن نجلس في الدرجة الاقتصادية. بالخارج، رأيتُ ستة مراهقين يسوقون أغنامهم بعيدًا عن الميدان الخارجي العُشبي للمطار الصغير، ثم يقفون باسطين أذرعهم مشيرين إلى طيارنا أنَّ ذلك الطريق سالك.

فيما عبرنا السهلَ العُشبي العظيم في زاكوما، تمنَّيتُ بصوتٍ عالٍ أن أُبعثَ في صورة بَدوي. قال ريان إنه يود ذلك أيضًا. أسفل منا على العشب كان ثَمة رجال — لوَّحتُ لهم عبر النافذة المفتوحة — يسيرون مع قطيع أغنامهم قادمين من مكان سَقي، بعدهم بمسافة كانت النساء ينصبن المُخيَّم، يفككن خيمةً طويلة، ويحملن عربة ويلجمن ثيرانًا بُنية وبيضاء. بالطبع، أنا لا أحبُّ الحليب، وتُشعِرني الأغنام بالتوتر، وحسَّاسٌ تُجاه هجمات البعوض، ولا أُحسِنُ العيشَ مدةً طويلة دون استحمام، إلى غير ذلك من أمور، لكن أن أتنقل على ذلك النحو، وراء الخُضرة اليانعة، بسرعة المشي العادية في عالَمٍ كهذا …

أو ربما بوسعي أن أكون بَدويًّا رحَّالًا له جناحان. قُلَيعيٌّ أحمر.

بابتسامة جادَّة، حين عُدنا إلى غرفة التحكم الخاصة به في المقر الرئيسي لإدارة المتنزه، أطاحَ ريان بتلك الأحلام وطردَ جميع تلك الأفكار الحالمة بكفاءةٍ شديدة. تحت صور فوتوغرافية لأفيال مذبوحة (شُقَّت وجوهها من موضعَي نابَيها) وصور فوتوغرافية لحُرَّاس المتنزه الذين قُتلوا في معارك بالأسلحة النارية مع الصيادين غير الشرعيين (وجوه حيَّة لرجال قضَوا نحبهم)، تحدَّث عن مخزن أسلحته، عن مَدافع الهاون التي تبرَّع بها رئيس تشاد، والذخيرة الصينية التي يصدرها لحُرَّاسه (الذين كان منهم يومًا الرجالُ الستة الموجودون بالصور، الذين قُتِلوا جميعًا عام ٢٠١٢ على يد صيادين سودانيين كانوا خارجين من معسكرهم الخفي في ضوء الفجر بغرض الصيد)، وأرانا غرفته المحصَّنة التي لا نوافذَ لها وما حوَته من قاذفات قنابل والعاج المُصادَر الذي ينتظر إحراقه — أربعة أنياب مقوَّسة يَزنُ كلٌّ منها نحو أربعين أو خمسين كيلوجرامًا، تستقر في ركن مظلم فبدَت كشظايا مهجورة من القمر.

•••

رأينا قُلَيعيًّا أحمر ذلك اليوم. كان ثلاثة منها تقتاتُ عند ضفة السهل الفيضي الذي عبرنا فوقه بالطائرة آنفًا. وكان هناك أيضًا ثلاثةٌ من طيور الجُشنة المهاجرة الحمراء العُنق تمشي بينها، تملأ أيضًا مناقيرها بالحشرات. مع انخفاض الشمس، توهَّجت الخطوطُ الرملية اللون الدافئة على طيور القُلَيعي الأحمر والرقط الوردية على أعناق الجُشنات.

كنت في الغرفة المحصَّنة لكن العالَم تعافى مجددًا.

ثم أسَرَتنا طيورٌ مختلفة تمامًا. كنا قد انتقلنا إلى مركز تلك الساحة الضحلة من العُشب المبتل كي نشهد حدوث الأمر. يكون وقت الغسق قصيرًا في كل أرجاء أفريقيا الوسطى؛ فما أن تغرب الشمسُ حتى يسرع الليلُ بالمجيء. كانت تجيء بالليل هنا مجموعةٌ مدهشة من خِرقات مسح الصحون رمادية قذرة ومرفرفة، هي في الأصل ستة ملايين صَعبٍ أحمر المنقار. أنزلت تلك الطيور الشمسَ. وحين اختفى ضوءُها، تصاعد دخانٌ من نوعٍ ما من الأشجار عند حافة السهل. ربما كان ندًى يتبخر، أو ربما كان برغشًا خرجَ من شرانقه. كان يشكِّل أسطواناتٍ ولفائف وحِبالًا وموجات، أمتارًا مُرسَلة لأسفل، وراياتٍ وقمصانًا وسراويل، والآن صار يتدفَّق كلُّه من جميع الأنحاء ويزحف نحونا، في البداية على ارتفاع شجرة، ثم بدأ يتماوج لأسفل في منحنًى متصل لِيَصل ارتفاعه إلى متر أو أقل من العُشب حتى ابتلعنا تمامًا حين بدأت طيور الصَّعب تصل إلى مجاثمها حولنا.

كانت تَجرِبتي الوحيدة المشابهة لذلك التي باغتني فيها شيءٌ ما بتلك السرعة (سرعة تميِّز ذلك العالَم لكنها مع ذلك مُذهِلة) حين أظلم كُسوف الشمس عام ١٩٩٩ السماءَ تمامًا بينما كنت أقفُ على مرتفعات دارتمور بمقاطعة ديفون. في تشاد، تُحدِث ذلك التأثيرَ أُلوفٌ مؤلَّفة من تلك الطيور الصغيرة ذات اللون الرمادي المائل إلى البُني التي تشبه العصافير. نشزت من أسرابها قليلًا كي تتفادانا ثم دارت حول الشجيرات وحطَّت حيثما استطاعت. كان الصخبُ الذي تُحدِثه تلك الطيور — وإن كنت أرى أن من الأدق فيما يبدو الإشارةَ إليها بصيغة المفرد لوصف تآلفها — أشبه ببطارية دجاج هائلة. أزيز كهربائي: ستة ملايين زقزقة، واثنا عشر مليون جناح يُرفرِف، وصوت ارتطام فضلات كل طائر متغوِّط في السرب الذي يشبه صوت هطول المطر. كانت فوضى عارمة، سيلًا بُنيًّا لقاءَ العين، وكانت ثَمة رائحة كذلك، استنشقنا عبَقها، في الهواء حولنا، الأجواء بأكملها صارت صَعبًا.

استُخدم الديناميت وقاذفات اللهب لمحاربة تلك الطيور في أنحاءٍ أخرى من أفريقيا. فهي تُعامَل معاملة الجراد. عقلُها المشترك يُحرِّك الجبال، ويقضي على كل أخضر ويابس فيها. ولا شك أن تلك الحشود الكبيرة تأكل بكمياتٍ هائلة. إنها تحبُّ الحبوب. والأدهى من ذلك أنها لا تشبع أبدًا: فهي تقضي على منطقةٍ وتحوِّلها إلى بُقعة جرداء، ثم تنتقل إلى ما يليها، مُوسِّعةً نطاق سطوها. لا يَسلم منها محصولُ حبوب. إنها طيورٌ ناهبة. عددُها زائدٌ عن الحد. وهي نفسها تجاوزت الحد. عددُها فائضٌ عن حاجة العالَم، ومع ذلك لا تزال تتكاثر؛ طيورٌ مهاجرة لها صفة الغزاة والمفسدين، تُغِير على كل نافع ومفيد.

إنها تبدو في نظري غيرَ مكتملة. في خِضمِّ تعجُّلها للمُضي قُدُمًا، لم تكد تتكبَّد عناءَ الاجتماع. وهي تشبه أسلوبَ معيشتها: ظروف حياتها وليدة نفسها. تشبه تلك النِّعال المُقولَبة التي تكسو قَدم العالَم، والتي رأيتُها في كل مكان في تشاد، نِعالٌ بالية ممزَّقة مدسوسة في التراب على هامش طريق كل بلدة. هي تتكاثر بمعدلاتٍ تفوق الحاجة، تفيض وتطفح. وعندما تأتي، فإنها تجيء دومًا في أعدادٍ كبيرة للغاية. إنها مثل المطر والغبار. وربما هي مثلنا أيضًا.

تحاشدَ كلُّ سرب منها، حوالَي ثلاثة آلاف طائر أو يزيد، وتضخَّم وهو يعبر المنخفض الموحل والعشب المغمور بالماء. لَحِقَ ذَكرُ مُرْزة شاحب كان يقف منتظرًا، يود افتراسَ صَعبٍ في رَكْبِ أحد الأسراب، وحلَّق بجوار أفراده محاولًا الاقتراب من السرب بمسافةٍ كافية كي يختطفَ أحدها. قرَّر السرب (وهو أمرٌ غير مفهومة ماهيَّته حتى لحظتنا هذه) أنه يود شرب الماء قبل النوم، فتضامَّ هابطًا إلى ارتفاعٍ أقربَ إلى الأرض ثم لامسَ كلُّ طائر الماءَ للحظة (وهي مدة كافية) قبل أن يرتفع مرةً أخرى مخلِّفًا خيطًا مُتماوجًا في ذلك البساط الكَث. كان الهبوط منحدرًا من الأعلى وخلخل الهواء كمِكنسة كهربائية، فدفع بالمُرْزة لأسفل ليهبط هبوطًا اضطراريًّا وتركه واقفًا في الوحل، فبدا في انكساره الرمادي وكأنه رايةٌ قديمة، مُتهالِكة ومُهمَلة.

حين بلغت طيورُ الصَّعب الشجيرات التي كنا نقف عندها، تدفَّقت إليها ومنها على هيئة نقاط وشُرَط. كانت فوضوية وصاخبة للغاية. وكأنما نُزِع الغطاءُ الخلفي لآلة هائلة — آلة العالَم — فصار بالإمكان رؤيةُ جميع أجزائها المتحركة وهي تعمل فوق طاقتها. بدت الطيورُ حينئذٍ مثل سطورٍ من نصوص التعليمات البرمجية أو مثل سلسلة أوامر رقمية هائلة تعمل بسرعة، يكاد كلُّ رقمٍ بها يكون مماثلًا لسابقه وتاليه، ولا تُحَل أو يكون لها معنًى إلا مجتمعةً.

لم ينفكَّ يصل المزيدُ منها، وكلٌّ يجد موضعًا يحط فيه. حملت معها آخِر ما تبقَّى من ضوء الشمس، ذرَّات بُنية منه، وفيما كانت تحط على الشجيرات، حلَّ الليلُ فغفَت في لحظتها تقريبًا.

استيقظنا اليوم التالي قبل بزوغ الضوء بوقتٍ طويل كي نرى الطيور وهي تغادر مَجثمها. عند حافة ذلك الموقع كان ثَمة مَهجع جاموس. أثناء مرورنا بجانبه، كان قطيعٌ مكوَّن من مائة يستيقظ من نومه، تنبعث من العشب المهشَّم الذي اتخذوه ملاءات لفُرشهم رائحةٌ كرائحة حظيرة البقر. في السادسة، وعند بزوغ أول شعاع من ضوء الشمس، بدأت صفوفٌ من الصعاب تنسلُّ من الشجيرات وتتدفق في شتَّى الاتجاهات. كان الأمر يشبه انحلال خيط من شلة يصحبه صخبٌ بالغ. مثل ضربات سوط بُنِّي، خرجت الطيور من كل الشجيرات دفعةً واحدة. انطلقت على هيئة كابلات مفتولة وحلَّقت بعيدًا. كانت لا تزال متلازمة — فهي لا تكون إلا كذلك — لكنها الآن كانت تحلِّق في الجو مرةً أخرى، وذلك أقربُ التقاء لها.

