مارس

بريستول

٥١ درجة شَمالًا

٢ مارس. استيقظتُ لأجد الثلج يَهطِل، ثم سِرتُ فيه لساعتَين سالكًا المسارَ الذي أركضُ فيه أحيانًا إلى منطقة سي وولز في داونز: أوغلتُ في المنخفضات والكثبان، وخُضتُ حتى ركبتَيَّ في تجاويف خفية، وانزلقتُ في ممر تجمَّدت فيه ندفات الثلج، تحوَّل المكان المألوف لي ذو العشب الأخضر الذي يشبه متنزهًا حضريًّا إلى مكان غريب عني كالصحراء الكبرى. بعثرت الرياح الحادة بلوراتٍ ثلجيةً ناتئة ارتطمت بمِعطفي وارتدَّت عنه لتلسع وجنتَيَّ. بَدَت زيغان الجيف التي عادةً ما تكون مختالة، مُنهَكة وشاحبة، واهنة وضخمة.

لكن ها هي ذي ذعرة بيضاء — طائر مدهش مهاجر مبكرًا — حلَّقت خارجةً من الصحراء نفسِها، لمَّا رأيتُها آخِر مرة كانت تُعنى بذباب اللحم المحتشد حول تماسيح تشاد، هنا كانت «تدبُّ فيها الحياة»، وقد وجدتْ ما تأكله تحت سيارة تقطر ماءً انزلقت إلى حافة رصيف. يشبه ظهرها الرمادي المشهد الأبيض والأسود؛ وكانت في عجلةٍ من أمرها هنا كما في تشاد: كانت منشغلة على الجليد بقدرِ ما كانت على الرمال، تنقِّب عن جميع أشكال الحياة الممكنة بارتعاش ذيلها. بعد أن رأيتُ الطائر، خُيِّل إليَّ أن آثار حذائي في طبقة الثلج شبه الذائب على عتبةِ باب منزلي بَدَت كخريطة أفريقيا.

زينور

٥٠ درجة شَمالًا

٦ مارس. تُعَد منطقة كورنوول المُطلَّة على المحيط الأطلنطي مكانًا جيدًا لمُدمني البحث عن الربيع وتعقبه. هناك بإمكانك أن ترى المستقبل. في المسار الساحلي في زينور، رغم الجليد المتساقط من السماء، والمحيط الذي تضرِب أمواجُه العاتية أثاثَ الشاطئ من الجرانيت بأوج قوَّتها، استطعتُ أن أَشُمَّ عبيرَ الربيع المُعبَق به نسيمُ البحر العليل العذب، الذي كان يهبُّ بقوة من المحيط. «المداخل الغربية» — لطالما راقَتني تلك الفكرة: ظهور نقطة على البوصلة تتقدَّم إلى الأمام، واليوم كان الهواء يأتي حاملًا هِبةً من بعيد — كانت الأمور تتحسَّن؛ وربما تتحسَّن أنت كذلك.

في مكانٍ ليس ببعيد عن زينور، على ذلك الشاطئ المتجدِّد دومًا، رأيتُ حوريتَي البحر الوحيدتَين اللتَين رأيتُهما في حياتي. كنت قد خرجتُ في نزهةٍ خلال الإجازة الصيفية حين كنت في الثالثة عشرة من عمري، سالكًا الممر الشاطئي برفقة خالتي وخالي وابن خالتي توم. كان أسبوعًا ممطرًا خلا من الطيور. كلُّ محاسن الربيع ومباهجه الصباحية تلاشت مع دخول شهر يوليو المُنهَك — الشهر الذي يمرُّ كعصر يوم بطيء. كانت فراخ نوارس في أرديتها المتَّسخة تنعِق بمحاذاة قمم الأجراف وتسير بخُطًى ثقيلة على الشواطئ. وكانت طيور القليعي المُطوَّق تطرح ريشَها الزاهي. كانت جميع ألسنة لهب حرائق شجيرات الوزال قد خبَت. دخلت مياه الأمطار ثم المياه المالحة إلى عدستَي مِنظاري المكبِّر. جعلَنا مراقبو نُزُل الشباب ننتظر بالخارج في المطر إلى حين موعد فتحه. كان عزاؤنا الوحيد (وأنا ذلك المراهق الذي لديه بُثور في وجهه) أنه حين كنت أتفحَّص أنا وتوم الخليجَ الصغير المليء بالحصى من قمة جُرف في اليوم الوحيد المشمس، كان هناك بجانب زوج من طيور صائد المحَار امرأتان يافعتان مستلقيتان دون ملابس، كان نِصفا جسدَيهما خارج البحر على الشاطئ، تغمر الأمواجُ المتكسرة ساقَيهما، ويبدو نهداهما المبتلَّان مثل الأحجار الملساء المتقلبة على الشاطئ التي يدوِّرها البحر. لم أكُن قد رأيتُ نهدَين حقيقيَّين في البرِّية من قبل. كنا على وشْك أن نضيف ذلك إلى دفترَي ملاحظاتنا حين لمحنا على الجانب المقابل من الخليج نفسِه مراقبَ طيور آخرَ يحدِّق باهتمام بالغ في المشهد نفسِه بالأسفل الذي لولا هو لكان على الأرجح مغتمًّا وحانقًا بقدرْنا. أيقظَنا ذلك من الحُلم، فحملنا حقائبنا الثقيلة وتابعنا سيرنا المتثاقل.

لم يكن ثَمة حورياتُ بحر في زينور في مطلع شهر مارس، لكن على مدار اليوم كانت الرياح تجلِب إلى الشاطئ إرهاصاتِ الربيع من الهواء العليل، وهي إرهاصاتٌ تغلِّفها السماء كما لو كانت مظروفًا لها. استحال الرماديُّ أزرقَ. هدأ البحر، وصار تماوجه الآن معبِّرًا عن الطقسِ القادم من أقصى الغرب، تحمل أمواجه المخضرة المتقلبة على الصخور رسائلَ أكثر لطفًا من مكان بعيد. رأيتُ طيور أطيش فضَّلت أن تتحرَّك إلى الشاطئ مع الرياح بدلًا من التحليق بمحاذاة الساحل. وفي هبَّات الرياح الخفيفة نفسِها، رأيتُ على جهة اليابسة مني قنبرة حقول تطير لأعلى من حافة حقل وتغرِّد بالنغمات الافتتاحية المخرخرة لأغرودتها الربيعية وهي تصعد في الهواء فوقي.

لم يكن الربيع قد حلَّ بعد، لكن كان بوسع الأطيش وقنبرة الحقول أن يريا من موضعَيهما مسافةً أبعد مما بوسعي أن أرى أنا من مسار الجُرف. في قصيدته «ذوبان الجليد» نظر إدوارد توماس إلى غربان القيظ عاليًا وهي مُنهمِكة في بناء مَجاثمها في مارس، وظنَّ أن بوسعها أن ترى «ما ليس بوسعنا نحن بالأسفل رؤيته، وهو مرور الشتاء». في كورنوول، كانت قنبرة الحقول وطيور الأطيش تُعشِّش أيضًا.

الطرق السريعة «إم ٣٢» و«إم ٤» و«إم ٥» و«إم ٤٢» و«إم ٦» و«إيه ١٤»

٥١ درجة شَمالًا

١٥ مارس. أربعُ ساعات من القيادة على الطرق السريعة من بريستول وحتى منطقة فينز، قابلتُ فيها أربعين مَجثمًا يعجُّ بالطيور على جانب الطريق. تجذب الأعشاش القديمة الطيور للعودة إلى حيث عاشت — وفقست ربما — العام الماضي. لا يزال لحياة الطيور السابقة تأثيرٌ عليها؛ إذ تحتفظ الأعشاش بقوة جاذبة. لا ترحل عنها الطيور إلا بعد شهر أو نحوه بعد أن ينبت ريش الصغار. أثناء الخريف تزورها كل يوم، في الصباح وهي قادمة من مَجاثمها التي قضت فيها الليل، وفي المساء في طريق عودتها إلى مَهاجعها. وبدايةً من منتصف الخريف تقريبًا تزداد عنايةً بها. فتقضي جزءًا لا بأس به من اليوم القصير في بيوتها القديمة. أعشاشها مهمة؛ إذ إن رؤية الطيور تجثم بجوار بيتها السابق (نفترض أنه كان بيتها) يوحي بأن تلك الغُصَينات والأعواد الصغيرة لها معنًى.

حاولت أن أتأمَّل كل مَجثم وأنا أمرُّ سريعًا من تحته. كان بجوار كل عش تقريبًا غرابُ قيظٍ واحد. أحيانًا كنت أرى زائرًا لمريض في فراشه. وأحيانًا كان يبدو أن غراب القيظ يجلس بجوار مصدر همومه. وأحيانًا كنت أرى طائرًا أسودَ يتدفَّأ أمام نار سوداء. أحيانًا كانت الشجرة الجرداء تبدو كقفصٍ رُبِط كلُّ مَن بداخله من الطيور إلى كرة ثقيلة. الأعشاش في عَوز، يبدو هذا أكيدًا، وعلى غربان القيظ أن تسدَّ عَوزها.

أقوم بعملية العَدِّ تلك في كل رحلة بالسيارة أنطلق فيها وحدي في بداية الربيع. ألحظ المَجاثم التي أمرُّ بها وأقدِّر عدد الأعشاش في كلٍّ منها. إنها تُعينني على تحمُّل الطريق. أعُدُّ أيضًا المَركبات ووسائل النقل الأخرى على الطريق في أوقاتٍ أخرى من السنة. أتنبَّأ من خلالها بالمستقبل. أعتبر شاحناتٍ معينةً فألَ خير: إن رأيتُ أيَّ شاحنةٍ مكتوب عليها «نايتس أُوف أُولد» فسيكون اليوم جيدًا على الأرجح، وإن رأيتُ تلك المكتوب عليها «هانجاروكاميونز» فإنها تعني أن اليوم سيكون أفضل (مع أن تلك لا تنفكُّ تزداد ندرة)؛ أما المرور بجانب تلك المكتوب عليها «ذا شور بورترز أسوسيشن» ١ بالتك بليس، أبردين، فيعني أنه سيكون أفضل وأفضل؛ خلال أربعين عامًا من السفر بالسيارة ذَهابًا وإيابًا على طريق «إم ٥» السريع، لم أرَ ناقلة حمام تابعة لنادي «ويسترن كومباين» لسباق الحمام سوى مرتَين، ولم أصادف في طريقي ما يفوقها إيعازًا بالديار والعودة إليها.

هناك أوقاتٌ في معظم الرِّحلات بالسيارة على الطرق السريعة تُفيق لما حولك فتُدرِك أنك وحدك في جزء من الطريق. وراءك الكثير، وأمامك الكثيرُ أيضًا، سياراتٌ وشاحناتٌ أتت من كل حدَب وصوب، لكن لوهلةٍ تقطع الطريق وحدَك لألف متر، وتكون أنت سيِّده بعد أن تخطَّيت الجميع ووجدت لنفسك مُتنفَّسًا لدقيقة أو نحوها. يتوقَّف بك الزمن وتشعر بتوقُّفه ذلك. وتجتاحك فجأةً فكرةُ أنك لو استطعت أن تبقى على هذه الحال لفعلت، وعندئذٍ ستدَع كلَّ شيءٍ آخر يتحرَّك كما ينبغي له، وتتحرك أنت أيضًا معه كما ينبغي لك، ورغم ذلك يظل بوسعك أن تنجرف مع التيار، غير مُثقَل بأعباء، مع تيارِ شيءٍ ما يُشعِرك بالأمان. لا تسعى للَّحاق بشيء ولا يسعى شيءٌ للَّحاق بك. مثل الطيور في سربٍ ما. في مثل تلك اللحظات، تلاحظ أن الوقت خارجها خطير، وبلا هوادة، تشعر أنه مِعوَل هَدْم، أو جحيم أبدي. تلاحظ ذلك أيضًا لأنك تعرف — بمجرد أن تدركه — أنك لن تستطيع التشبُّث بشعور السقوط الهادئ المَرِن الذي لا تنتج عنه رضوضٌ الذي تستمتع به في تلك اللحظة. ذلك الفراغ أمامك وخلفك ليس لك أن تستحوذ عليه أو تتحكم به. حتى الآن، ستلحق أنت تدريجيًّا بالسيارات التي أمامك بينما يحاول آخرون خلفك اللحاقَ بك. لكن لبضع لحظاتٍ أخرى فقط، يجتاح ذهنَك مرورُ الزمن ومرورُك فيه.

حين تختفي غربان القيظ وراء أوراق الربيع، أُحصي شاحنات التبن. ولاحقًا، أُحصي شاحنات القش وهي خارجة من صومعة الشرق في طريقها لتكون فُرشًا لماشية الغرب. أعُدُّ الحيوانات النافقة كذلك في جميع أوقات السنة. وفي الخريف، إلى حين أن تبدأ غربان القيظ نشاطها مجددًا، أعُدُّ بساتين أشجار التفاح المزروعة في خط مستقيم، التي تحمل أشجارُها ثمارَها ذات اللون المرجاني وتطرحه، تلك الشموس الذهبية المتأخرة التي تُزيِّن قطوع وردوم الطرق في إنجلترا القديمة المضجرة.

•••

سمعتُ عن عملية الارتباع لتحفيز الإنبات المبكر، واحتياج التفاح إلى الشتاء، للمرة الأولى من باري جونيبر. كنا نعمل معًا على إنتاج المسرحية الإذاعية «بستان الآنسة بالكوم» لجوناثان ديفيدسون (وهو عملٌ فني عن السَّفر عبر الزمن، مثل العديد من المسرحيات الإذاعية التي أنتجتُها). سجَّلنا المسرحية في بستان فاكهة بمدينة أكسفورد كان باري يعتني به. إنه على دراية جيدة بالتفاح. ومن بين كُتبِه كتاب (شاركه في تأليفه ديفيد مابرلي) بعنوان «قصة التفاحة». إنه عالِم نبات ومؤرخ فاكهة وكذلك بستاني. أراه سيدَ التفاح. أعطيناه في المسرحية دورًا انقسم بين شخصيته الفعلية ونوع من جِني الغابات يتكلَّم بحقائقَ عن التفاح من بين الأفرع المُثمِرة.

قابلتُ باري عام ٢٠٠٧، في حفل تأبين الكاتب روجر ديكن. كان حاضرًا في مزرعة أشجار الجوز المملوكة لديكن في سافك، وفي لحظةٍ ما نهضَ وتقدَّم بمشاركةٍ شعرية ارتجالية، فألقى قصيدة ويليام كوري التي اقتبسها عام ١٨٥٨ من مَرثية كاليماخوس القديمة «هيراكليتس». تتحدَّث القصيدة عن موت إنسان وحيد برفقة البلابل وعن عجلة الحياة التي لا تكفُّ عن الدوران. تساءلتُ مَن ذاك الذي قد يتخذ موقفًا كهذا؟ تحدَّثتُ إلى باري فاكتشفتُ أنه عرف بروجر لأنهما تحدَّثا عن التفاح. حدَّثني أنا أيضًا عن التفاح. سألتُه عن الأغصان الذهبية: تُرى هل كانت الشجرة السحرية غصنًا مُحمَّلًا بالتفاح؟ سألتُه عن أتالانتا، التي حالت ثلاثُ تفاحاتٍ ذهبية دون مواصلة سباقها في الركض.١ سألتُه عن رأيه في تفاحة جَنَّة عَدن: إن كانت الثمرة ناضجة حين قطفتها حواء، فهل سيَطعن ذلك من الناحية الموسمية في فكرة كون الجنة مكانًا للربيع الدائم؛ هل يمكن أن تكون ثمرة فاكهة أخرى — رمانة مثلًا — أنسب لأن تكون مصدر الغواية في جنَّة عدن؟ وسألتُه عن أشجار التفاح على جانبَي الطرق السريعة، وأخبرتُه عن إحصائي إياها في الخريف، واستفسرتُ منه عن السبب الذي جعل بساتين أشجار الفاكهة تلك موجودة على الطرق السريعة. قال لي — وكأنه يحكي أسطورة ولكن بطريقة مُقنِعة كذلك — إنَّ سائقي السيارات والشاحنات يشترون التفاح من محطات الخدمة، ثم يأكلونه (يقول باري: «التفاحة التي تؤكل هي رحمٌ بالأساس») ويطوحون بلُبِّه (الزهرة المتبقية من شجرة التفاح) من نوافذهم، فيقع على الجانب الأيسر من الطريق مُتدحرِجًا إلى حافته الأكثر هشاشةً حيث يتعفَّن. البذور التي انفصلت عن اللب هي فقط التي يمكنها الإنبات («يحتوي الغشاء المشيمي لِلُب التفاح على مثبطات إنبات»). ولكن الإنبات يتطلب أيضًا درجات حرارة باردة. تنبت فسائلُ التفاح على الطرق السريعة؛ لأن ثمرته التي تكون قد شُحِنَت وخُزِنَت في حاوياتٍ مُبرَّدة، تُحفَظ بعد ذلك مُثلَّجة في المقاصف وصالات الطعام بمحطات الخدمة، وذلك التبريد المجتمع كافٍ لمحاكاة برد الشتاء الطويل الذي تحتاج إليه أشجار التفاح في حالتها الطبيعية أو المزروعة كي تنمو. «ذاكرة الشتاء» لدى أشجار التفاح تمنحها القدرة على أن تُزهِر؛ ترقُّبها للربيع يسمح بحدوث ذلك، وهذا هو ما يعنيه الارتباع بغرض تحفيز الإنبات.

توبني فين

٥٢ درجة شَمالًا
١٧ مارس. في محمية توبني فين، استطرتُ قنبرة حقول من الحقل العُشبي المُبعثَر. أطلقت صيحةً مرتعشة وهي تحلِّق صاعدة. بعد لحظة بدا أنها أرجعتها أو ابتلعتها، استنشقت ما زفرته؛ ثم بدأت أغرودتها التي انحلَّت من تلك النغمات الأولى المتحشرجة. جعل التغريدُ جسدَ القنبرة يهتزُّ وكأنما بعثت فيه موسيقاها الحياة، كان مِنقارها المفغور مشغولًا، وجناحاها المتقوسان يرتعدان. طارت قنبرة أخرى استنفرتها الأولى، وعندما بدأت تغرِّد رأيتُ كتلةً كلسية من الروث تسقط تحتها في الحقل الذي كنت أسيرُ فيه.٢

ثم صاحَ كُرْكي صيحةً مُدوية، ممدودة ومكتومة، وكأنما صدرت عن صافرة ضباب قديمة في المحمية. كنت أحسبها صوت الهواء نفسِه وقد جُرِح، أو صوت تصدُّع السماء. كان الطائر يحلِّق في الضباب على مسافة نصف كيلومتر مني. صاح مجددًا. تبدو طيور الكُركي ضخمة وهي محلِّقة في الهواء؛ حيث يتراءى للناظر أنها مستبعدة الوجود ويمكن استهدافها. تمتد أعناقُها النحيلة الطويلة إلى الأمام وتتماوج بصعوبة، وكأنها حبلٌ يحرِّكه الهواء الذي يهب. تجرُّ وراءها ساقَيها الطويلتَين النحيلتَين كعَصَوَين والقابلتَين للكسر، وتُبقيها مائلةً تحت الخط الأفقي قليلًا، وكأنما قد تحتاج في أي لحظة إلى أن تحطَّ هابطةً من السماء. يبدو جناحاها وهي تحلِّق في الهواء، هذان المستطيلان الرماديان الكبيران، متهالكَين وغير كافيين؛ إذ يُرفرِفان كما لو أنهما سجادة مُترَبة تُنفَّض. أضفى الطائرُ طابعًا من القتامة والفتور على اليوم بطنطنته وهو يجرجر نفسه مارًّا من فوقي. وفيما كان يمضي، أدار رأسه كي يتبيَّن موضعي في الحقل، ذلك المرعى الواسع المفتوح، الذي ربما يكون قد بات فيه ليلته الماضية. استطعتُ أن أرى أنه يراني.

