أبريل

تلال كوانتوك

٥١ درجة شَمالًا

٣ أبريل. دائمًا ما يكون لسُنونو «محلي» وصلَ حديثًا التأثيرُ المنشود. رأيتُ اليوم أول سُنونو محلي أراه في ربيع إنجلترا، بينما كنت أقود سيارتي عائدًا بعد زيارتِي أبي الذي أصيبَ بكسر في الحوض نزل على إثره في مستشفًى ببلدة تونتن (كان مُودَعًا عنبر كولريدج، أو ربما عنبر ووردزورث). قطع الطريق في لمح البصر فرأيتُ رأسه «المستدير».

«مستدير» هي الكلمة التي سمعها شيموس هيني من تلميذٍ أيرلندي بالمرحلة الابتدائية في مقاطعة كورك، كتبَ موضوعًا إنشائيًّا قصيرًا عن طائر السُّنونو. قدَّم وصفًا دقيقًا من خلال عبارتَيه الوجيزتَين للطائر «القصي» والطائر «الداني»، الطائر الرحَّالة الذي يجوبُ العالَم والطائر المحلي المألوف في دياره، الطائر الذي ليس في نطاق إدراكنا والطائر الذي لا يَبعُد عنا إلا قيدَ ذراع. كتبَ التلميذ يقول: «السُّنونو طائرٌ مهاجر. له رأسٌ مستدير.»

كانت موسيقى جوستاف مالِر تنبعث من مشغِّل شرائط الكاسيت البالي في سيارتي القديمة. كانت كاثلين فيرير الكونترالتو الإنجليزية تُغنِّي «أغنية الأرض» (داس لييد فون دير إردا). إنها دائمًا ما تجعلني أبكي. وأكثر أغنية لها تُفطِر القلب هي أغنيتها الأخيرة، لا سيَّما الدقائق الأخيرة منها. الأغنية «الوداع» (دير أبشييد). تتحدَّث الأغنية عن الديار وعن مفارقتها كذلك: نهاية الأشياء، الموت والديار، ومفارقة لا نهائية النهايات، والبدايات الجديدة التي تجيء من بعيد مثل السُّنونوات.

الأرضُ الحبيبة تزدهرُ أرجاؤها في الربيع وتعودُ خضراءَ من جديد!
في كل مكانٍ ترى الأفقَ الأزرق السرمدي.
للأبد … للأبد …

في ١٩٤٧ غنَّت فيرير «أغنية الأرض» للمُلحن الألماني برونو فالتر. وسجَّلاها في الاستوديو عام ١٩٥٢. كانت تلك هي النسخة التي كنت أسمعُها من الأغنية. كانت فيرير مريضة بسرطان الثدي حينها، وقد بدأت العلاج الإشعاعي. وكان أداؤها لأغنية «الوداع» مؤثرًا للغاية، وليس ذلك بسبب توقيت تسجيلها فحسب. الأغنية ومغنيتُها يذوبان لقاء أعيُننا في الأصوات التي تميِّز بداية رحلة إلى باطن الأرض، ورحلة خروج منها (كذلك). تتضمَّن الأغنية عزفًا على آلة السيليست كذلك، وهي تصوغ موسيقى أثيرية ساحرة. في رأيي، يشبه صوتُ فيرير «الرذاذ»؛ إذ يبدو متداخلًا في نسيج الموسيقى بشدة حتى إن المرء ليَحسبه حديثَ الأرض نفسها. إنها تصنع صوتًا أشبه بصوت أنفاس منطوقة، ربما يتحوَّل إلى صوت بشري في نهايته لكنه أيضًا يمكن أن يكون صوتًا يبدأ لتوِّه، وكأنه الصرخة الأولى أو الأخيرة للحياة، شهقات وزفرات، «آه» تلو الأخرى.

النتيجة هي أن ما أراه «موسيقى رحيل» يشعرك بينما هو في خِضم مغادرة الحياة بأنه لا يزال مفعمًا بالحياة بقوة. تنبِض الأغنيَّة بالموت والحياة كليهما. ترتقي إلى الأفق وتدوِّي من ورائه؛ يبدو صوتُها منحسرًا لكنك تشعر بأنه قريب من أُذنَيك. إنها تشبه بذلك تنظيم الأنفاس حتى الاستسلام إلى النوم، وتشبه أيضًا أغرودةَ طير تغنَّى بها خلال معزوفة الطقس. تبدو وكأنما عادت أخيرًا لتُشرِق عند شفا العالَم، بينما تخفت حتى تكاد تصير عَدمًا، مثل الضوء الأخضر الضعيف الذي يومض عند غروب الشمس، مثل آخِر أغرودة يغرِّدها شُحرورٌ في غابةٍ يبتلعها الظلام.

يصف شعب الكالولي بدولة بابوا غينيا الجديدة، الذين يؤمنون بأن الأموات يتحولون إلى طيور أو (على وجه التحديد) إلى أغاريد طيور، غابةً مليئة بما يُسمُّونه «دولوجو جانالان» (السُّمو فوق طبقات الصوت) أو (الكلمات المقلوبة). استوحى شعب الكالولي تلك المفاهيم من قدرة الطيور على أن تعلو بتغريدها على ضوضاء الخلفية، أو أصوات البَريَّة في الغابة. تَمتُّع الطيور بتلك الفصاحة يمنحها تفرُّدًا ويضعها في مكانةٍ مهمة على الصعيد الإنساني لدى شعب الكالولي. إنها تمثِّل لهم أصوات موتاهم الذين يحيون في هيئة الطيور وتغريداتها. يقول جوبي، أحد أبناء شعب الكالولي، محدِّثًا عالِم الأنثروبولوجيا ستيفن فيلد: «إنها بالنسبة إليكم طيور، أما بالنسبة إلينا فإنها الأصوات التي تسكن الغابة.» في اللحظات الأخيرة من أغنية «الوداع» كما تؤديها كاثيلين فيرير، نسمع أصوات الغابة تلك أيضًا.

كان أورفيوس الذي غنَّى — بصوتٍ ساحر — للطبيعة وخلالها، يألف تلك الأصوات حتمًا. أدَّت كاثيلين فيرير دوره أيضًا بغنائها، في أداء آخر محبَّب جدًّا. في أوبرا كريستوفر جلوك المؤلَّفة في القرن السابع عشر «أورفيو ويوريديسي» (التي أدَّت أصواتٌ نسائية أدوارها الثلاثة: أورفيو ويوريديسي وآمور)، صار أداء فيرير الحزين (المُحطَّم والمُهشَّم عاطفيًّا) للآريا (المقطع الفردي) التي يخاطب فيها أورفيوس يوريديسي المتوفاة يستحثُّ التصفيق الحادَّ من الجمهور، وكان يُطلَب كثيرًا. غنَّت فيها قائلةً: «ماذا تعني لي الحياة من دونِك؟» في نُسَخ عديدة من الأسطورة، لا تعود يوريديسي من العالَم السفلي، الذي تكون بيرسيفوني ملكته في بعض الأحيان (طالِع القصيدة المؤثرة المؤلمة التي كتبَها ريلكه «أورفيوس. يوريديسي. هيرمس» على سبيل المثال)، لكن في الأوبرا، تُعفى يوريديسي من الموت الأبدي وتعود إلى الحياة لتجتمع مع أورفيوس في نهايةٍ سعيدة هي بداية جديدة لهما معًا.

جاء أداءُ فيرير لتلك الأغاني وهي على شفا الموت مؤثرًا للغاية؛ إذ كنا نعلم حينها أن أيام المغنِّية نفسها في الحياة معدودة، فما بالك بفرصة أخرى للحياة. فلا مجال أمامها للعودة إلى العالَم الذي تسطع فوقه الشمسُ حيث الازدهار والخُضرة. بل كانت متجهة إلى غابة من نوعٍ آخر. كانت في الحادية والأربعين من عمرها حين تُوفِّيَت في أكتوبر عام ١٩٥٣. وكان آخِر ظهور جماهيري لها في فبراير من ذلك العام حين غنَّت «أورفيو».

في منطقة السهل الساحلي «ذا فينز»، في الجانب الآخر من رحلتي من سومرست، حين وصلت إلى منزلنا، لمحتُ ذكر سُنونو على أسلاك الهاتف فوقي. كانت طيور السُّنونو قد عادت إلى كامبريدجشاير في الوقت نفسه الذي وصلت فيه إلى سومرست. تزاوج اثنان منها على أحد أعمدة السطح في المَرأب ذي الواجهة المفتوحة للمنزل المقابل للعام السادس على أقل تقدير. ليس الزوج نفسه — إذ تموت تلك الطيور قبل ربيعها السادس — بل تعاقبت عليه أزواج السُّنونو متخذةً منه مستقَرًّا لها، وربَّت فيه أفراخها كلَّ عام. كان صوت الأزيز العذب الهذِر لأغرودة الطائر يشبه نغمة اتصال هاتفي محلي. وبعد أن أثبت مكانه بتغريده في الخارج لبرهة، هبط داخلًا عبْر الفجوة المظلمة لمدخل المرأب. كنت أسمعُه ينادي بالداخل. ارتدَّت نغماته السريعة الحادَّة عن الجدران الحجرية والسطح الخشبي وكأنما تقيس مساحتها. بدا الطائر سعيدًا حينها لاستقراره في ذلك المكان، كان يطير ويغرد.

بيلاهي

٥٥ درجة شَمالًا

زرتُ بيلاهي في مقاطعة لندنديري؛ حيث عاش شيموس هيني في صِباه، مرتَين. كانت زيارتي الأولى لها قُرْب بداية ربيع، والثانية في نهاية ربيع آخر. في كلتا الزيارتين، سافرتُ برفقة شعراء وروائيين: بول فارلي، ثم جون بيرنسايد وتيسا هادلي (تيسا هي ابنة عمومتي). ذهبنا كي نتبادل الحديث بشأن الكتابة عن الأماكن، ولا سيَّما مسقط رأس هيني. ففي كلتا المرتَين كان الحاضر الغائب.

تُوفِّي هيني في أغسطس عام ٢٠١٣. في أبريل من العام التالي، حين ذهبتُ إلى بيلاهي، كان قبره لا يزال حديثًا، عبارة عن قطعة أرض جرداء وترابية، تُربتها مُقلَّبة. كان من الواضح أن جثمانًا قد دُفِن هناك مؤخرًا. وعلى كومة التراب، وضعَ شخصٌ ما باقةً من أزهار النرجس البري المقطوفة. كان ذلك اليوم يوافقُ يومَ مولده — ١٣ أبريل — وهو أول عيد ميلاد لم يحضُره في أول ربيع منذ وفاته. كانت التربة الداكنة أيضًا مُرصَّعة بحَفنة من النُّوَّار الندي أمطرتها به أشجارُ القراصيا الواقعة خلف سور المقبرة كنِثار العُرس.

غرَّد شُحرور من تلك الأشجار، فاستدعى في ذهني القصائدَ التي أعرف أن هيني قد كتبها عن ذلك الطائر. في تلك القصائد، قاوم ما تبعثه تلك الطيورُ من أثرٍ مُقبِّض في النفس، وأذعنَ له: نظراتها السوداوية وإيقاعات أغرودتها الحزينة.١ كتبَ هيني في قصيدة «شُحرور جلانمور» (حيث كان في مرحلة رشده يقطُن بالقرب من دبلن): «أنتَ مَن أُحبُّ أيها الشُّحرور»، في تلك القصيدة يحمله طائرٌ يعرفه جيدًا يقفُ على مرج حديقته على تذكُّر الموتى والمحتضرين، وفي الوقت نفسِه يؤكِّد الطائر أنه شُحرورٌ آبيًا أن يُحمَّل أيَّ أعباءٍ بشرية.

جئتُ إلى بيلاهي من مؤتمر لإحياء ذكرى هيني، أُقيم في بلفاست على بُعد خمسين كيلومترًا. كان الشُّحرور هو شعار المؤتمر. وبعد يوم من الحديث، سِرتُ في المدينة المُمطِرة في ساعة ذروة وسط الوحل المتناثر من السيارات المارَّة والأضواء الخافتة. منذ مَطلع شهر مارس فصاعدًا، تأتي عدة أسابيع تتزامن فيها أغرودة الطيور المسائية مع المساء نفسِه ووقت إيواء البشر إلى منازلهم، وفي تلك الساعات يعلو صوت الشحارير على ما سواه. في بلفاست، سجَّلتُ على هاتفي صوتَ ذَكرَين منهما يغرِّدان، من سطحَي مَبنيَين أحدهما قبالة الآخر، في شارعٍ يحدُّه صفَّان من المنازل المتصلة؛ حيث طوَيا المسافة بينهما والتقيا بالقرب من حديقة «بوتانيكال جاردنز». كانت أغاريدها عالية لدرجةٍ مُدهِشة، وكأنما رُفِع صوتها وعلا لِيَخترق الغسق الرطب. تربة داكنة ما كانت تغرِّد، ولكنها كانت يَقِظة وتنبِض بالحياة أكثر مما سواها؛ فقد كانت أغرودة، وعلى غِرار الشاعر سمعتُ الطيور تؤيد الحياة وتساندها، تُصادِق على حلولِ الليل.

بعد زيارة قبر هيني، كانت زيارة بيلاهي في أبريل أمرًا يبعث على الكآبة. شهِدَت تلك البلدة الصغيرة أوقاتًا عصيبة. صمدَ خلالها محلُّ جزارة — «جيه أوفريند وأبناؤه — لحم أبقار وماشية مربَّاة في مزارعنا» — أثار اسمُ المحل ومهامُّ تلك العائلة في بدني قشعريرة. أما العديد من المحال الأخرى فأغلقت أبوابها، وسُدَّت واجهاتها أو بالأحرى حُجِبَت بملصقات بحجم واجهة العرض نفسِها تصوِّر مناظر خضراوات مبهجة، صورة معدَّلة رقميًّا لقَرن وَفْرة، تبدو فيها درجاتُ اللون الأخضر زاهية ومتوهجة للغاية.

سِرتُ لأرى منزل هيني القديم المدعو «موس باون» (كان مكتوبًا في كلمتَين منفصلتَين الآن على اللافتة الخشبية الموضوعة على المنزل، مع أن هيني لطالما كتبه كلمة واحدة). كان ما يزال ينبِض بالحياة. ركلَ صبيٌّ كرة قدم على العشب في واجهته، وكان ثَمة أعشاش دجاج وبعض الحافلات القديمة المصطفَّة في ساحته الخلفية. بدا وكأنه إحدى قصائد هيني، مع أني لم أستطِع رؤيةَ البئر التي كانت مادةً خصبة لكتاباته من قارعة الطريق. ربما لم تعد موجودة. كانت مضخَّتُها اليدوية يُسمَع لها ضجيجٌ حين يُرفَع ذِراعها ويُخفَض، وكان وقعُ ذلك على أُذنَيه — حين عاد بذاكرته إليه وهو كاتبٌ راشد — يشبه الكلمة الإغريقية «أومفالوس». كانت تتكرَّر مع كل دفعة متطلبة للجهد، كانت (كما وصف في حديثٍ إذاعي عام ١٩٧٨) تصدَح باسم المكان — «أومفالوس، أومفالوس، أومفالوس» — الذي يعني «السُّرَّة، وبالتبعية الحجرَ الذي يميِّز مركزَ العالَم».

يمكنك أن تخرج من ذلك المقر النابض في موس باون وتسير في طريق لاجانز عائدًا تُجاه بيلاهي، وهو الطريق الذي كان يسلكه شيموس وهو صبيٌّ قاصدًا مدرسته الابتدائية. وصلتُ إلى الطريق الريفي الضيق فإذا بي أعرفه بالفعل، بفضل قصائده. كان مُعبَّدًا الآن، أما بالأمس فكانت الحشائش تنمو بطول عموده الفقري، لكنه لا يزال محتفظًا بانبعاجاته وتعرُّجاته وهو يقطع الأرض الموحلة. عام ٢٠١٤، ألقى شخصٌ ما تلفازًا معطوبًا في منخفض مغمور بالمياه مغطًّى بنسيج طارد للماء كان يسمِّم بستان أشجار فاكهة قديمًا. لكن عدا ذلك كانت مشارف الربيع قد لاحت في الأفق. حفَّت المنخفضَ المغمور منحنياتٌ من الحشائش الخضراء اليانعة. وبدت سيقانُ أشجارِ البتولا العاريةُ باردةً، لكن حُفنًا صغيرة من الأوراق كانت تتفتح في أطرافها الغصناء. ظهر أمامي سُنونو — ذو «رأس مستدير» وببقية سماته المعهودة — من حيث لا أدري، وحلَّق فوق الطريق المتعرِّج فيما أطلَّت الشمس فتصاعد البخار من الأسفلت الرطب. جفَّ الطريق وكذلك جناحا السُّنونو وظهرُه، فزالت عن أجزائه السوداء لمعة وزهت أجزاؤه الزرقاء. استشعرتُ أنه قد وصلَ حديثًا — كان بوسعي أن أستشعر ذلك — لكنه بدا وكأنما ألِفَ المكان بالفعل.