حينها رأيتُ أن الشجيرات صارت عارية. ما كنت أظنه أوراق شجر في ضوء الشفق كان في الحقيقة طيورًا. انبعثت من الأشجار التي غادرتها الطيور لتوِّها رائحةٌ كريهة نفَّاذة، تشبه رائحة مَهجع الجاموس أو فراش أسد لكنها أضعاف أضعافها. تحت كل شجيرة كانت تستقرُّ أكوامٌ من الفضلات البيضاء المائلة إلى الرمادي. فوق كلِّ كومة كانت ترقد جثة أو أكثر — لطيورٍ نافقة نفوقًا طبيعيًّا، وهو أمرٌ تندُر رؤيته. جاءت الحِدآن الصفراء المنقار ومُرْزات المستنقعات الأوروبية والغِربان الرقطاء إلى المجثم باحثةً عن الطيور المريضة أو الكسولة. أخيرًا، رأيتُ عملية اقتناص: مدَّت مُرْزة مستنقعات مُحلِّقةٌ إحدى ساقَيها إلى جانب جسدها وقبضت بها على صَعبٍ كان مارًّا من جوارها. بَدت لفتةً تلقائية. ولم يبدُ أن أيًّا من الطائرَين لاحظَ ما جرى.

•••

بعد أيام من تلك الوجبة المشبعة في زاكوما، اتجهنا شَمالًا إلى منطقة الساحل، وسِرنا بالسيارة في السهل العراء المنبسِط لعدة ساعات على أراضٍ وعْرةٍ مكسوَّة بنباتاتٍ شائكة. سِرنا في القليل من القطران لمسافة قصيرة، ثم في الكثير من التراب، ثم في رمالٍ لا حدود لها. منذ أن قطعنا مسافة نِصف يوم من زاكوما، لم نرَ أيَّ شيء أخضر، عدا قلةٍ من الأوراق الصغيرة الكانزة للندى المبعثرة على أشجار السنط المتناثرة. كان البدو الرحَّالة وقطعانهم يتحرَّكون بجانبنا، بعض الرحالة كانوا يحملون عِصيًّا طويلة ويسيرون مع حيواناتهم، وبعضهم كانوا يمتطون صهوات الخيول ويحملون رماحًا طويلة، وبعضهم كانوا يركبون الجِمال والحمير، بدت الجِمال كبيرة جدًّا بالنسبة إليهم، والحمير بدت صغيرة جدًّا. عند بِركة سَقي، كان ثَمة صبيٌّ صغير يرتدي قميصَ فريق برشلونة لكرة القدم، يمتطي بقرةً ذات قرنَين عريضين ويسوقها إلى الماء. بقرة من قبائل البورورو المشهورة بأبقارها.

تابعنا المسير بالسيارة. كلُّ قرية نمرُّ بها كان على مدخلها ومخرجها ما يشبه المتراس: قطعة حبل تتدلَّى بعرض الطريق من عَصَوين. تسود الخلافاتُ بين الكائنات المستقرة والمرتحلة منطقة الساحل: الناس والأماكن والطيور. فأحيانًا نرى على هامش الطريق رجلَ شُرطة يجلس القرفصاء، وأحيانًا يكون مكانه فزَّاعة (خيال مآتة). ثَمة مباحثات عدائية دائمة بين الكائنات المستقرة والمرتحلة في تشاد، ولكننا استطعنا أن نجتازها بسيارتنا عبر الحد الفاصل بينهما مباشرةً.

كانت تلك قُرى مزارعين، بها أكواخٌ دائرية مسقوفة بالقش، كثيرًا ما يزيِّن قمةَ سقفها بيضةُ نعامة مربوطة فوق عصًا، وهي تميمة حظ للأزواج الجُدد. في الحقول، كان رجال ونساء يحملون مَعاول يضربون بها أكوامًا من نبات السورغم ذي اللون الأحمر القاتم. أحيانًا تُرفَع المحاصيل في الأشجار وتُخزَّن بها — فتبدو كعشٍّ ضخم لطيور الحبَّاك الاجتماعي. بعض المزارعين الآخرين يبنون قناطرَ خشبية أو يستخدمون أسطح أكواخهم لتخزين محصولهم غير المدروس أو التبن بعيدًا عن مكان رعي أغنامهم. توفِّر تلك الأكوام المرفوعة الظلَّ. تجتمع الأُسر تحت محصولها في غُرَف المعيشة الخارجية تلك، ويستخدم آخرون تلك المساحة المُظلَّلة مُصلًّى أو متجرًا. كان الحليب يُباع في زجاجاتِ مشروباتٍ غازية قديمة، وفي زجاجاتٍ مثلها يُباع زيت الطهو والوقود.

توقَّفنا نحن أيضًا لتناول غدائنا في ظل بعض الأشجار. احتلَّ حشدٌ خامل من لقالق أبو سعن أفضلَ شجرة سنط. كلُّ شيء كان يريد الاحتماءَ من الشمس. على أرضٍ غبراء تحت الأغصان المتشابكة لأَثْلة، كان زوجٌ من أبو حناء الأحراش الأسود يتزاوجان، يعلو ذنَباهما الطويلان المخطَّطان بالأسود والأبيض ويهبطان، وتظهر على جناحَي الذكر الساترَين الفاحمَي السواد رُقعٌ بُنية مائلة إلى الحُمرة، أدركتُ الآن أنه لون رأس نَبْتة السورغم. كان هنا أيضًا طائر مُرشِد عسل أصغر وكذلك طائر باربيت فايو، ثم بدأت تظهر بضعة طيور أوروبية: هازجة ليمونية وأنثى حميراء تبعَها ذكر. سعدتُ، كعادتي دومًا، أن سمحت لي بأن أكون في رفقتها. توقَّفت جماعةٌ من البدو الرحَّالة على الجِمال هنا أيضًا، فطار ذكر الحميراء الذي أثار قدومهم حماسته ليقترب من تلك الحيوانات محاولًا أن يلتقط حشرة من الأرض الملتهبة. وبينما عاد ليتخذ ساترًا، مرَّ بين قائمتَي جمل مُعطيًا في عجالةٍ قصةً وعظيةً ما. قبل أن ننطلق مجددًا، خلع الطباخ والسائقون التشاديون نِعالَهم وغسلوا أيديهم، وجثَوا على الأرض يصلُّون.

ازدادت الأجواءُ غبارًا. صِرنا الآن على مسافة مسيرة يوم من زاكوما التي تركناها وراءنا جنوبًا، بدت ذكرى زاكوما — حتى وهي جافة في موسم الجفاف — مثل الحضن الدافئ. كنا نُفطَم عن هذا الدفء ونحن نتجه شَمالًا. كلُّ شيء تحوَّل إلى اللون الترابي. صارت الأشجار أندرَ، والطيور أقلَّ. بدأت أُحصي القنابر التي استطرناها من جانب الطريق الرملي. هي طيور تزدهر في الأجواء الجافة، وهي خبيرة بالأراضي القاحلة: القنابر العصفورية الكستنائية الظهر، والقنابر العصفورية السوداء المُتوَّجة، والقنابر القصيرة الأصابع، والقنابر المُتوَّجة. بدت في زاكوما كلُّ أشكال الحياة متصلة، متناغمة ومتداخلة — أما الآن فقد بدأت الصحراء تُظهِر عالَمًا مفككًا. أول صدمة تلقَّيتُها من الصحراء الكبرى كانت نُدرة كل شيء فيها عدا الغبار. وكيف أن كلَّ أشكال الحياة قد صارت هَباءً، عبارة عن دقائق صغيرة. تعني كلمة «خاكي» باللغة الأوردية مغَبَّر اللون. وتعني كلمة «خاك» باللغة الفارسية الغبار. يقف الغبار — الذي يتحوَّل بوضوحٍ أكبر إلى رمالٍ بعد مسافة شَمالًا — بين كل عملية رصد وأخرى. يتخلَّل الغبار كلَّ شيء — مثل الصداع النصفي — ليصير جزءًا منه، لكن لأنه في ذاته مكوَّن من أجزاءٍ منفصلة، فإنه يشتِّت كلَّ شيء كذلك. إنه يتماسك مؤقتًا فحسب، لكنه لا ينفكُّ يَضعُف ويتبدَّد. حتى الحجارة في تلك المناطق غبارٌ، غبارٌ متماسك مؤقتًا. كلُّ ما يحاول العيش في تلك الظروف يبدو منفصلًا كذلك عن الكائن الحي الذي يليه. بين كل عملية رصد والتي تليها، كان ثَمة الكثير مما أردتُ أن أسمِّيه اللاشيء. أعرفُ أن ذلك ليس صحيحًا، لكني أعرفُ أيضًا — مثلما علَّمتني الصحراء — أنَّ كلمة «اللاشيء» تعبِّر عن شيء من هشاشة صور الحياة وضآلتها في ذلك المكان، موطئ أقدامها ولُهاثها.

•••

في مدينة أبشي، بعد أن اشترينا آخِر خضراواتٍ وجدناها وكيلو من «طحين اللحم المجفَّف»، جلسنا في رواق مظلَّل خارج دكان صانع أحذية. كانت الخِفاف التي يصنعها تشبه طيور القُنبَرة. جلسَ الرجلُ العجوز وبعضُ صِبيته المتدربين القرفصاءَ على الأرض. كانوا يقصون من جلود الماعز أجزاءً علوية ونِعالًا لها شكل الأحذية ولون الرمال. كانوا ينعِّمون الجلد يدويًّا، بفركه بشمع النحل العَنبري. كلُّ شيء يصنعونه كان له لونُ نوعٍ ما من الرمال. في خِضم تركيزهم، ترك الحِرفيون أحذيتهم تنزلق من أقدامهم العارية، وبين الفينة والأخرى، كان هذا الحِرفي أو ذاك يتحسَّس بأصابع قدمَيه الممدودتَين حذاءَه. كانت مراقبة ذلك تشبه رؤية القنابر تهبط درجات الهواء من السماء إلى الرمال.

كان الدكانُ المجاور «صالون حلاقة» عُلِّقَت على جدرانه صورٌ فوتوغرافية لنجوم راب. كان الحلَّاق نائمًا في كرسي حلاقته كعادة الحلَّاقين في كل مكان. بعد ذلك، لاحظتُ أن الحائكين هم الوحيدون في مدينة أبشي الذين يرتدون النظَّارات. بعدهم كان ثَمة «عيادة أسنان (سورية)»، ملاصق لها كشكٌ يبيع مساند جلدية منسوخة عليها كلمة «تشاد» بالفرنسية وشعار الأرنب الخاص بمجلة «بلايبوي». آخِر لافتة في الرواق كانت لافتةً مُعلَّقةً أمام غرفة خاوية، مكتوبًا عليها «بَيْع مثلَّجات».