عُدتُ إلى مستنقع بورويل ذلك المساء نفسه، فصادفتُ الكُركي مرةً أخرى. كان واحدًا من زوجٍ رأيتُه يتزاوج على جزيرةٍ يكثُر فيها البوص في منتصف المستنقع الخَضِل. اعتلى أحدُهما ظهرَ الآخر. فعل ذلك بجهد وعناية، كان يبسط جناحَيه اللذين يُشبِهان بابَي حظيرة ويقبضهما بحركةٍ بطيئة، ويتسلق برفقٍ بساقَيه الطويلتَين. ظلَّا مجتمعَين للحظة فقط. تمَّ الأمر بسرعة جدًّا، فلم يسنح لي الوقت حتى بأن أشعر أني أتلصَّص عليهما. كان النزول سريعًا وأقل تهذيبًا، وما لبث الطائران أن استكملا اقتياتَهما، غارزَين مِنقارَيهما اللذين يبدوان من العصر الحجري أسفل جذور القصب بحثًا عن الضفادع أو خنافس الماء. كان من الصعب تصديق أنهما تزاوجا فلقَّح أحدهما الآخر توًّا.

تولوند

٥٦ درجة شَمالًا

ذات ربيع، سافرتُ إلى الدنمارك مرتَين. وفي كلتا الرحلتَين كنت أتعقَّب آخرين — أناسًا وطيورًا — ممَّن يحاولون أن يقتاتوا مما في الأرض، ويصلون إليها مع طقس الربيع، ويشقون طريقهم بأفضل طريقة ممكنة.

في نهاية الموسم، ذهبتُ كي أراقب السُّنونوات مع رجلٍ يعرف كيف يسبر أغوارها، وأتعلَّم من خبيرٍ آخر بالتنبؤ بالتحورات الجينية، عن أيائل الرَّنَّة التي جلبت الحياة البشرية إلى ربيع ذلك المكان؛ إذ أرشدت البشر الأوائل إلى الدنمارك بعد أن اضمحلَّ العصرُ الجليدي الأخير.

في شهر مارس من العام نفسه، في بداية الفَصل، بعد انقضاء العصر الجليدي القصير (الآن) لشتاء بلاد البلطيق، ذهبتُ كي أحاول الإصغاء إلى حديث الظلام وأرى بعضًا من جثث المستنقعات، الموتى الذين كان يُعتقَد يومًا أنهم المحركات التي تصنع الربيع.

أشهَر تلك الجثث العتيقة، المعروفة اليوم بِاسم رجل تولوند، موجودة في متحف سيلكيبورج بإقليم يوتلاند. المتحف منشأة بسيطة للغاية من نوع منشآت البلدات الصغيرة. زُرتُه مع صديقتي جوليا بلاكبيرن، التي كانت تؤلِّف كتابًا حول الرفات البشرية والسفر عبر الزمن وأراضي دوجرلاند.٣ خطَّطنا معًا لبرنامج إذاعي وسجَّلناه، لكنه لم يكتمل قط وما زال ينتظر بثه.

قابلَنا مديرُ المتحف أُولي نيلسن، في الغرفة التي كانت مَسكنًا ومقبرة ومشرحة وكنيسة صغيرة مخصَّصة لمومياء رجل تولوند. يرقد هناك على جانبه على فِراش أسود حالِك داخل صندوق زجاجي. يبدو مرقده أشبه بشيءٍ ما بين مذبح وطاولة عمليات. وهو عارٍ لكنه بطريقةٍ ما ليس عاريًا تمامًا؛ إذ يُغطيه جِلده الذي لم يَبلَ. يبدو مثل كلب نائم من سلالة ويبيت كما رسمه لوسيان فرويد. يبدو الكلب المرسوم، كما الرجل المُحنَّط، مُنهَكًا لكنه متكوِّر ونائم في سلام، غير تعيس، هزيل، جِلده مشدود للغاية على عظامه. وكلاهما ارتسم على وجهه عبوسٌ هادئ.

كانت الغرفة في متحف سيلكيبورج مظلمة. ليس بها نوافذ ولا يدخلها أيُّ ضوء طبيعي. يساعد الظلام على حفظ الجسد الميت حيًّا. المكان الداخلي المظلم هو أفضل محاكاة لليل الذي رقد فيه رجل تولوند — تحت الماء وتحت الأرض — لأكثر من ٢٠٠٠ عام. حين تدخل من أحد المَدخلَين، تستشعرُ الأنوار دخولك فتُضيء. ثَمة مقاعد بلا ظهر بإمكانك تحريكها والجلوس عليها بالقرب من الصندوق الزجاجي والرجل الميت، كما لو كنت تُجالِس مريضًا.

انضمَّ أولي إلينا وجلسنا معًا. بعد بضع دقائق، انطفأت الأنوار بسبب عدم حركتنا فصِرنا كما لو كنا في كهف مظلم. حينها صدرَ من الرجل بريق، التماعاتٌ كضوء القمر على جلده المُسود. ظَلِلنا جالسَين معه في الظلام نتحدَّث.

قال لنا أولي: «عُثِر عليه في ربيع عام ١٩٥٠. يوم السادس من مايو. وكان يوم سبت. خرج ثلاثة منقِّبين عن الخُث إلى المستنقع كي ينقِّبوا عن الوقود لاستعمالهم الخاص. تعثَّروا في جثمانه أثناء حفرهم. كان بإمكانهم أن يخترقوا جسده لولا أن كانت في هذه المجموعة امرأة (جريث، زوجة فيجو هوشجارد، كان أخوه إميل موجودًا أيضًا)، حيث تذكَّرت تلك المرأة أن جاروفًا قديمًا قد استُخرج من مستنقع الخُث القريب، فحثَّت زوجَها وأخاه على ألا يتعاملا بعنف حين يعترضهما شيءٌ عصيٌّ على الاختراق. وهكذا عثروا عليه: بدا وجهه غضًّا لدرجةٍ جعلت المُنقِّبين يتساءلون إن كانوا قد صادفوا مسرح جريمة.»

كان مسرح جريمة بالفعل لكنه لم يكن كذلك في الوقت نفسه.

«استُدعيَت الشرطة أولًا، ثم تولَّى الأمرَ علماءُ الآثار. أخذوه إلى كوبنهاجن في كتلة من الخُث. وأُجريَت له عملية تشريح لاستخراج أعضائه. قطعوا رأسه وقدَميه بالمنشار. في تلك الأيام لم يكن أحدٌ يعرف يقينًا كيفيةَ حِفظ جثة بعد استخراجها من الخُث. كان حفظها صعبًا جدًّا. إن تُرِك شيءٌ كان مشبعًا بالماء في مستنقع خُث حتى يجف، فإنه يفقد شكله ويتداعى. وإن وُضِع في مياه عادية، فإنه يتعفَّن ويتحلَّل. أجرَوا تَجارِب، فعرفوا أن الكحول بإمكانه أن يحل محل مياه المستنقع ويحفظ الجثة، ولاحقًا اكتشفوا أنَّ الشمع أفضلُ من الكحول — إذ إنه متماسك ولا يتغيَّر في درجات حرارة الغرفة العادية.»

«أهو تمثالٌ شَمعي إذَن؟»

«ليس بالضبط. لسنواتٍ عِدَّة، كان رأسُه فقط معروضًا هنا. هكذا رأيتُه للمرة الأولى. لم يتسنَّ تجميع جثمانه مرةً أخرى إلا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. جمع كريستيان فيشر الذي شغل ذلك المنصب قبلي جميعَ أجزائه التي كانت مبعثرة في عدة مؤسسات. والآن صار جسده بالكامل لدينا هنا. ما نراه داخل ذلك الصندوق هو رأسه الحقيقي وإعادة تشكيل لبقية جسده. أما الأجزاء الحقيقية، فنحتفظ بها بعيدًا عن أعيُن الجمهور. فهي ثمينة لكنها هشَّة.»

«لم نعثر على إصبع قدمه إلا مؤخرًا. حين جمع كريستيان جثمانه، كان الجزء الوحيد الناقص هو الإصبع الكبير لقدمه اليمنى. من الواضح أنه قُطِع بالمنشار، لكن أحدًا لم يعرف مكانه. سرَت شائعاتٌ بأن رجلًا شارَك في عملية حفظ الجثمان طالبَ بأن يُدفَن الإصبع معه حين يموت. ثم في أكتوبر ٢٠١٦، تلقَّينا اتصالًا هاتفيًّا.»

«معي الإصبع الكبير، هل تودُّ الحصولَ عليه؟»

«كانت ابنة الرجل الذي شارَك في حفظ الجثة. تذكَّرَت رؤية قدم مومياء تولوند في برطمان به سائلٌ أزرق في منزل طفولتها. وفي أحد الأيام قطعَ أبوها الإصبع. تقول إنه ندمَ على ذلك لاحقًا. شعر بالذنْب إلى حدٍّ ما، فصار يحمله معه في جيب سترته. في أوقات تناول الطعام كان يُخرِجه ويضعه بجوار صحنه على المائدة ويفكِّر فيه بصوتٍ مسموع ويحادثه. بعد وفاة والدها، عثرت الابنة على إصبع القدم في منزل العائلة داخل سلة من الصفصاف مصنوعة خصوصًا لبيض عيد الفصح. كان موضوعًا بداخلها، ملفوفًا في قطعةٍ من النسيج. عرفته على الفور، والآن صار معنا ونحن سعداء بذلك. لدينا اليوم كلُّ أجزاء رجل تولوند عدا أعضائه الداخلية الحيوية. إن ظهرت، فسنكون أسعد.»

«خمَّن بي في جلوب، مؤلِّف كتاب «الراقدون في المستنقعات» عام ١٩٦٥، أن مومياء رجل تولوند ترجع إلى العصر الحديدي. كان ذلك تخمينًا جيدًا. فاليوم نعلم أن عمره حوالَي ٢٤٠٠ عام. حين عُثِر عليه، لم يكن أحدٌ يعرف أيَّ شيء تقريبًا عن جثث المستنقعات. في تلك الأيام، كان اكتشافُ شيءٍ مثل رجل تولوند يُعَد أمرًا مزعجًا، وهكذا ظلَّ الحال لوقت طويل. كانت الجثامين عادةً ما يُعاد دفنها، أو إعادتها إلى مستنقعات الخُث. لم يكن أحدٌ يعتبرها كَنزًا.»

كانت الأنوار قد انطفأت. نهضت جوليا ودارت حول المومياء. فأضاءت الأنوار من جديد.

«الغِياض هي مَوطن جثث المستنقعات. الأمر المميَّز فيها هو حزاز الإسفغنون. فهو يعمل عمل الإسفنج. بوسع الحزاز أن يمتص من الماء ما يفوق وزنه عشرين مرة ويخزِّنه. وهو يصنع بيئة مالحة فقيرة الأكسجين. بوسعك مقارنته بعملية التخليل. وربما هذه بطريقةٍ ما هي العملية التي حافظت على الجثامين. لم تحتفظ يدا رجُل تولوند بحالتها جيدًا؛ إذ يُحتمَل أنهما ظلتا بارزتين فوق سطح الماء لبعض الوقت وتعفَّنتا إلى حدٍّ ما. لكي يحتفظ جثمانٌ بحالته يجب أن يُغمر في الماء بسرعة. يصبغ سائل المستنقعات الجِلد البشري. تلك العملية تشبه ما يحدث في الطبيعة من اسمرار لون البشرة بفِعل الشمس. تحافظ بيئة حزاز المستنقعات الرطب أيضًا على الكولاجين (جزء من الألياف البروتينية في الجسم) والكيراتين (الشعر). تشبه جثامين المستنقعات الأكياس الهشَّة. يظل الجلدُ على حاله، لكن العظام يُنزَع منها الكالسيوم وتصبح ليِّنة. بوسعك أن ترى أن عظام رجل تولوند تبدو مَثنيَّة، حدث ذلك منذ أن كان على قيد الحياة. تبدَّد الكالسيوم بطريقةٍ أو بأخرى من هيكله العظمي.»

«نعتقد أن عمره كان بين الثلاثين والأربعين عامًا.»

«يبدو أكبر سنًّا.»

«هو كذلك. فعمرُه ألفان وأربعمائة عام!»

يبدو لي الرجل وكأنما أُلقيَ به في حممٍ بركانية. فلِبَشرته لونُ ومظهرُ العِقي، وهو البراز المتكوِّن داخليًّا في أحشاء الجنين ويُخرجه بعد ولادته بفترة وجيزة، ويكون ذا لونٍ أخضر داكن للغاية، ويبدو مثل ملاط أو عجين صُنِع من كل أوراق الربيع لكل فصول الربيع التي مضت.

«تبدو على وجهه طمأنينة وسكينة. ومن الواضح أن أحدًا ما اعتنى بأمر ذلك الرجل؛ أطبق له جَفنَيه وفمه، وأرقده في مُستراحه. يجعلك ذلك تفكِّر أن الموت ربما لا يكون أمرًا سيئًا للغاية في النهاية. بَيدَ أنه مات مشنوقًا. ثَمة أنشوطة لا تزال مُحكَمة حول عنقه. لم يُخنَق بل شُنِق. أغلب الراقدين في المستنقعات الذين استطعنا معرفة أسباب وفاتهم قُتِلوا بضراوة. رجل جروبال نُحِر عنقُه من الأذن للأذن — يرسم عُنقه المنحور على وجهه تكشيرة متوحشة — وكُسِرت إحدى ساقَيه حتى لا يتسنى له النجاة من جروحه. نعلم أن تلك لم تكن طرق دفن عادية في عصرها. فأجساد أصحاب الوفَيات الطبيعية كانت تُحرَق. تلك الشعوب لم تدفن أي إنسان كما فعلت مع أناس المستنقعات. ومن ثَم، نفترض أن لأولئك الأشخاص ولميتاتهم معنًى أبعدَ من ذلك. ربما مَن انتحروا كانوا يُودَعون تلك المستنقعات، وهذا احتمالٌ كان محل نظر. ربما المجرمون الذين عُوقِبوا على جرائمهم كانوا يُودَعون تلك المستنقعات، وهذا الاحتمال أيضًا كان محل نظر. لكن ما يبدو لنا الآن هو أن تلك الجثامين لا ترمز إلى العقاب بالمعنى الحَرفي، بل إلى التضحية. نرى فيها فكرة دينية. أولئك الأشخاص كانوا قرابين لإله أو إلهةٍ ما، أيًّا مَن كانوا. كانت المستنقعات والأراضي الرطبة حلقاتَ وصلٍ تربط بين عالَم البشر وعالَم الآلهة. كانت أماكن يمكن للمرء فيها أن يتواصل مع الآلهة ويَهَبها العطايا. وُضِع رجل تولوند في حفرةٍ حُفرَت لاستخراج الخُث. كانت مقبرةً مغمورة حفَرها الناس. مكان عمل أُحيلَ إلى مكانٍ مقدَّس.»

لا نعلم كيف كان أولئك الناس يتحادثون، أو تفاصيل ما كانوا يتحادثون بشأنه، لكننا بدأنا نفهم بعضًا من أفكارهم.

«بعض الجثامين كانت محصورة تحت الماء، وحُبسَت أو ثُبِتت هناك في صناديق خشبية أو بخطاطيف. وتلك كانت مصنوعة يدويًّا ومميَّزة. وربما كان الغرض منها منْع الجثة من أن تطفو، لكن التصور الأقرب أنها ربما استُخدمَت لإبقاء الجسد في المستنقع، لمنع الموتى من العودة إلى الحياة، لإبقائهم تحت الماء.»

«نعتقد أن جميع الجثامين المحفوظة جيدًا التي نعرفها وُضعَت في المستنقعات في وقتٍ بارد من العام، كانت درجة الحرارة فيه لا تزيد عن أربع درجاتٍ مئوية. فلو كان الطقس دافئًا لَصار سباقًا ضد الزمن. ولذا، نفترض أن الجثامين وُضعَت في المستنقعات في نهاية الشتاء وبداية الربيع — في نقطة انقلاب العام؛ حيث يتقاطع الفصلان. كان ذلك هو الوقت الأنسب لحفظ الجثامين على الأقل، لكن الأهم من ذلك أنه ربما كان هو الوقت الذي دعَت الحاجة فيه لتقديم تلك الجثامين كقرابين. ربما كانت قرابينَ الربيع. قرابينَ من أجل الربيع. قُدِّمَت من أجل أن يحُلَّ هذا الفصل.»

إنَّ بقاءَ جِلدِ رجُل تولوند، لا عظامه، هو ما يجعله أليفًا لنا. لو كان هيكلًا عظميًّا لكانت مشاعرنا تجاهه أكثر جمودًا. وبدلًا من انتظار الحياة الأخرى للاضطلاع بدورها، مُنِح رجلُ تولوند ضربًا من الخلود ببقاء جسده محفوظًا على هذا النحو. عُجِّل بموت القتيل كي يؤمِّن بموته مستقبلَ أولئك الذين عاش بينهم، وإن كان مستقبلًا لن يراه هو. بعد كل تلك السنوات، فَنِي أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة — قاتِلوه — منذ زمن ولم يبقَ منهم إلا أثرٌ يسير؛ لكن الرجل الذي قُتِل كي يصير مسافرًا عبر الزمن في عصره، كي يأتي بالربيع مرة أخرى، بقي رغم موته كي يؤثِّر فينا وفي زماننا.

«نعرف أن شعبه كانوا يشتغلون بالزراعة. كانوا يملكون حقولًا صغيرة. ويزرعون حبوبًا متنوعة: الشعير والشوفان وبذر الكتان والقمح على اختلاف أنواعه. كان بداخل معدة رجل تولوند بعض الحبوب الزراعية. كانت آخِر وجبة تناوَلها هي العصيدة (تُسميها الكتب القديمة «الثريد»)، وتتكوَّن من الشعير والشوفان وبذر الكتان، وكذلك حبوب عشبية مختلفة، من تسعة عشر نوعًا من الحبوب في المجمل. ولا بد أنها لم تُزرَع بل جُمِعَت. لم يتضمن نظامه الغذائي لحمًا في ذلك الوقت. ولا أيَّ نباتٍ أخضر. ربما كانت تلك وجبةً تقليدية في أواخر الشتاء أو بداية الربيع. نحاول الآن أن نحلِّل بعض خُصلاتٍ من شَعره لِنَرى إن كان ذلك هو نظامه الغذائي الطبيعي أم إنه كان نظامًا خاصًّا. وبهذه الطريقة، ربما كانت وجبة ذات مغزًى توضيحي: ربما كانت جزءًا من الرسالة التي كان على الرجل أن يحملها معه إلى المستنقع. ربما كانوا يُعانون أزمةً ما. ربما كان يُعتقَد أن القرابين العظيمة ضرورية لضمان عودة النماء مرةً أخرى. ربما كان ذلك هو سبب وجوده هناك. كان من المُخطَّط أن يُودَع خزينةَ طحالب الإسفغنون في المستنقع. كي يأتي الربيع.»

انطفأت الأنوار مرة أخرى. ظللنا جالسين في الظلام.

قال أولي: «لقد حلمتُ به. تحدَّثت إليه مرةً وبادلني الحديث. لكن بعد أن استيقظت، لم أستطِع أن أتذكَّر ما قاله.»

•••

اتجهتُ أنا وجوليا بالسيارة إلى المستنقع. ثَمة لوحة نحاسية صغيرة مُثبَتة على شجرة عند حافة طريق يمرُّ فوق جانب من مستنقع الخُث المكسو بالحزاز. لم تكن اللوحة لافتة للنظر، مثل معظم الأشياء في ذلك المكان. وكان مكتوبًا عليها أن ذلك هو المكان بالتحديد. كان الهواء مُنسَّمًا هناك. سجَّلتُ بعضَ هبَّاته على آلتي.

«مستنقع تولوند: صوتُ الرياح بين الأشجار.»