•••

توجد قصيدة في ديوان هيني الأخير «سلسلة بشرية» (٢٠١٠) تدور ما بين لَحدٍ وطفولة. إنها قصيدة «عُشبي» التي هي في الحقيقة مجموعة من القصائد القصيرة التي تبدو وكأنما أُخِذت من تدوينات في دفتر ملاحظات عن الطبيعة. أبياتُها قصيرة، ومفرداتُها بسيطة. تُستهَل في مفتتَحها ﺑ «النباتات في كل مكان/تزدهر بين القبور»، ثم تتطور القصيدة من فكرة الأكاليل الحية تلك. فتصف العديد من لحظات الخُضرة وذكريات النباتات، شذرات من الزمن شُوطِرَت مع الأوراق الخضراء والنباتات المزهرة الأخرى. يدبُّ فيها العشب وكأنما يسري في حياة، سابحًا «مع التيار»، فينبتُ «في كل مكان». وبرفقة نباتات أخرى بسيطة وعادية (السرخس، ورَتَم المكانس، والعُلَّيق، والبيقية، والحُمَّاض، والأَسَل)، يصنع طريقًا وعْرًا للوجود، طوقًا من زهور الربيع، أو إكليلًا ربما ينطق بحياة أو يُداويها. وقُرب نهاية القصيدة، التي تستمر في وصف الحياة النباتية المحلية، تطول الأبيات وتتخذ الملاحظات الطبيعية شكلًا تعويذيًّا. إذ تصف أو تتغنَّى ببيئة طبيعية أو نظام بيئي، يشبه ذلك الذي يصفه تشارلز داروين في الصفحة الأخيرة من كتابه «أصل الأنواع» بأنه «ضفة متشابكة» تزخر بصور الحياة كافة.

تَلبَّس هيني بروح جيليفيك كاتب القصيدة الأصلية البريتاني؛ إذ شدَّ المكانُ (الذي كان معظمه ينمو ويزدهر) من أَزرِه (على غِرار ما قلته عن حال الطيور معي) مرتَين: مرةً عندما منحه ما يكفي للعيش، وأخرى عندما أراه مَعدِنه الذي صُنِع منه.

بين الخلنج والأزريون،
بين الإسفَغنون والحَوذان،
بين هندباء البَر ورَتَم المكانس،
بين أذن الفأر وصَرِيمة الجَدي،

•••

كما بين زُرقة وغيوم،
بين كومة قَش وسماء حين الغروب،
بين شجرة سنديان وسطح مائل،

•••

هناك وجَدتُني. هناك كنت.
كنت بالمكان وكان المكان بي.

الأماكن هي التي تشكِّل البشَر. وكذلك الطيور. في مايو، في أحواض تربية الأسماك بمتنزه هورتوباجي الوطني شرق المجر، لا تكاد تخلو مَقصبة من ذكَر هازجة قصب كبيرة يصدح عن نفسه ومكان معيشته. سمعتُ أصواتها هناك في ربيعٍ ما في منتصف ثمانينيات القرن العشرين في عهد الشيوعية حين كان أزيز الطائرات الحربية السوفييتية التي تشق عنان السماء يطغى على صخبها مرةً كل ساعة؛ وسمعتُها في ربيع آخر، تلا الأول بثلاثين عامًا، في المكان نفسه، بعد أن أُزيلَت لافتة عليها سمكة شبوط فضي طولها متر تقفز نحو جَمَّة حمراء مُفضَّضة من فوق بوابة الدخول إلى مزرعة الأسماك التي كانت يومًا ما مملوكة للدولة. لم يختلف صوتُ أغرودتها في الاتحاد الأوروبي عنه في دول حِلف وارسو. ولكن مع أن الطيور كانت تتغنَّى بها هناك، وتعتزم أيضًا الإتيان بذريتها هناك، ثَمة مكان آخر في الأغلب هو الذي شكَّل الأغرودة.

عند النظر إلى هوازج القصب الكبيرة، نجد أنها تبدو نُسخًا مُكبَّرة وثقيلة الحركة من هوازج القصب الأخرى. أغرودتها أيضًا مُعظَّمة ومُغلَّظة مثلها. فهي تصيح «آك، آك» فيما حولها، فتصنع ضوضاءَ حانقة، مبحوحة جشَّاء، مثل دمدمة مُولِّد أو مضخَّة قديمة. حتى بعد مدة من توصيلها وتشغيلها، يكون صوتُها كما لو أنها لا تنفك تبدأ العمل من جديد. لم أسمع تغريدَ إحداها منذ أن ارتديتُ سمَّاعة أُذن، لكن في معظم الأيام التي أقضيها في الهواء الطلق، تذكِّرني خشخشةُ صوتِ الهواء المشوِّشة التي تستنفد القدرات الديناميكية لسماعتي بذلك الطائر المُغرِّد.

آخِر طائر منها سَمِعتُه كان في منطقةِ تَشْتيَته في جنوب زامبيا. كان ذكرًا انطلق مثل قذيفة من كومة من الشجيرات القصيرة في حقل مُعشِب مهجور بالقرب من بستان أشجار جوافة. لطالما عُرِف عن هوازج القصب أنها تُغرِّد في مآويها التي لا تتكاثر فيها، وافتُرض أنها تدافع عن حدود منطقتها بذلك. بإخلاص تعود إلى الرقعة نفسِها، التي عادةً ما تكون في سهل عُشبي، بعد أن تكون قد أتمَّت تكاثرها الصيفي في الأراضي الرطبة في أرجاء أوروبا (مع أنها غائبة عن الجزر البريطانية). تتذكَّر كلير، التي تقصد تلك المزرعة القريبة من بلدة تشوما في زامبيا لأغراضٍ خاصة بها تتعلق بالطيور، أنها كانت تسمع طائرًا صدَّاحًا خلف حانةٍ للمأكولات الخفيفة على الطريق المؤدي إلى البلدة. ظلَّ الطائرُ يغرِّد عامًا بعد عام حتى سكَنَت الشجرة في فصل معيَّن، وكان ذلك فيما يبدو بسبب موت المغرِّد الذي كان عادةً ما يعود إليها.

درست مارجوري سورنسن هوازجَ القصب الكبيرة في تشوما، وتساءلت إن كان التغريدُ يكلِّفها ثمنًا باهظًا فلِمَ تستمر في بثِّ شكواها في تلك الأشجار، في فصلٍ يُفترَض أنه فصل خمولها أو توقُّف نشاطها؟ اختبرت صحة ثلاث فرضيات تتعلَّق بالفصول، متسائلة إن كان ارتفاع معدل التيستسترون هو ما يحفِّزها على التغريد شتاءً (استعدادًا لموسم تكاثرها في أوروبا)، وما إن كان تغريدها ذلك يسمح لها بالدفاع عن المناطق التي لا تتكاثر فيها في زامبيا (كما اعتقد باحثون سابقون في مجال الطيور)، أم كان بمثابة تمرين على موسم تكاثرها التالي في أوروبا. بالتعاون مع كلير وسوزان جيني-إيرمان، رجَّحت البيانات التي جمعتها مارجوري الفَرضية الأخيرة. صُداحُ الهوازج المتحشرِج الأجشُّ ما هو إلا تمرينٌ لها على التزاوج في الربيع القادم.

كان ثَمة اكتشاف آخر. تتميَّز هوازج القصب الكبيرة بأنها فريدة في مراحل تغيير ريشها. أثناء رِحلاتها الخريفية من أوروبا إلى أفريقيا، تتوقَّف لمدة ما بين شهرين وثلاثة أشهُر كي تطرح ريشها الذي تُحلِّق به وينمو ريشها قبل أن تستكمل طريقها إلى مراقدها الشتوية النهائية الأبعد جنوبًا؛ حيث تكتمل عملية تغيير الريش. ما تفتأ أعداد محطات التوقُّف المكتشفة للطيور المغردة المهاجرة تزداد. تبدِّل طيورٌ أخرى ريشها جزئيًّا مثل هوازج السُّعد وهوازج البطائح والهوازج الزيتونية في رِحلاتٍ متقطعة باتجاه الجنوب.

المكان الذي نما فيه الريش الجديد لتلك الطيور يكون مسجَّلًا في الريش نفسِه. فالأرضُ تُثبِت وجودها وتتحدَّث عن نفسها بطريقة مختلفة في كل متر مربَّع منها، وفي كل رقعة فيها. الآن بدأنا نتعلَّم — بتحليل التراكيب المعدنية والنظائر المستقرة — كيف نفكُّ شفرة تلك الآثار المميِّزة أو الفارقة. ذلك حيث لا تتشابه تربةٌ تنمو فيها شجيرة تقتات منها يرقة تبتلعها هازجة مع غيرها. تمتصُّ الطيور النظائر من غذائها وتخزِّنها في ريشها. ومن خلال الريش يمكن التعرُّف على الطيور. يظل الريش معها حوالَي عام، ومن ثَم فإنها تسافر حاملةً تلك العلامات. معرفة المكان الذي تكوَّنت فيه كسوة الطائر من شأنه أن يوضِّح التأثيرات التي انتقلت معه من ظروفٍ سابقة مرَّت عليه في حياته. سيظهر هطولُ الأمطار في الوادي المُتصدِّع الإثيوبي في مراقد القصب ببرك الأسماك شرقيَّ أوروبا. تأتي هوازج القصب الكبيرة التي تطرح ريش طيرانها في إثيوبيا وينمو ريشها الجديد هناك إلى زامبيا في وقتٍ لاحق من شتائها حاملةً معها شيئًا دُوِّن في أجسادها في إثيوبيا. في بساتين أشجار الجوافة، يستكمل ريشها نموه. ثم تحمل معها شيئًا من زامبيا، كما من إثيوبيا، إلى متنزه هورتوباجي في المجر. ستَكتسي فِراخها بريش مَجَري حتى تكتسب هي أيضًا الطابعَ الأفريقي على مدار شهور عمرها وسنواته.

الأماكن محفورة ومسجَّلة فيها.

يساعدنا تحليل النظائر على رؤيةِ زمن سابق وأماكن أخرى. عند دائرة ٦٢ درجة شَمال خط الاستواء في السويد، كان الجليد في العصر الجليدي الأخير سميكًا للغاية. وظلَّ متماسكًا هناك بعد أن ذابَ عن جنوبه وعن شَماله. استعمرت هوازجُ الصفصاف — التي تغرِّد هي أيضًا في تشوما أثناء فترة تَشْتيَتها — مناطقَ جديدة للتكاثر حول الجليد: اتجهت المجموعة القادمة من الجنوب الغربي إلى جنوب المنطقة التي استمرت فيها ظروف العصر الجليدي، فيما اتجهت المجموعة الأخرى إلى الشَّمال قادمةً من الشرق. فرَّق الجليدُ شَمْل هذين النُّويعَين. وعندما ذابَ، اجتمعَ شملُهما، لكنهما احتفظَا منذ ذلك الحين باختلافاتٍ تشريحية (يمكن تمييز كلٍّ منهما بواسطة الحمض النووي) ومسارَي الهجرة المختلفَين ومناطق التشتية المختلفة (وهو ما يخبرنا به تحليلُ النظائر في ريشها الذي يحدِّد منطقتَي تبديل ريشهما اللتَين تفصل بينهما مسافةٌ كبيرة): الطيور القادمة من جنوب السويد تتحرك باتجاه الجنوب الغربي عبْر أيبيريا كي تقضي الشتاء في غرب أفريقيا؛ والطيور القادمة من شَمال السويد تتحرَّك عبر جنوب شرق أوروبا كي تقضي الشتاء في جنوب شرق أفريقيا. بطريقةٍ ما لا يزال الجليد الذي لم يَعُد له وجودٌ الآن يشكِّل حيوات تلك الطيور لنِصف العام، أما نِصفه الآخر فتُتابع فيه طريقها إلى ديارها في المنطقتَين اللتَين تفصلهما مسافةٌ كبيرة من أفريقيا واللتَين كانتا مَنشأ النوع منذ آلاف السنين.٢

•••

أخذتُ معي كتاب شيموس هيني الذي يتضمَّن قصيدته «عُشبي» إلى بيلاهي وقرأتُه هناك. هناك أدركتُ أنَّ الأبياتَ التي يتحدَّث فيها في القصيدة عن رغبته في تسجيل صوتِ خطواته على العُشب الرطب لأحد الحقول مستوحاةٌ من مكانٍ قريب.

في بيلاهي، تحوَّل المنزل الذي بُنيَ في الحِقبة الزراعية في عشرينيات القرن السابع عشر بغرض الهيمنة على المشهد وترسيخ الحكم الإنجليزي، إلى متحف تاريخ محلي. يعرض المتحف فيلمًا يصوِّر هيني وهو يسير منتعِلًا حذاءً مطاطيًّا طويلَ الرقبة عبْر حقول ممر «ذا ستراند»، لقاء جزيرة كاستل، عند بحيرة «لو بيج» خارج حدود بيلاهي. شاهدتُه في مطاردتي الثانية لِطَيفه. يصِف هيني أثناء سيره الأنفُسَ الثلاث والأزمنةَ الثلاثة التي يستشعرها في بيلاهي: زمن حُلم ونفسٌ حالمة؛ زمن تاريخي ونفس مشبَعة بالتاريخ؛ وزمن سيرة ذاتية يتمثل في نفسه هو وسنوات حياته.

استقللنا سيارةَ أجرة إلى البحيرة التي صُوِّر فيها فيلم هيني، والتي تقف شائبة الرأس وسط الأعشاب المستنقعية. كنا هناك في منتصف شهر يونيو. اضطُررنا إلى أن نبطئ بسيارتنا لأجل جرَّارٍ يجرُّ مقطورةً مُحمَّلة عن آخرها بعلف متخمِّر حُزَّ حديثًا. وبينما هي تسلك منعطَفًا، انشق جبلٌ أخضر بحجم ثلاجة من أعلى الكومة المكدَّسة وانزلقَ إلى جانبها. كان العشب المقطوع قاتمًا وتقطر منه عصارة وكأنه ينزف. لم تكد تمرُّ سوى بضع دقائق على حصاده، لكنه بدا قديمًا جدًّا؛ فكان مثل فحمٍ تكسوه لمعةٌ خضراء. في الحقول التي جُمِع محصولها، كان السماد العضوي يُنثَر على بقاياه لزراعة محصول آخر. وفي تلك الحالة يكون حصادٌ ثانٍ وغالبًا ثالث ممكنًا. في المواضع التي قُطِع فيها العشب، ظهرت التربة العضوية السوداء تحت الجُذامة الخضراء، وكانت لطخات السماد العضوي الأسود — بقايا عشب تغوَّطته بقرة — منثورة فوقها في أكوام. كلُّ حقل لم يكن قد جُزَّ عشبه وسُمِّد كان يعجُّ بالأبقار الحية، التي خفَّضت رءوسها كي تلتهم الزرع الأخضر بشراهة.

قال نُوِيل سائق السيارة الأجرة: «ستفوح الرائحة في الأرجاء.»

لم أرَ السُّنونوات على سجيتها بقدرِ ما تكون في الرقعة التي أسكنها من أوروبا. حول مَزارع الألبان، لم تخلُ رقعة في السماء منها. رأيتُها تطير داخلةً الحظائر القديمة وخارجةً من الجديدة، تختفي في ظلمات متنوعة — وراء فتحات أبواب ونوافذ — ثم تنطلق خارجةً منها إلى الهواء الطلق. شاهدتُها للمرة الثانية على طريق لاجانس. كان عددُها وفيرًا في بيلاهي. في مكتبةٍ خلَت من النوافذ في مبنى مركز مسقط رأس هيني الجديد، تحدَّثنا عن الأماكن وصناعة الأماكن والنعم التي تفيض بها السُّنونوات على أماكننا حين تعشِّش بها. لمَّا كان المبنى حديثًا جدًّا بالنسبة إليها، لم تكن قد اشترت لنفسها مكانًا فيه بعد، لكن بعض الطيور كانت تقيِّمه؛ هكذا يبدو أنها تفعل أثناء تحليقها؛ إذ توحي بأخذِ القياسات والتفصيل والحياكة وفرد الأقمشة. كانت تلك آخِرَ طيورٍ أراها خارج المركز قبل أن نبدأ حديثنا، وأولَ طيورٍ أراها بعد أن أنهيناه. لاحقًا، راقبتُها في ضوء الغسق في بلدة ماجرفلت تحوم فوق مطعم «تشرش ستريت لاونج»، وبمركز علاج آلام الظهر بمقاطعة ميد أولستر. رأيتُها كذلك صباح اليوم التالي أثناء مغادرتنا، تغطِس في الهواء وتنجرف بغتةً، تتفرَّق وتُرفرِف، فوق متجرٍ متعددِ الأقسام في قرية كاسل-داوسن يعرض «ستائر مُعتِمة وأحذية ومعدات صيد أسماك عالية الجودة». كما هو الحال دومًا، كان من الجيد الوجود في حضرة حيويتها التي عمَّت كلَّ شيء وكلَّ مكان.