في بلدة كالاءيت، محطتنا التالية في رحلتنا إلى الشَّمال، تمشَّت ذُعَرة بيضاء مهاجرة في الغبار والتراب في شارعٍ مليء بالحدَّادين، يشبه ذنَبها ذو المضخَّة الكِيَرة. لاحظت كلير أن الحدَّادين عدَّلوا هياكل محركات سيارات «لاند كروزر» قديمة ليستخدموها سنادينَ في وِرش حدادتهم الصحراوية. هي تحب سيارات «لاند كروزر». أعادوا أيضًا تدوير الحديد المأخوذ من براميل النفط ليصنعوا منه رءوسَ فئوس، ومغارف، وملاقط ثقيلة لإزالة الأشواك. مرَّ بنا صبيٌّ يجلد حماره بسلك توصيل خاص بهاتف آيفون. كانت سروجٌ للجِمال معروضة للبيع. وكان ثَمة عصافير دورية بالقرب من أفران الخبز الخارجية. حاول رجلٌ أن يبيعنا عنزة صغيرة بوضعها بين ذراعَي كلير، لكننا لم نشترِها. كان مذاقُ الخبز المُسطَّح المُحبَّب قليلًا المسوَّى في الأفران يشبه المكان الذي نظن أننا قاصدوه.

•••

ثَمة علاماتٌ عِدَّة على خرائطَ كثيرة تشير إلى الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى. إحدى تلك العلامات هي خط تساوي المطر الذي يبلغ عنده معدل هطول المطر السنوي ١٥٠مم. شَمال مدينة أبشي، عبرنا خط العرض السادس عشر، وهذه علامة أخرى. تطلَّعت حولي؛ إذ كنت أتطلع حولي طوال الوقت. ملاحظاتي عن الصحراء مُدوَّنة في دفتر ملاحظاتٍ أخضر اللون. معظمُها دوَّنتُه أثناء تحرُّكنا وأنا جالس في المقعد الخلفي لسيارة «لاند كروزر». كان المسار، بعد أبشي، يكاد يخلو من أي طريق من أي نوع. وفي الغالب، كان اجتياز أي مسار أيُّما وُجِد أصعبَ من السير في الأراضي المكشوفة الممتدة حولنا. فلم يكن أيٌّ منها سلسًا ومنبسطًا، وسجَّلَت ملاحظاتي المَطبَّات والارتطامات والارتجاجات والترنُّحات كما لو كانت جهازًا لقياس الزلازل. هنا في ذلك الوادي رأينا للمرة الأولى هوازج روبل مهاجِرة. والآن نغادر واديًا كان فيه حُبارى عربيٌّ نافِق. هنا ذرات الرمال الدقيقة الناعمة، وهنا حيث كانت تمرُّ سُنونوات حظائر. كانت تضاريس السطح تفرض نفسها على ما أحاول كتابته أيًّا كان. وكانت أيضًا تحثُّ على الاقتضاب. فكتابة الجُمل ليست بالأمر السهل حينما ينحرف مكتبك على الرمال فجأةً أو يرتجُّ أثناء المرور فوق صخرة مُهشَّمة. أينما أكون، لا تتعدَّى ملاحظاتي مجرد قائمة بالطيور، لكن هنا كانت مدوِّنة الملاحظات هي حشرة أبو مقص تمشَّت في صفحاتي وقوائمها مُلطَّخة بالحبر. استلزمت الظروفُ أن تكون كتاباتي خربشاتٍ بسيطة، لكن تلك أيضًا صدَّقت عليها الصحراء. ولقاءَ «شُسوعها» — الذي كان يضرب وجهي حرفيًّا، ذرة لاسعة تِلو الأخرى — استحالَ الإتيانُ بأي تعبيرٍ متناسب معها أو مكافئ لها. ما نفْعُ دفتري الصغير الأخضر أمام ذلك العالَم الرملي المَهول؟ مَن ذا الذي يستطيع أن يصف بنثرِه اتساعَ المنظر أمامنا أو حَرَّ النهار: الخواء الذي يُصدِر صوتًا كالأزيز، والسواد الذي تراه عيناك في أكثر الأوقات سطوعًا، والحقيقة العارية لكوكبٍ غيرِ مأهول، شعور أن تكون متفرجًا في أول يوم لك على كوكب الأرض؟ لم تكن أدواتي اللُّغوية بأقدر على ذلك من قدرتي الجسدية. لم تكن في معجم مفرداتي ألفاظٌ تُناظر ما رأته عيناي. معرفتي ضحلة بما أسماه هنري ديفيد ثورو «الشفق المعرفي»؛ ولذا لا أملِك «نحوًا» خاصًّا بي. كان ذهني مُستنزَفًا ومُرهَقًا. كانت الصفات وعبارات التعجُّب لا تنفكُّ تَرِد على لساني لكنها جميعًا تلاشت في الهواء الجاف.

عرَف الشاعر السويدي توماس ترانسترومر تشاد. كان في صِباه مهتمًّا بالحشرات بشغف، وكان يخطِّط (مثلي ومثل كثيرين غيري) لأن يصبح مستكشِفًا لأفريقيا. لكنه صار شاعرًا وعالِمَ نفسٍ عوضًا عن ذلك. في قصيدةٍ نثرية بعنوان «الاعتدال»، وتُرجِم العنوان أيضًا إلى «الوقوف»، يتذكَّر يومًا قضاه في تشاد (تلك هي ترجمة روبرت بلاي). ومع أن القصيدة تتحدَّث عن المشي على الماء واستحالته، فإنه يمكن أيضًا قراءتها عند محاولة اجتياز الصحراء.

كان على ضفاف بحيرة تشاري قواربُ عديدة، وكانت الأجواء يسودها الودُّ الخالص، والرجال يكاد يكون لونُهم أسودَ مائلًا إلى الزُّرقة، وعلى وجنتَي كلٍّ منهم ثلاثُ ندباتٍ مُتوازية (تعني أنهم من قبيلة سارا). دُعيت إلى متن قارب، زورق نُحِت من جذع شجرة داكن. الزورق مُتزعزِع للغاية، حتى حين تجثو عليه. وهي حركة تريد بها الحفاظ على اتزانه. وبما أن قلبك في الجهة اليسرى من جسدك، فعليك أن تَميل قليلًا إلى اليمين، يجب أن تخلِّي جيوبك، وتتجنَّب الإشاحة بقوة بذراعَيك، وأن تترك كلَّ أشكال البلاغة خلفك. هذا أمرٌ ضروري: فالبلاغة ستُفسِد كلَّ شيء هنا. ينساب القاربُ على سطح الماء.

لكي تعرف كيف تكون رحلةٌ بالزورق في نهر صحراوي، استبدِل بها عِبارة رحلة بالسيارة عبر الصحراء. يجب أن تترك كلَّ أشكال «البلاغة» خلفك.

مرَّاتُ التوقُّف للتبول مُسجَّلة في دفتر ملاحظاتي لأننا رأينا في كل مرة منها هوازجَ مهاجرة في أشجار السنط الشائكة القريبة، لكن كان ذلك غالبًا هو كل ما استطعت أن أحمله معي من تلك الأماكن. حتى البول كان شحيحًا. كانت قطرات بولي المالحة تسقط على الرمال — البَلَل الوحيد الذي لمسَها منذ زمن طويل — لكنها ما تلبث أن تجفَّ إلى حُبيباتٍ مالحة بمجرد أن يبتعد ظِلي. وعليه، فإنَّ كلَّ ما كان لديَّ وقتها هو دفتر ملاحظات مملوءٌ بأسماء طيور، وملاحظات من سطر واحد، وبُقَع عَرَق، ومشاهدات مُفاجئة اختطفتُها من عين الشمس، لطَّختها للأبد مسيرتُنا الغبراء.

لكن عسى أن يكون في جَدْب بياناتي تبيان لحالِ طيور الصحراء الكبرى. تلك الطيور المهاجرة (والأنواع القليلة المقيمة التي تتحمَّل الحياة في الصحراء طوال العام) هي مجرد نقطة أو شَرطة، علامة أو ذَرة فيها. يُقاس بطريقةٍ ما وزنُ هازجة صفصاف تطير شَمالًا عبر الصحراء في الربيع في مقابل تسعة ملايين كيلومتر مربَّع من الرمال. كلُّ طائر منها دفتر ملاحظاتٍ أخضر صغير مقابل الصحراء الكبرى.

عند رؤية الصحراء من سطحها، والتتلمذ في مدرستها على يد ضرباتها القوية، فإنك تراها وكأنها صانِع عوالِم، فحين تكون فيها يكون كلُّ مكان سواها وراء كل أفق «ليس» بالصحراء الكبرى. نشعر بسطوة الرمال حتى في غيابها. يعني الخروج من الصحراء الكبرى أن حياةَ طائر مهاجر قد يُكتَب لها الاستمرار، ربما تنجو الزعرة البيضاء، لكن حتى وهي بعيدة عنها، تظل الرمال تشكِّل حياةَ تلك الطيور — الحميراوات لا تصل إلى غابة أشجار بلوط في ربيع إنجليزي، أو غابة أشجار بتولا في الربيع النرويجي إلا بعد أن تجتاز الصحراء؛ وفي سفرها، تحمل في أجسادها تلك التجرِبة التي تتخللها أخبارٌ مثل مرَّات هطول المطر التي تترك أسطح السيارات في إنجلترا مغبَّرة بذرات رمال الصحراء الكبرى الدافئة المائلة إلى الحُمرة التي تحملها السماء.

الصحراء صانِعة عوالم، في الواقع كما في مخيلاتنا. موضوع أول ورقة بحثية كتبها داروين في ضوء ملاحظاته وخبراته حول سلالة كلاب «البيجل» كان عن الغبار الذي تحمله رياحُ هَرمَتان القادمة من الصحراء الكبرى إلى المحيط الأطلنطي، الذي وجده يغطي ظهرَ السفينة ذات نهار في يناير عام ١٨٣٢. في عام ٢٠١٦، نُشِرت ورقة بحثية في مجلة «نيتشر» تتضمَّن تحليلًا لعدد ذرات الغبار في الصحراء على مدار ١٦١ عامًا منذ عام ١٨٥١ وحتى ٢٠١١. حملت عنوانًا ممتازًا: «ماضي الغبار الأفريقي وحاضرُه ومستقبلُه»:

يُظهِر انبعاثُ الغبار الأفريقي وانتقالُه تبايُنًا على المقياس الزمني اليومي والعَقدي، ومن المعروف أنه يؤثِّر على عملياتٍ مثل إنتاجية غابات الأمازون، والأنماط المناخية للمحيط الأطلنطي، والتكوين المناخي الإقليمي والتوازن الإشعاعي وهطول الأمطار في منطقة الساحل. لتوضيح دور الغبار الأفريقي في النظام المناخي، من الضروري أن نفهم العوامل الحاكمة لانبعاثه وانتقاله. لكن الغبار الأفريقي مرتبط بظواهر جوية تبدو متغايرة، منها ظاهرة إل نينيو/التذبذب الجنوبي، والتذبذب الشمال أطلنطي، وموضع نطاق التقارب بين المَدارَين على خط الزوال الطولي، وهطول الأمطار في منطقة الساحل، ودرجات حرارة السطح فوق الصحراء الكبرى، كلُّها عوامل تجعل العلاقة بين الغبار والمناخ مبهَمة …

تأثير الصحراء بعيد وواسع المدى، حتى على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. غبارُها خافٍ وكاشف؛ ثَمة تناظراتٌ وإبهامات، تجلياتٌ وتغشيات؛ الصحراء الكبرى شأنها شأن طيور الحميراء والسُّنونو وحوَّام النحل التي تعبُر الرمال، تهبُّ مع الرياح. أما عن مصير العاصفة الحارَّة، فيقول أصحابُ الورقة البحثية إنه في عصرنا الذي تزايدت فيه انبعاثاتُ غازات الدفيئة (التي تبطئ دوران الهواء في المناطق الاستوائية) قلَّت كمياتُ الغبار الأفريقي وانخفضت معدلات انتقاله. ومن المحتمَل أن تتضمَّن التأثيراتُ المستقبلية زيادةَ معدل هطول الأمطار في غرب أفريقيا، وارتفاعَ درجة الحرارة في شَمال المحيط الأطلنطي، وزيادةَ خطر حدوث الأعاصير. فما تزال الصحراء، حتى بعد أن وهَنت سطوتُها، تتطلع لأن تظل دَفِيئةً أو مَصهَرًا فيما يهبُّ غبارُها قُدمًا وفيما يهبُّ عائدًا إليها.