كان اللون الأخضر يعود مجددًا في بعض المواضع على سطح الحزاز، كرغوة حساء البازلاء في إناءٍ يغلي. في السماء الزرقاء الباردة فوقنا، جاءت راياتٌ مهترئة من النوارس الشائعة تُرفرِف، أربعمائة أو يزيد، سرب من الطيور يحلِّق نحو الشَّمال بحثًا عن الربيع، عائدًا على جناح الريح. لكن بدا أن الشتاء لا يزال مسيطرًا. خَدِرت قدماي وكان الهواء مُحمَّلًا بمزيجٍ من المطر والثلج. ربما كان ذلك هو اليوم الذي وُضِع فيه رجل تولوند في المستنقع. ربما احتاجت قرية يائسة إلى تحسين الفجوة الخضراء حين صارت الزروع النضرة نادرة، فأخذوا آخِر ما في براميلهم ليعدوا منه آخر صحن، ثم شنقوا الرجل الذي كانوا قد احتفظوا به لذلك الغرض. بعد أن فعلوا ذلك، أطبقَ شخصٌ ما جَفنَيه ووضَعه تحت الماء، لكنه ربما رفعَ بصره من الشجرة التي شُنِق عليها ورأى في آخِر لمحة يراها من السماء أُولى النُّدفات البيضاء من النوارس الشائعة، هنا تمامًا حيث هوى عميقًا في ظلام نفسه.

•••

عُدنا إلى الشاطئ في مدينة آرهوس كي نحظى بقسطٍ من النوم. كانت غُرفتي تُطلُّ على بحر البلطيق. كان البحر لا يكاد يموج. وقفتُ في نافذتي وجُلتُ بنظري في الليل. كان مدًّا ضعيفًا واهنًا ذلك الذي اكتنفَ الشاطئ. ثم بدا القمر — الذي كاد يصير بدرًا — وبينما كان يرتفعُ في عَنان السماء، مهَّد ذلك الجُرم اللؤلئي — القمر الرومانسي العتيق — طريقًا مُتلألئًا في البحر أسفله توهَّج ببريق كبريق المغنيسيوم. تماوجَ البحرُ فاستنهضَ بطَّ العَيدَر الذي كان يركب أمواج الليل العابرة. لا بدَّ أنَّ حشدًا واحدًا كان به خمسمائة بطة ذكورًا وإناثًا: ألوانها بين الأسود والأبيض والبُني كالطين، تتهادى صعودًا وهبوطًا على صفحة الأمواج الهادئة. بدَت أولَ ما رأيتها كطواجن داخل فرن. لكن حين سبحت مُتماوجةً إلى ذلك الطريق الذي صنعه ضوءُ القمر، عادت إليها ألوانها ومدَّ الذكور منها رقابهم وبدءُوا يُنشِدون أغرودتهم. بَيدَ أنها لم تكن أغرودة: بل كانت تهويدتهم المضحكة — «ووواااوووو ووواااوووو» — ثرثرةً للتعبير عن طموحاتهم التي لم يُدرِكوها بعدُ، يمطُّون كل زفرة اندهاش بطريقةٍ رتيبةٍ على غِرار سكان الضواحي. يتحدَّث بط العَيدر عن سخافته قبل أن ينعته أحدٌ آخر بها. كان صوته عَتِهًا، لكنه كان عذبًا للغاية كذلك.

أويتُ إلى فِراشي تحت لحافٍ من نوعٍ ما، أُصغي عبر النافذة المفتوحة. ما سَمِعتُه كان أبعدَ ما يكون عن قربانٍ للربيع، لكنه مع ذلك سيكون سببًا في إنعاش مظاهر الحياة: كان مائتا ذكر أو أكثر من البط الغامز اللامز يردِّد زغرودتَه على استحياء، في خِضم أمواج البحر المتكسِّرة؛ يجذبون الانتباه إلى ما يتمنَّون اجتيازه، يرقصون رقصةً حقيقية لا يرقصها سوى راقص غريب الأطوار، يُسرِّعون وتيرتهم بلطف، في المجمل، كما يشاءُون.

حين استيقظتُ صباحَ اليوم التالي، كانت ذعرةٌ بيضاء تقف فوق صخرة ملساء على الشاطئ أسفل غُرفتي. لا بد أنها وصلت توًّا. كان ذيلُها يخفق ببطء. بدَت كسيجارة ملفوفة باليد في ثغرٍ يتكلَّم. مع صغر حجمها، واكتسائها بريشها الأرقط الحَذِر، كانت تجسيدًا للربيع، ولوَّحتُ إليها بالتحية من نافذتي.

سِرتُ بمحاذاة الشاطئ. أشرقت الشمسُ التي كانت مثل سبيكة مطروقة لا تنبعث منها أيُّ حرارة فوق بحر البلطيق. حيَّيتُ أعضاء نادي سباحة من الدنماركيين المتقاعدين الجَسورين كانوا ينزلون سُلمًا خشبيًّا من المرسى كي يصلوا إلى البحر. كانت الرياح تحمل أكوامًا من أوراق أشجار الزان التي سقطت العام السابق من الشرم الرملي حيث كان السبَّاحون، وتطوِّفها فوق سطح الماء خلفهم. دارت لأسفل مثلَ وُريقة ذهبية سقطت من حقيبة، ثم تماوجت مع المَدِّ عائدةً إلى حيث أتت، في أساطيل مِقدامة — نجَت من الغرق — من أوراق الشجر. وعلى مسافةٍ أبعدَ على الشاطئ، هززتُ شجرةً عامرة بزيغان الزرع. وبينما أنا أراقبُ سوادها ينتثر في الضوء البارد كالرصاص، لمحتُ عاليًا مجموعةً من ست بجعات بِيويك (بجعات التَّندَرا) تسافر باتجاه الشَّمال الشرقي. بدَت مثلَ حبل غسيل نُشِرَت عليه ملاءاتٌ كريمية اللون في سماء الشَّمال. حين وصلت الذعرة كانت البجعات قد غادرت؛ إذ بدأ الطقسُ يصير حارًّا للغاية بالنسبة إلى البجع البري في الدنمارك، الذي استشعر أن ثلوج سيبيريا تذوب بدرجةٍ كافية لأن يبدأ رحلة عودته إلى مناطق التَّندَرا.

•••

في وقتٍ لاحق ذلك اليوم، بعد أن اتجهنا بالسيارة عائدين إلى كوبنهاجن، قمتُ أنا وجوليا بزيارة أخرى. صارت سوليرود الآن تابعةً للضواحي الشَّمالية للعاصمة، لكنها لا تزال محتفظة بمعرضها الفني ومتحفها المحليَّين ذوَي الطابع القروي. استمتعتُ برؤية نموذج طائر الأوك العظيم المصنوع من ريش أحد عشر طائرًا من طيور أبو موس ضُحِّي بهم، بيْد أن هدف زيارتنا كان رؤية القبور والهياكل العظمية لبعض أبناء الشعب الإرتيبولي الذي عاش على الحافة الشرقية الرطبة لجزيرة زيلاند منذ فترةٍ تتراوح ما بين ستة وسبعة آلاف سنة.

عُثِر في فيدبايك عام ١٩٧٥ على عدة مدافن إرتيبولية في مستنقع خُث قديم أثناء بناء موقف للسيارات ووضع أساسات مدرسة جديدة. حوَت تلك القبور جثامين لأناسٍ ترجع إلى فترةٍ زمنيةٍ أقدمَ بمقدار الضِّعف من الفترة التي يسبقنا بها رجل تولوند. أظهرت عدة هياكل عظمية أن الإرتيبوليين قضَوا نحبَهم بطرقٍ بَشعة؛ إلا أن قبرًا آخر حكى قصة مختلفة. إنه قبرٌ لجثمانَين، بل في الواقع لثلاثة جثامين أو أكثر، بناءً على النوع الذي نشمله في العَد. امرأة مستلقية على ظهرها، وقد أُرقدَ بالقرب منها على جانبها الأيمن رضيعُها. ربما لو كان لهما جسدان لكانا نائمَين معًا؛ لو كان لهما لحمٌ ودم لكان الرضيع قد رضعَ لتوِّه ثديَ أمه. لكنهما لم يكونا سوى عظام. شحَبَت كلُّ ألوانهما ولم يَبقَ إلا لون هيكلهما العظمي. أسفل الرُّفاتِ الهشِّ لعظام الرضيع — كان ذكرًا، وعلى الأرجح ماتَ أثناء ولادته — كان ثَمة رُفات عظام طائر أصغر منه مبعثرة على شكلٍ مِروحي. وُضِع الرضيعُ بعد موته فوق جناحَي بجعةٍ برية مَبسوطَين. بجعة صدَّاحة أو بجعة تندرا، يُرجَّح أنها تلك الأخيرة، وهو طائر محلي يقضي شتاءه في المنطقة.

كانت الأم يافعة، في الثامنة عشرة تقريبًا، وربما تكون قد تُوفِّيت أثناء ولادتها لطفلها. يُعتقد أن ذلك كان طفلها الأول؛ ومن ثَم الوحيد. كان الثوب الذي دُفنَت فيه، والذي صار الآن مهترئًا باليًا، مُزيَّنًا بقواقع حلزون مثقوبة. كان ثوبٌ آخرُ له الزينة نفسُها منفوشًا تحت رأسها كوسادة. المئات من تلك القواقع، وما يزيد أيضًا على ٢٠٠ خرزة صُنعَت من أسنان حيوانات، موضوعة بين عظام الأم وكذلك حول عظامها وعظام رضيعها. قُتِل سبعة وثلاثون أيلًا أحمر وخنزيران بريَّان كي تؤخذ منها تلك الأسنان. لا بد أن وجه المرأة كان مُغطًّى بالمُغرة الحمراء وحوضها أيضًا كان مُخضَّبًا باللون الأحمر؛ ربما لتمييز الدماء التي نزفت في ذلك الموضع. كان جناح التمِّ الأبيض مهدًا لرضيعها. وُضِع على صدره سكين صغير باهت اللون من حجر الصوان. يُفسَّر هذا بأنه دليل على مكانة تلك الأسرة وإشارة إلى أن السلطة في تلك الثقافة كانت تتوارث داخل العائلات وبين الأجيال.

يَصعُب رؤية جناح التمِّ وتَبيُّن تكوينه بين رُفات وذرى القواقع والأسنان والعظام المبعثرة الرقيق. يشبه الأمر محاولة تبيُّن كوكبة من النجوم في سماء الليل المزدحمة. لكن حين تعلم بوجودها، تصبح هي ما تود رؤيته — رؤية الحب، ورؤية ذلك الحنو محفوظًا منذ زمن طويل للغاية، رؤية اللفتة الإنسانية التي حُفظَت لآلاف السنين في تلك العناية التي وُضِع بها جناحُ الطائر المنبسط، لمسة حانية للمسةٍ حانية، أغرودة تمٍّ خامدة، مَهرَب — وسيلة هرب مُجنَّحة — مُهداة بجانب هبوط سلس.٤

بكيتُ أنا وجوليا ونحن واقفان هناك. ثم سِرنا إلى الحقول المستنقعية على أطراف المدرسة في فيدبايك، وجلسنا على الأرض التي يكسوها الحزاز. تهادت كُسفٌ من عشب القطن المستنقعي في النسيم. يَذكُر بي في جلوب أنه في بعض الروايات القديمة، كان ذلك القطن الناعم يُستخدم في صناعة ثياب الأمراء اليافعين الذين تحوَّلوا بفِعل السِّحر إلى بجعة. كان هناك زوجٌ من الإوز الأربد الحديث الزواج يتهاديان تحت المطر كما عند مستنقع رجل تولوند. ومن شجرة جار ماء، بدأت تُدلي لتوِّها نوراتها الصفراء الشاحبة وتلوِّح بلطف للربيع، غرَّد طائرُ شفشافة حطَّ توًّا — وكان لونُه أصفر شاحبًا كذلك — بصوتٍ يُحاكي اسمَه «شِفْشاف». اسمه كما أعرفه في لغتي على الأقل. إنه يُدعى في اللغة الدنماركية «جرانسانجر». لا نعرف ماذا كان الإرتيبوليون يُسمُّون الشفشافة في لغتهم المنسيَّة، مع أننا نعرف ما كانوا يعتقدونه بشأنِ التمِّ (البجع).

بحيرة لانجانو

٨ درجات شَمالًا

كنا في شهر مارس؛ ولمَّا كان لا يزال أمامنا متَّسَع من الوقت، انتظرتُ وصول الطيور. على الشاطئ الغربي لبحيرة لانجانو بإثيوبيا في محيط فندقٍ على جانب البحيرة، جلستُ على سور منخفض من الخرسانة الصلبة التي دفَّأتها الشمس. كانت عدة طيور مهاجرة من رتبة العصفوريات تتحرَّك عبر الأشجار، تشقُّ طريقَها صوب الشَّمال بمحاذاة حافة البحيرة. تقع بحيرة لانجانو في الوادي المتصدع. أمامي، كانت حديقة من أشجار السنط والجكراندا والجهنمية والأراك تظلِّل الرقعة المُسوَّرة من الأرض العارية، ووراء تلك الأشجار كان هناك مَشرَب يقدِّم المخاليط الكحولية وشاطئ من الرمال الرمادية الخشنة والمياه البُنية المتماوجة للبحيرة. ووراءها كان الجانب الشرقي من الوادي المتصدِّع وطرف جبال بيل يتوارى خلف السَّديم في السماء الغبراء.

أتيتُ إلى هنا في حياةٍ سابقة. أول مرة أزور فيها أفريقيا كنت في رحلة إلى إثيوبيا لزيارة ستيفاني، خليلتي حينها (ولاحقًا أم ولدَينا دومينيك ولوسيان)، التي كانت تعيش هناك مع أبوَيها (كان أبوها عالِم نبات يُجري أبحاثًا على طفيل العُدار الذي يصيب السورغم، وكانت هي وأمها تعملان بالتدريس). كان ذلك في شهر يناير من عام ١٩٨٨، في زمن ولاية ديرج، الحكومة المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفييتي، تلك الفترة المليئة بندوب النزاع العِرقي. ناحية الشَّمال كانت ثَمة معارك دائرة في إقليم تيجراي وإرتريا. كانت الظلال الداكنة للمجاعة التي حدثت بين عامَي ١٩٨٣ و١٩٨٥ لا تزال تخيِّم على البلد بأكملها. عملتُ حينها لفترة وجيزة مع هيئة إنقاذ الطفولة في لندن، وكنت أُوصِّل الأدوية من مقرها الرئيسي إلى مكاتبها في أديس أبابا. في ليلتي الأولى هناك، حين كنا متوجهين بالسيارة من المدينة إلى منزل ستيفاني في مدينة هوليتا التي تبعُد عنها أربعين كيلومترًا، رأينا في أضواء السيارة الأمامية ضِبْعانًا يَفرُّ حامِلًا جيفةً انتشلها من رفٍّ خارج صف من أكشاك الجزَّارين بإحدى القُرى؛ قرية بدا أنها شارع واحد تمتدُّ بطوله سلخاناتٌ مُريعة. كان ثِقَل غنيمة الضبع الدامية من لحم ضلع البقرة الذي يحمله يزيد فيما يبدو من ترنُّحه في مِشيته العرجاء بالفعل. وفي ضوء الكشافات الأمامية للسيارة، كانت عيناه المحتقنتان المتأجِّجتان زائغتَين ومنجرفتَين كطلقة إشارة ضوئية تهوي من السماء.

كان للسفارة البريطانية مخيَّم على شاطئ بحيرة لانجانو. كان به كوخٌ فيه لوحُ تزلُّج شراعي مملوكٌ للتاج الملكي. نصبْنا خِيَمنا. وفي كوخ قريب، كنا نأكل وجباتنا التي لم تكن تخلو جميعها من البيض المخفوق المقلي الذي يقدِّمه لنا أشخاصٌ ودودون يخرجون كالأشباح من بين الشجيرات المحيطة. أذكرُ أني استعنت بالمرآة الجانبية لسيارتنا لمساعدتي في حلاقة ذقني. جرَّبت من قبلُ التزلج الشراعي، وفي إحدى الرِّحلات، سابقتُ ورلًا سابحًا أتى يجدِّف بقوائمه إلى جوار لوح تزلجي مثل ديناصور يسبح سباحةً حُرة.

كانت حياتي كمراقب طيور قد شهدت حالةً من الانحسار في تلك الفترة. كنت أسكنُ وأعملُ في لندن، واعتلى الترابُ مِنظاري المكبِّر أغلب تلك السنوات. تفاجأتُ في إثيوبيا بالطيور التي رأيناها، وما كان ينبغي لي أن أتفاجأ. عند بحيرة لانجانو، في أوقات الغسق القصيرة في نهاية اليوم، كانت الطيور تقيم حدثًا على مستوًى عالمي؛ إذ كانت تظهر من السماء فجأةً آلافٌ (بل ظننتُ أنها ملايين) من سُنونوات الرمال، وذعرات «فلافا» (النوع الأصفر)، تطير شَمالًا فوق وسط البحيرة. كانت الرياح تهدأ عادةً في نهاية فترةِ ما بعد الظهيرة، والشمس تتدلَّى منخفضة وملطَّخة بالغبار في السماء جهةَ الغرب. كان كلُّ شيء أغبرَ عند بحيرة لانجانو، ومن الشاطئ بدا سربُ الطيور في بادئ الأمر مثلَ غبارٍ تذروه الرياح أو مثلَ حشراتٍ جامدة الأجساد فقست من ماء البحيرة الكَدِر الآسِن. كانت تتحرَّك ككتلة واحدة، مثل الدخان المنفوث، بعيدة للغاية حتى إنني لم أتبيَّن منها شيئًا عدا رفرفة عازمةٍ يشوبها اللون البُني لا تنفكُّ تتكرَّر. ظَلِلتُ أنظر، فأدركتُ أن تلك طيورٌ مهاجرة متجِهة لتجثم في مكانٍ ما في الوادي المتصدِّع. كان الوادي مهدًا يحتضنها وقِبلةً تستقطب رِحلاتها، كنت أشاهدُ فيها أوروبا وهي في طريقها للمبيت في أفريقيا.

ربما أكون قد رأيتُ بعضَ سُنونوات الرمال من قبل — تقف فوق خزان مياه خارج مدينة بريستول في منتصف شهر مارس — كانت أول طيور أرصدُ وصولها من أفريقيا في ذلك العام (كالعادة)، أو تعبر فوق الحقول العليا برعن جزيرة بورتلاند، بعد أن تكون قد عبرت القنال الإنجليزي، وقبل أن تصل إلى اليابسة بلحظات؛ أو تغرِّد أغرودتها الهاسة المتشدقة فوق بحيرة في مقاطعة بيركلاند فتجيبها طيور السُّبَد المزقزقة من مرجٍ رملي؛ أو بالجوار، تدخل وتخرج من جحور (إذ تَحفِر من ثمانية إلى عشرة سنتيمترات في اليوم) في حفرة رملية قديمة بمنطقة تدريب تابعة للجيش بالقرب من بلدة ثيتفورد؛ أو تصيد البرغش تحت المطر بين بومة صمعاء تعمل بالحقل وقضاعة تغوص في جزيرة مول؛ أو تحلِّق بين صيادي السلمون على نهر دي، المنسوب إليه اسمي، في أبردينشاير … كان ثَمة عددٌ كبير للغاية منها عند بحيرة لانجانو، لا تنفك تأتي غسقًا بعد غسق، حتى إنني تساءلتُ بجدية إن كانت سُنونوات الرمال الأوروبية أجمعها تعبر من هنا. في الواقع، تقضي طيور أوروبا الغربية الشتاءَ في الجزء الأوسط من منطقة الساحل، بينما تطير سُنونوات رمال أوروبا الشرقية إلى شرق أفريقيا. الطيور التي رأيتُها لم تكن جميعها أوروبية، بل على الأرجح أغلبها من الأراضي السوفييتية في روسيا وأوكرانيا وبلغاريا ورومانيا. كان داعمو حكومة ديرج ومزوِّدو القوات الجوية للثورة الإثيوبية بطائرات ميج يلعبون دورًا أيضًا في إرسال سُحبٍ مُغبَّرة من سُنونوات الرمال في بعثاتٍ شتوية.