في زيارتي الثانية تلك، وجدتُ أنَّ قبر هيني في مقبرة كنيسة سانت ماري لم يعُدْ مجرد قطعةِ أرض جرداء كما كان في السابق. نُصِب له الآن شاهدٌ بخلافِ ما رأيتُه من قبل. يحمل الشاهد اسمه وحدَه؛ فيما يرقُد الجثمان في زاويةٍ بالقرب من سور المقبرة، تظلِّله جزئيًّا شجرة مُران وشجرة دُلْب وسياجٌ من شجيرات السنط، يستند إلى أحجار السور من طرف حقل وعْر وراءه. وهذا هو أبعَدُ مكان عن الكنيسة يمكن أن يُدفَن أحد فيه.

قال الرجل الذي كان واقفًا عند السياج، والذي عرضَ لنا الفيلم: «كان ملحِدًا.»

أمطرت السماءُ مطرًا خفيفًا أثناء وجودنا هناك. سقطت حبوب شجرة الدُّلب — التي لا تزال خضراء — على القبر في حركة مغزلية. وحلَّقت طيور السُّنونو على ارتفاعٍ منخفض وحطَّت فوق المقابر وراحت تنقر الأشجارَ باحثةً عن الحشرات التي طرحتها قطرات المطر. تناثرت زخَّات المطر فوق شاهد القبر المصنوع من الأردواز غير المصقول، بينما اكتسى الحاجز الحجري الرمادي المنخفض الذي يحدُّ القبر والجثمان الراقد تحته ببُقعٍ سوداء.

أما المرقد نفسه فمفروش بالحصى. هذه إحدى الممارسات الجنائزية الشائعة، لكن الكلمات الوحيدة المكتوبة على شاهد القبر — بخلاف اسم هيني وتاريخَي ميلاده ووفاته — تَلفِت أنظارنا إليها. فوق الحصى تمامًا، وعلى مستوى الكاحل عند قاعدة شاهد القبر، سُطرَت العِبارة التالية: «سِرْ على الهواء وإن خالفت عقلك.» ربما تبدو الكلمات نسخةً من رهان باسكال، لا سيَّما بالنسبة إلى مُلحِد مدفون على حدود مقبرة. ربما «الجنة» موجودة؟ لكن مثل العديد من أبيات قصائد هيني، ترُدُّ الكلمات المحفورة على شاهد قبره على نفسِها وتحذِّر من أي تفسير لها بمنأًى عن سائر الأبيات. فهي تنطوي على معارضة وتسليم في آنٍ واحد: آمِنْ رغم تشكُّكك، وغامِرْ رغم حذرِك، اترك مكانك وامضِ قُدمًا رغم عِلمك بأنك تنتمي إليه بالفعل.

يقول هيني في قصيدةٍ أخرى إنه استغرق وقتًا طويلًا حتى يصدِّق بالمعجزات، وحينها لم يكن يوقن قط بأنه ينبغي له. لطالما كان شِعره عميقًا مليئًا بالزخم، وكما قال كولريدج من قبل، هذا ما ينبغي لنا جميعًا؛ أن تبقى عقولنا حيةً في قلوبنا، أن ننظر في الأمور العقلانية دون التخلي عن الجانب الروحاني وحرية الفكر والخيال. يبدو ذلك كافيًا من منظور المنطق والواقع. لكن الكلمات المحفورة على شاهد القبر — التي تصوِّر الانتقال من حالة الجمود إلى التحليق في الآفاق الواسعة، حال اتباعها — تبغي الجمع بين محاسن النهجَين: أن يُفسَح المجال للإيمان المتشكِّك فيما تسمو على نحوٍ ملكوتي بغاية (هي الآخرة) فوق كلمات — مكتوبة على قبر — وكأنه أقرب ما يكون لفكرة ملائكية مبتذَلة.

بيدَ أن الحصى يعيدنا إلى الأرض. الحصى المفروش تحت النص يبدو أكثر جمودًا؛ فهو المادة التي نسير عليها أكثرَ مما نسير على الهواء، والبيتُ الشعري يتبيَّن معناه بين أبيات القصيدة التي أُخِذ منها أكثرَ مما يتبيَّن منقوشًا على شاهد القبر: الأجحارُ في قصيدة «الحصى يمشي» (المنشورة في ديوان «مستوى الروح»، ١٩٩٦) جامدةٌ بقدرِ ما يجب أن تكون. منطقة بيلاهي غنية بالرمال الناعمة والحصى واستُخرج الكثير من طبقات الأديم المحلية: «حبَّات من الحصى بلون السكر المحروق وحبات البَرَد وأسماك الماكريل الزرقاء … هي كما الدرر في أعيُن المتحررين من الوهم. كمَني الأرض.» تمتدح القصيدة حركةَ تلك الأحجار — الصخور التي تسافر، والحصى السائر — وصوت انسحاقها وخشخشتها، وصلاحيتها لأن تكون مادة خامًا، مثل الأزهار التي تحفُّ الطريقَ في قصيدة «عُشبي». لكن على غِرار ما فعله هيني مع الأزهار (وعلى غِرار ما يفعل في العديد من قصائده)، تحمل القصيدة معنًى إضافيًّا، حشدًا أو تجميعًا، لمكانٍ وطبيعته وسُكانه، حشدًا يتمسك بشدة بالتفاصيل لكنه ينشرها بعيدًا (إنه محكوم هنا بقافية ومقدَّم باعتباره فكرةً مكتمِلة وإن كانت متناقضة — مِلاط متحرك):

لذا، سِرْ على الهواء وإنْ خالفت عقلك،
ولْتجعل نفسَك في مكانٍ وسط بين
تلك الرُّقع الصلدة المخلوطة بالمِلاط الرمادي.
وأغنية تُدعى «الحصى يمشي» تستحضر النَّبت الأخضر النضير.
«الحصى يمشي» هو اسم لرقصة أيرلندية مبهِجة. إنه يمشي ويتحدث. ويتدفق. تلتقي نهايته ببدايته. إنه مفعم بالحياة. ينمو. ويتنقل من مكان لآخر، ولا حاجة له لأن يتوقف أبدًا.٣

•••

يقول هيني في كتاب «حصى الطرقات»: «القصيدة الجيدة هي التي تتركك وأنت تعانق عَنان السماء». سجَّلتُ معه ذات مرة لقاءً إذاعيًّا ألقى فيه أحد أشعاره عبْر خط هاتفي من استوديو في دبلِن. عبر الأثير، جاءني صوتُه وحدَه ولا شيءَ سِواه — وإنْ كان الأمر لا يستدعي أكثر من ذلك — جاءني هادئًا ولكن قوي، من تحت البحر الأيرلندي إلى حيث كنت أجلس في حجيرةٍ لا نوافذ لها في بريستول. قبل أن نبدأ، طلبتُ إليه أن يبتعد قليلًا عن ميكروفونه كي يتلاشى صوت التشويش المصاحب لكلامه. عدا ذلك لم نتكلم كثيرًا. ألقى هو شعره وسجَّلتُ أنا، مصغيًا إلى قصائده التي فاضت إلى أُذنيَّ. كنت أعرفُها بصوته بالفعل. فبمجرد أن تسمع قصائده، تجد أنها لا تتحدَّث إلا بصوته، حتى وهي تستقرُّ هادئة على صفحات كتبه. لا تزال كتبه حتى يومنا هذا، وبعد وفاته، كتبًا ناطقة تتحدَّث.

قرأ بعضًا من قصائده عن جثث المستنقعات، «رجل تولوند» وغيرها. كان وقعُها كئيبًا بحق، وكان إلقاؤه سليمًا لا تشوبه شائبة، وانتهينا بعد خمس عشرة دقيقة. التقيتُه في لقاءٍ آخر، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي التقتْ عيناي بعينيه. كان يشرَع في إلقاء قصيدة له في إحدى الفعاليات التي أُقيمَت في المكتبة البريطانية حين بدأ هاتفي المحمول يرن. رفعَ عينيه إلى حيث كنت أقف بين الحضور وأنا أحاول إسكاته فاحمرَّ وجهي خجلًا. كانت القصيدة حسبما أظن هي «قطار الأنفاق»، وهي إحدى قصيدتَين ألقاهما إبَّان تسلُّمه جائزة ديفيد كوهن للأدب في مطلع ربيع عام ٢٠٠٩. تحمل القصيدة طابعًا أورفيوسيًّا يتعلَّق بالعالَم السفلي: يسترجع هيني ذكرى شهر العسل الذي قضاه في لندن وتأخُّره هو وعروسه الجديدة عن حفل موسيقي، ونزولهما من قطار الأنفاق وهرولتهما نحو صوت الموسيقى في قاعة ألبرت. أثناء هرولتهما، انقطعت أزرار المِعطف الذي ترتديه ماري وطارت عنه. ثم لاحقًا، في «اللحظة الراهنة»، يعود إلى محطة الأنفاق وحدَه، في أجواءٍ أكثر قتامة، ويُعِيد اقتفاءَ خطواتهما، مُتمنيًا مثل أورفيوس لو كانت زوجته ما تزال معه، ويرغب في إبقائها معه لكنه لا يجرؤ على الالتفات وراءه.

منذ فترة، أُقيمَ مَعرِض لشيموس هيني في متحف بيلاجي بون. يظل الفيلم الذي شاهدناه هناك مادةً وثائقية قيِّمة، إلا أن أغراضًا أخرى قد نُقِلَت إلى الجانب الآخر من البلدة حيث مُستقَر هيني الجديد في مركز شيموس هيني الأدبي والفني. هناك، بين التذكارات، يوجد مكتب هيني وحقيبته التي كان يستخدمها وهو معلمٌ في سنوات عمله الأولى. يحتفظ المركز أيضًا بمِعطفه الثقيل ذي اللون البُني الشاحب. يتدلَّى المعطفُ على مِشجبه فارغًا فيَبدو طافيًا في الهواء المحبوس داخل صندوقِ عرضٍ ذي واجهة شفَّافة. رأيتُ ثوبَ إيميلي ديكنسون الأبيض الشاحب في حالٍ مُشابِهة في حجرتها بالطابق العلوي في متحف هومستيد بمدينة أمريست، في ولاية ماستشوستس. لكن مِعطف هيني بنسيجه الصوفي الغليظ وأزراره المسمارية وعراويه المعقودة بدا لي أكثرَ تعاسة، وهو معلَّق في الهواء ومدفون بعيدًا عن الضوء، معطف إنسان ميت، أُعيدَ في منتصف الطريق إلى دياره، لكنه لم يَبلُغها.

•••

بينما كنت أفتِّش في المقبرة في بيلاهي، محاولًا معرفةَ القصيدةِ المأخوذِ منها بيتُ الشعر المكتوب على شاهد قبر هيني، سقطت ورقة من أحد كتبي. كانت قصاصة من مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» تعود إلى عام ٢٠٠٤ احتفظتُ بها مطويةً بين طيات كتاب «سلسلة بشرية». نَشر فيها هيني قصيدةً في ذكرى الشاعر تشيسلاف ميوش (الذي تُوفِّي ذلك العام) مأخوذة من نهاية مسرحية «أوديب في كولونوس» لسوفوكليس. تدور قصيدة «ما جرى في كولونوس» حول رحيل حتمي إلى العالم السفلي: طقس أخير في أوان النضج. في نهاية حياته، بعد أن ترك جرائمَ عائلته وراءه، كان على أوديب الذي أُصيبَ بالعمى أن يغادر عالَم النور إلى عالَم الظلام الأكثر عمًى. فقد دُعِي إليه، وعليه أن يلبِّي الدعوة لينزل عائدًا إلى الأرض حيث يتدفَّق الماءُ إلى باطن الأرض كماءِ ينبوعٍ يسير في اتجاه عكسي، ومثلما يتدفَّق الماء إلى داخل بالوعة أو مثلما ينجرف ماءُ نهر أو مجرًى مائي في أحد الشقوق أو الحُفر الانهدامية. يُودِّع أوديب الأحياءَ ويخطو إلى أسفل المنحدر، داخلًا قبره بقدمَيه. يستخدم هيني سماتٍ جغرافيةً حيوية أو مؤثرة لدرجةٍ بالغة وهو يصِف بداية تلك الرحلة.٤
سار إلى حيث يتدفَّق المجرى إلى باطن الأرض،
إلى حيث تؤدي ضِفة شديدة الانحدار مرصوفة بالحجارة،
إلى عتبة في الدكة الترابية.
وهناك وقف، يدرس خطوته التالية،
بين نُصب حجري ولوح رخامي
يحمل أسماءَ شهداء حروبنا الأخيرة.
استحضرَ ذهني حروبًا وكلماتٍ أخرى،
ونظرة أخرى أخيرة على الأرض.
«الطرق وهي تلمع بعد المطر»
«مثل أنهار تجري صعودًا» — ولهذا، لم يسعني إلا
أن أبكيَه في وَحْدته.

الأبيات المُستدعاة (الموضوعة بين علامتَي اقتباس) التي أضافها هيني إلى نص سوفوكليس هي من بين الكلمات الأخيرة التي دوَّنها الشاعر إدوارد توماس في دفتر ملاحظات قبل أن يسقط صريعًا في معركة أراس في أبريل عام ١٩١٧.

إنَّ الكيفية التي بها يميِّز ما يكمُن في باطن الأرض ما يحيا على ظاهرها ويحدِّده هو موضوعٌ متكرر في أعمال هيني. كانت سبل النزول إلى أسفل وسبل العودة إلى أعلى موضوعًا يُعاد ويُزاد أبدًا، بدايةً من قصيدة «الحَفْر» المُستمَدَّة من التربة، وهي أول قصيدة في كتابه الأول (الذي نُشِر في ١٩ مايو عام ١٩٦٦)، وانتهاءً بآخِر كلمات خطَّها قلمُه. يعود تاريخ كتابة آخِر قصيدة في كتابه «قصائد مُختارة جديدة» إلى ١٨ أغسطس ٢٠١٣ (تُوفِّي بعد اثنَي عشر يومًا من ذلك التاريخ)، وكان قد كتبها لأجل حفيدة صغيرة له. في قصيدة «في الأوان»، يتصوَّر هيني حفيدته وقد صارت امرأة ناضجة بعد أن يكون قد رحل عن الدنيا، بينما «في الوقت الحالي» يتهادى رجلٌ عجوز وطفلة صغيرة لم تتعلَّم المشي بعدُ على أنغام الموسيقى في ساحة رقص ﺑ «إيقاع متزامن» وفي تناغم مع الأرض: «نخطو عليها برفق/بإيقاع سليم ودون صوت.»

•••

ذكرَ ابن هيني في جنازته أن آخِر كلمات كتبَها والدُه كانت رسالة نصية أرسلها إلى زوجته قُبيل دقائق من وفاته، وفيما كان يُهيأ لإجراء عملية جِراحية له في المستشفى. كتبَ يقول لها «نولي تيميري»، وهي كلمة لاتينية معناها «لا تخافي». وهي كلماتٌ مأخوذة من إنجيل متَّى (١٤‏ : ٢٧) في نسخة فولغاتا من الكتاب المقدَّس. ينظر تلاميذ المسيح بينما هم على متن قارب وسط عاصفة، فيَرونه يسير على الماء تجاههم. يحسبونه طَيفًا، لكنه يخبرهم بأنه الرجل الذي يعرفونه ويُطمئنهم.

لو كان بوسعه أن يسير على الماء، لربما استطاعوا هم أن يسيروا على الهواء.