لكن دَعُونا نكون أكثر تحديدًا: فذلك ممكن هناك. أيُّ محطة توقُّف في الصحراء تجعلك تشعر أنك توقَّفت وسط الخواء، لكن الطيور المهاجرة جعلت كلَّ محطةِ توقُّف لنا مميَّزة ومحدَّدة في مكانٍ ما. كنا نتوقف بالقرب من الأشجار كلما استطعنا، ناشدين ظِلَّها، وأيضًا لأن الظهور الخاص للشجرة في مشهدٍ خلا مما سواها كان يجذبنا لا محالة. ثم لمحنا الطيور. كانت في تلك الشجرة هازجةٌ زيتونية. لونها مثل ورقة شجر في طَوْر الذبول. وفي تلك الشجرة هازجةٌ أخرى. وفي تلك هازجة صرود. لونُها مائل إلى الرمادي لكن لديها لطخة بلون الصدأ المحمر تدفئ حنجرتها. ثم أثناء مرورنا بالمزيد من شجرات السنط الشوكية خطرَ لي أن كلَّ شجرة منها ستحمل بداخلها طائرًا أوروبيًّا مهاجرًا. هكذا كان الحال طوال أيام شهر فبراير ولياليه التي مضت من حياتي، وقبلها بآلاف السنين. إنها تريد أن تكون هنا. خطر لي أنَّ أشجار السنط تلك هي بمثابة مصارف هوازج؛ فهي آمنة ومُودَعة فيها، ومحفوظة هناك. وأنَّ أوروبا منتظرة في تلك الأشجار الرمادية القزمة. وأنَّ أغرودات فصل كامل ساكنةٌ فيها. وأنَّ أشجار السنط تلك تغذي الدُّهن المتراكم على جانبَي عظم قص الهوازج الشبيه بالقارب؛ كي تمكِّنها من الرحيل عن ظل الشجرة ومأواها، كي تُحلِّق قُدمًا في السماء وتُوصِل إلى أوروبا ربيعَها.

توقَّفنا كي نشربَ ونلبِّي نداءَ الطبيعة: احتوت شجرةُ سنط هازجةَ روبل وهازجةً بيضاءَ الحَلق صغيرة، وهازجة حدائق — إنها بمثابة رأس كانافيرال بالنسبة إلى أوروبا؛ هناك أيضًا، تحت الشجرة كان ثَمة أبلق صحراء — وهو طائر مهاجر من الشَّمال لكن اسمه يوحي بأنه في موطنه؛ وثلاثة أنواع مقيمة أيضًا: قنبرة هدهدية، وثلاث قنابر صحراء، وثلاثة دروج. إنَّ مثل هذه الطيور المقيمة يجب أن تستسلم للصحراء كي تظل على قيد الحياة. كي تحيا هنا لوقت طويل، عليك أن تطمح إلى حالِ الرمال وتُسايِر نغمتها. أما الطيور المهاجرة، فلا بأسَ عليها أن تبدو غريبةً أكثر. بدا وجه هازجة روبل الأبيض والأسود صارخًا بين أشجار السنط.

رغم الحبال الموجودة على الطرق في منطقة الساحل، يُعَد تشاد البلد صاحب العدد الأقل من الحواجز من بين البلاد التي زُرتها، لكنه ربما يكون أيضًا البلد الأصعب في اجتيازه. إن كان بلدك ينتهي (أو يبدأ) في الصحراء الكبرى، فعلى الأرجح سيكون من السذاجة التفكير في بناء أي حاجز لنفسك. تُعَد الأراضي الوسطى عند الحدود الشرقية لتشاد؛ حيث كنا، ودارفور وجنوب السودان بعدها شرقًا، ممرَّاتٍ مهمة للاجئين أو المهاجرين القادمين من شَمال السودان وإثيوبيا وإرتريا وأطلال الصومال. يقود المرشدون المحليون من قبيلة التبو تلك القوافل البشرية. قال سائقنا وطاهينا جوني مُلوِّحًا بذراعه ناحية اليمين إننا لن نراهم أو نرى أيَّ أثر لهم أثناء سيرنا نحو الشَّمال. لن نراهم، لكنهم سيكونون موجودين.

•••

توقَّفت كلير في الصحراء الليبية ذات مرة، في رحلةٍ قامت بها قبل أن يعرف أحدُنا الآخر، حينها ظهرت من السماء الملتهبة ذُعرةٌ صفراء هبطت عند قدمَيها تلوذ بظل حذائها. بينما كانت تسترجع ذلك، فاجأنا شاهينٌ بربري ظهرَ بينما كنا نراقب عشرة سُنونوات جرف أوراسية تقتات بحركات طيران انقضاضية بمحاذاة بروز صخري. سادَ بينها الخطر والذعر. حاول الشاهين أن يسوق السُّنونوات ناحية الجرف الصخري الرملي، حينها فعلت السُّنونوات شيئًا لم أرَه سوى مرة أو مرتَين من قبلُ على مدار خمسين عامًا من مراقبة الطيور. حلَّقت الطيور المُهدَّدة مقتربةً منا، وظلَّت تتأرجح بالقرب منا؛ حيث توقفت عن تناول طعامها وأبطأت خفقان جناحَيها. أرادت أن تجعلنا بينها وبين الشاهين فجاءت قاصدةً إيَّانا. طوال أيامنا في الصحراء لم يعبأ بنا سواها، لكن فِعلها ذلك أسَرني.

ركضت خمسة من غزلان دوركاس أمامنا لخمسة كيلومتراتٍ بعد أن عُدنا إلى السيارة وانطلقنا متجهين شَمالًا قاصدين الجبال في إقليم إنيدي. ثلاث منها كانت غزلانًا صغيرة؛ وكانت تتبع الزوجَ المتقدم. هل كنا نسوقها، أم كانت تتحرَّك من تلقاء نفسها؟ كانت قوائمها تفجِّر ينابيعَ من الغبار الرملي. تأمَّلتُ في حوافرها على الحجارة، وفي كلمة الخروج «إكزودس»، ثم تذكَّرتُ سانت إكزوبيري (الذي ظلَّت غزلانه الصحراوية تدفع أسوار قفصها ناشدةً «الأرض الشاسعة المفتوحة التي ستشبع نفوسها») ودي إتش لورانس:

يسير صغيرُ الغزال، يا صغاري،
خلف أمه في الصحراء،
يسير خلف أمه بأقدامٍ فَرِحة حافية؛
إذ لا حاجة له إلى حذاء، يا صغاري!

طار سُنونو وحيدًا شَمالًا فوق الرمال جهة الصخور الرملية. من المفترض أنه سيَليها المزيدُ من الرمال. وغابَ عن نظري في رَهَج الحَر الأغبر. لطالما كانت الطيور المهاجرة التي تحلِّق في حركة خاطفة عبر الهواء — التي نراها على هيئة خطوط متقطعة على الخريطة، وتحيِّر أذهاننا — لغزًا، فتحرُّكاتها تُشعِرنا بالوحشة. لمَّا كنا لا نستطيع سَبْر أغوارها، ظننَّا أن الطيور تفقد ما نتصوَّر أنه هويتها أثناء ترحالها. أثناء تحليقها فوق الصحراء أو أثناء عبورها بحرًا، تصير الطيور غير مُدرَكة.

يفقد مرضى الانفصال الشرودي القدرة على الولوج إلى ذاكرتهم عن أنفسهم وشعورهم بذواتهم. ويتخذون لأنفسهم أحيانًا ذواتًا جديدة؛ أحيانًا يكون بإمكانهم أن يخرجوا بغتةً في رحلة. أما الطيور فأمرها مختلف — فهي تتصرَّف كما ينبغي لها بالضبط؛ على سجيَّتها تمامًا — إلا أننا حين نحاول أن نتأمل ما تفعله، نتصوَّر أن حالها سيكون كحالنا لو أننا مكانها. حين نفكِّر في الهجرة ونحاول استحضار تأثيرها على نفوسنا تميل أذهاننا إلى الأفكار الشرودية (أو الهاربة) التي نعكسها على الطيور المهاجرة.

ربما يكون الغموض هو حقيقة تلك الرِّحلات. هذا أيضًا ما نشعر به حين ننظر إلى رمال الصحراء. كلُّ تلك الطيور التي تحلِّق شَمالًا كلَّ ربيع سبَق أن حلَّقت بالفعل جنوبًا عابرةً الصحراء الكبرى الخريفَ الماضي. مجرد تأمُّل ذلك كفيلٌ بإرباك الذهن. لكن الهجرة بالنسبة إلى الطيور هي «أمرٌ منطقي»، ورحلاتها تلك تكون بغرض الانتقال لا السياحة. بعضُ الطيور تعبر الصحراء ليلًا؛ لأن الجو يكون أبرد، ولأنها تسترشد بالنجوم التي تكون ظاهرة وجليَّة. بعضُها يحتمي بظل الصخور الهزيل أثناء النهار. وبعضُها يعبرها في رحلة طيران واحدة متصلة تمتد أيامًا وليالي. بعضُها يجزِّئ الرحلة ويتدبَّر مؤنَه في الواحات. وبعضُها يسافر في أسراب. وبعضُها يسافر وحيدًا. ملايين منها تنجو وتُكمِل حياتها. والملايين منها تموت. تتحنط أجسادُها في الحَر الجاف وتُعبِّد أجزاءً من الصحراء. تذوب أعضاؤها الغَضَّة لكن ريشها يظل صامدًا، ثم يَبلى ويتفكَّك ببطءٍ بعد موتها، ثم يتحلَّل إلى رفاتٍ يختلط بالرمال الأخرى، فتبني الصحراء الكبرى.