كان هناك الآلافُ من تلك الطيور، وكان هناك أيضًا سمنةُ صخور واحدة. على الأجراف، جنوب المخيَّم التابع للسفارة (شَمال المكان الذي سنقيم فيه لاحقًا أنا وكلير)، رأيتُ ذكرَ سمنة صخور، جاثمًا على صخرةٍ لا يفصل بينه وبين ذكر سمنة صخور صغيرة سوى صخرة واحدة، الأول مهاجرٌ قادم من الشَّمال، والثاني مقيم. كانا بديعَي الجَمال، كان لجانب جسدَيهما السفلي اللونُ الأحمر القرميدي الذي يبعث على الدفء، ولحنجرتَيهما ورأسَيهما لونٌ أزرق ضارب إلى الرمادي يشبه الدخان؛ وهي الألوان المبهرجة ذاتها التي تميِّز الحميراء كما أُحبُّ أن أصفها الآن. لكني حينها كنت بطيئًا في تحليلي لما كنت أراه، فأربكني التشابه الجمُّ بين نسختَين متباينتَين من الطائر خِيطَا من ثوب واحد حتى عدتُ إلى إنجلترا حيث راجعتُ كتبَ الطيور التي أقتنيها. لم أكن قد رأيتُ أيًّا من الطائرَين من قبل، وأتذكَّر تعجُّبي حين اكتشفتُ أني رأيتُ أولَ سمنة صخور أراها في حياتي في إثيوبيا لا أوروبا (هكذا كانت «بعيدة» إلى حدٍّ ما كما كنت أشعر أنا).

حكيتُ لكلير عن الأيام الخوالي بينما كنا نراقبُ زوجًا من سمنة الصخور الصغيرة على الصخرة نفسِها التي رأيتُ فوقها طائرًا من النوع نفسِه عام ١٩٨٨. واتضح أنها أيضًا رأت أول سمنة صخور شائعة في حياتها في إثيوبيا، عام ١٩٩٩. كما رأت أول حميراء أوروبية شائعة في الرحلة نفسِها: كانت حينها مراقِبةَ طيور يافعة ترتحل شَمالًا في أفريقيا من بيتها في كيب تاون؛ لتلاقي المنطقة القطبية الشمالية القديمة حيث تمتد إلى الجنوب. كانت تلك فكرةً جيدة. قبل أن نلتقي بوقت طويل، كان كلانا قد قطع نذورًا تخصُّ مراقبة الطيور، على الصخور الإثيوبية الغبراء للنوع نفسِه من الطيور المهاجرة.

•••

لم نكن النزيلَين الوحيدَين في الفندق المُطل على بحيرة لانجانو. فقد تغيَّرت إثيوبيا كثيرًا خلال ثلاثين عامًا. صار الفندق الذي نزلنا فيه هو المَقصد الأول للناس في البلد لالتقاط الصور الفوتوغرافية وتصوير الأفلام للعرائس والعِرسان في مواقع تصوير خارجية متنوعة معدَّة سلفًا. تُصوَّر تلك الأفلام قبل إتمام الزواج وتُعرَض في حفل العُرس الوشيك (تُوزَّع كذلك هدايا على الحضور). ظننتُ حين رأيتُ أول زوجَيْن أنهما ممثِّلان يصوِّران لقطاتٍ ترويجية للفندق، بيْد أن شيئًا من التوتر كان يشوب التعاملات بينهما وصبَّهما النبيذ. ثم رأيتُ على الجانب الآخر من الشرفة زوجَيْن يفعلان أمرًا مماثلًا بالتصنُّع نفسِه. كانوا جميعًا عرسانًا وعرائس حقيقيين يرسمون صورًا مزيَّفة لأنفسهم. ليلة تلو الأخرى كان يأتي المزيد منهم، وكذلك من مُعدِّي المشاهد ومختصِّي الأزياء وطواقم التصوير. في إحدى المرات، كانت أربع قصص خيالية منفصلة تُصوَّر في الشرفة والحدائق والمشرب والشاطئ ومنصة الفرقة الموسيقية، مع كعكة زفاف ضخمة وسرير فخم.

عن قرب، كانت الديكورات المسرحية أخَّاذة. كنا نشاهد بينما نحن على مائدة العشاء، وقد بدأت وجبتنا تبرُد أمامنا. كانوا يختبرون كاميرا مُثبَتة بطائرة صغيرة يُتحكم فيها عن بُعد. ويستخدمون شاشات إضاءة تحيل الليلَ نهارًا، وكذلك الألعاب النارية. ويزرعون النباتات. وكانت هناك سلَّاتُ وُرود. كما وُضعَت زجاجة من ويسكي «جوني واكر بلاك ليبل» وكأنها أيقونة مقدسة. وفي إحدى الليالي، رفع أحد المساعدين قمرًا مزيفًا حين توارى القمر الحقيقي وراء غيمة.

«تقدَّم أيها القمر!»

•••

استيقظنا في أول صباح لنا عند بحيرةِ لانجانو بعد حفلَي زفاف، وكان أول طائرَين أوروبيين مهاجرَين نراهما هما ذكر وأنثى حميراء شائعة. كانا يقتاتان فوق أرضية الشرفة الصغيرة خارج كوخنا، يلتقطان اليرقات والذباب. طارد طائرُ لويري أبيضُ البطن (يُسمَّى «جو أواي» بالإنجليزية، وهو اسم على مسمًّى) أنثاه، ثم طردت عاملة نظافة الذكرَ حين كانت تكنُس أزهار الياسمين الهندي من خارج غرفة نوم العروس. لكن الطيور عادت إلى أماكنها؛ إذ كانت وفيَّة لمجاثم وزوايا طيران معينة، وتقريبًا كنا نجد حولنا حميراوات أينما ومتى نظرنا. كنت سعيدًا بجلوسي برفقتها.

لأيامٍ تالية، رأينا الطيور نفسَها؛ إذ كنا قد حفظنا الحزوز والعلامات الصغيرة في ريشها. كان يحيط عينَ أحد الذكور سورٌ طفيف؛ وكان ذيل إحدى الإناث مهترئًا. ثم بعد ثلاثة أيام، لم نعُدْ نرى تلك العائلات، وحلَّت مكانَها طيورٌ جديدة. مكثَ بعضُها، وكان البعضُ الآخر يعبُر فحسب. كانت الحديقة نفسُها مأوًى لبعضها، ومحطة توقُّف في طريق العبور للبعض الآخر.

في صباح اليوم الثاني، طار أولُ طائر أراه خارج كوخنا مُتلاشيًا فستانَ زفافٍ كان يُزيَّن تمهيدًا لارتدائه، افترضتُ أنه الذَّكر الذي رأيتُه أمس لكنه حطَّ وجانبه مقابلٌ لي، وكان يشعُّ من الرقعة البيضاء على جناحه بريقٌ معدني، ساطع كسطوع التاج الذي على جبهته. كان حميراء من النُّوَيع الشرقي «سماميسيوس»، ويُعرَف باسم حميراء أرنبرج. وهو يتكاثر في جنوب شرق أوروبا (سيبيريا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية وبلغاريا واليونان)، مرورًا بأوكرانيا وجنوب روسيا وتركيا في جنوب شرق منطقة القوقاز. هكذا علِمنا أن نُويعَي الحميراء موجودان معًا في لانجانو. يوجد النُّويع الذي يحمل اسم النوع الرئيسي في مكانٍ آخر بأوروبا (بما في ذلك بريطانيا) وفي المناطق الأقرب إلى وسط روسيا وشَمالها وحتى شَمال غرب الصين. نُويع حميراء أرنبرج يُسمى «فينيكيروس فينيكيروس سماميسيوس»، أما النُّويع المسمَّى باسم النوع، فاسمه «فينيكيروس فينيكيروس فينيكيروس». يعني اسمه باللاتينية «أحمر الذَّنب أحمر الذَّنب أحمر الذَّنب». وهو اسمٌ يختلج على الورق حين يُكتَب كما يختلج حين يُنطَق بصوتٍ مسموع. ذنب الطائر يفعل ذلك أيضًا؛ إذ يهتزُّ خلفه طوال الوقت. وهو بمثابة «نقطة جذب»، مثلَ مِدفأة. إنه توكيدٌ مستمر على حضور الطائر. وفي رأيي أنه يجعل هذا الطائر الأفضل بين الطيور أجمع.

في أحد الأيام، رأينا عند بحيرة لانجانو حميراوات من النُّويع «فينيكيروس»، في طريقها ربما إلى الغابة القديمة القريبة من مدينة تارتو، حول منزل الشاعر الإستوني جان كابلنسكي؛ حيث سمعتُها تغرِّد صباح أحد الأيام في شهر مايو تحت المطر عبر أزيز الناموس؛ أو ربما كانت متجهة إلى أشجار الزيزفون على ضفافِ نهرٍ ما بمدينة فيلينيوس عاصمة ليتوانيا؛ حيث سمعتُها تغرِّد وراقبتُها تستحمُّ ذات مرة أثناء بحثي عن الأشباح المتشرذمة لانسحاب نابوليون من موسكو. في اليوم نفسِه، رأينا عند لانجانو حميراواتٍ من النُّويع «سماميسيوس»، قاصدةً ربما شبه جزيرة القرم وأشجار الحَور الرجراجي خلف كوخ تشيكوف الشاطئي ببلدة جورزوف على ساحل البحر الأسود؛ حيث سمعتُ ذكرًا يغرِّد ذات مرة؛ أو ربما كانت ستطير إلى آخرِ مرتفع من أشجار الصَّنوبر الصربية في متنزه تارا، المُطل على نهر درينا في البوسنة، حيث تناهت إلى سَمعي الضعيف ذات مرة عبْر نسيم مايو عبارةٌ متقطعة لنداءِ مؤذِّنٍ من مسجدٍ على الجانب الآخر من الحدود، وفي اللحظة نفسِها أغرودة حميراء ربما جاءت من هذا البلد أو ذاك.

خلف كوخنا عند بحيرة لانجانو، أضحى ركنٌ مظلَّل من الأشجار هو المكان الأفضل للحميراوات. كنت أتمشَّى إليه كثيرًا. عادةً يكون هناك ذكورٌ من كلا النُّوَيعَين، وأغلب الأوقات كان يوجد أيضًا طائر أبو حناء أحمر التاج على الأرض، يقلِّب في أوراق الأشجار المبعثرة مثل طائر سمنة. كان ذلك الطائر أكبر حجمًا من الحميراوات لكنه أكثر خجلًا منها. في الضوء المعتم، بدا أغلبه أحمر اللون، جسده كله لونه أحمر حديدي طيني، وكان جناحاه فقط وريشات منتصف ذنَبه ذات لون أسود غامق ضارب إلى الزرقة. هذه الطيور منتشرة في أفريقيا لكنها ليست معروفة كثيرًا. وهي تتنقل داخل القارة: الطائر الذي رأيناه كان على الأرجح يزور بحيرة لانجانو، مثل الحميراوات ومثلنا. جاءت سمنة صخور صغيرة أيضًا إلى الأوراق الساقطة المبعثرة ذات مرة حين كنت أراقب ذَكرَي حميراء يأكلان النمل من شرفة مسقوفة. كنت أرى الكثير من الحميراوات؛ أراقبُ الاهتزاز والارتعاش النمطي لأذنابها وأجنحتها، بينما يتحرك كلٌّ منها في الضوء المرقط، وأراها كلها في الظل مثل جذوات في نار تخبو ببطء، انفلقت وتشقَّقت قبل أن ينطفئ لهبُها الرقيق.

•••

يُحتمَل أن تكون الحميراوات في الفندق قد جاءت إلى هنا من قبل، ربما في الشتاء والربيع الماضيَين. ذلك أن العديد من الطيور المهاجرة تصير وفيَّة لمناطقِ تَشتِيَتِها قدْر ولائها لمناطق تصييفِها. لو قلت إنها تستبدل بشجرة في إثيوبيا أخرى في النرويج لربما بدا كلامًا مُرسَلًا، لكنها على الأرجح تفعل ذلك بالفعل. يمكن أن يكون للحميراء منزلان، أو مَبِيتان.

العديد من الطيور المهاجرة في أول رحلة لها إلى أفريقيا يكون عليها أن تجد المكان الذي ستقضي فيه الشتاء دون مساعدة. يفقس بيضها، ثم ينبت ريشها، فتغادر أماكن تكاثُرها دون أن تنوي وجهةً محدَّدة. بعض الطيور تتبع والدَيها وتسافر معهما، مثل طيور الكُركي واللقلق، وتتعلَّم وِجْهتها ممن حولها من الطيور التي تكبُرها سنًّا؛ وبعضها يتعلم من السَّفر برفقة أنواع أخرى ومراقبة أحدها الآخر؛ بيد أن العديد — لا سيَّما العصفوريات التي تسافر ليلًا وتهاجر وحيدة — تقضي أولَ خريف لها وهي لا تعرف شيئًا على الإطلاق. لا يمكن لتلك الطيور اليافعة أن تعيِّن مقرَّها في غير موسم التكاثر إلا حين تصل إلى مكانٍ بعينه. تبدو مدفوعة إلى مغادرة أوروبا، وتعرف أنَّ عليها أن تسلك مسارًا غربيًّا أو شرقيًّا بوجه عام، لكن فيما عدا ذلك لا تملك أيَّ معرفةٍ تسترشد بها. وفي نهاية المطاف ستتوقَّف في مكانٍ ما، لكن توقُّفها عادةً يكون عشوائيًّا. وقد يكون ذلك المكان بعيدًا تمامًا عن مصادر الغذاء. وعندئذٍ، يموت العديد من الطيور. أما إذا كان مكانًا جيدًا، فربما تظل الطيور على قيد الحياة. والطيور البالغة أصبحت كذلك اليوم لأن اختيارها كان جيدًا في العام الماضي. ومن ثَم، فإنها تعود أدراجها وتكرِّر رِحلاتها، وهكذا تصير مقيمةً مرةً بعد مرة.٥

أمورٌ كثيرة عن إخلاص الطيور المهاجرة للمسارات التي تتخذها ومحطات توقُّفها لم تكن مفهومة لنا قبل اليوم. نعرف نحن الأوروبيين — أو اعتقدنا أننا نعرف — أن سُنونوات الحظائر تعود إلى حظائرها المحدَّدة، لكن نظرًا لما تضمَّنه ذلك عن مفهوم البيت، كان يُعتقد أن هذا الولاء لا يسري إلا على الأمور الخاصة بالتكاثر. أما الجانب الآخر من رحلة ذلك النوع خلال العام، فكان ضائعًا في أفريقيا الشاسعة، التي لم نكن نعرف إلا اليسير عما يحدث فيها لأفراد الطيور.

في عام ١٨٢٢ أرسل لقلقٌ أبيضُ رسالةً مبكِّرة لمرة واحدة حين تمكَّن من العودة إلى موضعِ تكاثُره في بلدة كلوتس بألمانيا حاملًا دليلًا دامغًا على المكان الذي قضى فيه الشتاء؛ إذ استقر رمحٌ مكسور في عنقه وصدره. في ستينيات القرن العشرين جمع ريج مورو أكبر قدْر تسنَّى له جَمعُه من البيانات (أغلبها من التحجيل) حول مصير أفرادٍ بعينها من الطيور. لم يكن ثَمة الكثير. في كتابه عن «أنظمة هجرة الطيور الأفريقية وطيور المنطقة القطبية الشَّمالية القديمة»، الذي صدر بعد وفاته عام ١٩٧٠، لم يؤرِّخ لسيرة طائر منفرد إلا مرة أو مرتَين.

أحدهما كان أبلق أسود الأُذنَين:

عاودَ ذلك النوعُ من الطيور الظهورَ على نحوٍ لافت في مناطقِ التشتية في كانو بنيجيريا على الحدود الجنوبية لنطاقها. في يناير — مارس ١٩٦٤ رُصِد أحدها في موقف معدات بمحطة زراعية. ظهرَ واحدٌ مرة أخرى في نوفمبر ١٩٦٤، وكان مُحجَّلًا، ومكثَ حتى ١٧ فبراير ١٩٦٥. خلال الصيف، أُعيدَ ترتيبُ المعدات، وفي شتاء ١٩٦٥ / ٦٦ كان مَجثمه المُفضَّل (فوق إحدى المقطورات) قد ابتعدَ سبعين ياردة عن موضعه في الشتاء السابق.

كانت سُنونوات الحظائر أبرز الأنواع المهاجرة التي رأيناها عند بحيرة لانجانو. كان سربٌ مُتفرِّق يمرُّ كلَّ بضع دقائق بمحاذاة شاطئ البحيرة، كما لو أنها رسوماتٌ أولية رُسمَت سريعًا للطائر نفسِه، ويتابع الطيران إلى حيث تتلاقى حافة الجرف وماء النهر. كانت تتبع خطًّا في الهواء كأنما رُسِم لها — مسار حُفِر أو خِيطَ لها في السماء. كانت جميعها تتحرك إلى الشَّمال. في بعض الأحيان، كانت الأنواع المحلية التي تستعمل أيضًا الأجراف — مثل السُّنونوات المطوقة وسنونوات الصخر — تطير لأعلى لتنضمَّ إلى السُّنونوات المسافرة، أو تسحب منها واحدًا كي ينضمَّ إليها في رِحلات طيرانها المحلية لمسافة مائة متر أو نحوه قبل أن ينفصل الطائر العابر عنها ويعود لينضمَّ إلى بني نوعه. وأحيانًا كنا نسمع طيور الوروار الأوروبي تُنادي من مسافة عالية بعيدًا عن مرمى البصر؛ كانت هي أيضًا تطير شَمالًا سالكةً مسار السُّنونوات. ذات مرة، أحدثَ طائرُ أبو شودة مُحَلقِن الذَّنب اضطرابًا في سربٍ من السُّنونوات كان يجاري سرعته؛ وذات مرة دارت ثلاثة عويسقات متجهة شَمالًا أيضًا مع بعض السُّنونوات في الهواء لبرهة قبل أن تمضي جميعًا في رَكبٍ جوي واحد.

•••

٢١ مارس. جلسنا ننتظر عند الأشجار على الشاطئ لساعة. كان ثَمة طيور مهاجرة منشغلة: هازجة زيتونية شرقية تهزُّ ذنبها، اثنتان من أنثى هازجة أبو قلنسوة تبعهما ذكر، وذكرا حميراء يحلِّقان من مَجثمهما إلى الأرض ومنها إلى المجثم ثم يعيدان الكَرَّة. كانت الهوازج تُحبُّ شجرة الأراك لثمارها العليقية. تنثر الطيور بذور الشجر (الموجودة في قلب ثمار العليق). وبمرور السنوات، ستكون الطيور المهاجرة قد ساعدت في زراعة حديقة مأكولات جاهزة في مسارها واستبقائها. وهكذا تكون قد ساعدت نفسها في العبور إلى المستقبل.

ربما تكون سوريا هي وجهة الهازجة الزيتونية، وربما تكون هازجة الصفصاف التي ظهرت إلى جوارها في طريقها إلى اليونان. تابعا طريقهما ورأيتُهما يحتوي أحدهما الآخر. جاءت هازجة صفصاف أخرى وهازجة بيضاء الحنجرة صغرى. كانت الطيور تتحرك شَمالًا، على شجرةٍ تلو الأخرى، تلقط الغذاء وهي تمضي في طريقها. انضمَّت إلى الطيور الأوروبية هازجتا أريموميلا خضراوا الظهر، وهما هازجتان أفريقيتان لونهما كالشربات، طائران مرحان عابثان لا يبرحان مكانهما ولا يبغيان ذلك.

جلسنا ننتظر على الصخور عند سفح الجرف لساعة. زار طائرُ زرزور بنفسجيُّ الظهر جُحرَ عُشه في شجرةٍ ميتة، مُمسِكًا في وسط وجهه الأرجواني اللون يرقتَين زمرديتَين زاهيتَين. كان مثلَ شاربَين أخضرَين له. غرَّدت سمنة صخور من قمة شجرة سنط. واخترقَ اثنان من طيور أبو قرن الهمبريتشي الهواءَ في دورات وانعطافات. تسلَّقَت أنثى رُبَّاح لها أَلْيتان مبهرجتان بحرص شجيرةً مثمرة واقتاتت منها. وبالقرب منها، كان اثنان من طيور الأبلق الحبشي يسيران على الأرض. لمحت كلير هازجةَ شجرٍ مهاجرة في شجيرة أراك؛ فتَّشت في ذاكرتي عن أي ذكرى نافعة لتلك التي وجدها صديقي وخبير الطيور مارك كوكر لأجلي في منطقة قبادوقيا بتركيا. جلُّ ما استطعتُ استحضاره هو أنه طائرٌ صغير له جبهةٌ شديدة الانحدار. صادفتُ في حياتي حتى الآن هازجتَي شجر. وأتصوَّر أن تلك ستكون حصتي من تلك الطيور.