زُرنا بُحيرة لو بيج قبيل منتصف العام بقليل متتبعين «المسار الوعْر» المذكور في قصيدة هيني، وهناك وجدنا ستة من طيور بُقْوَيقة المهاجرة السوداء الذنَب والمكتسية بريشها الصيفي في الأجزاء الضحلة من النهر. كانت تخوض حتى خَصرها في الماء، تقتات من وحلٍ خفي بغمس رأسها في ماء البحيرة. هل كانت تلك الطيور ذات اللون الأحمر القرميدي ما زالت في طريقها نحو الشَّمال عازمةً على التكاثر، أم إنها بالفعل اتجهت جنوبًا بعد أن فشلت في مهمتها؟ على أي حال، بدت حين رأيناها هناك يغمرها الماء حتى نصفها، وكأنما توقَّفت أو خُلِّفت أو خرجت من نطاق الزمن. كان يَصعُب الجزم بحالة تلك الكائنات في ذلك الوقت من العام الذي ترجُح فيه كِفَّة الخريف على كِفَّة الربيع، كِفَّة فصل الأفول على كِفَّة فصل الازدهار. الزمن موجود في كل شيء حي، لكن بعض صور الحياة تبدو خارج نطاقه. هكذا بدت طيور البُقْوَيقة نصفُ المغمورة في الماء. لكن أثناء سيرنا إلى البحيرة ومنها، كانت قنابر الحقول تساير الزمن فوقنا، «تثابر»، وتغرِّد عبر مساحات شاسعة من السماء المشبعة ببخار الماء فوق مساحاتٍ شاسعة من العُشب المرطَّب بالندى. وبينهما، بين الهواء الرطب والأرض الندِيَّة، كان شنقب يصعد ويهبط مثل صاروخ صغير بُني بلون السُّعد يطوِّحه الهواء.

هاينام

٥٢ درجة شَمالًا

٢٤ أبريل. مقاطعة جلوسترشير: في الغابة هنا، فقسَ ذكرُ سُمْنة مغرِّدة خارجًا من بيضته ونبتَ ريشُه وكَبُر. في أسابيعه الأولى، أصغى لكل الموسيقى التي التقطَتها أُذناه. في الشتاء، جاهَد للبقاء بين الأشجار العارية في صمت — إلا من صوت «سييب» يصدر عنه كل حين وآخر. في الربيع التالي، قبل أن تورق الأشجار، ظلَّ ضوءُ النهار يلفع رأسَه حتى جعله يفتح منقاره في مارس كما لم يفعل من قبل ويغرِّد لأول مرة في حياته. كانت أغرودته هي أغرودة أبيه من قبله — سمع الابن أباه يغرِّد فأخذ عنه نغماته — إلا أنها كانت أيضًا أغرودته الخاصة التي شكَّلت نبراتُها أصواتًا أخرى عاشَ بينها. فتَّش داخل نفسه، فأخرجَ موسيقى كانت في أغلبها موسيقى السُّمنة المغردة، لكن كان يتخللها في بعض الأحيان ازدراد، كازدراد العندليب، سمعَه السُّمنة في شهر مايو الماضي. في أبريل، زخرت الغابة بأصوات الأغاريد الأخرى والحشرات وأوراق الأشجار. في إحدى الليالي، هبط من السماء ذكرُ عندليب يحفظ ظلال الغابة أسفله عن ظهر قلب؛ إذ فقأ بيضته فيها هو كذلك، وبدأ يُنشد أغرودته كي يميز مكانه ويغري أيَّ أنثى كانت تتبعه في الظلام. في الوقت الذي لَزِم السُّمنة فيه تلك الأشجار، كان العندليب قد اجتاز منتصف الكرة الأرضية عند خط الاستواء. ومع بزوغ أول شعاع من ضوء النهار، وفيما واصلَ العندليبُ تغريده، سمعَ السُّمنة المغرِّد يعيد على مسامعه أغرودتَه. تلك المحاكاة الصوتية، ذلك التقليد، لم يَعنِ له شيئًا على الأرجح — إذ ظلَّ العندليب في مكانه وواصل التغريد دون تغيير أغنيَّتِه — لكني أنا أيضًا سمعتُ كلا المغردَين وكلتا الأغرودتَين، وفيما كنت أحاول فَهْم ما يحدث استشعرتُ كيف ينبسط الزمن من حولي في الغابة وكيف يعود الماضي راكضًا، عبر المسار بين الأشجار، وكيف يتبدى بجِلاءٍ ووضوح كتلك الانفلاجات التي تُحدِثها الطيور المغردة في نسيم الصباح.

روودووتر

٥١ درجة شَمالًا

٢٨ أبريل. سِرتُ مع تيس ابنة عمومتي لساعة بعدما خرجنا من منزلها الذي يقع في طرَف وادٍ أخضر على أطراف منطقة أكسمور. لم نسلك دربًا في وسط الطبيعة — كنا نتحدَّث، في الأغلب عن أبوَي كلٍّ منا المُسنَّين، الذين يتشبَّث كلٌّ منهم بحياته في مكانٍ قريب — لكن حينما كنا نسير في المسارات بين الحقول والممرات ذات الضِّفتَين العاليتَين، كنا نتعلم أمورًا عن الزهور. تفوقني تيس في معرفتها الأزهارَ، فأخذت تشير إلى أسماء الأزهار التي مررنا بها: الجريس، والشنجار الأخضر، واللاميون الخوذي، وأعشاب النجمية الكبرى (نجم بيت لحم)، وبعض السحلبيات الأرجوانية البكر بجانب بعض اللُّخنيس الأحمر، والعُقرُبان، وبعض البيقيات ونبتة صغيرة ذات أوراق دائرية مكتنزة على ضِفة مُشربة بالماء تعرف تيس أنها من نوع نبات سرة الأرض العُشبي المعمر، والحماض البري الذي تذوقناه لأجل مذاقه الذي يشبه مذاق التفاح. أما أنا، فتوليت الإشارةَ إلى أسماء الطيور: ثلاثة سُنونوات، أربعة شفشافات، وصوت زقزقة متتالية لخمسة وعشرين طائرًا من طيور أبو قلنسوة المغردة.

لم يكن ثَمة شيء مميَّز، لكنَّ كلَّ شيء كان حاضرًا في أوانه، وبينما كنا نسير بمحاذاتها وهي تغرِّد أو تتزايد، كانت تبعث فينا السعادة ذلك اليوم.

لهذا السبب، أُحبُّ أن أصطحب معي تقويم عالِم الطبيعة الذي دوَّنه ليونارد جينينز في منتصف القرن التاسع عشر في قرية مجاورة لمنزلي في كامبريدجشاير. غالبًا ما أحمله معي وأقرؤه مثل روزنامة. حلَمتُ بأني أغطي نفسي به وكأنه دِثار للعام. نوعًا تلو الآخر ويومًا تلو الآخر، سجَّل جينينز ما يغرِّد أو يُزهِر، أو يضع بيضه أو يثمر، إلخ. وعامًا تلو العام، كان يحسب التواريخ المتوسطة والأيام الأولى والأخيرة. تُعَد قائمتُه المطبوعة بمثابة خريطة زمنية: في أبرشية سوافام بولبيك حدث كذا ثم كذا — كلُّ ما يحدث لمئات الحيوانات والنباتات مذكور فيها. إنه الدليل الموثوق لرجلِ محبٍّ للطبيعة بحق.

عُرِض على جينينز (الذي كان يُدعى أيضًا بلومفيلد، وهو اسم على مُسمًّى) وظيفةُ عالِم طبيعة على متن السفينة «بيجل»، لكنه رشَّح تشارلز داروين لشغل تلك الوظيفة عوضًا عنه، فيما فضَّل هو أن يدرُس الطبيعة في مكان قريب من دياره. يبدو أيضًا أنه كان مُنتبِهًا للتزامن والوفرة في الطبيعة (وهي خبرة ربما تُلائم رحلةً إلى المناطق الاستوائية وما وراءها)؛ يوضح تقويمه أنه يفضِّل أن تحدث الأشياء متتابعة لا أن تحدث كلُّها في آنٍ واحد. في المدرسة، وقعَ في يد محب الطبيعة اليافع الشغوف كتابُ «التاريخ الطبيعي لسيلبورن» لمؤلِّفه جلبيرت وايت، وانبهر للغاية بحَذاقةِ ناظر الأبرشية العجوز حتى إنه نسخَ كتاب وايت بأسلوب الكتابة العادية لا الاختزال؛ خشيةَ ألا يراه أبدًا مرةً أخرى. لم يودَّ تفويت أيِّ شيء منه. وعدمُ تفويتِ أيِّ شيء — ملاحظة أن العالَم يمضي بمصاحبةِ المرء له في مُضيِّه — هي الرسالةُ الصادقة لقائمته الحصيفة. ولأن جينينز كان رجلَ دين إلى جانب كونه عالِمَ طبيعة، كان يرى أنَّ لكل شيء أوانَه. راقَتْه تلك الفكرة، وأرادَ أن يحيا بها، وبحثَ عن أدلة على صحتها وسجَّلها.

في قرية روودووتر، ثَمة كُشْك يبيع منتجاتٍ منزلية الصنع في زقاقٍ مسدودٍ آخره، يذهب عائدُ بيع منتجاته كلها إلى ملجأ للقطط. اشتريتُ شيئًا من ربيع العام الماضي: برطمان مربَّى توت العليق. وكان على برطمان مربى الدمسون ملصقٌ كُتِب عليه بخط اليد أنه «بالنوى». ولأن النوى يبهجني بقدرِ ما تفعل الثمرة، اشتريتُ ذلك أيضًا.

كاترام ودوليتش وبريستول

٥١ درجة شَمالًا

كنت أُحبُّ الحَرجلة وأنا طفلٌ صغير. كنت أحجِل على طول طريقٍ أو مسارٍ ما، دون حبل: أحجِل إلى المنزل مُستبِقًا والديَّ أو أحجِل في أنحاءِ ساحة اللعب في المدرسة كما لو كنتُ حصانًا. كنت أحجِل وأجِدُ في الحَجْل عفويةً شعرتُ بأنها أقربُ إلى حركة الحيوانات منها إلى أي حركة أخرى: وثبة إلى أعلى، سلسلة من الحركات الإيقاعية شبه الموسيقية يجوب المرءُ بها الأرض. كان الحَجْل بمثابة طريقة للرقص أثناء الركض، وكان سريعًا ويبعث على الدفء وغير مُتعِب. كان يبهجك ويضحكك أيضًا، أذكر أنه كان يُدغدِغني دومًا بطريقةٍ ما. ما زلتُ أتذكَّره كلما رأيتُ ظِباءً أو غزلانًا تستعرض بالوثب في الهواء رافعةً أقدامها الأربع في آنٍ واحد، وأستحضر الشعور الذي تغمرك به تلك المِشية المُنتشية التي تجعلك تنطلق إلى الأمام محمولًا على بساط الريح، وذكرى طفولتي ووجودي في أواني. بإمكانك أن ترى ذلك أيضًا في فاسلاف نيدجينسكي (لا يزال فيلمٌ له وهو يؤدي رقصة «شهرزاد» عام ١٩١٠ صامدًا).

•••

كان يَثِب إلى أعلى ويظل في الهواء لمدةٍ أطولَ من أي شخص آخر — قال: «ما أفعله ليس إلا أني أثِب ثم أتوقَّف.»

في بعض الأحيان، كانت تسمح الحصص المدرسية التي يُطبَّق فيها كتاب «الموسيقى والحركة والمحاكاة» بالحَجْل، لكنها قطُّ لم تكن كافية، ولم يكن مسموحًا لك بأن تنجرف خارج الصالة منطلقًا إلى العالَم الرحب. كما أنه كان محرجًا أيضًا؛ إذ أدركتُ منذ الأعوام الأولى من دراستي الابتدائية أنه ليس فعلًا صبيانيًّا (وبالمثل، ما لبثتُ أن عرفت أن الاسم الذي يستعمله الراشدون للُعبة الحَجْل والنط والقفز هو الوثبة الثلاثية؛ لأنه لا أحدَ يودُّ استخدام كلمة حَجْل). كانت الفتيات يُمارِسنه في ساحة اللعب وقد شبَّكَت كل فتاتَين أو ثلاث منهن أذرُعهن. لكن الصِّبيان لم يمارسوه. بل كان عليهم أن يقفوا وكتفُ كلٍّ منهم مُلاصِقة لكتف الآخر في كتيبة، وكأنهم يقفون وِقفةَ دفاع في مباراة رُجبي، ويهتفون لحشد المريدين: «مَن يريد أن يلعب لعبة الحرب؟» كانت الكلمة تقال بطريقةٍ ممدودة وبصوتٍ هادر لإضفاء الطابع العسكري: «الحاااارب!»

لكن لعبة سارية مايو كانت موجودة. كان لدينا واحدة في مدرستي الأولى ببلدة كاترام في مقاطعة سوري. كان الحَجْل جزءًا منها. كان أحد مظاهر التعبير الجائزة للابتهاج بالفَصل؛ فأنت تحجِل دائرًا حول السارية ممتلئًا ببهجة الربيع. لا، ما زال الحَجْل حقًّا مرتبطًا بالفتَيات لكنه كان جيدًا. تتحرك أنت ورفيقك مقتربًا ثم مبتعدًا، تحبُك الشريطَ الذي تمسك به المربوطَ طرفه بتاج الشجرة أو تجدِله، حتى يصير النسيج مُحكَمًا ويصبح مثل القفص أو العُش، ويسحبك أنت وجميعَ الراقصين إلى الداخل ناحية الجذع؛ حيث يتوقَّف الحَجْل. ثم تعيد الكَرَّة، في تناغم مع اللحن، ثم تحل الجديلة، فيكون شخصٌ آخر قد تأهَّب لأن يتسلَّم منك الشريط وهكذا مرةً بعد مرة.

لم يكن ثَمة الكثير من الحَجْل في المدرسة الثانوية. كان أقربُ شيء له هو ما حدث عام ١٩٧٢، حين شاركتُ وأنا في الحادية عشرة من عمري في باليه للصِّبيان لأداء نسخة من أوركسترا «طقوس الربيع». بعد مدرستي التي كانت بها سارية مايو، أُلحقتُ لمدة عامَين بمدرسة «دولويتش كولدج» الداخلية؛ حيث حدث أمران جيدان: جعل مولِّد فان دي جراف الموجود في مبنى العلوم شعرَ رأسي يقف وينتصب (كان في غير تلك المرة مقصوصًا قَصَّة قصيرة — تأديبية — لدرجة مُريعة، امتثالًا لقواعد المدرسة)؛ ورقصي على أنغام معزوفة «طقوس الربيع»، حين جنَّ جنون مجموعة من حوالَي عشرين صبيًّا منا من ذوي الأحد عشر ربيعًا. كانت المعزوفة من تأليف سترافينسكي. وبالنسبة إليَّ كان وقعُها أقرب إلى موسيقى الروك منه إلى موسيقى ذات طابع جنسي. كان لها إيقاع مميَّز ناشئ عن ضرب الأرض بقوة بباطن القدم. لكن خطوات الرقصة التي نفَّذناها كان مَن صمَّمها مدرسًا شابًّا تفوق معرفتُه معرفةَ راقصيه. كان يفترض أن نمثِّل قصة بيرسيفوني رقصًا. لا بد أن المشهد النهائي — أدَّيناها مرتَين فقط — كان يشبه مشاهدة فِتيان الجوقة يصدحون بعلو صوتهم في همجية دون معرفةِ ما استحوذ عليهم.

كما طُلِب مني، استعرتُ مِفْرَش سرير أرجوانيًّا داكنًا من أمي كي أرتديَه عباءةً أو حجابًا كان يُفترض في لحظةٍ أن أخرج منه أو أنبثق من داخله. في لحظة معيَّنة، كان علينا نحن، أرواح النَّبت الجديد المنبثِق من الأرض، أن نُخرِج شموعًا مضاءة من أسفل حُجبِنا؛ وكان يُفترض أن يتراقص ضوء الشعلات الصغيرة القوية لزهرة لبن أو زعفران أو بنفسج. اهتزَّت شمعتي وأنا أُخرجها فانسكبَ منها الشمعُ الساخن على ظهر يدي ولَسَعه قبل أن يتجمَّد عليه، وزاد الطين بِلَّةً أن اهتزَّت شعلتُها ثم انطفأت. فشلتُ فشلًا ذريعًا. لكن قبل أن يبلغ بي الحَنَق مَبلغه، تابعت الموسيقى وتغيَّر المشهد، وكان علينا أن نقرَع الأرض بأقدامنا. كان ذلك قبل أن تسجِّل بينا باوش وشركتها «تانتستياتر فوبيتال» براءةَ اختراع قرْع الأرض بالأقدام وتصنع نسختها من «طقوس الربيع» التي يصفق مؤدُّوها على أجسادهم ويتقاذفون بالوحل وهم مُرتدون ملابس النوم. أحببتُ ضربنا الأرض بقدمَينا في مدرسة «دوليتش»؛ فقد كان أقربَ شيء أفعله إلى الحَجْل منذ فترة؛ وحتى وأنا صبيٌّ في الحادية عشرة حرقَ الشمعُ يدَه أدركتُ قوةَ أغنية عن الأرض، لا سيَّما وأنا أضربُها بقدمَي.