•••

خيَّمنا على الأرض المنبسطة لوادٍ مسدودٍ آخره، تحيط به تلالٌ مصقولة من الصخر الرملي. في أواخر فترةِ ما بعد الظهيرة رحلت الشمس، فصار المكان أقربَ إلى طبيعته من ذي قبل. حين تكون الشمس في كبد السماء، تفرض سيطرتَها على كلِّ ما تحتها. جعلت الأجواءَ كالظهيرة طوال النهار. وبمجرد أن غابت في السادسة، بدت المسافاتُ أقربَ إلى الواقع، وصار بالإمكان سماع صوت السكون؛ السكون الفريد لتلك البقعة من الصحراء بالتحديد. خرجت درسات المنازل والأبالق البيضاء الذنَب التي كانت مختبِئة بين الشقوق في الصخور من مآويها تلك وانتشرت في أرض الوادي. تحوَّلت المساحة التي كانت عامة من قبل إلى مساحة حميمية.

في الظلام، يتبدَّى نوعٌ آخر من الصفاء في الصحراء. إذ يذهب الرَّهَج والالتماع والعَرق. وحين تتجلَّى الصخور على أصلها تبدو الأرض أكثرَ تأملًا أو أقرب إلى الفهم. تبدو رحبةً وتكاد تكون ودودة. في ليلةٍ أخرى، بدأ سُبَدٌ ذهبيٌّ يغرِّد بالقرب من مخيَّمنا. أردتُ أن أراه. اسمه وحدَه كفيلٌ باستنهاضي لذلك — فمَن ذا الذي لن يبحث عن شيء كهذا؟ لكنه أيضًا أطلق صوتًا عبر الأراضي الرملية المنبسطة، يشبه صوت ارتشاف آخر قطرات ماء من زجاجةٍ ضيِّقة الفوَّهة. سِرتُ ناحيته، لكنه تراجعَ أكثرَ في الصحراء، وكأنه سراب في الظلام. حين عُدتُ إلى فراشنا، بزغَ القمرُ في الليل وكأنه يعوِّضني عن الطائر المخفي، كان مثلَ كأسٍ ذهبية من الندى، ممتلئة وهائلة ورطبة. كان كوكب المشتري ذو البريق الفِضي ظاهرًا أيضًا هو وأقماره التي بدت مثل نحلاتٍ تئزُّ فوق رأسه. لا بد أن الهواء بيننا كان خاويًا للغاية. لكن لا بد أنه كان أيضًا مأهولًا بالطيور، طيور تطير شَمالًا فوق السُّبَد المغرِّد وفوقنا نحن النائمين على الرمال.

•••

«في الصباح – السينما!»

كان يقودنا في الصحراء دليلٌ بارع، يُدعى بيير باولو روسي، وهو إيطاليٌّ مُولَع بفن النقوش الصخرية (طلبَ إليَّ أن أذكر أنه عضو بالمؤسسة التشادية التي تُدعى «رابطة رِحلات الصحراء الكبرى»). أريناه بعضَ الطيور؛ وأخذنا هو من كهفٍ صخري إلى آخر، ومن رسمٍ صخري لآخر، وأخبرنا برأيه فيما رأيناه. كان ودودًا مرحًا، وكان قادرًا بدرايته بالصخور على استئناسِ أكثرِ الأماكنِ وحشة. في أحد الأماكن، أشار إلى حجر رحًى على الرمال لها حجر علوي مهترئ متروك على اللوح الصخري المسطَّح، قال بيير باولو إن آخر مرة استُخدم فيها هذا الحجر ربما تكون منذ خمسة آلاف عامًا أو ربما منذ خمسة أعوام بواسطة البدو الرحَّالة رعاة الإبل الذين يخيِّمون بالجوار. هنا، وعلى غِرار الأماكن الأخرى التي اصطحبنا إليها، جعل الصحراء تبدو مكانًا دافئًا ومألوفًا.

عند تَلَّة تيركي، توجد صخرةٌ ذات لون أحمر صَدِئ مرسومة عليها لوحةٌ جدارية تصوِّر عشرين فرسًا أو يزيد، جميعُها رُسِمَت تَثِب من اليمين إلى اليسار، عليها فُرسان جميعهم مسلَّحون. وثْبَتُها واسعةٌ على نحوٍ مُذهِل — المسافةُ بين قائمَتيها الأماميتين والخلفيتين ثلاثون سنتيمترًا. في غياب أي أرض مرسومة تحتها، تبدو وكأنها تَثِب في فضاءٍ لا نهائي. وبالقرب منها يوجد جَملٌ أبيض طويل القوائم يمتطيه راكبٌ أحمر. و«بقرة كبيرة» من حقبة التبو، تبدو مثل مِنضدة جانبية من العصور الوسطى.

«ومن ثَم تأتي البقرة!»

تلَت ذلك محاضرةٌ جليلة ألقاها بيير باولو عن التاريخ البشري للصحراء: عن الانتقال من عصور الصيد إلى قرونٍ من البداوة والرعي؛ عن الصحراء الكبرى حين كانت خضراء؛ وعن مشاهدَ مستقاة من أذهان سكان الصحراء الكبرى رُسِمت بالمُغرة. وبينما كان يتحدَّث، ظهر جَمعٌ متمرد من العنزات والحمير التي جاءت مُخشخشةً إلى مدخل الكهف لتحتشد لقاء الحيوانات المرسومة ناشدةً ظل البروز العلوي للصخرة. طقطقت هازجة كريكيت في شجيرةٍ قريبة مثل حارس متحف. قطع بيير باولو حديثه كي يهشَّ الحيوانات الحيَّة.

•••

منذ ثمانية آلاف عام، وصلت الأبقار إلى هذا المكان الذي هو صحراء الآن. في ذلك الوقت، كانت الأبقار البرية تُستأنَس في أفريقيا. إذ استوطنها الصيَّادون. استقر شعبٌ كان لا ينفكُّ يتنقل ويرتحل. ظلَّت بعض الحيوانات البرية تجول حول البشر الأكثر استقرارًا وحول ماشيتهم. يرجع تاريخ الرسومات الصخرية في إنيدي إلى ما قبل زمن الاستئناس، منذ حوالَي اثني عشر ألف عام. كان الطقس حينها ألطف، وأكثرَ رطوبة، وأكثر خُضرة. تتابعت الرسوماتُ حتى عصورٍ أكثر جفافًا تبدَّل فيها موضوعُها الأساسي من الحيوانات البرية إلى الحيوانات الداجنة أو شبه الداجنة. رُسِم البشرُ فيها كما كانوا يُرسَمون من قبل، لكن بعد أن كانت الرسومات تصوِّر الناسَ في طريق سيرهم أو تصوِّرهم على اتصالٍ روحيٍّ ما بمملكة الحيوانات، صارت لاحقًا تصوِّرهم يمتطون صهوةَ الحيوانات أو يرعونها (وهذا أوقع). في تلك الرسومات الأحدث، كانوا أحيانًا لا يزالون يرقصون، وأحيانًا كانوا يعزفون الموسيقى.

•••

تركنا خلفنا كلَّ شيء حتى أشجار السنط. كان الطقسُ جافًّا بالنسبة إلى أي نوع من الأشجار. لا يمكن لشيءٍ أن يتحمَّله سوى الصخر والرمال فحسب. كانت الرمال صخرًا ذات يوم. يقول بيير باولو إنَّ كل شيء هنا «رمال حيَّة»، تتحرك بسرعاتٍ مختلفة.

«تصير صخورًا رملية لمليون عام، ثم تستحيل مزيدًا من الرمال لمليون عام آخر.»

مسحَ بيده على الصخرة الرملية فوق بعض الرسومات المحبَّبة إليه.

«السقوط قدرٌ محتوم!»

الصحراءُ الحالية عمرُها قليل نسبيًّا. تلك السهول الخاوية نفسها كانت عامرةً من قبل، كانت مليئة بالغابات والعُشب الأكثر طراوة، وكانت الأنهار تجري في الوديان التي تغمرها الرمالُ الآن. كان البشرُ الأوائل من ضِمن مَن سلكوا تلك الممرات الخضراء ووصلوا إلى شَمال أفريقيا عبرها. تغلب على الصحراء الآن ظروفُ الحياة الجافَّة، ومن ثَم تأقلمت الطيور المهاجرة (وغيرها من الحيوانات) أو تطوَّرت كي تتغلَّب على العوائق والأخطار التي ترسلها الرمالُ في طريقها. لكن الصحراء الكبرى كانت خضراءَ في ذاكرة العديد من أنواع الطيور التي تجتازها اليوم. وستعود خضراء مجددًا (بعد ١٥ ألف عام أخرى) إنْ صمد كلُّ شيءٍ وفَنِينا نحن (دورة مقدارها ٤١ ألف عام هي التي تحدِّد اخضرار الصحراء الكبرى). وربما تظل هوازج الصرود موجودةً لتشهد ذلك.

صِرتُ أكره الشمس معظمَ الأيام. صار الظل والمأوى يشغلان بالنا جميعًا. فكلُّ شيءٍ نحن مهتمُّون به يعتمد عليهما، الطيور والبشر الذين يسعون لعبور الصحراء، وسجلات البشر الذين عاشوا هناك يومًا. بدلًا من الظل المُرقط للأشجار التي كنا نتوقَّف لنتناول تحتها الغداء، صِرنا نحتشد تحت البروزات في الصخور الرملية مُتخذينها مأوًى تشاركناه مع اللوحات الصخرية، وأعشاش سُنونوات الجرف الأوراسية، وأكوام من روث الماعز، ورسومات جرافيتي رسمها الجنود من الحروب التشادية-الليبية الأخيرة. في طريقنا للصعود إليها، كنا أحيانًا نثير القشارة الوردية الدقيقة لطيور الزمير الوردي التي خطرت لها الفكرة نفسها. ومن ثَم، طارت منزعجةً وأطلقت زقزقتها التي تشبه صرير مشغولة نحاسية صغيرة.

•••

مع بزوغ الفجر، سقط الضوءُ على أربع مقابر حجرية على أرض الوادي فرفعها عاليًا. لاحظتُها؛ إذ لم أكن قد لاحظتُها في ضوء النهار الساطع في اليوم السابق. استشعرت الدرساتُ المنزلية الحَرَّ المبكِّر، فوقفَت فوق تلال الدفن السوداء تتدفأ، جاعلةً من مساكن أولئك الذين ماتوا منذ زمن بعيد مكانًا مستأنسًا. كانت الجثوات من العصر الحجري الحديث (النيوليثي). كانت العظام هي ما يُدفَن وليس الجثث الكاملة، بيد أن البدو أغاروا على المقابر مؤخرًا، باحثين عن الأملاح البلورية التي يصنعها التفاعل الكيميائي بين الصخر والعظام. ومن ثَم لم يتبقَّ الآن سوى الصخور، وتل الجثث الذي خلَّفته الهياكل العظمية المنهوبة. على مقربة، كان هناك ثلاثة من طيور القطا المُخطَّط، ذكرٌ وأُنثيان. كانت تلك أول مرة أراها. كان منظرها مذهلًا. معظم البلدان ذات الصحاري والأماكن القاحلة في أفريقيا وآسيا بها نوعٌ من طيور القطا خاص بها. قد يكتسي كلُّ نوع منها بلون صحراء بلده. من قريب — مع أنها حذرة جدًّا ويصعب الاقتراب منها — تبدو جميعًا وكأنها حمامات يظهر عليها وعثاء الصحراء. كانت الطيور الثلاثة أمامي، التي كانت تتحرَّك بخطواتٍ وئيدة متوترة بسيقانها القصيرة فوق حصى الوادي ورماله، تحمل نقوشًا غزيرة ذات ألوان متناغمة على أجنحتها وظهورها وبطونها، تشبه الورقتَين الأخيرتَين المُجزِّعتَين لرواية فيكتورية عن استكشاف الصحراء. كانت تتحرك مثل الركام الصخري، مثل تضاريس الأرض، فبدا وكأن كل شق في الصخور الرملية، وكل كَثيب حار، وكل تجزيع في الرمال قد رُسِم على ريشها ثم صقله السراب، ليمنحها بريقًا جعل ترابها يلتمع.