اقتربت طيورُ الكوردون بلو. كما اقتربت الأبالق وسمنات الصخور أكثر. لم نكن مختبئين، لكننا توقَّفنا لوقتٍ كان كافيًا لأن يجعلنا جزءًا من المشهد. ابتسمت لنا فتاةٌ صغيرة — ربما في الحادية عشرة من عمرها — وحيَّتنا حين مرَّت من جانبنا على مسافةٍ أقرب مما لو كنا نسير. تنقَّلت طيور قليعي الجرف المُقلِّدة من صخرة لأخرى. ونسجت طيور حبَّاك روبيل أعشاشًا من العشب في شجرةٍ حيث قُفِل جذعٌ أجوف بإسفين لتكوين خلية نحل. استعرضَ ذكرُ حبَّاك مهارته الحِرفية، فتدلَّى رأسًا على عقبٍ أسفل عشه الأخضر المحبوك حديثًا وكأنه يرقص فرحًا، مُرفرفًا جناحَيه وهازًّا ذنَبَه ومُغردًا بصوتٍ مجلجل، وكأنما بَهَره صنيعُه.

انتقلنا إلى رقعة أخرى أسفل الأجراف، فأزعجنا خنزيرًا بريًّا ارتدَّ متقهقرًا مثل قنبلة زائدة الوزن في الرسوم الكرتونية لا يزال فتيلُ ذيلها يحترق. فوقنا كان عُقاب مُسيَّرة مهاجر يُحلق شَمالًا في مسار السُّنونوات. صاح مرشدُ عسلٍ أكبر فأجابته كلير مُقلِّدةً الصوتَ الذي يجيب به صائدو العسل الموزمبقيون من البشَر الطائرَ المرشد (إنها تدرس جانبَي ذلك الاتفاق الباهر هناك). مرَّ طائر جشنة غير منقوش الظهر تلاه آخر تبيَّن عند تفحُّصه أنه جشنة شجر، وهو طائر مهاجر من أوروبا. حلَّق مرتفعًا عن الأرض وحطَّ على غصن شجرة منخفض. منحه حضوره الطاغي هناك جائزة اليوم للطائر الوحيد من نوعه في أفريقيا كلها. يخرج المرءُ من مثل تلك المواجهات صفرَ اليدين، لكن شعوره يكون نقيض ذلك تمامًا. كانت اللحظات التي قضاها طائر الجشنة نصب أعيُننا بمثابة عالَم كامل متحرك. مجرد التفاتة بسيطة من رأسه كانت كفيلةً بأن تجعل كلَّ شيءٍ ينساب خارج حضوره الهادئ الفريد والبسيط.

كانت هازجة صفصاف تقف على شجرة تين. وكذلك كان ثَمة بربيت أسود المنقار راقص، وقليعي أجراف مُقلِّد صاخب. كانت الهازجة، التي ربما تكون واحدة من ١٠٠٠ مليون في أفريقيا (وفق حسابات ريج مورو) توشك أن تنطلق شَمالًا، تلقط الأوراق الكبيرة في صمت. تبدو طيور المنطقة القطبية الشَّمالية القديمة أكثر حذرًا من الطيور المقيمة، وأكثر ميلًا إلى نوع واحد من الغذاء، وأقل اكتراثًا بالمشكلات المحلية.

في آخر بصيص من ضوء النهار، رأيتُ عندليبًا أوروبيًّا، وهو أولُ واحد أراه في أفريقيا، كان يقتات من الأرض مثلَ قليعي قبل أن يطير دالفًا إلى قلب شجيرة مظلم. كان يشوب لونَه البُني قدرٌ من اللون الأحمر يكفي لأن أضمَّه إلى جماعتي الساحرة. تساءلتُ إذا كان سيُغرِّد ذلك العام، وإنْ كان فأين.

سِرنا عائدَين تصحبنا تهويداتُ حيوانات الوبر الشجري. كانت تصدر صوتًا صاخبًا يشبه صوت خروج الريح. ساقَ القمر جندوله المتهادي إلى السماء. فصاحَ طِيطَوى أخضرُ الساقَين وهو يحلِّق شَمالًا فوق رأسَينا. كان نداؤه باردًا باهتًا، كموسيقى شَمالية يُعوِزها الإتقان: «تِو تِو تِو.»

احتسينا الجِعَة وسألنا عن العشاء.

«يوجد قدرٌ من التلاعب في تلك المنشأة لكنه ليس وليد هذه الأيام.»

هكذا أكلنا «الشيرو» مرةً أخرى وشاهدنا عرض الزواج مرة أخرى من مائدة عشائنا، كنا جالسَين إلى جوار فستان زفاف منتظر تهاوى على كرسي من الخيزران الأسود، مثل نعامة منتحرة.

•••

في آخرِ ليلة لنا هناك، تمشَّينا مرة أخرى أسفل الأجراف. وفي كومة من الصخور الكبيرة، لمحنا هازجة صفصاف تقتات في شجرة سنط صغيرة. طارت إلى شجرة كثيفة مجاورة، مباشرةً إلى غصن نحيل منها. كنا فوقها ننظر إليها بالأسفل. هناك توقَّفَت. انتفخَت ونفشَت ريشها، ونفضَت نفسها ثم رتَّبَت نفسها. ظلَّت تدير رأسها يمينًا ويسارًا فوق كتفها كي تريح منقارها تحت جناحها. ثم عادت تنظر أمامها. توقَّفت عن الحركة وأغمضت عينَيها ونامت. كان بوسعنا أن نرى نبضها؛ إذ كنا نرى قلبها يخفِق خلال جسدها كله. وكان بوسعنا أن نراها تتنفس؛ إذ كان صدرها يعلو ويهبط.

حلَّقت ولم يكن في حوزتها كيس نوم أو وسادة أو كيس من أي نوع. أو كما كتبَ بيتر ريدنج: «تخفَّف من المتاع؛ فالرحلة قصيرة»، حين أهداني قميصًا مطبوعًا عليه ذلك النص (كان هو أيضًا مراقب طيور، وتصادقنا بفضل شِعره الذي يكتبه عن الطيور). كلُّ ما أحتاج إليه، أحمله في نفسي؛ يقول شيشرون نقلًا عن بياس البرييني في رحلة طيرانه عائدًا إلى دياره: «كلُّ ما أحتاجُ إليه من متاعٍ موجودٌ في نفسي». «التَّبَهْلُسُ» كلمة عربية من العصر العباسي (٧٥٠–١٥١٧ ميلاديًّا)، تعني «أن يطرأ الإنسانُ من بلدٍ ليس معه شيء». كان ذلك هو حال هازجة الصفصاف التي استيقظت بعد نومها: تجهَّزت لبلوغ وجهتها سالمةً دون متاع.

غابَ الضوءُ أكثرَ عند البحيرة وراء الغبار. وكسا اللون البُني أغلبَ الأشياء هنا. بدأت الهازجة تختفي أمام نظرَينا فيما بدأ سبد نحيل الذيل يزقزق من فوق صخرة على بُعد عشرين مترًا فقط من مكاننا. كان صوته يشبه صوتَ مِرذاذ يرشُّ الماء. بينما كان الهواء يبرُد، مثل الصخرة التي يقف عليها السُّبَد، احتفظت الصخرة التي جلسنا عليها بدفء النهار. أصغينا السمع. هل تنفذ مقطوعة السُّبَد الليلية إلى رأس هازجة الصفصاف؟ هل في أوروبا هوازج صفصاف تتذكَّر الصخور عند بحيرة لانجانو وخرخرتها بعد أن تغيب الشمس؟ تُرى أيُّ متاع داخلي تحمله الطيور معها؟ استمر الضوء لبرهةٍ أخرى سمحت لنا برؤية السُّبَد، ثم ما لبث الظلام أن ابتلعه هو أيضًا. سِرْنا عائدَين إلى فراشنا. دوَّت ضحكة ضبع.

في الفندق، قابلنا أربع بروفات لحفلات عُرس. كان كلٌّ منها يبدو أكثر ذخرًا بالتفاصيل من سابقه؛ الليلة كان هناك ثُريات وعروش. كان الزوجُ يتحاشى أحدهما الآخر. عوَت الضبع مرة أخرى وتدفَّقت أغرودة السُّبَد من أسفل الجرف.

بروفة لما هو آتٍ قبل أن يأتي — ذلك هو ما أتيتُ إلى لانجانو آملًا أن أراه. طيور أوروبا المنتظرة. قضيتُ أيامي أتطلع إلى ما هو نصب عينيَّ، ولكني أتطلع بذهني إلى الربيع في أوروبا. من إثيوبيا كان الجو يبدو مثاليًّا: كلُّ شيء كان يسير على ما يرام ولم يحدث أيُّ سوء — كان يبدو أيضًا كدفتر صور بوسعي أن أصنعه للفَصل المثالي قبل أن يحُل. وكثيابِ عُرسٍ لُبِسَت قبل الحدث المنتظر، كانت ذكور السُّنونوات في ثيابها الفاخرة التي ارتدتها للتَّو تتمرَّن على حركاتها، على اهتزازاتها واختلاجاتها، على بُعد آلاف الكيلومترات من عرائسها المرتقبة.

كان يشار إلى لفظة «طائر» بالإنجليزية بكلمة «برايد»، وهي تعني «عروس» أو «طائر».

في اليوم التالي، طِرتُ أنا أيضًا شَمالًا عائدًا إلى إنجلترا، سابقًا الطيور إلى هناك. كانت الطائرة التي أقلَّتني إلى هناك تُدعى «الصحراء الكبرى»، وكان اسم المضيفة التي قدَّمت لي العشاء إيدن (أي عدن).

مدينة نيرجهازا

٤٨ درجة شَمالًا

في خريف عام ١٩٨٦، انتقلت من بريطانيا إلى بودابست كي أدرس الشعر المجري لمدة عام. لم تمضِ أسابيع إلا وكان البرد والوحدة قد تملَّكا مني. لم أرَ قطُّ أنفاسي ظاهرةً بلا انقطاع هكذا. وقطُّ لم أرَها تسقط على الأرض فلا يُلقي لها أحد بالًا على الإطلاق هكذا. جاءت خليلة لي ساقتها إليَّ معجزة في إنجلترا بعد بضع سنوات من التبتُّل تزورني بعد ستة أسابيع من قدومي إلى المجر. أرَيتُها السوق المغطَّى على ضِفة نهر الدانوب وطبيب الفطر هناك الذي يُعالِج المحاصيل من الأنواع السامَّة منها؛ وأرَيتُها حوامًا مُسروَلًا. لكن أواصر الود في علاقتنا كانت قد انقطعت، وكانت العلاقة قد فسدت بالفعل. ونحن نسير معًا على نهر الدانوب إلى التلال، عبر السهول الرطبة في رذاذ الخريف المتساقط، كان بوسعنا أن نتحادث وكأننا في غرفة هادئة. غير أننا لم نفعل، ولم تملك هي الشجاعة لأن تُنهي علاقتها بي في حينها. اضطُررنا إلى أن نفعل ذلك في نهاية أسبوع من المحادثات الهاتفية التي لم تُجدِ نفعًا فور عودتها إلى إنجلترا؛ حاولتُ خلالَه أن أقتصدَ في خطواتي — التي كانت تزداد قنوطًا — إلى كابينة الهاتف في محطة القطارات، ثم المرَّات الكثيرة التي كنتُ أجثو فيها على ركبتي وأنا محمرُّ العينين على أرضيةِ ممرِّ مالكة المسكن الذي أقطُن فيه؛ حيث تثقلني سماعةُ الهاتف الأسود الثقيل الذي سمحت لي مالكةُ المسكن باستعارته لإجراء مكاملة أخيرة، ليفاجئني ذلك الصوتُ البارد الذي جاء عبْره يجيش كبحرٍ ميت، من الجانب البعيد من القمر.

ثلاثة أشياء جعلتني أصمد حتى الربيع ذلك العام، ثلاثة أشياء أنقذتني: البرتقال، والموسيقى، والطيور. حلَّ الشتاء بسرعة قادمًا من الشرق، جاء باردًا جدًّا ورماديًّا جدًّا. حاصرت السماءُ الملبَّدة بالغيوم الكثيفة البلدَ لستة أسابيع. تلاشى الدخان الصاعد من المداخن المتراصَّة بمحاذاة نهر الدانوب تحت وطأة الغيوم، وتناثرَ رفاته فوق رأس المدينة. كنت أشعر وكأن مِسلَفة مربوطة بسلسلة تُجَر في حلقي ليلَ نهار. كان الناس يؤثِرون المكوث في منازلهم متى استطاعوا ويعيشون على الأغذية المُعلَّبة. لم أكُن قد اختزنتُ شيئًا، فجربتُ أن آكل التفاح العَطِن الذي كنت أبتاعه من السوق، وبدأتُ أتناول العسل دواءً. ثم فجأةً ذات يوم، صارت الشمس، كما نراها من وراء غيوم الشتاء، معروضة للبيع في الشوارع في هيئة البرتقال الكوبي. نُصِبَت له أكشاك خاصة خارج متاجر البقالة الكبرى المركزية بالمدينة ومحطات القطارات. وقف الناس صفوفًا من أجل أن يحظَوا بتلك الثمار الجديدة. اشتريتُ حصَّتي منها، كيسًا به ست برتقالات. شعرتُ بها باردة، تكاد تكون متجمدة في يدي، لكنها كانت تحبس بداخلها مقدارًا من ضوء الشمس أكبر من ذلك الذي كان يحبسه العسل، وحين غرست سكيني في قشرتها العتيقة فاضَ ما بها.

في اليوم التالي، اختفت الأكشاك واستمر الشتاء. في نهاية الأسبوع، جثمت غيمةٌ كثيفة فوق النهر فجمَّدته. دام الغسق طوال النهار، وفي عَتَمته راقبتُ ماءَ نهر الدانوب يتحول ثخينًا مثل الفودكا. في صباح اليوم التالي، أُغلقَ النهر، وظلَّ كذلك لشهر.

في غرفتي، استمعت إلى الإذاعات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي تُبَث من لندن، وتدفَّق دفءُ الأصوات الأفريقية من برنامج الموسيقى العالمية الذي يقدِّمه أندي كيرشو في دوامات وهسهسات عبر الموجة الإذاعية القصيرة. بالنسبة إليَّ، كان كل شيء يميل صوب الشرق أو الغرب، لكن ها هو ذا الجنوب أتى كفيتامين مثل تلك البرتقالات، ولأجل ذلك أحببتُه: صوت سونا دياباتي من غينيا وهي تغني مثل عرَّافة، فرقة «كيليمامبوجو براذرز» الذين يجعلونك ترقص على أنغام المآسي؛ وديبلو عازف الجيتار الكونجولي العبقري الذي يحوِّل أوتار الجيتار الكهربائي إلى آلة نفخ من نوعٍ ما؛ وعازف الجيتار الغاني كانتي مانفيلا؛ وعازف البالافون الذي يعزِف برفقته إبراهيم دياوارا الذي يأخذ موسيقى الزيلوفون التي يشبه صوتها الماء ويعزِفها على رمال الصحراء الكبرى. تسمَّرت بنوع من الانتباه المُشجِّع إلى جانب مِذياعي محاولًا ضبط الإشارة المتضخمة بواسطة جسدي.

بجانب استخلاصي لعصارة بث خدمة الإذاعات العالمية، بدأتُ أسجِّل شرائط كاسيت من الإذاعة المَجرية حين كانت تبثُّ تسجيلاتٍ كاملةً متواصلة لفنَّانين غربيين. ما زلتُ أحتفظ بها. في أحد الأسابيع بُثَّ الألبوم الغنائي الجديد لفرقة «ذا بريتندرز»، وفي الأسبوع الذي يليه حفلٌ موسيقيٌّ لمكوي تاينر. أحببتُ تلك العطايا التي كانت الجمهورية الشعبية تمنحها لشعبها، التواطؤ في ازدراء حقوق الملكية والعملة الصعبة، تلك الساعات من الإيقاع والشجن التي تدفئ أوصال الأرض المتجمدة، تسجيلٌ واحد لإحدى أغاني كريسي هيَند كان كفيلًا بأن يجعل الشتاء مُحتمَلًا لآلاف الناس. تخيَّلتُ نصفَ الشعب، جالسين مثلي في الظلام، متأهِّبين لأن يُنهي المذيع فقرته التقديمية، ضاغطين على زرَّي التشغيل والتسجيل في مشغلاتهم السوفييتية؛ جميعنا متقمِّصون دور بارتوك ومعتزمون حصدَ تلك الغنائم الثمينة القادمة من الجانب الآخر من العالَم.

كنت أشتري الأسطوانات المسجلة أيضًا. إذ كانت الأسطوانات المجرية زهيدة الثمن. كانت المتاجر في شارع لينين كوروت تبيع أسطوانات الفونوجراف فقط، بل لا تكاد تبيع إلا الأسطوانات الشيوعية. كانت أسطوانات «هانجرتون»، وهي العلامة التِّجارية للأسطوانات التابعة للحكومة، رخيصة جدًّا، ومع أني كنت أعيش بمنحةٍ قدرُها ٣٠ جنيهًا إسترلينيًّا في الشهر، كان بوسعي أن أشتري ألبومًا. لم أكن أمتلك مُشغِّل أسطوانات، لكني ملأتُ صندوقًا أسفل سريري بأسطوانة تلو الأخرى كي أشحنها إلى بلدي.

اشتريتُ أسطوانات لبارتوك وكودالي. كما اشتريتُ بضعَ أسطوانات لفِرق الأغاني الشعبية المرخصة التي سمحت لها الحكومة باستخدام استديوهاتها. كانت لأغاني تلك الألبومات كلماتٌ حَذِرة رُوعي في كتابتها المستمعون غير المرغوبين. عندما أعاود الاستماع إليها — إلى المُغنِّية وكاتبة الأغاني جوجا كونس أو فرقة موسيقى الروك الفظَّة المُقلدة «إيدا» — أشعر بأنها حزينة لدرجة لا تكاد تُحتمَل: محاولاتهم البسيطة لنَيل الحرية، وتقليدهم للتعابير الغربية المُبتذَلة التي كانت ذات قيمة مُبالَغ فيها في الشرق المُقيَّدة حريته، وحِرصهم البالغ على تجنب قول ظاهِر ما عَنَوه. حين أسمعهم اليوم، أتذكَّر مشاهدة ابنيَّ في صِغرهما وهما يضحكان على الممثلَين الهازلين الشديدي الرداءة اللذين عفا عليهما الزمن — كتب كولريدج عن شعورٍ مماثل في قصيدته «كريستبيل» — وأتذكَّر كيف تأثرتُ حَدَّ البكاء من بهجتهما البريئة، وكيف شعرتُ أن قهقهاتهما تحبس عني كلَّ أهوال ذلك العالَم. النكات رديئة بالطبع، لكن كيف لك أن تتجاهل السعادة التي تجلبها لك، بل لِمَ قد تفعل ذلك؟

الأهم من ذلك كله أني اشتريتُ أسطواناتِ أغانٍ فلكلورية. إذ كنت أرى الإصدارات الجديدة من الموسيقى المجرية التقليدية أكثر إثارة من أي شيء آخر، بيد أني ربما كنت أقرأ معانيها بعناية وأراجعها مثلما كان أصدقائي المجريون يفعلون مع موسيقى الروك الغربية. كثيرًا ما كان يُطلَب إليَّ أن أنسخَ كلمات أغاني فرقتَي «رولينج ستونز» و«ذا بيتلز» كتابةً، وقضيتُ ساعاتٍ أكرِّر كتابة كلمات أغنية «إيماجِن». في المقابل، حاول أصدقائي الجُدد أن يفسِّروا لي معاني الأغاني التي كان أجدادهم يعرفونها. هكذا بنى كلٌّ منا مدينته الفاضلة وأناشيده الرعوية ومنطقته الريفية وهَدَمها، متجاوزين القاصر، ومجتازين الحدود التي لا رغبة لأحد فعليًّا في وجودها.