بوهيميا

٤٩ درجة شَمالًا، لكن ليس …
كانت آخر مرة أقف فيها على خشبة المسرح، وقد حدث ذلك بالفعل،٥ عندما أدَّيتُ دور النبيل الأول في مسرحية «حكاية الشتاء» لشكسبير — وهي مسرحيته الأكثر ولعًا بالربيع — في إنتاج لها عام ١٩٧٧ في مدرستي الثانوية الثانية. كنت في السادسة عشرة حينها. كان دورًا صغيرًا، لكن جاء ذِكري في مقال نقدي نُشر في صحيفة المدرسة، كتبته معلِّمة اللغة الإنجليزية التي كانت تحظى بجُلِّ حُبي حتى لحظتها. كتبت تقول إنَّ أدائي كان ذا طابع جامد يخلو من المشاعر والتعابير، حتى إني حين ظهرتُ على المسرح تفشَّى في المسرحية برُمَّتها نوعٌ من العفن المسرحي.

كانت شخصيتي واحدة من بين ثلاث شخصيات لعبَت دور الراوي، واعتلت خشبة المسرح في المشهد الخامِس لربط حدث العثور على برديتا في بوهيميا ببعض تَبعات اكتشاف هويتها الحقيقية بوصفها ابنة الملك ليونيتز ملك صقلية. كان ثلاثتنا يؤدون وظيفةَ عناوين الصحف الرئيسية التي تظهر على الشاشة في تتابُع سريع ثم تحتل الشاشةَ للحظاتٍ تسمح بقراءتها، وهو تأثير سينمائي كان شائعًا في أفلام هوليوود قديمًا. الوقت يمرُّ، والقصة لا بد أن تُسرِع إلى نهايتها. وكان لا بد من تلخيصِ الأحداث الماضية كي يُفسَح المجال أمام الكشف الدرامي التالي على خشبة المسرح. حَظِي الزمنُ نفسُه بالفعل بدورٍ ثانوي أدَّته الجوقة في مسرحية «حكاية الشتاء»، لِيَطوي — كما لا يحدث أبدًا على أرض الواقع — ستة عشر عامًا (ربيعَ عُمر) أثناء مروره السريع بين الفصلَين الثالث والرابع. تحدَّثنا نحن الرُّواة كي نُسرِّع مُضيَّ بعض الدقائق الإضافية من زمن المسرحية.

أثناء مدة المشهد القصيرة، كنت أنا والمتحدِّث الثالث (الذي كان يؤدي دوره فينس لاولور) مصابَين بالزكام، ووقفنا على خشبة المسرح وألقينا جُملنا بينما تجمَّعت كراتٌ صغيرة من المخاط المائي ثم تأرجحت من أنفَينا قبل أن تسقط منهما. جاءت فتَياتٌ من مدرسة أخرى في مدينة بريستول ليؤدِّين الأدوار النسائية، فأوقدن الحماسة في غرفة تبديل الملابس، وأربَكن صِبيان مدرستنا الذين يؤدون الأدوار الرئيسية (أما نحن الرُّواة المزكومين فكنَّا نعرف قَدْرنا). عدا ذلك، كان إنتاج مسرحيتنا عاديًّا. ارتدينا سراويل ضيقة. وصُنِعَت لنا خصوصًا نعالٌ مقدمتُها مبرومة كالحلزون. وطُلِبَت بذلة على هيئة دب وبُذِل جهد هائل في الإخراج لجعل الدخول بها على خشبة المسرح غير هزلي قدْر الإمكان.

كانت جُملي تصِف جزءًا من نتائجِ ما كان أنتيجونوس يفعله في لحظة خروجه الشهير مطاردًا. كان اللورد الصِّقلي الكريم المسعى قد وضعَ طفلة العائلة الملكية الصقلية المنفية، التي لم تكن قد سُمِّيت برديتا بعد، على الأراضي البوهيمية عوضًا عن تنفيذ أوامر الملك ليونيتز بقتلها. وبجانبها، تركَ «رِزْمة» من الأوراق (المستندات الشخصية التي يفقدها العديد من اللاجئين أثناء رحلتهم)، التي تُثبِت هُويَّة الرضيعة — الابنة الشرعية للملك ليونيتز والملِكة هِيرمُيوني، وأنها ليست ابنة غير شرعية أنجبتها الملكة هِيرمُيوني سفاحًا من بوليكسينيز ملك بوهيميا، كما كان يعتقد ليونيتز الذي أعمَته الغَيرة. تنجو الرضيعة لكن أنتيجونيس لا ينجو. كلمات المتحدث الثالث كانت تشمل إذاعة الخبرِ المروِّع الصادم كما رسمَته الرواية: «مزَّقه دُبٌّ إربًا.»

كان حديثُنا نحن النبلاء أصحاب الأداء الجامد إلى حدٍّ ما يدور حول محور أو جوهر المسرحية التي تصوِّر محطاتٍ في حياة إنسان، والتي تصف أيضًا تحركات التغير السنوي. عثر راعي غنم عجوز على الرضيعة برديتا، فيما شهِدَ ابنُه، الذي كُنِّي بالفلَّاح (وهي لفظةٌ كانت تُطلَق قديمًا على الأشخاصِ ذوي الأوضاع الاجتماعية والتعليمية المتدنية)، هجومَ الدُّب المميت، وفي الوقت نفسِه غرَقَ سفينةِ أنتيجونيس الذي أزهقَ جميعَ الأرواح المسكينة على ساحل بحر بوهيميا (الشهير). يقول الأب لابنه: «لقيتَ أنت أشياءَ محتضرة، ولقيتُ أنا أشياء وليدة». ومنذ تلك اللحظة، عندما نقترب من منتصف الأحداث بالضبط (نسختي الصادرة عن دار «بينجوين» للنشر بها خمسون صفحة قبل هذا البيت، وخمسون صفحة بعده)، تتحول «حكاية الشتاء» إلى مسرحية عن الربيع وكيف يمكن أن تُولَد الحياةُ من رحم الموت. ذلك حيث تطلب إلى عالَمها، وعالَمنا، أن يعيد إحياء إيمانه بدورات التغيُّر في الطبيعة، بما فيها فهْم التعاقب البيئي الطبيعي — كيف أن الأزهارَ تعقبُ أزهارًا غيرها طوال الفَصل — والتصديق بأنه إن كان في وسع الأغصان الطاعنة في السن أن تُنبِت أوراقًا خضراء، فقد يجعل الحُب الحياةَ تدبُّ في تماثيل حجرية.

يقول أنتيجونيس للرضيعة برديتا في دِثارها وهو يضعُها على الأرض: «أيتها البرعمة، فلْتَصحبكِ السلامة!» جزءٌ كبير مما تبقَّى من المسرحية يتحدث عما يحدث في الربيع، أو إن أردنا صياغة الأمر بطريقةٍ أكثرَ صلةً بالإنسان، عن تأثير الربيع في البشر و«صيرورتهم» بمرور الزمن. بعد مرور ستة عشر عامًا على تركه حُزمة الأوراق، تكبَر برديتا لتصير شابَّة يافعة ويتجسَّد فيها فصلُ الربيع. في البداية، تبدو مفتقرة إلى اللباقة مثل أول طَلعِه الباهت. لكنها ما تلبث أن تكتسي بالحيوية (كما ستفعل أمُّها بعد فترة طويلة حين تدِب الحياة في جسدها الأشبه بتمثال). في مسرحيات شكسبير، دائمًا ما تشرح النساءُ الأزهارَ للرجال، وبرديتا كانت أبرعَ عالِمة نبات بين شخصياته. أخذت تتحدث بتأثُّر ملحوظ عن الأزهار التي أعلنت عن قدوم الربيع بينما صارت هي غير موجودة فيه.

تقع أحداث مهرجان جَزِّ صوف الغنم، في الفصل الرابع من المسرحية، حين تظهر برديتا في هيئة امرأة خضراء أو عريشة متحركة، في منتصف العام، في نهاية الشهور الستة التي يحل فيها الربيع. تقول برديتا، وهي متدثرة بالأزهار و«أوراق الشجر»، إنها تشعر وكأنها تشبه في حُلَّتها «إلهةً مُزيَّنة». ومع أن مظهرها مناسب لأداء دور الربيع، فإنها تتردد في ذلك؛ إذ لا تشعر بأنها في ربيع حياتها؛ حيث تفتقر إلى أوفى أزهاره، وتشعر كذلك بعدم الاستحقاق، وبأنها «فتاةٌ قليلة الشأن» مقارنةً بخليلها فلوريزل بن بوليكسينيز الفاتن ذي الشأن الرفيع، الذي كان متنكرًا هو كذلك.

برديتا لم تُولَد بوهيمية، وهي لا تدري ذلك بعد. بل هي أرستقراطية شأنها شأن فلوريزل. تمهِّد قصةُ «صيرورتها» للحظةِ التنوير وانفراج الدراما. طوال مشاهد الاحتيال والرقص والشجار واستحضار الأساطير، وانكشاف قصص أربابِ الزراعة ذوي الأصول النبيلة، وأبناء وبنات الفلاحين أبناء تراب الأرض، تداعب المسرحيةُ أفكارَ الطبع والتطبُّع، والازدهار والأفول، والجنس والموت. كما أن ثَمة حديثًا عما نفهمه عن معنى الربيع — كيف يقتات على الزمن أبعد من التصوُّر الساذَج لحياة الريف النقية المليئة بترتيب الزهور، وكيف أننا نادرًا ما نستشعره، وكيف أننا عادةً ما نظل عند أحد طرفَيه، مدركين أنه انقضى بالفعل أو أن أناسًا آخرين سينعمون به في مكانٍ آخر فحسب، وكيف يخبرنا حَدْسُنا بأننا أبدًا لن نستطيع أن نستحوذ عليه استحواذًا تامًّا كي نتشبَّث به أو نحيا به. البُرعم الساقط على الأرض ما هو إلا ثمرة سقطت عن شجرتها (قبل حتى أن تصير ثمرة): ثَمة بضع إشارات في بداية الفصل تُعلِن نهايته. وكما جاء في عبارة لاتينية مُفادها أنَّ الموت موجود حتى في «أركيديا» أرض النعيم المفقود.

تدرك برديتا أنها تتنكَّر في هيئة الأزهار، لكنها تدرك أيضًا أنها في ربيع حياتها جسديًّا. هاتان الحالتان — التجسيد والجسد — لا يتناغمان البتَّة، ثم يقع صدامٌ بسيط ليُعكر صفو اليوم. يبدو أن الربيع يجلب معه مرثيَّات إلى عالَم لا يَزال في طَور الولادة. البداية دائمًا ما تكون بداية النهاية؛ نحن نحتضر منذ لحظة خروجنا إلى الحياة. ولمَّا كانت تلك المعرفة متأصلة في حياة الربيع ومجبولًا عليها، فإنه يجاهد كي يكون هو صانع وجوده المتواضِع: تشير المسرحية إلى أن الخريف هو مَن اختلقه. وفي النهاية، التي سنبلغها جميعًا لا محالة، تفصح دموعي عن شيء من هذا القبيل، عندما تسيل كما يحدث حاليًّا كلما رأيتُ أو قرأتُ عن كيف يمكن لمُسنِّين شتى أن يحظَوا ولو بمجرد لمحة من حياة جديدة.

لبعض الوقت، في الفصل الرابع، تمنح قوة الأزهار برديتا الجرأة وتكسوها بدرع من الوهج الأخضر، مثل ساعة نباتية أو نوع من السترات العاكسة للضوء التي يضعها الناس في مهرجان الربيع. تقول: «هذا الرداء الذي أضعه يغيِّر طبيعتي.» وتجادل الملك بوليكسينيز المتنكِّر عن العلاقة التبادلية أو التكافلية بين الفن والطبيعة، وعن التأنق في الملبس. في الواقع، كلاهما كان يلبَس ثيابًا متواضعة. فهو يخفي كونه ملكًا، وهي عاشت لقيطة كفَلها راعي غنم وأسرتُه. كانت الحُلَّة التي ارتدتها ذلك اليوم مُزيَّنة بالأزهار، لكنها أبَت أن ترتدي «القرنفل المُجزَّع» لأنه هجينٌ مصطنع غير طبيعي، يزيِّنه عاملو البساتين.٦

يقول بوليكسينيز إن الفنون بأنواعها كافةً تنبثق عن الطبيعة، لكنها تُحسِّنها، لكن برديتا — ذات الأعوام الأقرب إلى الطبيعة منها إلى الفن — لا تنبهر بقوله. يبدو لها ما يقوله مثل راشد يدافع عن الحكمة التي تقترن افتراضًا بالتقدُّم في السن بينما هو بالفعل يبرِّر عدم الاكتراث بها. تبدأ برديتا — في حُلَّتها المُزيَّنة بالنباتات — في وصف قائمة أزهارها، كنسخة دَمِثة من أولئك النسوة الأيرلنديات المخيفات اللاتي ما زلن في بعض الأحيان يحاولن وضع اللافندر في عراوي قميصك في الشارع لجلب الحظ. تُناوِل برديتا بوليكسينيز باقةً من أعشاب ذروة الصيف؛ أزهارًا تليق بالعجائز «إكليل الجبل والسَّذاب». أما كاميلو الكهل، فتعطيه برديتا أزهارَ منتصف الموسم: «الخزامى والنعناع والنَّدغ … والأزريون». ومن ثَم، فمع أن الربيع قد انقضى وذبلت أزهاره المميَّزة، تعود برديتا إلى رشدها، فتتحدَّث بجزالة عن تلك الأزهار التي شقَّت الأرضَ لتنبت، تلك الأزهار التي لم تعُدْ في متناول يدها، والتي لو كان بمقدورها لمنحتها فلوريزل.

ليت معي بعضَ أزهار الربيع،
التي تليق بعمرك …

وهي تواصل عملية جمع أو «قطف» الأزهار الافتراضية، كلُّ شيء هشٌّ وشاحب، إلا أنَّ دَفْقةً خفيَّة من القصص القديمة الأكثر ظَلامًا تقبع وراء كل شيء. كان شكسبير على دراية بترجمة آرثر جولدينج لكتاب «التحوُّلات» لأوفيد عام ١٥٦٧م. وبرديتا تجسِّد قوة الجنس والموت الموجودة فيه:

آه يا بروسربينا.
ليت لدينا الآن الأزهار التي أخافتك فأسقطتك.
من عربة الخيول! أزهار النرجس البري،
التي تتفتح قبل أن تجرؤ السُّنونوات،
وتسحر بجمالها الأخَّاذ رياحَ مارس؛ وأزهار البنفسج البسيطة.
لكنها أعذب من جَفنَي جونو.
أو أنفاس سيثيريا؛ أو أزهار الربيع الباهتة.
التي تموت عزباء، قبل أن تتسنَّى لها رؤية.
ضوء الشمس في أوجِه؛ ذاك داءٌ.
يصيب أغلب الفتَيات؛ أزهار الأوكسليب الجريئة وأزهار تاج القيصر؛
وشتى أنواع الزنابق كالسوسن: آه، كَمْ أفتقدُها …

تأمَّل مجددًا كلمة «تسحر» في ذلك المقطع. تبدو قصيرة وعفوية، لكنها تحمل في معناها عالَمًا كاملًا: الرياحُ التي تعصف بزهرة النرجس البري، زهرة النرجس البري التي تكشف عن الرياح، وأوانهما الذي يُرى في اثنتَي عشرة كلمة. ربما تكاد تكون مبتذلة — غالبًا ما يكون الحديث عن الأزهار كذلك — لكنها حقيقية، شأنها شأن جميع اللقطات الحسناء المأخوذة للطبيعة، ويشعر المرءُ أنه رآها رأيَ العين. إنها ملاحظة ميدانية دُوِّنَت ﺑ «جمال.»

وهي كذلك حزينة، أو على الأقل متأثرة بالفصول. أبلغ ما أثَّر فينا من حديث برديتا عن الأزهار ما أدلت به عن مطلع الربيع، وصفها للأزهار التي تفتقدها. فوصفُها هو وصفٌ لحاضرٍ مرغوب بعد انقضائه، واستحضار لزمن نأمُل أن يأتي مجددًا لكنه بالفعل مضى، وسيَظل في الماضي دومًا بطريقة أو بأخرى. ولمَّا كنا جميعًا قد أدركنا ربيعنا الأول يومًا ما، فإننا جميعًا نستشعر الفَقد و«العَوَز».

إنني أتذكَّر معظم أبيات دور النبيل الذي أديتُه؛ ربما لأنه كان يمثِّل بداية مسيرتي في التمثيل ونهايتها. منذ ذلك الحين، كلما شاهدتُ المسرحية أو قرأتُها، دون إرادة مني أحيانًا، سمعتُ الكلمات تستبقني مثل هلوسة سمعية. أسمعُها في ذهني قبل أن يحين أوان النطق بها بلحظات.