وراء زاوية صخرة، صادفْنا خندقًا خفيًّا، حُفِر في الصخر الرملي بطريقةٍ ما. كان له شكل التابوت، وكان أشبه بحوض أو واجهة عرض لها لون الرمال تأوي كومةً من عشبٍ جافٍّ باهت. مالت شجرتا سنط متقزمتان على جانبَيه الطويلَين. في كلٍّ منهما وقفت هازجتا صرود. اعتراني الذهولُ مجددًا، أذهلني تخيُّلُ تلك الطيور المهاجرة وهي تسافر إلى الصحراء، وتصادف تلك الفجوة في الأرض فتتَّجه (واحدة تِلو الأخرى، أو السرب المتفرق بأكمله) قاصدةً هاتَين الشجرتَين لتنعم براحةِ هيكليهما. ظللتُ أراقب الهوازج حتى قَبِلت أن أرقد تحتها في ذلك التابوت.

ما زالت تلك الهوازج تجول في خاطري. وكثيرًا ما أفكِّر فيها. وفي الراحة التي تؤمِّنها الحجارة في أماكنَ شبيهةٍ بذلك المستراح، والتي ربما لفتت إليها أنظارَ آخرين واستخدموها. أرى أني أجمع ذكرياتٍ مثل تلك الفُرُش. القدرة على الاستلقاء والنوم في الهواء الطلق هي أحد أعظم هِبات العام الآخذ دِفؤُه في الازدياد. في تشاد، نِمتُ لأول مرة في الربيع في شهر فبراير.

في ٢٩ أبريل ١٨٠٢، بعد نزهةٍ ربيعية على الأقدام برفقة أخيها، دوَّنت دوروثي ووردزورث فيما صار معروفًا باسم «يوميات جراسمير» تقول:

نهارٌ بديع — سطعت الشمسُ وكان كلُّ شيء مبهجًا … استلقيتُ أنا وويليام في الخندق تحت السياج — أغمضَ هو عيناه، وأصغى إلى أصوات الشلالات والطيور. لم يعلُ صوت شلال على غيره — بل كان هدير الماء يعمُّ الهواء — كان هو صوت الهواء. كان ويليام يسمع صوت أنفاسي وتملمُلي كلَّ حين وآخر، لكننا ظللنا مستلقين دونما حركة، لا يرى أحدُنا الآخر؛ إذ رأى أنه سيكون من اللطيف أن نستلقي بتلك الطريقة في القبر، وأن نُصغي إلى أصوات الأرض «الباعثة على السكينة»، وأن نعلم أننا قريبون من أصدقاء أعزاء.١

في الربيع الذي سبق عثور دوروثي ووردزورث وأخيها على ذلك المرقد أو صندوق عش الطيور (الذي كان بمثابة جُحر لها ومكان تألفه)، خرجَ كولريدج في نزهةِ سيرٍ إلى منطقةٍ شبيهة في ليكلاند، وسجَّل دفتر ملاحظاته فراشًا حجريًّا آخر يوم ١٨ يونيو ١٨٠١:

مكان مجوَّف في الصخور كتابوت — تستقرُّ عند رأسه شجيرة دُلْب، كافية لأن تظلل وجهي، وعند آخره نبتة قمعية طويلة — في طول قامتي بالضبط — هناك استلقيتُ ونِمتُ، كان ناعمًا للغاية.

في الجزء الخامس من «الأوديسة»، تتحطَّم سفينة أوديسيوس أثناء رحلته الطويلة إلى دياره قادمًا من طروادة. بعد أن تُلقي به الأمواج على شاطئ جزيرة مجهولة، يزحف من الشاطئ إلى ملاذٍ آمن، أسفل الفروع المتشابكة والمعقدة لشجرةٍ برية وشجرة زيتون نمتا معًا (ملتحمتَين كالفلَّاح وزوجته القديرين العجوزين اللذين يموتان كشجرتَين متضامَّتَين في قصة فيلمون وبوسيز لأوفيد). تصنع أوراقهما الساقطة المختلطة فِراشًا ووسادةً ناعمة، فيَنام أوديسيوس. في ديوان بيتر ريدنج الشعري «سي» (١٩٨٤)، تناولَ تلك القصة مرةً أخرى:

حين قرأتُ ذلك المقطع في صباي … ترك في نفسي أثرًا عميقًا ودائمًا. منذ ذلك الحين، ظلَّت فكرة وجود ظَلِيلة مريحة تبعث على الطمأنينة ومنعزلة ومنزوية ملازمة في ذهني لمفهوم النوم العميق الهانئ — بل أكثر … كلُّ ليلة تقريبًا منذ ذلك الحين، باستثناء تلك الليالي التي يمنعني فيها السُّكْر أو المُلهيات الجنسية عن تخيُّل ذلك، أندسُّ في أغطية سريري الدافئة محوِّلًا إياها في خيالي إلى أوراق شجر سبئية عازلة، فأهدأ وأدنو من النسيان.

يأتي ريدنج على ذكر تلك الواقعة الحاسمة عدة مرات. إذ يذكرها في ديوانه «مطالب أخيرة» (١٩٨٨، عدة دواوين لها عناوين تفترض وفاته بالفعل)، وفي ديوان «حيواني» (٢٠٠٢) نجد ما يأتي:

مجددًا يراودني الحُلم الهومري،
تحت الزيتونة والزيزفونة،
تُجمَع الأوراقُ الساقطة،
ويبدأ النسيان.
أعادَ الشاعر مايكل لونجلي أيضًا النظرَ في أغطية فراش أوديسيوس النباتية. في قصيدة «فراش من أوراق الشجر» في ديوانه «شبح الأوركيد» (١٩٩٥)، يرقد الرحَّالة التَّعِب الذي أنهكته الحرب في كنف «فراش من أوراق الشجر/دِثار من أوراق الشجر»:

هكذا كان جسده في فراش أوراق الشجر هو حطب ناره، وكالرماد حَطَّ عليه النوم، فأطبقَ جفنَيه.

في غار «ماندا جِيلي» بمدينة إنيدي، وعلى سقفٍ منخفض لشقٍّ صخري، منفرج مثل عين في الجرف البُني الرملي، رُسِمَت جِمال باللون الأبيض، لها أعناقٌ طويلة ممتدة، وذات أرسان حُمر يمتطيها راكبون حُمر على سروج كتلك التي رأيناها تُباع في أبشي. كان ثَمة رَكبٌ من الأبقار، يغلب عليها اللون الأحمر، لبعضها ضَرعٌ مكتنز أبيض كالقمر. وفهد من نوعٍ ما من فصيلة السنوريات لونُه أحمر شاحب، كتفَاه النحيلتان مرسومتان بدقةٍ متناهية. وبين مجموعة أخرى من البشر، كان ثَمة هيئة شخص جاثٍ على ركبتَيه إلى جهة اليمين، وقد ثنى الجزء الأسفل من ساقَيه تحته، كان يعزف على الأوتار الستة أو السبعة لآلةٍ تشبه القيثارة أو الكورا لها عنق طويل وقاعدة منتفخة أو صندوق رنَّان.

في كنيسة قديمة بمدينة بريستول، شهدتُ ذات مرة توماني دياباتي يعزف. كان يقوم بجولةٍ لتقديم حفلاتٍ موسيقية مع أخيه الأصغر صِدِّيقي. كلاهما يعزف آلة الكورا. هما من مالي، وتوماني يُعَد عازفًا مخضرمًا. لأذنَيَّ، تعزف أنامل توماني على الكورا أنسبَ موسيقى ممكنة للصحراء والهجرة والتحرُّك فوق الرمال. أراها صُنِعت في تلك الأماكن ومنها (حرفيًّا هي كذلك حين تُعزَف على الآلة المنزلية الصنع التي تستخدم ثمرة كلاباش مشطورةً إلى نصفَين ومغطًّى نِصفها بجِلد البقر ليكوِّن صندوقًا رنَّانًا، وتُصنع أوتاره الإحدى والعشرون من جِلد ظبي مشدود). لم أمتطِ جَملًا من قبل، لكني أتساءل، إن كانت الأمور تجري على ما يرام والقافلة تسير، فهل لمسيرة على ظهر الجَمل صوتٌ يشبه نغمات الكورا: تلك الخِفاف العريضة الناعمة لقوائمه وهي تتحرك فوق الرمال الناعمة، خطواته الدائرية ومداها واتساعها، الهواء الذي يهب أبرد قليلًا فوق ارتفاعه. يمكن أن يُشبَّه صوتُ أوتار الكورا بالنغمات الحادة لهازجة من جنس «سيلفيا» مثل الهازجة البيضاء الحنجرة، فارتبط في ذهني بذلك الطائر وانطباعي عن أن ذلك الطائر وتلك النغمة قادمان من الصحراء أو عبرها.

تعزف الكورا موسيقى وَتَرية لكنها تخرج مثل أسلوب التنفس الدائري الذي يستعمله بعضُ عازفي الساكس لإطالة نفختهم، بحيث تدوم بقدرِ الرحلة التي تدل عليها. ومن ثَم، فإن كورا توماني دياباتي (مقطوعة مثل «دودو» من عام ٢٠١٠، أو «كادي كادي» أو «السيد حاكم نيافونك» من عام ٢٠٠٤ التي يشاركه العزف فيها عازفُ الجيتار الصحراوي علي فاركا توري) تصنع مساراتٍ مبهجةً يحلِّق فيها المرءُ بمخيِّلته ويسمو فيها بروحه. الصحراء هي كل شيء، ولن نستطيع أبدًا أن نقطعَها على الوجه الأمثل، لكن تابِع السير — أو حلِّق من شجرة سنط إلى أخرى إن استطعت — وسوف نجد طريقةً للعيش فيها. إنها تسير وتطير وتسبق نفسها، ثم تعود إلى موطنها مرة أخرى. تأخذنا من هنا إلى هناك، كما تطير هازجة بيضاء الحنجرة من شجيرتها في الساحل إلى شجيرتها في محمية ويكن أو توبني فين، نشعر بها تفعل ذلك بنا. كلاهما وليدُ مالي أو تشاد، وكلاهما يمكن له بلوغ كامبريدجشاير. لتلك النغمات وقعُ خطواتٍ منتظم، لازمة وَتَرية تضرب الأرض بقدمَيها فتُنتج إيقاعًا. تأتي طبقة موسيقية ثانية حين يدوي صدى ذلك الإيقاع، فتُولد أصداءٌ متعاطفة من الآلة بأكملها تُنتِج موجة جاذبية، نبضًا أعمق، ربما يكون فيبراتو (نغمة تصدر بجانب أخرى) لصوت خرخرة الأرض، يكاد يشبه مَلمس الرمال حين تطأُ سطحَها الساخن. ثم تلي هاتَين الطبقتَين طبقةٌ موسيقية ثالثة (العزف مُتقَن لدرجةٍ فائقة): مثل خطوط متقطعة أو مظلَّلة تتخلَّل منتصفَ النبض، فتصنع صولاتٍ وجولات، تروح وتجيء، جريئة، مفصحة، تشبه الماء (أو بها ذكرى ما من الماء) ومثيرة، نوع من التيار الأخف الأروق الذي يعلو فوق كلِّ ما تحته (الذي يركِّز على إيصالنا إلى هناك)، سيحدِّثنا عما قد نجده حين نصل إلى هناك، وما بوسعنا أن نفعله، وما قد نجده حين نصل، وإلى ما ستوصلنا تلك الصيرورة، وكيف قد يكون بوسعنا أن نتحلَّى بالأمل في الحياة. الموضوع الأساسي للكورا — النغمة بأكملها، كلُّ ما تحدِّثنا به الكورا — هو كيفية الحركة: في الزمن وبالوتيرة المناسبة وفي الفصل والإيقاع المناسبَين.