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، كان العزف الحي للموسيقى المجرية التقليدية منتشرًا في بودابست. كنت في الغالب أسمعها تُعزَف في نوادي الرقص؛ حيث حاول أصدقائي أن يُعلموني بعضَ الخطوات المناسبة للنغمات الوترية الفضفاضة المتأرجحة التي جلبها من مُروج الكلأ في ترانسلفانيا وقُراها موسيقيون يافعون من مُدُن المجر. سافروا وسجَّلوا ودوَّنوا وحفظوا تمامًا كما فعل بارتوك وكودالي في بداية القرن. أجازت الحكومة ذلك الإنعاش للموسيقى الفلكلورية؛ إذ رأتها نوعًا من الموسيقى الشعبية الريفية، لا هي غربية ولا تجارية؛ لكن الاستماع إلى الأغاني التقليدية، لا سيَّما تلك المأخوذة بحُب من الشعب المجري المُستضعَف المعزول في رومانيا التي كانت تحت حكم تشاوتشيسكو، لم يساعد على بقاء الشباب خاضعين كثيرًا في بودابست أو سيجد أو ميشكولتس؛ بل على النقيض، إذ غذَّت نوعًا غريبًا من الوطنية المَشوبة بالشجن لدى جمهورٍ كان يُفترَض أنه أيفع من أن يتأثَّر بمثل تلك الأشياء.

عرفتُ بعضًا من المعاني السياسية المتوارية خلف الموسيقى وقيَمِها المتعددة بالنسبة إلى صانعيها ومُشجِّعيها ومستمعيها المتعددين، لكني في الأغلب أحببتها لذاتها ليس إلا. أعجبتني فور أن استمعت إليها، وبدأتُ أداعب معاني كلماتها، وأحببتُ كذلك إيقاعاتها التي تشبه وَقْع الأقدام، ودبدبات النغمات الخفيضة الطبقة، والطريقة التي تلامس بها آلاتُ العزف مرارًا وتكرارًا التجربةَ التي تجسِّدها الأغنية: إعادة توصيف الفقد، الحُب الذي يسطع ويأفل، الرحيل والموت، جِراح الحياة الأليمة ومباهجها العابرة. كان من الجيد مشاهدتُها أيضًا؛ حيث تشعر حينها بالموسيقى تستحوذ عليك وترمِّم وجدانك، بغضِّ النظر عن مكانك أو الحالة التي كنت عليها قبلما تبدأ. لم أشعر من قبلُ أني مجبور على الحركة شئت أم أبيت بهذا القدْر. في نادٍ للرقص في بلدة موهاج، رفعتني عن الأرض دبدبة الموسيقيين بقدمَيهم والجمهور الحاضر الذي تحوَّل إلى حَشدٍ راقص فوق ساحة الرقص. لم أكن أحفظ الكلمات ولا الحركات لكني قطُّ لم أشعر بسعادة تُضاهي سعادتي حينها أثناء إقامتي في المجر.

كان الموسيقيون الذين شاهدتُهم يعزفون ألحانًا استعاروها من غيرهم، ويتغنَّون بحيواتِ غيرهم. كانوا أحيانًا يفعلون ذلك وهم مُرتدُون قمصانًا فضفاضة مُكشكشة عليها صدريات ومنتعلون أحذيةً جلدية طويلة الرقبة، وكانوا يعودون إلى منازلهم بعد انتهاء حفلاتهم مستقلِّين سياراتِ أجرة أو المترو. مع أن القمصان الفضفاضة المكشكشة لم تكن لازمة، لم أشعر بأن الأمر في أغلبه فيه تصنُّع. كان ثَمة موسيقى كمان غجرية عذبة تبعث الشجن في نفوس السائحين الذين يأكلون حَساء «الجولاش» في بضعة مطاعم ببودابست، لكن تلك كانت عرضًا جانبيًّا حزينًا تعلو وجوهَ مُؤدِّينَه تكشيرةٌ عابسة مثل دببة مقيَّدة بالسلاسل تكشِّر عن أنيابها؛ أما موسيقى نوادي الرقص فكانت مختلفة. كان حالُ عازفيها يتبدَّل وفقَ ما يعزفونه، بغضِّ النظر عما يرتدونه. شاهدتُ الموسيقيين يدلفون إلى لحن، يخوضون في نهره، الأمر يشبه العثور على ثغرة في صفحة الماء، والنفخ أو العزف بالقوس يسري بصوتٍ خافت وهادئ تحته، ثم الصعود لملاقاة التيار والالتحام معه. كان العازفون يواكبون الزمن، وبهذا استطاعوا أن يجاروا التيار. هكذا تنضم الطيور إلى الأسراب. في ذلك الانضمام تستشعر ماضيًا يتحرك ويركض نحوك عبر الأرض القديمة وخلال جميع طقوسها. اقتُلع لحنُ كمان من الحقول وأُخِذ إلى المدينة مثل عُشب رُفِع عاليًا كالموسيقى. كنت أنا وأصدقائي طلابًا ومعلِّمين لا فلاحين، لكن لم يسعنا إلا أن نتحرك كيفما تدفعنا الموسيقى. تحت أقدامنا: رقصة الكَلأ المَرِح.

كان أصدقائي يعودون من لدى أقربائهم الذين كانوا لا يزالون يعيشون في ترانسلفانيا ويمارسون الزراعة فيها إلى بودابست مُحمَّلين بقِطع من اللحم المُقدَّد وبرطمانات من العليق المهروس ليصير مُربى، وزجاجات من نبيذ «بالينكا» المُذهِب للعقل، الذي يشبه في لُزوجته العالية مياهَ نهر الدانوب المتجمِّدة. كانت الموسيقى القادمة من ترانسلفانيا أو «إردِلي» كما تُدعى باللغة المَجرية (وتعني أيضًا «ما وراء الغابة») تجلب الأمر نفسه إلى المدينة؛ صنوفًا من الطعام والدفء، صورة مرسومة للحياة والكَدح في الحقول؛ أغانٍ اجتثَّها الناسُ من قصص الحياة الكبرى. تحمل في طياتها صور الكَد في الهواء الطلق: أقواس كمان تقطع كالمناجل، وآلاتٌ موسيقية كالمعدات في دقتها ومتانتها، تجمع بين دقة الصناعة اليدوية والمتانة العالية. تجمع نغماتها بين قسوة المَقصِد وعُذوبة الأثر. كان الكمان يستثير الدموع بقدرِ ما يمشِّط العشب. كانت الأغاني في بعض الأحيان كئيبة وقاسية. وفي الشتاء، كانت تفوح في المدينة برائحة الكَلأ مثل حُزمة فُكَّت منه، لكنها كانت مصحوبة كذلك بالرائحة الكريهة النفَّاذة لكَومة روث قُلِّبَت.

أبقت الموسيقى على سريان النهر تحت الجليد، حين بدا أن كلَّ ما سواها قد هجرَ المدينة. كان شتاءُ بودابست يكاد يخلو من الطيور. إذ رحلت غربان القيظ إلى الجنوب في أكتوبر وتبِعتها سمناتُ الحقول في أسرابٍ متفرقة متدرجة، تصيح فوق نهر الدانوب بينما توجِّه أجسادَها إلى الأسفل تجاه الأسوار الشجرية الأكثر دفئًا. أتذكَّر نهاية يوم بعينه في يناير كادَ يخلو من الطيور. مشيتُ حتى وقت الغسق على الجليد القديم تحت أشجار زيزفون رمادية عارية حول هضبة جانوس هيجي في هضاب بودا، لم أكن أرى شيئًا، وكنت أرتعد وأحاول أن أطرد من ذهني فكرةَ أن يكون السقم قد نالَ مني. كنت قد تسرَّعتُ في تناسي حُبي المُحطَّم. في نادٍ للرقص، قابلتُ فتاةً مجرية تُدعى مارتا، وتبادلنا القُبلات بعد أن ساعدتني في أداء رقصة «تشاردا». وبحلول نهاية الأمسية، كان كلانا يتحسَّس جسدَ الآخر في المِصعد المؤدي إلى شقتي. بدأتُ أدرك أنه مما هو متعارف عليه أنه إن أتيحت لكما الفرصة بأن تحظيا بخصوصيةِ غرفةٍ وحدَكما فإن عليكما اغتنامها. استَحوِذا على المكان وأَغلِقا الدِّرَف وغُوصَا في ملذات تلك اللحظات العابرة. كانت المدينة تكتظ بالأبناء الذين يسكنون مع والديهم ويتشاركون الغرف حتى بعد أن بلغوا الرشد. ودائمًا ما توجد جَدَّة في مكانٍ ما. وكانت تلك الفرص نادرة. لم تمضِ ساعاتٌ إلا واجتاحني شعورٌ بالذنْب حيالَ ذلك الأمر، ثم شعرتُ أني سقيم.

بينما كنت أنتظرُ عند محطة الحافلة كي أغادر منطقةَ الغابات، طارَ سبعون من شمعيَّات الجناح إلى شجرةٍ فوقي مباشرةً، وظلَّت الطيور تصفِّر لتدفِّئ نفسها. وصلت الحافلة وانفتحت أبوابها، فطارت الطيور مثل سَيل من السهام البُنية. إنها لم تعتزم قطُّ المكوث. ثَمة أغنية كنت قد سمعتُ مارتا سيباستيان تغنِّيها برفقة الفرقة الموسيقية الفلكلورية «موزيكاش» وبدأتُ أحفظ كلماتها وأُعجَب بها: «ربولي مادار ربولي» (طِر يا طير، طِر). كانت المُغنية تذوي «في سجن الحب»، وتطلب إلى الطائر أن يحمل خبر انفطار قلبها إلى العالَم الواسع خارجه. حضرت في ذهني تلك الأغنية وأنا في غرفتي تلك الليلة، لكن انتهى بي المطاف إلى إخراج أسطوانة مختلِفة من مجموعة الأسطوانات التي لم أستمع إليها من قبل، وأخرجتُها من حافظتها ووازنتُها على إصبعي كي أتمعَّن في حزوزها، محاولًا تبيُّن الأصوات المحبوسة في داخلها. كانت تُدعى «الموسيقى المجهولة للطيور»، وكان بيتر سزوك عالِم الموسيقى البودابستي هو مَن جمَعها في وقتٍ سابق من ثمانينيات القرن العشرين. ومن بين جميع الأسطوانات التي لم أسمعها، كانت تلك هي الوحيدة التي عرفتُ أن عليَّ سماعها.

في مساء اليوم التالي، بعد أن شاركت في ثنائياتٍ غير مُتقَنة بعزف رديء على الساكسفون ذي الصوت الجَهُور مع صديقي المَجري جوزيف الذي يعزِف البوق بصوته الذي يفوق الساكسفون بكثير في استحسانه، سألتُه إن كان لي أن أُشغِّل الأسطوانة التي أحضرتُها معي بدلًا من الاستماع إلى جون كولترين الذي عادةً ما يقدِّم لنا مسكَ ما نختتم به من موسيقى الجاز. جلسنا نستمع إليها في شقته، ونحتسي نبيذ «هاجيبور» من العام الماضي، وهو النبيذ الذي يصنعه والد جوزيف على الضفة الجنوبية لبحيرة بالاتون في فصلٍ وتحت شمسٍ كان يستحيل على المرء تذكُّرهما أو التطلُّع إليهما حينئذٍ. بدأت الأسطوانة على نحوٍ عاديٍّ بتسجيلاتٍ لأصوات طيور مَجرية. وبين كل صوت منها والذي يليه كان صوتُ مذيع بطيء مُتروٍّ يذكر الأسماء العلمية لها: «ألودا أرفينسيس»، «أورليوس أورليوس»، «لوشينيا ميجارهيكوس»، «باروس ميجور» قنبرة الحقول، الصفير الذهبي، العندليب، القرقف الكبير. غرَّدت الطيور. كان الربيع قد حلَّ حيث كانت. تلا صوت القرقف الكبير كما عهدناه وكما نعتقد أنه عهد نفسه، صوت القرقف الكبير مُبطَّأً، ثم تلاه صوته وقد صار أبطأ شيئًا فشيئًا. كانت الأصوات تزداد عُمقًا وثِقلًا. وتحت تأثيرها وتأثير نبيذ جوزيف القاتم، والدفء المتصاعد من موقد مِدفأته المكسو بالقرميد، كِدتُ أنعَس. مُطَّت الزقزقة حتى تحوَّلت إلى نُباح، لاحت من خلف أفق الصوت، وشقَّت سكون الليل بصوتها الجهوري الذي فاقَ ما يمكن لعازف بيس أن يقدِّمه. سمعتُ عزف ألبرت آيلير في صوتِ قُرْقُف كبير. ثم في المقطع التالي، كصوتٍ صادر من بوق ضباب يدوِّي عبر البرية الرملية لسهل «بوسزتا» جاء صوت النفير الأكثر حزنًا: رحلة قلب في الشتاء «لولولا أبروريا». «تييفو تشييفو تشييفو تشي»، كما أدركه جيرارد مانلي هوبكنز. قنبرة الغابات: ذلك الطائر الذي ينثر أبدًا أغاريدَ عذبة حزينة على أسرابه المُحلِّقة بالأعلى، استسلمتُ إليها. لا تحتاج أغاريد الطيور إلى معالجة كي تمزِّقنا إربًا، لكن تغريد قنبرة الغابات، عازف الباريتون المنفرد ذاك من الأوبرا الحكومية المجرية جعلت من الصعب على المرء أن يحبس نفْسه عن البكاء، مثلما قد يفعل أورفيوس. سمعتُ صوتَ عالَمٍ بعيدٍ إلى حدٍّ ما، عالَمٍ انقضى أو وُورِيَ الثرى، استُحضر من زمنٍ ربما لو كنَّا منه لغرَّدنا جميعًا النغمةَ ذاتَها.

زالَ عني السقم، وتبدَّد طيفُ الفتاة التي قابلتُها في نادي الرقص، وذات يوم، بينما كنت أسير فوق جسر تشين، سمعتُ الجليد الذي يكسو نهر الدانوب يتشقَّق تحت قدميَّ. أقبل الربيع مسرعًا. في المجاري، كانت قممٌ من الجليد المتَّسخ لا تزال قائمة، يكسوها روث الكلاب الذائب كالصدأ، لكني تطلَّعتُ من نافذتي فرأيتُ هدهدًا يحلِّق شَمالًا فوق أسطح مباني المدينة. رفعَ عُرْفه كيَدٍ ملوِّحة حين فكَّر في الهبوط. سرعان ما جاءت بقيَّة الطيور في أعقاب ذلك المُستطلِع القادم من الجنوب، تتحرَّك أغرودة السُّنونوات وزهور الليلك المُستخدَمة في الأعراس شَمالًا نحو التلال، بينما في الغابات، وفوق القمم، ظهرت خطاطيف الذباب المُطوَّقة، تبدو ذكورها البالغة الجمال في حُلات زفافها البيضاء والسوداء، تُنشِد أغاريدها الرقيقة الرنَّانة مثل حدَّادين بارعين. وعلى مقربةٍ منها، بعد أن تواثب نقار خشب أسود مبتعدًا خلال الأشجار وهو يقرقر بندائه الذي يُسمَع من بعيد، التقطتُ شظيَّة من خشب الزان كان قد انتزعها للتو من فجوة على ارتفاع عشرين مترًا مني، معتزمًا أن يشقَّ لنفسه مستقبلًا.

في مطلع شهر أبريل، ذهبتُ برفقة فيرينتس ماركوس، وهو صديق ومراقب طيور، إلى أقصى الجانب الشرقي من المجر، على مقربة من نقطة التقاء المجر مع الاتحاد السوفييتي (أوكرانيا حاليًّا) وتشيكوسلوفاكيا (سلوفاكيا حاليًّا) ورومانيا. كانت تلك هي أكبر مسافة ابتعدتُها عن بريطانيا. أكلنا الشيكولاتة المحشوَّة بالكَرَز، وراقبنا من مقلع حجارة مهجور بُومتَين عُقابيتَين كبيرتَين تطرِفان في الضوء المتحدِّر في فترةِ ما بعد الظهيرة، وتبدوان مثلَ جنرالَين عجوزَين يرتديان مِفضلتَين. سِرْنا في طريقٍ فرعي من نيرجهازا صوب موسكو، وأمعنتُ النظر نحو الحدود فيما كان فيرينتس يحكي لي قصة عن كيف أنه حين كانت حركة «ربيع براج» الإصلاحية تُوشِك على الانتهاء عام ١٩٦٨، استُدعي ألكسندر دوبتشيك على متن قطارٍ كان يستقله إلى الشرق. كان القطار الذي تحرَّك بناءً على تعليماتٍ لم يصدرها الحاكم التشيكوسلوفاكي يعبُر الحدود، شَمالًا على مقربة من حيث كنا، ثم توقَّف، نصفه في تشيكوسلوفاكيا ونصفه في الاتحاد السوفييتي. أُمِر دوبتشيك أن يسير إلى مقدمة القطار. هناك، بعد أن عبر إلى الأراضي السوفييتية، قابلَ بريجنيف الأمين العام للحزب الشيوعي، الذي أمطره بوابل من التوبيخ قبل أن يرسله عائدًا عبر عربات القطار إلى ما كان يأمُل أن يكون بلده الخاص يومًا ما.

حلَّ الظلام فيما نحن سائرون، ووصلنا إلى وجهتنا: محطة أرصاد جوية. كان لدى فيرينتس صديقٌ يعمل هناك، فأدخلنا إلى غرفة بها مستقبلاتُ رادار تتوهَّج باللون الأخضر الذي يشبه لون المياه الذائبة لنهر جليدي. وبينما نحن نراقب إحدى الشاشات، ترصَّعت بقعةُ الضوء خلف الشريط المُرصَّع بنقاط أكثرَ سطوعًا. كانت الهوائيات موجَّهة صوب الحدود السوفييتية، وكنا نرى سُحبًا من الطيور المهاجرة ليلًا وهي تتحرك نحو الشَّمال الشرقي عابرةً المجر قاصدةً الاتحاد السوفييتي. كان عاملو الرادار الأوائل الذين رأوا المشهد نفسَه على شاشاتٍ بريطانية يدعونها بالملائكة. وكانت تعود، دونما اعتبار للحدود. في الظلام الدامس للغرفة، جلسنا إلى المكاتب ومددنا رقابنا نحملِق إلى الشاشات. حين نظرت إلى الأسفل شعرتُ أني أكاد يُغشى عليَّ. كانت جموع الطيور تحتشد وتسبح أمام عيني، مثلَ سماءٍ مرصَّعة بالنجوم، بعيدة لكنها آسِرة. كان الليل قد خيَّم بجناحَيه قادمًا من الشرق، لكن كان بوسعنا أن نتبيَّن ما فيه. غنَّى أغنية لِلَّيل، «إي دال» كما تُسمَّى بالمجرية، كما يفعل المغنون في نهاية فقراتهم. كانت كلُّ الحدود مفتوحة. بدأ الجليد يذوب بانتهاء الشتاء؛ إذ أذابت جليدَه حشودٌ متفرقة من الطيور بدت مثلَ رُقَع من الضوء الأخضر.

جبل طارق

٣٦ درجة شَمالًا

«أما بعد، فقد رأيتُ أفريقيا!» كان كولريدج على متن سفينة دخلت البحر المتوسط في أبريل عام ١٨٠٤، وسجَّل في دفتر ملاحظاته ما عناه له المشهد؛ كانت تلك هي أول مرة يرى أيَّ أرض خارج أوروبا. كم هي حقيقية أو مؤثرة؟ سألتُ نفسي ذلك السؤال مرتَين في جبل طارق، مرةً عام ٢٠٠٥ ومرةً أخرى بعدها بعشر سنوات.