«شهدتُ لحظةَ فتح الصُّرَّة.»

الأمر يشبه سماع الصدى المتقدِّم أو نغمات الميزان الأولى الباهتة لأغنيةٍ ما، قبل أن يبدأ الصوت الفعلي، والتي يمكن للأذن التقاطُها في بعض الأحيان عند الإصغاء عن قرب إلى أسطوانات الفونوجراف. تسمعُ أثر صوت ينتظر جسده، صدًى يُسمَع قبل مصدره. سمعتُ شيئًا أشبه بذلك في طريقة تغريد قنبرة الغابات، وفي الطريقة التي تتحدَّث فيها برديتا بلباقةٍ بالغة عن أزهار الربيع؛ إذ ترفعها أمام ناظرينا، لتقول إنه ليس بوسعها أن تفعل ذلك فعليًّا؛ إذ تفتقر إليها، كونها ماتت بالفعل. يشبه ذلك سماعَ تلقين للفصل من وراء الكواليس، يُقال بصوتٍ خافت أو همسًا، كالأموات يتحدثون عن الحياة التي عاشوها يومًا. وهو في حد ذاته دقيقٌ في موعده؛ إشارةً إلى حلول الأوان المناسب في الوقت المناسب، بالضبط. في رأيي أن هذا هو النحو الذي يحيا به الربيعُ في أذهاننا جميعًا نحن الراشدين. فهو ذاهبٌ بقدرِ ما هو حاضر؛ ماضٍ بقدرِ ما هو آتٍ.

ذلك الحزن حاضرٌ في المسرحية. إنها مسرحية رجُل عجوز. متأخرة. وعلى الرغم من عنوانها، فهي مسرحية خريفية عن الربيع. هِيرمُيوني التي ظهرت في آخِرها — التمثال الدافئ الذي يتحرك (ليس متحجرًا ولا متخشبًا) — عادت إليها الحياة على يد ليونيتس، لكنها لم تبدأ من جديد: إذ ليس ذلك ممكنًا؛ لمْ تظلَّ على حالها — كحال جميع الشخصيات الأخرى التي تابعناها — شاخت هِيرمُيوني وهي مُتوارية عن الأنظار. شاخت وملأت التجاعيدُ وجهَها على نحوٍ واضح وباهر ودافئ وبشري. وفي ذلك تتجسَّد الحياة.

جبل إتنا

٣٨ درجة شَمالًا

«تتملَّك المرءَ حاجةٌ مُلحَّة للتَّرحال»، بتلك العبارة افتتح دي إتش لورانس كتابه «البحر وسردينيا». يصف الكتاب رحلةً خرج فيها برفقة زوجته فِريدا، التي كان يكنِّيها أيضًا «ملكة النحل»، في شهر يناير من عام ١٩٢١. كانا حينها يعيشان في صقلية منذ سنة تقريبًا، وتركاها أسبوعًا لزيارة جزيرة سردينيا «كي يرى إذا ما كان سيَروقني العيشُ هناك.» كما كتبَ في خطاب له. كانت حياة لورانس مليئة دومًا بالحركة — كانت لديه حاجة ورغبة مُلحَّة لها — لكنها كانت أيضًا مُربِكة وصعبة دومًا. ذلك القلقُ الغريب الذي تعكسه تلك الجملة الأولى، وهو قلقٌ يعتريه رغمًا عنه ولكنه حاضرٌ لديه دائمًا — حسبما نستدل من استخدامه الدائم لزمن المضارع في أعماله — إنما يجسِّد ويصوِّر شيئًا من ولعِ لورانس بالتَّرحال. نشعر به مُجبَرًا ومُسيَّرًا، وندخل معه في منتصف المشهد إلى اللحظة الحاضرة. لم يضع حدًّا قط لِما ابتُلي به من عدم الاستقرار، ولم ينجح قطُّ في تحويل تساؤلاته التي لا تنتهي إلى إجابة عملية؛ ومن ثَم لم يتوقَّف قط. كان يعرف ذلك كلَّه، لكن ليس بالضرورة في اللحظة التي حزم فيها حقائبه أو قرَّر فيها ذلك: كتبَ في رسالة بعثها من صقلية في منتصف صيف عام ١٩٢٠ يقول: «أظن أن المرء يحمل معه نفسه أينما ذهب. لكنه يتغيَّر أيضًا ويتحوَّل من طَور إلى آخر.»

٢٦ أبريل. تملَّكَنا الشعورُ نفسه من الحاجة المُلحَّة إلى التَّرحال: كانت الطيور الجارحة المحلِّقة في الهواء — حوام النحل — تمرُّ من فوق رأسينا، هيئات داكنة مائلة، مثل قرميد مبعثَر مقحَم في السماء الزرقاء. كانت قد تجمَّعت على مسافة بعيدة، وظهرت من خلال ظلال جبل إنتا الرمادية الهائلة، وببطءٍ ضربت الهواء بأجنحتها فوق التلال التي بيننا وبينه. وقفنا تحت مسارها، على حافةٍ أخيرة قبل مَضيق مِسينة. سلكَت جميعُها طريقًا في الهواء، مسارًا صنعته الرياحُ التي دفعتها للتحليق في صفٍّ وساقتها إلى الأمام، وصنعه كذلك مؤشرُ بوصلتها الداخلية التي تهتدي بها إلى وجهتها.

«فالكو!»

خلال لحظات من وصولنا إلى مُخيَّم هجرة الربيع على قمة التل، عرفنا أنه ينبغي لنا أن نصيحَ به. كان يوجد اثنا عشر مراقب طيور من ستة بلدان ينظرون إلى أعلى في حماسة. انضممتُ إليهم أنا وكلير لبضعة أيام كي نراقب حياة السماء وكي نقدِّم مساهمةً بسيطة بأن نصيح ببعض الأرقام.

تقع صقلية على مسار الهجرة في منتصف البحر المتوسط. طيور حوام النحل التي قضت الشتاء في أفريقيا وتريد أن تصل إلى شرق أوروبا وغرب روسيا كي تتكاثر عليها أن تطير فوق صقلية. لا يسلك ذلك المسارَ إلا الطيورُ التي تقدِر على قطع مسافة كبيرة فوق البحر. وبعد أن تغادر ساحل أفريقيا من تونس أو ليبيا، يكون عليها أن تحلِّق فوق البحر، بعضُها يعبُر من فوق جزيرة مالطا، ثم بعدها يحلِّق فوق البحر مرةً أخرى ثم فوق صقلية، ثم يعبر آخِر جزء من البحر عند مضيق مِسينة، وبعدها يحطُّ في القارة الأوروبية على إقليم كالابريا.

الهدف من المعسكر هو مشاهدة الطيور وهي في طريقها ورصد بعض تفاصيلها. انتشرت بين مراقبي الطيور لغةٌ مُخترَعة لها أوزانُ اللاتينية. كانوا يستخدمون الأسماءَ العلمية للطيور للإشارة إليها عند ظهورها، ثم بعدها يصِفون موقعها بالإيطالية المُبسَّطة.

بدأت آنا جيوردانو دورات الانتظار والمراقبة تلك منذ خمسة وثلاثين عامًا. تحدَّثت إليها أثناء مراقبتنا. بدأ المخيَّم كوسيلة «قمع» لبعض عمليات صيد الطيور الجارحة في صقلية، التي كانت على شيوعها وقتَها غيرَ قانونية. في أبريل عام ١٩٨١، حين كانت آنا في الخامسة عشرة من عمرها، قدَّمت لها مجموعة من الصيادين عوسقَين ميتَين احتفالًا بأول دم يُريقونه، وألقت هذه الهدية الرعب في قلبها.

«كان من المريع أن يعرف المرءُ ذلك — أن تكون تلك الطريقة هي سبيله إلى معرفة الطيور. في كالابريا يأكل الناس حوام النحل. وهنا يصيدون كلَّ شيء.»

منذ ثمانينيات القرن العشرين، عملت آنا جاهدةً لفرض «الرقابة على الجبال». وبدأت بصنع حاجز بشري بين حاملي البنادق والطيور.

«كنا نضطر إلى إخفاء مناظيرنا المُكبِّرة. كانوا يتبعوننا بالبنادق. ولذا اضطُررنا نحن أيضًا إلى حمل الأسلحة، كوسيلة لإخفاء هويتنا.»

تسلُك ذلك المسارَ طيورٌ أخرى بجانب الجوارح. أثناء حديثنا، مرَّت بمحاذاة الجُرف سماماتُ صرود، وسماماتٌ شائعة وأربعةٌ من طيور الصفير الذهبي التي تشبه شكل برقية صفراء، متجهةً جميعها إلى بَرِّ إيطاليا.

«يَحفِر الصيادون خنادقَ أو يختبئون في الخنادق الباقية منذ زمن الحرب. كان معنا أجهزة اتصال لاسلكية، لكن الصيادين كانوا يدخلون إلى تردُّد القناة اللاسلكية التي نستعملها. كان معنا متطوعون ألمان، لكن لم يكن بوسعنا التواصل بالألمانية لأن الصيادين كانوا قد زاروا ألمانيا بصفتهم عمَّالًا زائرين؛ ولذا اضطُررنا إلى استخدام العربية.»

جاءت عشرة وراور، ثم خمسة أخرى من طيور الصفير الذهبي (كان ثلاثة ذكور منها معًا)، ثم صقر أسحم مارق. كانت مشاهدة الحركة المتأنية على اختلاف أنواعها تبعث على الحماسة؛ إذ تستشعر منها الانضباط. بدا الصقر وكأنما يستهل نسيم الصباح، ومن بعده بدأت الجوارح تهُل.

«فالكو!»

كنا نرتفع عن سطح البحر بمسافة ألف متر، فوق جبل ديناماري الذي يقع في الجانب الشرقي من سلسلة التلال المُشجَّرة المُطلَّة على مضيق مِسينة. اتجه عُقابُ مُسيَّرة شَمالًا، ثم بدأت طيور حوام النحل تتدفَّق، ستة، ثم خمسة، ثم اثنان، ثم ستة، ثم عشرون، ثم ستة، ثم ثلاثون. إنها ذات رءوس صغيرة وأذناب طويلة، والجزء المُضلَّع من صدرها مُزخرَف بنقشة تُشبِه جلد الزواحف — مرَّ ٤٠٠ منها في أول ساعتَين من وجودنا هناك. في بعض الأحيان، كان يأتي طائرٌ واحد منها منفردًا ثم يتبعه سِرب. وذات مرة كان السربُ مكوَّنًا من واحدٍ وخمسين طائرًا منها. كانت تبذل جهدًا باديًا في تحليقها حتى إنها لتجعلك تودُّ أن تفسح لها الطريق.

استلقيتُ على ظهري ساعةً. وإذا بجزء مني يعود طفلًا من جديد؛ إذ دائمًا ما يُعيدني الاستلقاءُ على ذلك النحو والنظرُ إلى السماء إلى أيام الطفولة: ربما تذكَّرتُ استلقائي داخل عربة الأطفال؛ وربما كانت عيناي ترى ذلك المنظر أكثر في صِباي؛ ربما حين تكون أقصر طولًا تكون أكثر إدراكًا للحياة التي تجري من فوقك. راقبتُ السماءَ واستحضرتُ في ذهني كلَّ ربيع وكلَّ حوام نحل مضى من هنا. ظلَّلَتني بعضُ السُّحب المنفوشة، فانتابني ذلك الشعور الغريب بالسقوط الملازم للدُّوار الناتج عن النظر إلى أعلى، مع أني كنت مُوقِنًا بأن الأرض من تحتي تحتضنني. ظهرت حوام النحل ورفرفت، لكن بدا أن السماء نفسها هي ما يُحرِّكها، وكأنما تتحرَّك معها لا فيها، وكأنها تنجرف معها وتنجذب إليها في آنٍ واحد. مرَّ المَوكب مثل تيار دافِق، وخُيل لي أني أستشعرُ سَحبه.

كان القمر، أو بالأحرى نِصفُه، باديًا في السماء حين مضى ثلاثون من حوام النحل.

«إنه قمرُ شهر العسل!»

تبادلنا كلماتٍ بلغاتنا جميعًا نقول الأمر نفسه، دون أن نبعد مناظيرنا المُكبِّرة عن أعيننا. مرَّت ثلاث مُزر مستنقعية، ومُزْرتا أبو شودة، وأربع مُزر شائعة.

كان جبل إتنا يقع على مسافةٍ بعيدة إلى الجنوب منا، لكنه كان عملاقًا. كان لكتلته مِقياسٌ ورسوخ خاصَّان به، وكأنما لعالمه قياسٌ مختلف عمَّا سواه. كتبَ كولريدج في ملاحظة عام ١٨٠٤ حين أبحر عبر البحر المتوسط وتأمَّل جبل إتنا: للجبل «لغة حقيقية» يتحدَّث بها. اليوم، بدت حقوله الثلجية ومسارات تدفُّق حُممه البركانية وكأنما يصعد منها الدخان حين سطعت الشمس فوقها. في بعض الأحيان، كان الجبل بأكمله يتعاظم ويظهر ضخمًا وراء الحافة الجبلية التالية، ثم ما يلبث أن يتوارى بعيدًا خلف الأفق الأفريقي، في مشهدٍ لم يُوصَف قط إلا بالكمال.

إذا كنت ذا نزعة تكتونية في تفكيرك، فإن إتنا لا يقع في صقلية بل في رأس أفريقيا. إذ يستقر البركان فوق ملتقى الصفيحة الأفريقية بالأوروبية. تلك هي نقطة التقاء القارتَين. ولهذا السبب يوجد بركان عندها. انطلاقًا من تلك الحيثية، وتلك الحقيقة الراسخة، كانت طيور حوام النحل التي رأيناها قادمةً من إتنا باتجاهنا تعبر في تلك اللحظة من أفريقيا إلى أوروبا.

قالت آنا إن الرياح تغيِّر اتجاهَها:

«من الآن فصاعدًا، ستسلك الطيورُ مساراتٍ عديدةً مختلفة.»

مرَّت أُنثيان من طيور أبو شودة وفي عَقِبهما مرَّت أنثى مُزْرة باهتة. بدا أن شيئًا ما خلفهن يسوقهن. حاولتُ أن أستجمع معرفتي بشأن تمييز الاختلافات بين هذين النوعين. المُزْرة الباهتة أكبر حجمًا بعضَ الشيء وباطنُ جناحَيها له لونان — ظهرت خوافي جناحيها داكنة، وأطرافُ جناحَيها أفتح. كانت تلك المعلومات الوصفية كافية وأنا هناك؛ أسفل منهن، حينها كنت مُتيقنًا.

واصلنا المراقبة. كانت عينا آنا مُحتقنتَين. فالإشرافُ على المعسكر يستنزف من طاقتها. كما أنَّ لها أعداءً من الصيادين أيضًا. احتفظت بفَردة حذاء رجل تشاجرَت معه حين أمسكَت به وقد تسلَّل مُتطفِّلًا إلى داخل غرفتها. تقول إنَّ أحدهم أرسلَه لتخويفها. كلُّ شهر أو نحوه، تُترَك لها رسائل تهديد؛ وذات مرة أُضرمَت النيران في أربعة مواضع حول منزلها. قالت وهي تشير إلى السماء: لم يُنقذني «سواها». لست واثقًا إن كانت تعني ذاتًا إلهية، أم زُرقة السماء الساطعة، أم المُزْر.

سألتُها عن المهاجرين من البشر القادمين من جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا الذين يُضطرُّون إلى التخييم في المَعازل أو المُخيَّمات حول مدينة قطانية على مَقربة من حيث كُنا.

قالت وهي ترفع بصرها إلى أعلى مجددًا: «صقلية كلُّها تعمُّها الفوضى.»

كانت تفضِّل نيوزيلندا.

«مدينة أوكلاند نظيفة جدًّا، حتى إنه يسعك السيرُ حافيًا هناك.»

ربما التفكير في حوام النحل أسهل. لا يحطُّ في صقلية بالفعل إلا شرذمة من الطيور الجارحة. وهي لا تسبِّب أيَّ إزعاج.

وصلت شابَّتان تحملان صينيتَين عليهما ثمار فراولة محلية — إنها ثمار صغيرة وداكنة وحلوة المذاق — مكافأة لنا على ما قمنا به من إحصاء. غمسناها في الغيمة التي كانت تشبه حلوى «الزاباليوني» التي كان جبل إتنا يدفع بها نحونا. مرَّت فوقنا طيور الوَرْوار. خمسة وعشرون، ثم عشرون، ثم خمسة وعشرون أخرى. قطع سربٌ منها صفًّا من حوام النحل. موسم النحل هو مَربط الفرس: متى يكون وجودُ النحل أو يرقاته التي تأكلها محتمَلًا، تجيء طيور الربيع.