بينما كان توماني يسير معتليًا خشبةَ المسرح في مسرح سانت جورج بمدينة بريستول، لاحظتُ أنه يعرَج. كانت بإحدى ساقَيه عِلَّة، فكان يعرج في مِشيته. كلُّ تلك الإثارة والاسترسال في وصفِ الدرب الموسيقي على هذا النحو الذي يستشعره القلب، أبدعه رجلٌ يسير بصعوبة. الصحراء حاضرة في مِشيته أيضًا.

في ماندا جِيلي، داخل المأوى الصخري الذي يوجد به رسم عازف القيثارة المُغري اللون، فكَّرتُ في توماني وآلة الكورا الخاصة به وكذلك في أورفيوس وقيثارته. في الوادي، أسفل الكهف ذي الرسومات، كان ثَمة مستوطنة من خيمة واحدة يحيط بها بضعة أشجار عليها حَشدٌ من طيور الصحراء: زوجٌ من البربيت الأصفر الصدر يتشاركان الغناء، وقليعاوات أبو الحناء الأسود، ودخلات حمراء، وعصافير الدوري الذهبي السودانية، وعصافير الدوري الرمادية، وطيور مهاجرة أوروبية — هازجة صرود (وهي الطائر المهاجر العابر الأكثر شيوعًا منذ أن وصلنا الصحراء) وهازجة أورفيوسية غربية، وهي الأولى التي نراها في رحلتنا تلك، ومن المُرتقَب وصولها إلى إسبانيا قريبًا. سُمِّيت كذلك تيمنًا بأغرودتها، التي تشبه أغرودة السمنة، مُبِينة وبطيئة الإيقاع، وعَذبة على نحوٍ غير عادي بالنسبة إلى هازجة من نوع «سيلفيا»، كانت صامتة حين رأيناها. كانت عاكفة بجدية على تاج شجرة سنط تقتاتُ منه، وكانت موسيقاها تتجاوز الحدَّ هنا.

عُدتُ لأحظى بلحظةٍ أخيرة مع أورفيوس المرسوم على الصخرة، وجُلت بنظري بين تابعه الصامت الواقف على شجرة السَّنط واللوحة التي لا صوت لها فوق رأسي. سُحِبَ الدفءُ، مثل لِحافٍ دافئ، من على التلة فوقي بعد أن غادرت الشمس. كان المأوى مليئًا بالقاذورات. كان به حافِر عنزة مقطوع وخُفٌّ مُهمَل محشوران داخل شقٍّ يفيض بِروث الخفافيش. نزلتُ عائدًا نحو سيَّاراتنا، كان قد فاضَ بالشباب الكيل (هيوجو وعيسى وجوني): انتهَوا من الصلاة وكانوا يلعبون ألعاب سحق الفاكهة على هواتفهم. كلُّ شيء كان هادئًا في الوادي عدا أصوات أزيز السحق الخفيفة والانفجارات ذات الصوت اللطيف.

•••

يوجد طريقان لبلوغ الوديان الصخرية الرملية العميقة و«القلتة» في آرشي. كنا نأمُل أن نرى شيئًا من آخرِ تماسيح متبقية في الصحراء الكبرى؛ ولذا تبِعنا فتاةً بدوية تنتعل خُفَّين من مخيَّمها. أخبرتنا أنها في الثامنة وأنها تعرف الطريق، وقادتنا بخفةٍ صعودًا عبر سرج من الصخور إلى حافة جرف مُطِلة على الوديان والماء. كان ثَمة ثلاثة تماسيح غرب أفريقية نصف مغمورة في بِركة ماء. بدت مناسبة لِلَعب دور الموتى الأحياء في عملٍ درامي ديناصوري. كانت تلك التماسيح، التي هي بقايا نوعها، ترقد فيما تبقَّى من النهر الذي صنع ذلك الوادي وأغرقَ أجدادهم هنا قبل أن ينسحب من المشهد. لا يجري الماءُ في «القلتة» الآن، باستثناء بعض المطر الشديد الندرة، وما يغذِّي تلك البِرك ويحافظ على بقائها هو ينبوعُ ماءٍ ينضح من أسفلها.

شاهدنا التماسيح. أو بالأحرى اختلسنا بضع دقائق ممتدة من زمن التماسيح، الذي هو بالنسبة إليهم في الأغلب انتظار في الحاضر الطويل لتطوُّرها. التماسيح مرتبطة بالرسوم الصخرية ورسَّاميها. حين كانت الصحراء الكبرى خضراء في حِقبة «تحت مطير العصر الحجري الحديث» أو الحِقبة الأفريقية الرطبة، التي انتهت منذ حوالَي خمسة آلاف عام، كانت السباحة فيها والطيران فوقها أيسر، وكان من الممكن أن تكون موطنًا كافيًا لحيواناتٍ أكثرَ بكثير من تلك الموجودة فيها اليوم. بَدت التماسيح كما لو أنها تتذكَّرها.

طاردت ذعرةٌ بيضاء — «ذعرة صغيرة رشيقة» حسب ترجمة مفردات جون كلير الإنجليزية الأليفة — الذبابَ على الرمال بالقرب من التمساح الأكبر حجمًا بين التماسيح الثلاثة. ربما كانت الذعرة نفسُها التي رأيناها منذ أيام في كالاءيت. أيًّا كان المكان الذي جاءت منه، كانت ذعرة مهاجرة عائدة إلى أوروبا لتتكاثر — ربما تصير في الدنمارك في غضون أسبوع. لاحظتُ واحدةً أخرى. انطلق الطائران يحلِّقان متقافزَين فوق التماسيح إلى الجانب الآخر من البِركة. وبطريقةٍ مماثلة لتلك، يتحرَّكان في ساحةٍ لانتظار السيارات تابعة لمركز تِجاري في أوروبا؛ حيث يجمعان الذباب من شبكات أجهزة التكييف ومن تجاويف عجلات سيارات المتسوقين. لم يطرِف جَفنٌ للتماسيح.

بعد دقيقة، اكتظَّ الجانبُ المملوء بالماء من الوادي بالجِمال. كان قطيعًا من مائة أو يزيد قليلًا يُساق إلى هناك. تردَّد صدى حوارها التجشُّئي، الذي هو تجشؤاتٌ متصلة لا نهاية لها، بصوتٍ عالٍ بين الصخور. كان يصعب تحديد إن كانت تلك الزفرات هي زفرات لذة أم خوف. في الأغلب، كان صوتها كعادة الجِمال كلها يُعطي انطباعًا بأنها غاضبة. ساقَها إلى الماء شابٌّ يافع، كان يصيح فيها وهو مُمتطٍ جَملًا مسرَّجًا يسير في مقدمة القطيع. شَرِب بعضُها، وبدا بعضُها أنه يسبح. بدت الجِمال السابحة مثل عرباتٍ غريبة في لعبة نَفق الحُب بمدينةِ ملاهٍ. كان الماء نوعًا من النعيم بالنسبة إليها، لكنه نعيم لا يُنال إلا بالاحتجاجات. بَدَت مثل مائة مشرَّد عجوز غير محبوب يأخذون حمَّامهم السنوي.

قال بيير باولو: «الآن تهربُ التماسيح.»

لكنها لم تستطِع. بل انسحبت إلى بِركتها وانتظرت مرور تلك الومضة من الزمن. أشارت دراسة أُجريَت في شتاء عام ٢٠١٨ إلى أن تلك التماسيح الثلاثة التي رأيناها هي الأخيرة من نوعها كله في آرتشي. ويُعتقَد أن ثلاثتها إناث.

تبِعْنا مرشدتَنا الصغيرة عائدين من الجرف إلى مستوى الأرض من الوادي. ثم ودَّعناها. كانت في شجرة سنط قريبة من خيمتها هازجةٌ زيتونية شرقية وهازجةُ صرود.

قال بيير باولو: «بعد زيارة آرتشي، دائمًا ما أشعر بأنَّ رائحتي مِثلُ رائحة الجمل.»

كان ثَمة كهفٌ عميق بالقرب من البِرَك. دخلنا فيه. حيوانٌ مفترسٌ ما أمسكَ بفريسته هنا؛ إذ اندسَّت جثامين ثلاثين دوريًّا ذهبيًّا سودانيًّا في الرمال مثل أحذية راكدة. وجدنا ريشةَ هدهد وجماجم ثلاثة وراور. ربما أمسك المفترِس بتلك الطيور المهاجرة في مكانٍ ما ثم أحضرها إلى هنا، أو ربما توقَّفت هي ببساطة أثناء رحلتها ولم تستطِع المُضي قُدمًا. قال بيير باولو إنَّ تُجار الرقيق قديمًا كانوا يستخدمون ذلك الكهف مَحبسًا لبضاعتهم البشرية فيما يتركون جِمالهم تشربُ بالخارج.

•••

حين تقلَّبت مستيقظًا من نومي فوق بساط النوم صباحَ اليوم التالي، كان أول طائر أراه من نوعٍ لطالما حلمتُ بأن أراه منذ أن عرفت بوجوده. لا بد أن طيور القليعي الأسود الذنَب سُمِّيت بناءً على معرفة بطيور الحميراء. كلمة stert تعني في الإنجليزية الوسطى «الذنَب». ومن هنا، مُنِحَت الحميراء — المعروفة منذ وقتٍ طويل في الشَّمال الأوروبي من مجال رحلتها — اسمَها قديمًا redstart. أما اسم «القليعي الأسود الذنَب»، فقد دخلَ اللغة الإنجليزية في وقتٍ لاحق، وهذه الطيور هي في الحقيقة أقرب إلى الأبلق منها إلى الحميراء من الناحية التصنيفية. لكنها تفعل بذَنَبها ما تفعله الحميراء: ذَنَب الحميراء الأحمر جميلٌ في ذاته، لكن الدافع الحقيقي وراء تسميتها بالحميراء هو أنَّ ذلك الذنَب يظل يهتزُّ ويرتجف طوال الوقت تقريبًا.