أولًا عليك أن تصل إلى هناك. وقفتُ في طابورٍ كي أعبُر المعبر الحدودي من إسبانيا، وأنهيتُ إجراءات الجمارك، وعبرت ميناءً تابعًا للقوات البحرية، ودُرتُ في الميادين، وأبطأتُ السيارة في الشوارع التجارية، ثم ركنتُها، وبدأتُ أسير في مسارٍ أسفلتي منحدر باتجاه الجنوب. قطعتُ تلك الرحلةَ القصيرة لما يزيد على خمسة أيام حتى الآن في زيارتَين خلال الربيع، لكن كل رحلة كانت تكرارًا لترجمة الأولى: سخافة الوصول، إلى مكانٍ ناءٍ لا ملامحَ له في عالَم اليوم الذي يسوده صنيع البشر في كل مكان (حيث، كما قالت جيرترود ستاين: لا يوجد «هنالك هناك»)؛ الأمر الذي ما كان منه إلا أن زادَ ذلك الشعور بالصدمة الذي اعتراني حين بلغتُ قمة الصخرة، التي هي في أوروبا (كما أدركتُ بغتةً وعلى نحوٍ قاطع)، ورأيتُ من عندها جبلًا صخريًّا مُماثلًا (يبدو قريبًا رغم بُعده) في «أفريقيا»! كان الأمر أشبه بركوب «بساط متحرك» (وهو ما لم أُرِده) إلى العلياء (وهو ما لم أتوقَّعه). وأنا أقف على بقعةِ أرض في أقصى جنوب الصخرة؛ حيث تبدأ الصخرة في الانحدار نحو البحر، تخيَّلتُ أن بوسعي أن أمُدَّ ذراعي إلى الجهة الأخرى وألمسَ صخرة جبل موسى وأحتضنَ ذلك «الجبل» من هذا «الجبل» فأولِّف بين القارَّتَين. يبلغ عرض المضيق البحري بين أفريقيا وأوروبا أربعة عشر كيلومترًا (عند أضيَق نقطة فيه)، لكن مصافحة ملحمية لا تبدو بعيدة المنال.

في النهاية، نحن تربطنا أواصرُ مشتركة، لكننا لسنا متصلين. الصخور مصنوعة من الأحجار الجيرية نفسِها. واليوم، كما في العديد من الأيام، عبَرَت أفريقيا بالفعل إلى أوروبا: كان بالإمكان رؤية الربيع يحلِّق إلى هنا، يصل في صورة حِدأة سوداء، عبر سديم البحر المالح تستعجله النوارس، التي تبدو مُنهَكة ومُتوعِّكة. ونظرًا لأنها طائر مجوقل ولم يكن قد بلغَ وجهته تمامًا بعد، أبَت أن تتوقف، لكني راقبتُها، أسَرني ما رأيته، فمكثتُ لأرى المشهد يتكرَّر مرةً تلو الأخرى. تطلَّعتُ جنوبًا إلى الجانب الآخر من المضيق البحري، فرأيتُ طيورًا قادمة من أفريقيا إلى أوروبا: حلَّق اثنا عشر سُنونوًا عبروا من فوقي، ثم صف جديد من الحِدآن السوداء الشعثاء. كان العبور صعبًا، لكنها كانت مضطرة إليه، بل إنها (حتى) بدت وكأنها أرادته. راقبتُها تتأمل أراضي أوروبا تحتها. سبقَ لها المجيء إلى هنا، لكنها رغم ذلك كانت تتلفَّت حولها. كانت تلك هي نسختها من المصافحة. صاحت السُّنونوات وهي تحطُّ على الأرض، لكن معظم الطيور التي عبرت فوق الصخرة ظلَّت صامتة: حلَّقت الحِدآن السوداء من فوقي وكأنها جولة جارية في لعبة شطرنج؛ وانسابَ سربٌ من اللقالق البيضاء فوقي دون رفرفة أو تغريد. لكن رغم ذلك كان عبورها «يتحدَّث».

في زيارتي الثانية لجبل طارق — التي تلت الأولى بعشر سنوات — كان منظرُ أفريقيا أكثر استفزازًا؛ إذ إنني حين نظرتُ صوب الجنوب، بعد أن صعدتُ الصخرةَ برفقة كلير (التي لم أكن أعرفها قبل عشر سنوات)، ألحَّت عليَّ فكرة أنه لو كان بوسعنا أن نعبر المضيق لَسَلكنا المسار الذي تحلِّق فيه السُّنونوات، ولقَطعنا القارَّة إلى منزلها، حيث أعيشُ أنا أيضًا الآن في بعض الأحيان، في رأس الرجاء الصالح. سبق أن وصفتَ منزلنا في القرية التي تقع أقصى الجنوب على المحيط الأطلنطي في سكاربورو بأنه المنزل قبل الأخير قبل القارة القطبية الجنوبية. كنا نراقب سُنونوات الحظائر هناك في أدنى نقطة من أفريقيا. أما هنا في جبل طارق، من أعلى جزء من أفريقيا، فالسُّنونوات تصيح الآن وهي تحلِّق بعد أن عبرت لتوِّها أول بحر اضطُرَّت إلى عبوره منذ أن طارت — ربما، مَن يدري؟ — من ساحل سكاربورو على شبه جزيرة كيب، على بُعد ٨٠٠٠كم جنوبًا.

•••

أن تجد نفسك في جبل طارق وسط أسراب الطيور العابرة من أفريقيا — تارة من السُّنونوات، وتارة من الحِدآن السوداء — ذلك يجعلك تريد أن تركِّز جُلَّ اهتمامك في ذلك المكان على اللحظة الحاضرة والمثيرة؛ ذلك أن الطيور تصل إلى أوروبا في تلك اللحظة بعينها. لكن في تقدُّمها وإصرارها، تعلن الطيور المهاجرة عن زمنٍ أعمق وتُظهِر ثباته الديناميكي — وأن تنظر إلى أعلى من الصخرة وما وراءها لَهُو أيضًا بيانٌ أو تذكرة بحيواتٍ سابقة وحيواتٍ لاحقة (قصص ماضية لا تُعَد ودروب قادمة لا تُحصى)، أو سيُودَع في لحظة حاضرة لمدة يحدِّدها العالَم.

معظم الجوارح المهاجرة واللقالق تعبر من أفريقيا إلى أوروبا من نقطة واحدة فقط من بين ثلاث أو أربع نقاط رئيسية تكاد تتلاقى عندها القارتان عبر اليابسة أو الجسور أو الأحجار التي يُخطى عليها لعبور المياه الضحلة. يتمركز المهاجرون من البشر الساعين للعبور إلى أوروبا أملًا في حياةٍ أفضل عند تلك النقاط المتقاربة. يعرف المراقبون تلك المواضع باسم مناطق «عنق الزجاجة» أو المخانق.

تخيَّل معي ساعة رملية. اضبطها. تتجمَّع في قاعدتها كومةٌ من الرمال. الآن اقلبها. سيَنساب المثلث الرملي، مارًّا بصعوبة من عنقها البالغ الضيق. يحدث أمرٌ شبيه بذلك عند تلك المخانق. الرمال هي الطيور التي عليها أن تعبر إلى الشَّمال كلَّ ربيع، ذلك الحشد الهائل من الطيور التي قضت الشتاء في الجانب الغربي من أفريقيا. الطيور نفسها عليها أن تطير إلى الجنوب كلَّ خريف. تتدفَّق إلى المخنق كي تعبر من حياة إلى أخرى، تتخالط وتتمازج فيما يندفع خط كثيف منها عبر ثلاثة أو أربعة مواضع فحسب. ثم تعود لتنتشر وتحتل الأرض المتاحة.

يتصل الرأس الطيب في تونس، ومالطا، وصقلية، والبر الرئيسي الغربي بإيطاليا؛ لتشكِّل معًا مسار الهجرة المركزي بالبحر المتوسط (لكنه مسار ليس أهلًا له إلا الطيور القوية البدن الخفيفة الوزن؛ إذ إن المسافة المقطوعة فوق البحر في ذلك المسار أكبر من أن تتحمَّلها اللقالقُ البيضاء). ويشكِّل البوسفور، ثم الممرات والمعابر التي تليه في الشرق الأوسط إلى البحر الأحمر، مسارَ الهجرة الشرقي. أما مسار الهجرة الغربي، فهو يعلو الشواطئ والجبال المحيطة بجبل طارق (صخرة الجبل نفسها وكذلك الشريط الساحلي الإسباني المحيط به على الأغلب من جهة الغرب، وجبل موسى وسلسلة جبال الريف بالمغرب). هذا المسار لهجرة الطيور يخدم منطقة غرب أوروبا بأكملها؛ إذ لا توجد أي معابر بحرية أخرى في غرب البحر المتوسط. منذ نهاية العصر الجليدي الأخير في أوروبا، منذ ما يتراوح بين عشرة آلاف إلى أحد عشر ألف سنة، كان المضيق محوريًّا بالنسبة إلى حركة الطيور القادمة من غرب أفريقيا إلى غرب المنطقة القطبية الشَّمالية القديمة. معظم الطيور التي تدخل أوروبا في الربيع عبر ذلك المسار هي طيور تقضي شتاءها في غرب أفريقيا، مع أن بعضها يكون قادمًا من مناطق أبعدَ شرقًا قد تبلغ تشاد، وبعضها قد يقضي شتاءه في مناطقَ أبعد جنوبًا قد تبلغ جنوب أفريقيا. يعبر خمسون ألف لقلق ورُبع مليون طائر جارح إلى الشَّمال كلَّ ربيع. من بينها الحِدآن السوداء التي تتكاثر في سويسرا؛ قد تصبح رحلتها أقصر لو أنها جاءت مباشرةً من الجنوب، ولكن ثَمة مساحة أكبر من البحر هناك وهي لا تقوى على عبورها. بعض أنواع الطيور العابرة (أغلب اللقالق البيضاء على سبيل المثال) لا تتَّجه إلى أبعدَ من أيبيريا؛ وبعضها سيواصل الطيران شَمالًا وشرقًا حتى فنلندا. يُعتقد أن غرب أفريقيا كان هو الملاذ الشتوي الرئيسي لطيور أيبيريا في ذروة العصر الجليدي الأخير. حين بدأ الجليد يتراجع أكثر شَمالًا، تبِعته الطيور لتنتشر في غرب أوروبا وشَمالها الخاليَين من الجليد. على الجانب الآخر من أوروبا، انتقلت الطيور التي كانت تختبئ في ملاذها بشبه جزيرة البلقان إلى شرق أوروبا وغرب آسيا. بعض الأنواع كانت موجودة في كلا الملاذين، وعادت إلى استيطان أوروبا من الجماعتَين الأحيائيتَين المتبقيتين من النوع نفسه. لكن جماعات أحيائية أخرى لبعض الأنواع انفصلت لوقتٍ طويل كان كافيًا للسماح بفصلها إلى نوعَين مختلفَين: هكذا تطوَّر العندليب (في الغرب) والسمنة الهزارية (في الشرق).

ترمز الرمال في ساعتي الرملية إلى الطيور وهي في طريقها من مكان إلى آخر، لكنها أيضًا رمال فعلية من الصحراء الكبرى. تأتي أحيانًا مُعشعِشة في ريش الطيور التي تعبرها؛ وأحيانًا تأتي بها الرياح ثم تسقط على هيئة أمطار مَشوبة بالغبار. حتى وإن لم تكن مرئية على الإطلاق، فإنها لا تزال تحدِّد أشكال الحياة المتبقية (بل مظاهرَ الحياة نفسِها) الموجودة على مسافاتٍ أبعدَ شَمالًا. الصحراء — كما شهدتُها في تشاد — خَطِرة، وفي الأغلب غير صالحة للسُّكنى، لكن لا بد من عبورها. تطوَّرت الهجرة في معرفتها وبصفتها عدوَّها المتأهِّب للحرب. تستطيع العديد من الطيور أن تعيش في أوروبا في شهورها الدافئة لكن ليس في شهورها الباردة. حينئذٍ عليها أن تتجه جنوبًا. لكن جنوبًا من أوروبا ثَمة البحر تليه الصحراء، ولا يهنأ هناك إلا القليل من الطيور. والطيور التي لا تتمكَّن من اجتياز الصحراء يكون مصيرها الموت؛ أما التي تنجح في اجتيازها فستُتاح لها فرصة العودة لاجتيازها مرةً أخرى. كلُّ حميراء تصل إلى أوروبا في الربيع تكون قد اجتازت بالفعل الصحراء مرتَين. كلٌّ منها يكون قد اجتازها جنوبًا الخريفَ الماضي، واجتازها شَمالًا الربيعَ الحالي. ومن ثَم، فإن كلَّ طائر مهاجر يصل ذلك الربيع هو مسافرٌ مخضرم بالفعل، كلُّ واحد منها هو ناجٍ بالفعل.

•••

بدأتْ إقامتي للمرة الثانية على الصخرة، في أواخر شهر مارس من عام آخر، بسماء صافية ورياح جنوبية غربية مُنعِشة ولطيفة. تلك ظروف تفضِّلها الطيور الجارحة العابرة، فبدأت أولى دفعات الطيور تظهر حوالَي الساعة العاشرة والنصف. كلما كانت مسافة العبور فوق البحر أقصر، كان أفضل للجميع، لا سيَّما الطيور الكبيرة الحجم: يستغرق عبور المضيق منها حوالَي خمس وأربعين دقيقة؛ في الأغلب يتحتم عليها تدبُّر أمرها بانطلاقتها التي بدأت بها آملةً أن تسمح لها بالعبور. يبلغ ارتفاع جبل موسى ٨٤١ مترًا، وهو ما يعادل تقريبًا ضِعفَ ارتفاع جبل طارق (٤٢٦ مترًا). راقبتُ طيورًا جارحة مُحلِّقة تبدأ في الانخفاض منذ بداية عبورها. وفي الغالب حين تبلغ جبل طارق تكون قد صارت أعلى من مستوى البحر بقليل. من مكاني على الصخرة، رأيتُ بعضَها يغيِّر مسار تحليقه بعد أن بيَّنت له طيور مهاجرة أخرى أن ثَمة هواءً أفضل في مكان آخر. رأيتُ كذلك عِقْبانًا تغوص في الهواء محاوِلةً إيجاد عمود هواء دافئ فوق مداخن السفن المسافرة عبر المضيق. تكون الرياح السائدة في مارس رياحًا غربية، فتدفع بالطيور إلى عُرْض البحر المتوسط وهي تحاول اجتيازه. والعديد منها يصل وهو على ارتفاع منخفض جدًّا فوق سطح البحر. الطيور ذات الأجنحة الأكبر يكون وضعها الأصعب: ترتطم النسور السمراء واللقالق البيضاء وعِقْبان صرارة بالماء أحيانًا. أما الطيور التي تنجح في الاقتراب أكثرَ من اليابسة، فربما ترفعها تياراتُ الهواء الدافئ الصاعدة حول الصخرة مجددًا فتكسبها الارتفاع. لكن حتى تلك الطيور ستمرُّ بمحاذاة الصخرة أسفل حافة قمتها بقليل. قد تكون قريبًا جدًّا منها، لا تبعُد عنك أكثر من قيد ذراع، تكاد المسافة بينكما تسمح لك بلمسها. وهذا يعني أن الجوارح عليها أيضًا أن تجتاز محنة نوارس الصخرة.

منذ أن ركنَّا السيارة، كان بوسعنا رؤية دوامة هائجة من الطيور الكبيرة فوقنا على ارتفاع كبير مساوٍ لارتفاع حافة قمة الصخرة. كانت بمثابة جماهير هوجاء تتجمهر حولها: أجنحة بيضاء وأجنحة سوداء تلمع وترفرف تحت ضوء الشمس. قابل جَمعٌ من الحِدآن السوداء قادم من الجنوب حشدًا مرحِّبًا من النوارس المقيمة التي كانت تتوق إلى اصطحابها خارج أراضيها. لكن الحِدآن تابعت طريقها بإصرار. لم تشأ أن تتوقف. مَن كان سيفعل؟ يتكاثر ٣٠٠٠ نورس أصفر الساقَين على الصخرة. طوال اليوم، وعلى مدار أسابيع في الربيع، تتسلَّل تلك الطيور من أعشاشها (أو من جانب أزواجها في أعشاشها) كي تضبط مرور أي شيء تعتبره «غير مرغوب به» في مجالها الجوي — كلُّ ما ليس مقيمًا، أو غير مُرحَّب به، ومن الأحرى أن يُطرد. إنها طيور جسورة. في وقت لاحق من اليوم نفسه، رأينا أحدها يتأرجح من ريش قوادم الجناح لعُقاب مُسيَّرة كان قد بلغَ منه الإجهاد مبلغه بالفعل بعد أن جاهدَ لعبور المضيق.

كنا نراقب الحِدآن ومهاجميها من النوارس فوقنا من الطاولة الخارجية بأحد المقاهي. قال كيث بينسوزان إنَّ الربيع لا يزال يسير بخطًى وئيدة حتى الآن. فقد عبرت بعضٌ من طيور نقشارة بونيلِّي الغربية والشفشافة الأيبيرية، لكن لم تعبر بعدُ أيُّ وراور. كيث هو مدير الحدائق النباتية في جبل طارق. وهو يراقب الطيور منذ صِباه. كان ما أثار اهتمامه بها هو رؤيته لسُبَدٍ مهاجر كان يختبئ في أحد آنية الزهور البلاستيكية الخاصة بوالدته في شُرفتهم. كان أول كتاب يقرؤه كتابًا توضيحيًّا للطيور البريطانية، كان أحد مخلفات الاستعمار القديمة. ذُكِرَت به الحِدآن الحمراء لكنه لم يأتِ على ذكر الحِدآن السوداء. وأثار هذا الأمر حَيرته. سألتُه (أنا أسأل كلَّ مَن تسنح لي الفرصة لسؤاله) عن الحميراوات: كثيرًا ما رأى أسرابًا منها في الربيع، جماعات من خمسة عشر إلى عشرين طائرًا، تتحرك في «تناغم إلى حدٍّ ما» تصل معًا وتحطُّ وتتحرك بمحاذاة الصخرة، عبر بساتين البلدة شَمالًا إلى إسبانيا وإلى بقية أرجاء أوروبا المبهجة.

«لكن ذلك لم يحدث هذا العام، هذا الربيع بطيء …»

كان كيث مضطرًّا إلى رفعِ صوته كي يُسمَع فوق ضوضاء آلةٍ لإزالة علكات المضغ التي وطِئتها الأقدامُ على الرصيف. نظرتُ إلى أسفل باحثًا عن النمل (اكتُشف منه نوعٌ طفيلي جديد)، عدد أنواع النمل الموجودة في جبل طارق يفوق الموجودة في المملكة المتحدة بأكملها. قال كيث: «كان يُزرع في قردة المكَّاك البربري غرساتٌ لمنع الحمل، لكنها لم يُمسَك بها كلها بعد.»

تركنا كيث ومشينا إلى مرصد الطيور ومحطة تحجيل، وظَلِلنا نراقب منها لمدة ساعة بفضل إيان وستيف وإيفون.

«عَجبًا! ما هذا؟»

كان طائر أطيش يافعًا بين مجموعة من الحِدآن السوداء: لقاءٌ غير متناغم بين عملاق بحري يرتدي ملابسَ رضيع وجماعة مسافرة من تجَّار يرتدون المعاطف البُنية.

تبيَّنتُ لقلقًا أسود يهبِط محلِّقًا على ارتفاعٍ أقل ويجاهد فوق البحر. بدا كلٌّ من ساقَيه الحمراوين ومنقاره الأحمر محتقنًا من فرط المجهود. وبينما هو يمضي قُدمًا بدا وكأنَّ الهواء يَثنيه، كانت رقبته وساقاه مثنية بالقوة تحت خط جسده الأفقي وكأنه قضيبٌ من الفولاذ الصلب يمورُ خارجًا من الفرن كي يُغمَر في السائل ويُبرَّد.