٢٧ أبريل. هبَّت رياحٌ جنوبية شرقية لتغيِّر المشهد، وتوجَّهنا إلى الشاطئ الرمادي ذي أحجار الخفاف والفنارات القديمة على الطرف الشَّمالي الشرقي لصقلية عند مضيق مِسينة. المسافة من هنا إلى بَرِّ إيطاليا لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات، لكن عبورها مُرهِق. كانت اللقالق تجاهد فوق البحر الثائر: أربعةٌ بيض تبعَها خمسةٌ سُود. بدت كحِبال إبحار تتقاذفها الرياح. تلك الرياح نفسها سرقت بالونًا على شكل حورية بحر من يَد طفل، وكانت تدفع الرُّوبيان الصغير بعنفٍ عبر المضيق. اضطُرَّ جَمعٌ أخرق ساهٍ من ستة بلاشين صغيرة — تتقارب بشدة في لحظة ثم تفرِّقها الرياح في اللحظة التالية — أن يتخذ تدابير للهروب لكي تتفادى الاصطدام به، لكن لم يتبقَّ لديهم حقًّا أي طاقة إضافية للتدابير الاضطرارية. تصدَّر عُقاب مُسيَّرة سباقَ عبور البحر لكن الهواء أطاحَ به للخلف. كان أداءُ طيور جلم ماء البحر المتوسط أفضلَ في منطقةِ نفوذها، لكن حتى هذه الطيور كانت الرياحُ التي تغيِّر اتجاهها تُطوِّحها. فيما كانت تجلم الماء في محاولة للاتجاه إلى القناة، ضربَ ضوءُ الشمس جانبها السفلي الباهت فجعلها تبدو كرذاذ موجة. كانت أنثى مُزْرة باهتة تحاول اجتياز الحَيز نفسه من الماء. انسلَّ ومرَّ من بينها الطائرُ البرِّي والطيور البحرية بألوانها البُنية والبيضاء. المُزْرة وجلم الماء: كلاهما سُمِّي تيمُّنًا بجهوده في التحليق، هنا في مجابهة الصعاب.

كنا على الشاطئ في الساعة الرابعة عصرًا، نراقب أنثى مُزْرة باهتة أخرى مُصِرَّة على العبور تسحب معها عويسقًا، حين جاءت الأنباء عبر هواتف الحضور المحمولة بأن موسم الصيد قد جرى إيقافه قبل الموعد المتوقَّع. جاء بعضُ صيادي الطيور من مالطا يزورون آنا. كانوا يروِّجون لاستفتاءٍ شعبي على الجزيرة. فَشِل الاستفتاء في وضعِ حدٍّ فِعلي للاضطهاد الراسخ لجميع الطيور هناك، لكن قُدِّم حلٌّ وَسَط، وهو السماح بالصيد شريطةَ عدم إطلاق النار على الأنواع المحمية.

«أطلقوا النار على طيور وقواق ولم يحدث شيء، لكن اليوم أُصيبَ عوسق وسقطَ جثمانه في باحة مدرسة؛ ولذا ربما سيتوقف موسم القتل الآن.»

صفَّق الناسُ على الشاطئ وهلَّلوا. أبقَت آنا بصرَها مرفوعًا إلى السماء. أسرع صقران أسحمان وشويهان إلى البحر. كما اندفع من فوقنا سُنونو رمال كذلك. على الأرجح كانت البنادق تنتظر على الجانب الآخر، لكن على الأقل غادرت الطيور المهاجرة منطقةَ حمايتها على قيد الحياة.

١ مايو. في اليوم التالي ذهبنا إلى جبل إتنا، لكنه بَدا مغلقًا.

أولًا، قُدْنا السيارة نتطوَّح شَمالًا وسط فوضى طريق «أوتوسترادا» السريع في صقلية: وهو المَعلَم المحلي؛ حيث ينعطف طريقٌ سريع متعدد الحارات عند منعطف أو يمرُّ من خلال نفق فيتحوَّل إلى طريقٍ ريفي ذي حارة واحدة. قرب انتهاء الطريق الأسفلتي الحضري، يحل محلَّه طريقُ الإله فولكان، الذي حُفِر فيه خندقٌ لإتاحة المرور عبر الحُمَم البركانية ذات اللون الثلجي المسود التي غطَّت الطريقَ القديم. بعد ذلك كان ثَمة موقف سيارات والمادة البيضاء نفسها، رُقعٌ ثلجية تعلو اللون الأسود الفحمي، وفي شجرة صنوبر مقطوعة على الخط الثلجي وقفَ وقواقٌ يصيح. في رحلة الصعود، تحوَّل المنظر البحر متوسطي إلى منظر نوردي أو أيسلندي. كنا تحت السماء نفسِها لكننا وصلنا إلى مكان قاتم.

كان يصعب تخيُّل أن يحيا أيُّ شيء في أرجائه. كان صوتُ الوقواق صاخبًا وكأنما جُنَّ جنونه. وأنا أقِف على امتداد حقل الحُمم البركانية العاري المتحجر، لم أرَ أيَّ أثر للأرض. لا يوجد أيُّ شيء أخضر أو أيُّ ذَرة من التربة. يُدرك المرءُ أنه على الأرض، لكنه لا يراها.

سلَكنا طريقَ عرباتٍ قديم كان يُستخدم سابقًا في نقل السياح إلى القمة. كانت القمة مغطَّاة، بغيوم أو دخان أو كليهما، حتى إنَّ المرء لَيَحسبها برجَ تبريد، أو حمَّامَ بخار، أو مصنعَ ضباب، أو فوهةً للجحيم؛ لم أرَها إلا محجوبةً طوال اليوم. في الكومة الهزيلة من أشجار سرو البحر المتوسط التي لم يكن آخِر تدفُّق للحمم البركانية قد جرفَها أو حوَّلها إلى أعواد ثقاب، كان ثَمة قراقف فحمية وطيور صَعوٍ حمراء العُرف. طيورٌ ضئيلة الحجم ذات أسماء بسيطة شديدة البأس، ترمز إلى شكل الحياة فوق بركان، وهو شكلٌ بدائي لا محالة. كلاهما له ألوانُ نارِ الخَلاء. وكلاهما له نداءٌ هامِس كصوت فَتِيل صغير.

وفيما عدا ذلك، يَطغى اللونُ الأسود على البركان. كلُّ شيء فيه مُحترِق: إتنا هو نعشٌ وساحة خردة وسَلَّة نُفايات وكَوْمة ركام لنفسه. ليس له إلا قصة واحدة — قصته هو — مثل ثَقْب أسود، أو محيط، أو مثل الصحراء الكبرى. في أغسطس ١٨٠٤، رأى كولريدج بعضَ الحُمم البركانية المسحونة واعتبرها أعجوبة. «إذ تشبه تمامًا غبار طفاوة المعدن المُذاب الذي يُرى أمام باب ورشة حدادة.» تلقَّى العالَم صفعاتٍ مُبرحة دمَّرته وانتهى هنا بعد أن فاضَ به الكيل. مهما صعدنا، يبدو لنا أننا لا نزال في أطراف منطقة صناعية لا نهايةَ لها، تبدأ عند شاطئ البحر الصدئ في مدينة قطانية وتكتنفُنا من جميع الجوانب حتى القمة. المكان كله يغلب عليه طابع المناطق الصناعية؛ إتنا جبلٌ غارقٌ في الوحل، تمرَّغَ في غبار نفسه، وعصارة حِمضه المرتجَعة، ومستودع نفاياته الخاص.

بيد أن أغرب اكتشاف يمكن أن يتجلى للمرء هو أن إتنا ليس نهاية العالَم بل بدايته. ذات مرة، قطعتُ جزيرةَ سرتسي القريبة من ساحل أيسلندا مشيًا، وهي جزيرة وُلدَت من رحم البحر عام ١٩٦٤، لكن الحمم البركانية في بركان إتنا تظل أجددَ منها؛ لم تطأ قدمي مكانًا أحدث عُمرًا على وجه الأرض منه. لكن يا له من وجه طفولي ذلك الذي يملكه! جَثوتُ على ركبتَيَّ أحاول استحضار حُبي للعالَم الجديد عن قرب، أن أتصوَّر مستقبله كما لو كنت أراه، وقد صار مفعمًا بالحياة وخِصبًا وغدَا أخضرَ. في الأسفل تجاه البحر، نبَتَت في حقول الحمم القديمة أشجارُ الكَرْم والمشمش وأصنافٌ مميزة أخرى من الفاكهة. لكن هنا على تلك المنحدرات العالية لا يُتصوَّر حدوثُ ذلك. الحمم هي أحشاء الأرض الوليدة، إلا أنها لا تبدو مثل مولود، أو يُرى فيها مستقبل، بل تبدو كمشيمة أو فضلات أو خبث. حتى القعقعة أو الصليل المعدني الذي يصدر عنها حين تركل كتلة منها يوحي بأنها شيءٌ مُنهَك أو مفروغ منه. إنها شيءٌ ناضج. بقايا معجون الطعام في برطمان «مارمايت». الفتات العتيق الذي تحمَّصَ ألفَ مرة في قعر مِحمَصة الخبز الكهربائية، والذي أُفرِغُ منه آلة التحميص كلَّ ستة أشهر وأضعُه على مائدة طيور حديقتي فتنبذه.

تابعنا السير، مجتازين الحمم البركانية التي تدفَّقت عام ١٦١٤. كانت جرداء. مخلفات بركانية يشبه كلٌّ منها سطح القمر. كتبَ شكسبير مسرحيتَي «حكاية الشتاء» و«العاصفة» في العامَين ١٦١٠ و١٦١١. وتُوفي عام ١٦١٦. وبين هذين العامَين، ثار بركان إتنا وتدفَّقت حممُه. كان الجو دافئًا هناك: الصخرُ لم يبرُد بعد، واللون الأسود الرمادي يمتصُّ الشمس ويضيف حرَّها إلى حر باطن الأرض. على بضع رُقَع من الحمم، كانت ثَمة بقعٌ من الحزاز هنا وهناك لها لونُ صدأٍ أخضر مائل إلى الرمادي: تصفه ماري تايلور سيميتي في كتابها عن صقلية بعنوان «على جزيرة بيرسيفوني» قائلة: «مثل عفن اعترى مربى العليق». لم يكن شيئًا سواه ينمو. خدشت الحمم البركانية يديَّ وركبتَيَّ ونغزت كعبَيَّ فآلمني ذلك. شعرتُ وكأنما أسير حافيًا مع أني كنت أنتعلُ حذاءً يناسب المشي لمسافاتٍ طويلة.

كانت حانة في موقف السيارات في الأعلى تقيم حفلًا ذا طابع ريفي وغربي تحييه فرقةٌ من عازفي الكمان وعازفِ جيتار إلكتروني: إنه يوم الربيع في إتنا. كان بعضُ الصقليين المرتبكين ممَّن يَعتمرون قبعاتٍ وينتعلون أحذية رعاة البقر يرقصون. لا أحدَ منهم بدا في كامل ارتياحه أو سجيته. تساءلتُ إن كان إمبادوقليس قد وقفَ لبرهة يراقب المشهدَ نفسَه. إمبادوقليس على جبل إتنا: المُفكِّر الصقلي اليوناني البائس الذي لم يَعُد يستطيع الشعور بأي بهجة في الحياة، والذي اشتهر بأنه ألقى بنفسه في فوَّهة البركان عام ٤٣٤ قبل الميلاد. لا بد أنه مَرَّ بموقف السيارات في طريقه إلى المكان الذي ألقى منه بنفسه.

كان ماثيو أرنولد، الشاعِر الفيكتوري المضطرب الذي يهوى تعذيب ذاته، مُنجذبًا إلى إمبادوقليس، وكتبَ قصيدةً مأساوية طويلة عنه. رأى في انتحاره قديمًا انعكاسًا لسعادته الضائعة، وطموحه الذي راحَ هباءً (في اعتقاده)، وشعوره بالفشل. كتبَ أرنولد عن إمبادوقليس الذي يعتبره الأنا الثانية له في خريف عمره يقول إنه «ذهب عنه ربيعُ ذهنه ونضارتُه: صار مُغتمًّا، مقموعًا مُثبَّط الهمة فاقِدَ الأمل والحيوية.»

إمبادوقليس الذي تحدَّث عنه أرنولد تغاضى عن الربيع نفسه: عاصرَ الربيعَ لكنه مرَّ به مرور الكرام؛ فبينما كان يُفترض به أن يتيقَّظ لحاضره، كان يحلم بمستقبلٍ لا يمكن له أن يتحقَّق. والأدهى من ذلك أنه كان شِبه مُدرِك لفداحة خطئه:

أهو أمرٌ هيِّن.
أن أكون قد استمتعتُ بالشمس،
وعايشتُ ضوء الربيع،
أن أكون فكَّرتُ، وفعلتُ …

أدركَ أرنولد إجاباتِ تلك الأسئلة، ولكن بعد أن فات الأوان. تركِّز قصيدة أرنولد على الاكتئاب السوداوي الحالك الذي عاناه الفيلسوف، وتتتبَّع رحلةَ صعوده البركانَ إلى مثواه الأخير، داخل الثقب الأسود لفوَّهته. يصيح إمبادوقليس وهو يقفز إلى داخل «بحر اللهب» قائلًا: «اقبلني، أَغِثني!»

كان إتنا منظرًا مريعًا مواتيًا تمامًا بالنسبة إلى إمبادوقليس. فالجبلُ نفسه بمثابة انعكاسٍ لذهنه المُحطَّم، يجسِّد نزيفَه الداخلي مثل تماثيل جبل راشمور. هو بمثابةِ خلفية سوداء لمزاجه العام، ذلك المكان المفتقر إلى الربيع «ذلك القَفر الأسود المتفحِّم الكئيب» كما يصفه أرنولد. لكن إتنا يحيا في أحشائه المنصهِرة، وربما يرى إمبادوقليس في التنور القابع داخل فوَّهته مكانًا لبدايةٍ جديدة، يحترق فيه حتى يصير شيئًا جديدًا؛ ولهذا يقفز. إذ يقول: «عسى أن أتوهَّج كهذا الجبل!»

ربما ينال كلُّ جبلٍ مَن يستحقُّه من الفلاسفة. أو ربما ينال كلُّ فيلسوف ما يستحقُّه من جبال. وليس ثَمة جبلٌ أكثر حركة وحيوية من بركان نشط. إتنا قصدَ إمبادوقليس بقدرِ ما قصدَه هو. كلاهما تحرَّك هائمًا على وجهه. بعد أن أنهى ماثيو أرنولد كتابة قصيدته، ذلك الشاعر الذي تبلَّدت مشاعره بدلًا من أن تنضج، كتمها عن الناس — «نحَّاها جانبًا» كما اختار إيان هاملتون أن يصيغَها — إذ رآها «مروعة» للغاية. ظلَّت قصيدة إمبادوقليس حبيسة الظل لسنوات، مثل جسمٍ يتحرك في نهر جليدي، ولم تخرج إلى النور إلا بعد عقود.

تذكُر إحدى الروايات القديمة لأسطورة إمبادوقليس أنه وإن كان قد أنهى حياته بالقفز في فوهةِ إتنا، باغيًا الاختفاءَ من دون أثر، كان لدى البركان أفكارٌ أخرى؛ إذ لفظَ أحدَ نعلَيه، فطرحه خارجه.

•••

ربما يكون وادي فالي ديل بوف الموجود بأسفل الفوَّهة على الجانب الشرقي من إتنا هو المكان الأسوأ على الإطلاق. إنه لسان كبير قاحل من الحمم البركانية، طوله سبعة كيلومترات وعرضه أربعة كيلومترات. يخرج من فوهة الجبل المتفحم، مثل نهر جليدي أسود يمدُّ لسانه الجاف نحو البحر. تتخلَّله تجاويفُ عميقة سوداء مشوبة بالرمادي والبُني تنخُر في لحمه الأسود. لا شيء ينمو هناك. يبدو مثل كلمة «لا» كبيرة. جلسنا على حافةٍ حادَّة جنوب الوادي ونظرنا إليه في رعب.