فجرًا، على مجموعة صخور مبعثرة بالقرب من مخيَّمنا، كان طائران من طيور القليعي الأسود الذنَب يفعلان ذلك، يُغرِّدان فور أن استيقظا، وقد أنزلا جناحَيهما المرتعشَين تحت جسدَيهما السوداوين الشاحبَين قليلًا، وكان ذنَباهما ذوا اللون الأسود الشاحب الأغمق يرجفان. ليس ثَمة ما يميِّز هذه الطيور. وهي تبدو مثل ظل أيِّ طائر آخر. لكن اختلاج أذنابها، الذي يعلو ويهبط كالأنفاس ويلمع في الضوء، كان يضع ختمًا زمنيًّا على الوادي، كعلامة نبرية أو كلمة مكتوبة بخط مائل. يقول جيرارد مانلي هوبكنز في قصيدته عن سقوط الضوء على طيور السمَّاك (التي تحوي كلماتٍ مكتوبةً بخط مائل وعلاماتٍ نبرية): «أفعالي هي أنا: لأجلها خُلِقتُ»، وتلك طريقة للنظر إلى حركة أذناب الحميراوات والقليعات. إنه تجسيدٌ للطبيعة الخاصة لذلك الطائر. لكني أريد أن أنظر إليها بطريقةٍ أكثرَ أُلفةً من ذلك، باعتبارها مصافحة أو تحية، مع أن وصف مثل تلك الحركة اللاإرادية بذلك قد يبدو غريبًا.

كيف إذَن أشعر أن اهتزاز ذنَب القليعي الأسود الذنَب يشملني، كما أشعر تجاه أي حميراء تفعل الشيءَ نفسه — تلك الحركة التلقائية، التي تحدث بعيدًا عن نظر الطائر نفسه، وخلفه، والتي أشعر بأنها أقرب إلى عناقٍ منها إلى أي حركة أخرى في الطبيعة؟ بالطبع قد لا تكون كذلك على الإطلاق، لكن هناك وسط رمال الصحراء الكبرى، كما في غابات ربيع أوروبا الخضراء، أراها رخصةً للحياة — لحياتي — يمنحني إياها طائرٌ يتصرَّف على سجيَّته. كتبَ ميشيل دي مونتين مُحاوِلًا وصفَ شعوره تُجاه صديقه إتيان دي لا بويسيه (الذي مات بالطاعون عام ١٥٦٣)، والظروف التي أدَّت إلى العلاقة الوطيدة بينهما: «إن ألحَّ عليَّ أحدٌ في السؤال عن سببِ حبي له، فلا أجد ردًّا أبلغ من ذلك في وصف السبب:

لأنه هو؛ ولأني أنا.»

شَمال خط العرض سبعَ عشرة درجة، بدأ يُخيَّل إلينا أننا نرى أشجارًا. في تلك الأرجاء الخاوية، ليس ثَمة أصدقاء كُثُر يمكن للمرء أن يحظى بهم. طوال أسبوع، لم نرَ غيمةً واحدة. جفَّت ذكرى الماء وسط الغبار. بَدَت الصحراء مهجورة — وردت بذهني أفكارٌ خرقاء كتلك — وبَدَت قديمة لدرجةٍ غيرِ ممكنة وكأنها كوكبٌ آخر. لم يكن للأرض أيُّ غطاء على الإطلاق، فقط سطحها الآخذ في الاهتراء أو المهترئ بالفعل، المُكوَّن من الرمال الصخرية أو الرمال. خيَّم الصمتُ بأقصى درجاته، ومن كل مكان كانت تفوح رائحة الصخر الجاف المطهي. ربطَ الضوءُ عصابةً حول جمجمتي. لم تكفِ أيُّ عمامة لحَجبِه.

قال بيير باولو: «في هذا الاتجاه — غربًا من هنا — لا يوجد شيءٌ على الإطلاق حتى النيجر.»

الخواءُ مُعدٍ. كلما توغَّلنا فيه أفرغنا أنفسنا من الأشياء التي نعرفها. وكلما صار من الأصعب إيجاد حياة، صار البقاءُ على قيد الحياة أصعب. كانت الأرض مستوية لدرجةِ أن كلَّ حبَّة رمال مرتفعة عن الأرض تحظى بظلها الخاص بمجرد بزوغ ضوء النهار — كلُّ العالم كان متمثلًا في حبَّات الرمال تلك. كانت ظلالُنا التي تلقيها الشمسُ التي تشرق من خلفنا تجري بعيدًا عنا على الرمال. لكن لدقيقة واحدة فقط، إذ طلعت الشمس مسرعة، انسحبت الظلال كلُّها بأنواعها إلى أسفل قدمَينا وإلى أسفل كل نُدفة أو حبَّة رمل. بعد ذلك، لم تعبأ الشمس الظافرة فوق رءوسنا بالظلال، ولم نرَ أيَّ ظل يُذكَر قبل ساعات. كان ذلك هو العالَم الأكثر وحدة وانكشافًا على الإطلاق من بين كل ما رأيتُ، بدا أبعد عن عالَمنا، أو أقرب إلى عالَم آخر، أو أكثر افتقارًا إلى الحياة. كان مُجردًا، عنيفًا، عديم الهوادة. ها هنا أيضًا تَلقى السُّنونوات والقمريات وهوازج الصرود والذعرات البيضاء والصفراء حتفَها. الصحراء هي سفينةُ مومياوات، سجنٌ أو ضريحٌ ضخم.

انطلقنا بسرعة عبر الرمال القاسية، أوسع وأكبر مساحة مفتوحة وُجِدتُ فيها أبدًا، نحو سراب.

«لا أعلم لذلك سببًا، لكن يستحيل أن نمضي في خط مستقيم إلى وجهتنا.»

مضينا في طريقنا كالخنافس، يلفظنا الاتساع الشاسع المنبسط المليء بالحيوية بطريقةٍ ما؛ عطَّلت إمكانية المضي في أي اتجاه بوصلتنا وعرَّجت أيَّ خطوط مستقيمة قد نفكِّر في السير فيها. ولمَّا كان الذهاب في أي اتجاه ممكنًا، لم نذهب إلى اتجاهٍ بعينه. لا بد أن الطيور، تلك التي لم تمُتْ بعد، تُحسِن المِلاحة عنا.

حوَّلت صواعقُ البرق الرمالَ إلى زجاج حيث توقَّفنا، فصنعت تجاويف تشبه أغلفة رصاصات بحجم الإصبع، بَدَت مثلَ درناتٍ مريضة لا تنمو. ملأتُ بها جيوبي، فصلصلت في جحورها الجديدة بتعطشٍ مثل قوارير فارغة.

الأشجار في أُوي حقيقية. هي واحةٌ مساحتها اثنا عشر كيلومترًا أو يزيد غرب سلسلة تلال إقليم إنيدي. تبدو مثل جزيرة في عُرْض البحر. فيها نخلٌ وأشجار صغيرة، وماءٌ وبساتين. وفيها تسقي عشائر التبو قُطعانها. بساتين الخضر مُسيَّجة. نُصِبَت على أخاديدها بالتربة المقلَّبة أعلامٌ صغيرة لدولة تشاد في محاولةٍ لإبعاد الجَمع الموجود من الطيور: أبو حناء أسود، وقمرية ربما كانت من الطيور المحلية المقيمة، وذعرة بيضاء مهاجرة، وثلاث ذعرات سوداوات الرأس، وأبلقان صحراويان، وهازجة زيتونية شرقية مُغرِّدة، وهدهد، وللمرة الأولى في رحلتنا شفشافة وأربع هوازج قصب أوراسية. في جزيرة فير في شيتلاند، رأيتُ في شهر يونيو هوازج قصب أوراسية في بستان آخر في الجانب الآخر من رحلتها الربيعية، وهناك بَدَت غريبةً على المكان بالقدرِ نفسه. كانت قد نفشت ريشها من برد شيتلاند؛ أما هنا فقد كانت تلهث وقد استقر ريشُها ذو اللون الأصفر الشاحب ملاصقًا لأجسادها، فبَدَت طويلة الساقين وممشوقة.

عُدنا أدراجنا جنوبًا عند واحة أوي، عكس التيار، وبدأنا نبحث عن طريق جنوبي للخروج. استمر اللُّهاث.

فَور أن اجتزنا صفَّ الأشجار مجددًا، توقَّفنا لِنَحظى ببعض الظل. كانت الطيور قد عثرت عليه بالفعل. كانت الهازجة الزيتونية التي رأيناها فوق تاج شجرة السنط نفسِها منذ أسبوع قد غادرت بالفعل. وكانت هوازج القصب الأوراسية التي لم نرَها من قبلُ في الواحة تمضي الآن في طريقها. كانت درجة الحرارة ثلاثًا وأربعين درجة مئوية. لا يوجد ماء لتشرب الطيور، لكن حول قاعدة شجرة السنط الأكثر سُمكًا، احتشد أكثرُ من عشرين طائرًا صغيرًا، كلٌّ يحاول أن يستند إلى جذعها. ظننَّا أنها وجدت سائلًا ما لتشرب منه في فَلْق بلحائها، لكننا لم نلمس أيَّ نداوة بها. كان الظل والبرودة النسبية كافيَين لجعلها تحتشد حولها. لم أرَ من قبلُ أيَّ طير بلغ به البؤس ذلك الحد. كانت درجة الحرارة عند جذع الشجرة تسعًا وثلاثين درجة مئوية. عانقت الطيور كلُّها الشجرةَ واستندت إليها كما لم أرَ طائرًا يستند إلى شيء من قبل. بَدَت وكأنها تتناسى هويتها. كانت الطيور العائلة والمضيفة، طائرا بتيليا خضراوا الجناحَين وهويد، تقف كتفًا إلى كتف في الحَر، متجاهلةً العداوةَ المعتادة بينها. تمازجت الطيور المقيمة مع المهاجرة، تكاتفت جميعها وقت الحاجة على اختلاف أنواعها. كانت فاغرةً مناقيرها، تلهث. لم يحدث قط أن وقفت الأبالق الشَّمالية الأربع وهازجة القصب الأوراسية وهازجة السُّعد (هي أول واحدة نرصدها في رحلتنا) متقاربة في أوروبا بقدرِ تقاربها عند تلك الشجرة. وكذلك جيرانها: كوردون بلو أحمر الوجنتَين، وكرومبيك شَمالي، وحبَّاك صغير، وعصفور فضي المنقار أفريقي، ودوري ذهبي سوداني، وصعب أحمر المنقار — واحد فقط لا ستة ملايين. كان كلُّ طائر منها يلهث. خفقت الطيور أجنحتها حين اقتربنا منها، مثل ضحايا مصابين، وطارت مبتعدةً عن طريقنا مسافة متر واحد. أفرغنا زجاجات مياهنا على لحاء الشجرة المتشقق والأرض المتشققة.

حين عُدنا إلى إنجَمِينا، كانت هازجة عذبة الصوت لا تزال تغرِّد حيث كانت حين وصلنا. كان حارسُ المُجمَّع ذو الذراع الميتة الذي كان نائمًا على الأرض في الظل لا يزال نائمًا. استيقظ حين أوقفنا السيارة، ورفعَ يده المشلولة ليضعها في يدنا مُرحِّبًا بنا.

هوامش

(١) لقراءة الجانب الآخر (المتخيَّل) من تلك القصة، طالِع ما قام به رولاند جونسون من نبشٍ أثري لقبور الشعراء الرومانسيين وكُتَّاب طبيعة آخرين في القصائد المترابطة في «كتاب الرجل الأخضر» (١٩٦٧): «تلك التربة، التي كانت يومًا ما ووردزورث، ترقد الآن في صمت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