«شيءٌ ما يُهرَع إلى اليابسة.»

كان أحد طيور الرخمة المصرية.

«إنها تتقدَّم بقوة.»

اقتربت ثلاثة طيور أخرى منها، ترفرف بأجنحتها بقوة فوق المرصد بينما كان وفدٌ سياحي يتحوَّل بالحافلة يتأمل منظر أفريقيا. لم ينظر أيٌّ من الزوار إلى أعلى كي يرى الطيور المهاجرة.

يُخيَّل إليك عبر منظارك أن بإمكانك رؤية الطيور بعد وقتٍ قصير من مغادرتها أفريقيا، لكن الطيور التي بوسعك أن تراها تكون قد عبَرت المضيقَ بالفعل تقريبًا، ولا يفصلها عن جبل طارق إلا ثلاثة أو أربعة كيلومترات على الأكثر. ظهرت ذبذبات على شكل خطوط غير منتظمة لقاء البحر. ربما كانت ذبابة فقستْ بفعل هبَّات الرياح. فحصتُ عدستَيَّ عدة مرَّات كي أرى إن كان بهما غبار. في بعض الأحيان، ينكسر الضوءُ قليلًا أو تزداد كثافة السديم فوق البحر لبرهة، فيتلاشى ما رأيتُه في ذلك الموضع أيًّا كان. في تلك الحالة يتعيَّن عليك أن تبدأ من جديد، باحثًا عن أي ذبذبات. لكن إن ظلِلت تتابعها ببصرك، لثلاث دقائق أو أكثر، فربما تتحوَّل هذه الذبذبات إلى طائر جارح. يمسك بأهداب الهواء جاذبًا إياه، وكأنما يتشاجر معه، كي يميل بنفسه باتجاه الصخرة. وبعدها بدقيقة أو اثنتَين تتضح مَعالم الطائر الجارح؛ إنه عُقاب مُسيَّرة. يقتربُ الطائر، فأشرَع في النظر إليه نظرةً مختلفة. نحن نتشارك المساحةَ نفسَها، كما لم نكن نتشاركها من قبل. دخلَ عدَّاء ماراثون إلى الحلبة. نحن نجلس ناعِمَين بدفء الصخور التي تفترشها أشعة الشمس. إنه يشقُّ طريقه بجهد. والآن يقترب مُحلِّقًا. بوسعي أن أرى عينَيه وهو يمُر. يتلفَّت حوله وينظر إلى الأسفل إلى المنحدرات الصخرية. حتى تلك اللحظة أكون قد شاركتُ العُقاب عشر دقائق من الزمن. ارتسمت على وجهه نظرةٌ تشبه نظرةَ الرجال الذين التُقطَت صورهم على ضفاف نهر سوم وهم يشقُّون طريقهم عائدين إلى خنادقهم. كنت قد رأيتُ التعابير نفسَها على وجه النُّوِّ (الظبي الأفريقي) وهو خارج من مياه نهر مارا العَكِرة المليئة بالتماسيح في كينيا. إنه مثلُ سر البقاء.

كانت الحِدآن السوداء هي الأكثر شيوعًا بين الطيور المحلِّقة فوق جبل طارق ذلك اليوم. كما أنها كانت الأكثر عددًا بين الطيور المهاجرة التي رأيناها على الصخرة؛ إذ جاءت بعد حوامي النحل التي وصلت في وقت لاحق، بدءًا من منتصف شهر أبريل تقريبًا. عددتُ منها ٨٠٠. وكان إجمالي عدد ما سجَّله المرصد منها في ذلك اليوم ١٢٠٣. كانت تأتي في حشودٍ متفرقة، تكاد تكون تجمعاتٍ أنيسة، مجموعات صغيرة متفرقة من سرب هائل، دائمًا ما تظل الطيور في مرمى بصر طائر واحد على الأقل من أبناء نوعها. إنها متيبسة الجناحَين ولكنها طافية، تنحدر بانسيابية في الهواء متى تستطيع، ولا ترفرف جناحَيها إلا نادرًا.

أحصى المرصدُ ٥٧٢ عُقابَ ميسرة، رأينا منها ٢٠٠. تلك الطيور غالبًا ما تطير منفردة، أو نادرًا ما يتجمَّع منها طائران أو ثلاثة على نحوٍ عارض. ترفرف جناحَيها بسرعة كبيرة، وعادةً ما تبدو أشبه بالحوام منها بالعقاب. ستتكاثر تلك الطيور جميعًا، أو ستحاول ذلك، في أيبيريا.

أحصينا سبعين عُقابَ صرارة قصيرَ الأصابع. لم أكن قد رأيتُ أكثر من طائرَين أو ثلاثة من ذلك النوع في أيٍّ من أيام مسيرتي في رصد الطيور. سجَّل المرصد ١٣٥ منها. إنها تطير بالنمط المتوالي الشاق الذي يتحتم أن تؤديه مرارًا وتكرارًا — رفرفة ثم رفرفة ثم انحدار انسيابي — وهو ما يجعل العبور مهمةً شاقَّة للغاية. رأيتُها وقد أطاحت بها الرياح الجانبية إلى خارج المسار، فانعكست دهشتُها على وجوهها المستديرة الشبيهة بالبُوم وعينَيها الصفراوَين. ربما تكون بعض الطيور التي رأيناها قد قضت شتاءها في مناطقَ بعيدةٍ شرقًا حتى تشاد؛ وهي متجهة إلى مناطقَ زاخرةٍ بالثعابين في أيبيريا أو جنوب فرنسا.

عندما مالت الشمس ناحيةَ الغرب في آخرِ النهار، لاحت في الأفق عند الجانب الأفريقي من المضيق منحدراتٌ وسلاسلُ جبال لونُها شاحبٌ كالرمال. بدا وكأنها دنَت منا أكثر. لم ينقطع السيل القارِّي المنهمر؛ إذ جاء المزيدُ من العِقبان والحِدآن. من بين الجحافل القادمة، وصل عُقابٌ نساري (رفرفات سريعة متتابعة)، ومُرزة مستنقعات (رفرفة واحدة بطيئة تليها أخرى)، ثم غرابٌ أسحم، وهو الأكثر تمكُّنًا من بين الطيورِ كلِّها، لا يكدِّره شيء، ويسعه أن يكون غرابًا أسحمَ «بحق» أينما كان وأيًّا ما يفعله. وفيما سيقصد العُقابُ النساري ومرزة المستنقعات على الأرجح اسكندنافيا، لربما كان الغراب الأسحم عائدًا إلى بيته من دوامه بالعمل.

كان ثَمة سُنونوات أيضًا، جموع لا تكاد تنقطع منها، وسمامات (باهتة وشائعة)، وهي الأكثر عددًا من بين الطيور جميعًا، كالبعوض المنتشر في أرجاء السماء كافة، وكأن صحنًا يحوي أنواعًا متفرقة منها نُثِر بلا اكتراث فوق المضيق. ثم في نهاية فترةِ ما بعد الظهيرة، أتى سربٌ من خمسة عشر وروارًا مزقزقًا، كمسرحية إيمائية. حين أدرنا ظهورنا للمضيق وبدأنا نسير شَمالًا عائدين إلى سيارتنا، كانت لا تزال الطيور تأتي وتسبقنا، طائرًا تلو الآخر، سُنونو واحد، ثم عشرة، ثم ست عشرة حَدأة، وسمامات، وثلاثة عِقبان مسيرة، ثم سمام، ثم سُنونوات، ثم عُقاب صرارة، ثم سُنونوات، ثم سمام، ثم سُنونوات، ثم سمامات فسمامات فسمامات.

•••

ظهرت الهجرة في جماعات الطيور حيث تغلب مزايا مغادرة نوع من الطيور مناطقَ تكاثره على مساوئ الارتحال. رِحلات السُّنونوات طويلة وعويصة، لكن عدد الطيور التي تجتازها حيَّة يفوق العدد الذي كان لِيَنجو لو مكث طوال العام في مكان تكاثره، شَمال الدائرة القطبية الشَّمالية في النرويج على سبيل المثال. تطوَّرت أنماط هجرة طيور المنطقة القطبية الشَّمالية القديمة — الأفريقية التي نشهدها اليوم في العشرة آلاف سنة الأخيرة، منذ التغيُّر المناخي الذي حدث في نهاية العصر الجليدي الأخير. الهجرات لا تزال في بداياتها نسبيًّا، ولا يزال من المرجَّح أن تستدل الأنواع المهاجرة على طريقها. يقول كلايف فينليسون في كتابه «طيور مضيق جبل طارق»: «في تلك الفترة التطورية القصيرة نسبيًّا، من غير المُرجَّح أن تكون الأنواع المختلِفة من الطيور قد أتقنت استراتيجيات هجرتها.» تُخطِئ الطيور فرادى، لكن أنواعها لا تزال أيضًا تتأقلم على أنماط حركتها. فهي لا تزال قيد التطور. كما هو حال الحياة برُمَّتها. التطوُّر لا يتوقف.

على غِرار الطيور الجارحة واللقالق الأكبر حجمًا الأصعب مِراسًا، تسلك الجواثم مسارات هجرة محدَّدة. تفضِّل الطيور كلها تقريبًا اجتنابَ المسارات الأطول مسافة في كلٍّ من البحر المتوسط والصحراء الكبرى. إذ تدور حول أطراف الصحراء وهي مسافرة ذهابًا وإيابًا، وغالبًا ما تعبُر البحر من المخانق أو مناطق «عنق الزجاجة» حسبما يطلقون عليها. يستنفد اجتيازُ الصحراء الكبرى حتى من أضيق المعابر مخازنَ الدهون لدى العديد من الطيور الصغيرة الحجم. تكسب الذعراتُ الصفراء والبُلقُ زيادة في أوزانها بنسبة تتراوح ما بين ٣٠ و٤٠ في المائة من الدهون، وذلك جنوب الصحراء، قبل أن تنطلق في رحلتها. وبهذا تصير قادرة على أن تقطع رحلةً مسافتها ٢٠٠٠ كيلومتر في سِتِّين ساعة من الطيران دون توقُّف. وبعد أن تجتاز الصحراء، تتوقَّف تلك الطيور في محيط جبل طارق وجنوب إسبانيا لاكتساب الدهون من جديد.

في رِحلات طيرانها الحالية، بوسعنا أن نرى أعوامًا مضت منذ زمن بعيد. جميعُ خاطفات الذباب الرقطاء الأوروبية (حتى التي تتكاثر شرقًا) تدخل القارة وتخرج منها عبر مسار الهجرة الغربي. بعض الأنواع الأخرى تتدفَّق من الاتجاه المقابل: تقطع طيور الدخلة البيضاء الحنجرة الأصغر حجمًا، وهازجة البطائح، والدقناش الأكحل، أوروبا كي تغادر عبر الحافة الشرقية للبحر المتوسط — حتى الطيور التي تنتمي إلى الأنواع التي تتكاثر في نطاق بضعة كيلومترات من مضيق جبل طارق تفعل ذلك. نشأت تلك الطيور على الأرجح في المناطق التي تظل مخلصة لها في غير موسم التزاوج: أسلاف الدخلات البيضاء الحنجرة التي تتكاثر في شجيرات القراصيا في سبخة توبني بالقرب من منزلي في كامبريدجشاير بدأت حياتها بعد العصر الجليدي في مكانٍ ما بالشرق. ومن ثَم، دخلت إلى وسط وغرب أوروبا قادمةً من الشرق، ولا تزال تفعل ذلك كلَّ عام. وهذا بالضبط ما تفعله الدخلات البيضاء الحنجرة الأصغر حجمًا التي رأيتُها في تشاد وإثيوبيا؛ إذ إنها تدخل أوروبا من جهة الشرق أينما كانت وجهتها. وهجراتها السنوية هي تكرار للرِّحلات التاريخية لِبَني نوعها. ولذا، فإن سِجل تطوُّرها محفورٌ في مسارات تحليقها.

•••

١ أبريل. هبَّت رياحٌ خفيفة جدًّا من الشرق. وجثمَ ضبابٌ كثيف من السُّحب المنخفضة فوق المضيق بأكمله. بدا كأن نهرًا جليديًّا فاضَ فملأ البحر المتوسط بين ليلة وضحاها. أطلقت السفن أبواق الضباب التحذيرية من تحت جليده. مكثنا غرب جبل طارق في إسبانيا، على عُمق حوالَي خمسة كيلومترات في البَر الداخلي، وصعدنا إلى أعلى فوق الغيمة حيث السماءُ الصافية الشديدة الزرقة في منطقة إل كابريتو. كانت صامتة وساكنة. ضبطنا ساعة يدنا عند قاعدة طاحونة هواء خاملة. كان زوجٌ من السُّنونوات الحمراء العَجُز يُعشِّشان في المبنى الحجري القديم حيث جلسنا. لم يكن بالإمكان رؤية الخط الساحلي أو البحر على الإطلاق تحتنا. ما كنا لنعلم بوجوده هناك لولا أننا كنا أمس على شاطئه بالأسفل. لم يُضاهِ ارتفاعَنا سوى قِمم الجبال في شَمال أفريقيا. في المغرب، انبثقت قمم الجبال فوق غطاء من السُّحب. انتظرنا. ظهر رجلٌ ذو عينَين متألقتَين ولحية طويلة يرتدي سترةَ تمويه. كان مراقب هجرة إسبانيًّا. كان معه جهاز اتصال لاسلكي يخشخش كلَّ حين وآخر. تجاذبنا أطرافَ الحديث مستخدمين الأسماء اللاتينية لأطول مدة ممكنة، ثم فتح كتابًا كان يقرؤه. كان كتابًا به صور لأحصنة إسبانية راقصة. كان اسم الحارس جيزيز.

ولجَ إلى العالَم صوتٌ جديد، كان صرير القنطرة وشفراتُ طاحونة الهواء تستفيق من غفوتها. سمعناه في إل كابريتو، وهي أقدم مزرعة رياح في مقاطعة قادس، قبل أن نشعر باختلال بسيط جدًّا في الهواء. لكن بعض الحِدآن السوداء كانت قد وجدته بالفعل. جاء خمسة وأربعون طائرًا، كانت الطيور تحلِّق في صفٍّ يشبه الحبل إلى حدٍّ ما من تحتنا، خارجةً من بين الغيوم إلى السماء الزرقاء، تتحسَّس طريقها إلى تيار الهواء الصاعد، تعثر على سُلَّم حراري وتصعده إلى حيث كنا، ثم تجتازنا ماضيةً في طريقها، ينسابُ سِربُها من فوق شفا الجرف وينتشر بمساعدة الطقس المنعش إلى البَر الداخلي ثم عبر الأرض المنبسطة.

اجتازت تلك الطيور طواحين الهواء قبل أن يجري تشغيلها، غير أننا نسرق الرياح من الطيور المهاجرة الأخرى. من المعروف أن الطيور المحلِّقة بسرعة تصطدم بطواحين الهواء. وفي دراسة نُشِرت عام ٢٠١٩ أجرتها أنا تي ماركيس وزملاؤها حول الحِدآن السوداء المهاجرة في إسبانيا حول جبل طارق، اتضح أنَّ هذا النوع من الحِدآن قد بدأ يتعلم تفادي الشفرات، غير أن استراتيجيته في تفاديها كثيرًا ما تقوده نحوَ هواءٍ أقلَّ نفعًا. ومن ثَم، تتقلص بيئتها الهوائية. وبسرقتنا للرياح من خلال التوربينات وطواحين الهواء، حرمنا الطيور من الهواء الأمثل على الرغم من أن الطيور هي التي جلبته.

صعِدت جماعةٌ أخرى من أسفلنا، المزيد من الحِدآن السوداء، لكن يقود هجمتها تلك رخمة مصري. بدا مثل عنزة عجوز شمطاء وهو يمرُّ فوق مزرعة هواء إل كابريتو. بجانب الحِدآن التي اندفعت إلى عمود الهواء الدافئ، كان ثَمة مُرزة مستنقعات وعُقابا ميسرة ونَسرٌ أسمر. هل عبرت هذه الطيور من أفريقيا خلال الغيوم أم إنها غادرت بعد أن باتت ليلةً على الأراضي الإسبانية؟ حاولتُ أن أسأل جيزيز عن ذلك.

يبلغ عُمر البحر المتوسط كما هو معروف لنا حوالَي ستة ملايين عام. كان المضيق الذي يفصل بين القارتَين مسدودًا من قبل، بواسطة البوابات الموجودة عند ما أسماه العالَم القديم أعمدةَ هرقل، كان مغلقًا تمامًا. ويُقال إنه سيُغلَق مجددًا يومًا ما، عندما تتقدَّم الصفيحة التكتونية الأفريقية شَمالًا بالنسبة إلى الصفيحة التكتونية الأوراسية. تتقدَّم أفريقيا نحو أوروبا: سطح الأرض في حالة هجرة ونزوح دائمًا. وعندما يحدث ذلك، سيَسع الحِدآنَ وأصدقاءها من الطيور الأخرى أن تسير بدلًا من الطيران. إلا أنها ربما تكون قد مضت مثلنا إلى مكانٍ مختلف تمامًا قبل أن يحدث ذلك.

هوامش

(١) «أوَليست غريبة تلك الطريقة التي تُلقى بها أشياء في طريقنا، كتفاحات أتالانتا ربما، بمجرد أن نبدأ الانطلاق في طريقٍ ما؟» — الكاتبة يودورا ويلتي في قصتها «موسيقى من إسبانيا.»
(٢) في قصيدةٍ لكولريدج بعنوان «آريا أسبونتانيا» يحوِّل الشاعر ملاحظاتٍ مماثلةً على تلال كوانتوك إلى حفلٍ لعزف الأُرغن يكاد يكون مُبالغًا فيه: كانت قنبرته تغني بصوتٍ عالٍ وتسافر بعيدًا عن الأنظار «غير أني رأيتُ صمتها مرتَين يهوي في ضوء الشمس مثل شهاب فضي …» أما بالنسبة إليَّ في تُوبني فقد بَدَت أقربَ إلى حَفنة من الثرى.
(٣) استعرضت جوليا نُسختها من تلك الأيام بالتفصيل في كتابها «أنشودة الزمن: البحث عن دوجرلاند» (٢٠١٩).
(٤) يُعَدُّ جناح التمِّ بطريقةٍ ما بمثابة العملة المعدنية التي تُوضَع في فم الميت كي يعبر إلى الحياة الآخرة أو سفينة الموت التي تُقِله إلى هناك. ويُحتمَل أن يكون ذلك هو المشهد الذي يصفه سيبيليوس في القصيدة السيمفونية «بجعة تونيلا»: تونيلا هي أرض الموتى في ملحمة «كالفيلا»؛ هناك تطفو بجعة بيضاء في نهرٍ ماؤه أسود. تؤدي آلةُ النفخ «كور أنجليه»، أي البوق الإنجليزي، صوتَ البجعة. كان يفترض أن تكون المقطوعة مقدِّمة موسيقية لعملٍ أطول بعنوان «بِنَاء الفُلْك» انصرفَ عنه سيبيليوس.
(٥) في بعض الأحيان، تأتي الأخطاء العشوائية التي ترتكبها الطيور اليافعة في صالح النوع. فإن لم تَسِر الأمور على ما يرام بالنسبة إلى الطيور البالغة في مناطق التشتية المُجرَّبة سابقًا، فربما تظل تلك الطيور اليافعة على قيد الحياة؛ ومن ثَم تنقذ النوع من الانقراض. يُفضَّل ألا يضع نوعٌ من الطيور بيضَه كلَّه في سلة واحدة. ومن الجيد لها جميعًا ألا تقضي شتاءها في مكان واحد. في عام ١٩٦٨ سبَّب الجفافُ في منطقة الساحل هبوطًا كارثيًّا في تعداد الدخلة البيضاء الحنجرة. إذ لم يرجع نِصفُ تَعدادها إلى غرب أوروبا عام ١٩٦٩، لكن أعداد الطيور اليافعة كان يغلب أكثر على تَعداد النوع حينها؛ ويفترض أنها قضت الشتاء في مَواطن أكثر تنوعًا وأقل تأثرًا بالجفاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