ثم رأينا حميراءَ سوداء على رابيةٍ من الحِمم: بدت مثل رجل فضاء قزم تقطَّعت به السُّبل على كوكب المريخ، لكن تبيَّن أنه طائرٌ بركاني مثالي، يكتسي كله باللون الرمادي عدا الخفقان المحموم لذنَبه المتوهج الذي ينبض كأنفاس الحمم المنصهرة. ثم غرَّد أبو حناء فتحرَّك صدره الأحمر، من شجيرة زان خلفنا بدأت تورق حديثًا، كانت شيئًا أخضر جسورًا شقَّ طريقه بين المنحدرات ووجد ما يكفي من التربة ليمدَّ فيها جذوره. وجاءت السمامات في صمت، تمشِّط الهواءَ الذي يعلو لسان الحمم، ثم فوقها جميعًا، كان خمسة من حوام النحل تشدُّ الرحال إلى الشَّمال، تعلو كلَّ شيء. ثم طار غرابٌ لونه أسود كالحمم إلى أعلى تجاه الجوارح، كان يحلِّق وكأنه ملكَ السماءَ؛ تزحزحت حوام النحل قليلًا لكنها واصلت المُضي قُدمًا.

•••

غرب إتنا، على مسافة ١٥٠ كيلومترًا داخل الأراضي الداخلية لصقلية، سِرْنا ليوم على أحجار كارست جيرية فاتحة اللون (مقبرة حجرية أخرى بالطبع، ولكنها أقل وُعورةً ويمكن السير عليها بسهولة أكبر) نتحرَّك صعودًا ونزولًا، إلى الربيع ومنه في جبل بيتزو كاربونارا، أعلى جبل في سلسلة جبال مادوني (ارتفاع قمَّته ١٩٧٩ مترًا).

كانت السماء ساطعة، وكانت تجمح بشدة طوال اليوم. انطلقنا في الربيع. على الأرض الخضراء لغابة من أشجار السنديان الفليني كان ثمة أزهار سحلب بشري وبروق بيضاء شحباء مزهرة؛ ومن أيكة على حافة الغابة، قرقرت قمريات وأمالت دُرَّسة سيرل رأسها الأصفر إلى الوراء لتخاطب الشمس الصفراء مباشرةً دون قيد.

ونحن نصعد، كنا نسير عكس الفصل عائدين بالزمن إلى الوراء: إلى حيث تتفتح أوراق الأشجار الوليدة، إلى حيث الطَّلْع والبراعم وأغصان الشتاء العارية. كنا نسير في أثناء صعودنا خلال أشجار الزان التي تقع أقصى جنوب أوروبا. تنمو تلك الأشجار في ثقوبٍ خلال الأحجار الجيرية أو في منخفضات «دولينا» على سفوح التلال وجوانبها. إذ تتجمَّع فيها التربة التي تكون نادرة فيما سواها: بين تلك الأجمات كان ثَمة منحدرات من الصخور المُحطَّمة. لا يزال الكثير من الثلوج القديمة يستقر على التل. كان عمقُها حول جذوع بعض أشجار الزان يتخطَّى حذائي ذا الرقبة العالية، لكن أطراف الأغصان النامية لتلك الأشجار كانت تحمل أوراقًا جديدة تتفتح تلمَّست طريقها إلى خارج البُرعم. العديد منها كان قد طرح عنه لتوِّه غلافه الشبيه بالشرنقة، فكانت أوراقه لا تزال رقيقة ومتهدلة. سقطت الأغلفة المطروحة مكوِّنةً طبقة سميكة تحت الأشجار؛ كان بوسعك أن ترى الجزء الداخلي منها ذا اللون الأصفر المشوب بالوردي الذي يشبه قفازًا خفيفًا من الجلد الناعم. وجدَت زمرة من دُرَّسات الصخور بعضَ البراعم الساقطة على الجليد، وراحت تنقرها لتصل إلى الورقة داخلها وتزيل عنها بعضَ الغلاف الأخضر الملفوف حولها بإحكام كي تأكلها. أسفل كل شجرة مُتورقة، كانت توجد بعض الأوراق الجديدة التي سقطت عنها بالفعل. بدت شديدة الاخضرار على الجليد الأبيض. حزنتُ لرؤيتها ميتةً في مهدها. التقطتُ صورًا فوتوغرافية أكثر من اللازم.

فوق الثلوج حلَّق غراب، وبعضُ الغربان المُقنعة ومجموعة من غربان الزُّمَّت مرَّت على ارتفاع منخفض وبدت وكأنها كتلة فحم سوداء. في رقعة الأرض المقطوعة الأشجار التي كان ضوءُ الشمس قد بدأ يدفئها تدريجيًّا، صادفنا عُثَّة صقرية طنَّانة تتنقل من زهرة بنفسجية قزمة إلى أخرى. أعتقد أنها أزهار من نوع الزعفران الرملي، من جنس «الرومولية العمودية». في ردائها الخارجي المُبطَّن، بدت وكأنما اقتُطعَت من سجادة صغيرة، بسطت العُثَّة لسانها ورشفت كمياتٍ كبيرةً من بوق كل زهرة. وجدنا أيضًا صَعوًا وشُحرور عصافة وشُحرورًا: الطيور المألوفة في منخفضات إنجلترا تكون من الأنواع التي تسكن المرتفعات هنا.

بالقرب من القمة تقلَّصت أشجار الزان إلى شجيراتٍ لا أشجار شامخة. على ارتفاع ١٧٦٥ مترًا — نظرت كلير إلى ساعتها — كانت جميع الأوراق لا تزال داخل أغلفتها. لكن شُحرورًا غرَّد من داخل غار جليدي. وظهرت بجانبنا فراشة من نوع الطويس القراصي، وكان خمسة وعشرون وروارًا — جميعها طيور مهاجرة بلا ريب — تئزُّ أزيزها المعهود فوق جثوة على القمة. أثار الموكب المتعدد الألوان حماسة سرب غربان الزُّمَّت. كانت قرقرة الوراور على بُعد ٣٠٠ متر تشبه قرقرة العُثَّة الصقرية على بُعد ثلاثة سنتيمترات. كان هناك أنثتا أبلق شَمالي — مهاجرتان أيضًا، لكن ربما كان من المقدَّر لهما أن تمكثا وتتكاثرا هنا بالأعلى — وتجدا الذبابات في الجليد. كانت الحشرات قد تجمَّدت فيه في يومٍ أشدَّ برودة قبل أن تذيبها شمسُ اليوم. كان لونُ الأبالق مُماثِلًا للون الجليد الذي يشبه لون البول الكَدِر.

من القمة، كان باستطاعتنا رؤية إتنا ناحية الشرق، بدا عملاقًا رغم الكيلومترات التي تفصلنا عنه، كما استطعنا أن نرى في الأسفل الجزء الداخلي الأخضر اليانع؛ حيث كان الربيع في أوجه، «الحقل» الشاسع المتصل الذي هو سهل سيريز إلهة الزراعة. نزلنا من القمة، وسِرنا نحوه، مجتازين ثلاثة أشهُر في ساعة، تصاحبنا أغرودة ثلاثة من قنابر الغابات، وصَعوٍ أحمر العُرف، وشفشافتَين. بعد أن اختفى الجليد، ظهرت الفراشات البرتقالية الحواف حولنا في كل مكان. وعند سفح الجبل، كان رجلان عجوزان خرجَا من باليرمو يدرسان النبات في العراء يجثوان على ركبتَيهما أمام كومة من السحلبيات. تشارك الرجلان اكتشافاتهما فيما بينهما: زهرة قزمة صفراء لم يعلم أيٌّ منهما اسمها، وسحلبية نحل داكنة اللون لا تفوقها حجمًا بكثير اسمُها العلمي «أوفريس فوسكا»، لها زهرة صفراء مائلة إلى الأخضر كان يبدو أن نحلة متطفلة تزورها؛ محاكاة باهرة باللون البنفسجي المخملي الداكن مع زخارف هادئة ثلاثية الأبعاد لدرجةٍ فاتنة على حافة الزهرة.

حين بلغنا السهل، جاءت طيور حوام النحل تحلِّق فوق الحقول الخضراء. كانت تطير على ارتفاعٍ أقل مما كانت تطير عليه فوق الحمم البركانية، وكأنما استشعرت أن الأرض تحتها أكثر ترحابًا. في السابعة والربع مساءً، جاء خمسة منها، ثم ستة، ثم أربعة عشر، جميعها تعرف وجهتها، وجميعها تطير باتجاه الشَّمال الشرقي في سلسلةٍ متقطعة. كان ثمة عنادل في الشجيرة تحت الحوام. خُيل إليَّ أنها رفعت صوت غنائها حين مرَّت فوقها ظلالُ الجوارح.

•••

أردتُ أن أرى إنَّا. إنها بلدة قريبة من منتصف السهل الأخضر. عُرِفَت إنَّا منذ وقت طويل باسم «سُرَّة» صقلية. أردتُ أيضًا أن أرى بحيرة بيرجوسا القريبة، التي اختُطفَت بيرسيفوني عندها وأُخذَت إلى العالَم السفلي. بيرجوسا هي المكان الذي يسعنا أن نقول إنها مهد الربيع الذي شَهِد مولده. فالفصول كانت نتاج صفقة أُبرمَت بالقرب منها. صاغَ أوفيد أحداث نسخته من قصة مولد الربيع هنا؛ وحذا ميلتون حَذوه في «الفردوس المفقود»:

ذلك الحقل النضِر،
حقل إنَّا؛ حيث اختطفَ ديسُ الكئيب بروسربينا،
وهي تجمع الأزهار،
أزهار تفوقها هي حُسنًا،
فتكبَّدت سيريز أقسى الآلام لتبحث عنها في أرجاء العالَم السفلي.

تفسِّر قصة بيرسيفوني مجيءَ الربيع ورحيله. إنها ابنة ديميتر. وزيوس هو أبوها. كلُّ ثقافة تقوم على الزراعة في محيط البحر المتوسط تصوَّرت حكاية — أسطورة عن الزروع — تفسِّر الظاهرة الطبيعية لتعاقُب الفصول؛ كلُّ مزارع كان بحاجة إلى بيرسيفوني من نوعٍ ما. توجد عدة حكايات عنها، العديد منها مرتبط بالزراعة وبنباتات الربيع وبحياتها باعتبارها إلهة كتونية تختص بالتربة والأراضي المنزرعة، والعديد منها مرتبط بالنقيض — بالفترة التي تُوِّجَت فيها ملكة على أراضي الموت في العالَم السفلي. كانت تُعرَف أيضًا باسم كُور. كان الرومانيون يدعونها بروسيربينا.

كانت ديميتر إلهة المحاصيل والغِلال. وكانت مدينة إنَّا إحدى معاقل طائفة ديميتر القديمة. وباعتبارها ابنة ديميتر، كانت بيرسيفوني ابنة الخصوبة بعينها. ديميتر هي سيريز في الأساطير الرومانية. في العصور الرومانية، كان السهل المحيط معروفًا بأنه المكان الأكثر خضرة وازدهارًا على الجزيرة الخصيبة في البحر المتوسط. كان السهل بمثابة سَلَّة خُبز. ولا يزال رغيفُ الخبز الأصفر الزاهي المصنوع من دقيق الذرة يُخبَز في إنَّا حتى يومنا هذا.

حين اختطفَ هيديس خازِن العالَم السفلي بيرسيفوني واغتصبها، صارت عروسه ونصَّبها ملِكته. كان هيديس عمَّها، شقيقَ أبيها. كان يُعرَف أيضًا بالاسمَين «بلوتو» و«دِيس». خطفها من أمام بحيرة بيرجوسا القريبة من إنَّا بينما كانت تجمع الأزهار من أحد المروج (تقطف الأزهار كما كانت تفعل برديتا في «حكاية الشتاء»). لمَّا رأت نبتة نرجس تكسوها مائة زهرة عَطِرة، هامت بعيدًا عن رفيقاتها. وحين وصلت إلى الزهرة، انشقت الأرض من حولها كما لو أنها حُرِثَت من الأسفل وظهر هيديس راكبًا جرَّارًا من الجحيم، عربة ذهبية تجرُّها أربعة خيول سوداء. صرخت وتركت باقة أزهارها، وأُخِذَت عَنوةً إلى الأسفل لتُسلَب منها عذريتها.

إنها قصة عن الخريف. وُلِدَت نهاية الربيع في اللحظة التي أُخِذَت فيها إلى الأسفل؛ حينئذٍ سرَت التغيُّرات الفصلية في الحال. كانت تلك أيضًا هي انطلاقة عام الحصاد. قبل اختطاف بيرسيفوني، كانت إنَّا تشبه جنَّة عَدن قبل واقعة التفاحة: يقول أوفيد (في ترجمة آرثر جولدينج): «فيها الربيعُ دائمٌ طوال العام». لكن بعدها، صار الربيع يأتي كجزءٍ من دورة الفصول السنوية.

•••

في أحد الأيام المشمسة في مطلع الربيع، على رقعةٍ خضراء نديَّة من نبات «فينبوس»، بها أجماتٌ مُرصَّعة بالأزهار الجديدة في أرضية أحد وِديان جبال كوجِلبِرج، شرق مدينة كيب تاون، راقبتُ جماعة من قرود الرُّبَّاح تقطف الطَّلْع وتنشب البصيلات. كانت تسير على أربع، تستخدم كلتا يديها لتمزيق الزروع الخضراء أمامها، وتنقل رءوس الأزهار ذات البتلات الصفراء من قبضتَيها إلى فمها، وتنشب التربة الرملية لتخرج جذرًا أو بُصيلة. كانت تقتاد فرادى (حتى صغارها كانوا يقطفون الزروع)، لكن متناثرةً وبِهِمة توحي بأنها في نزهة عائلية، انتشرت جماعة شعثاء منها بعناية في أرجاء الرقعة الخضراء، كل واحد منها مُنشغل بطعامه، لكنه مدرك لوجوده بين الجماعة. توجد نمورٌ رقطاء هنا أيضًا؛ ومن ثَم كانت قرود الرُّبَّاح يقظة. راقبتها على مدى ساعة تقطف الأزهار وتتحرَّك مجتمعةً وفرادى. ولمَّا قاربَ النهارُ على الانتهاء، نزلت الشمس منخفضةً ساطعة في الوادي وأضاءت الفراء الأغبر الذي يكسو رءوس تلك الحيوانات وظهورها، فأضفَت على لَبَدِها جميعًا اللونَ الذهبي. رأيتُ حينها لمحة من فجر أيامنا، وتساءلتُ كيف كانت بيرسيفوني لتبدو وهي تنحني في الحقل الجميل في إنَّا وتقطف زروعها؛ لا بد أننا جميعًا قد اجتمعنا سالفًا حول الزرع على هذا النحو.

لمَّا بحثت ديميتر عن ابنتها فلم تجِد لها طريقًا، تخلَّت عن دورها الطبيعي باعتبارها الإلهة المتحكِّمة في كل المحاصيل والزروع. وظلَّت تبحث عن بيرسيفوني ليلَ نهار، متخذةً شجرتَي صنوبر غمستهما في لهيب إتنا مِشعلَين تحملهما. تبدَّد فصل النماء — استحالَ الربيع المتصل شتاءً متصلًا — وكانت مجاعة ستَنتشر لولا أن زيوس تدخَّل. فأرسل هيرميس كي يقنع هيديس بإطلاق سراح بيرسيفوني. وافَق هيديس، على أن يتشارك الوصاية على بيرسيفوني مع ديميتر، لكنه خدع بيرسيفوني وجعلها تأكل بعض حبَّات الرمان، فكانت النتيجة أنها صارت غير قادرة على مغادرة العالَم السفلي إلى الأبد لتحيا في عالَم النور، واضطُرَّت إلى أن تقسِّم وقتها و«تقسِّم العام نصفَين بينهما بالتساوي» (أوفيد بترجمة آرثر جولدينج). هكذا انقسم عامُنا إلى نصفَين، وصار على الحبوب أن تحذو حذوها، صار عليها أن تظل قابعةً في تربة الشتاء الباردة المظلمة؛ حتى يعود النور والدفء مع حلول الربيع؛ فينفتح العالَم السفلي ويخرج منه النَّبت الأخضر.

شكَّلت تلك الأساطير تربةً خصبة لجميع التفسيرات المتعلقة بفصول السنة وكانت محرِّكًا لها، لكنها كانت أيضًا مصدرًا لشروح مراحل الحياة البشرية وما يتخللها من عواصف وأنواء. فإلى جانب كونها قصة عن ظهور الزروع الخضراء وإنباتها، تحكي قصة بيرسيفوني عن نضجها وشبِّها عن الطَّوْق. أُجبرَت أمُّها ديميتر على أن تتأمَّل رحيلَ ربيع عمرها هي وتفكِّر في احتمال أن تشبَّ ابنتها عن الطوق وتحل محلها (أو حتى تصبح) هي. وفي فَقْدها لبيرسيفوني، ينكشف لنا أن أمَّها فاقدةٌ لتوازنها، وغير قادرة على مشاركة ابنتها طقوسَ عبورها (المُجبَرة عليها). يقول عشيقُ السيدة تشاترلي في رواية دي إتش لورانس: «تُولَد الأزهارُ نتيجة مواقعة بين الشمس والأرض». وللمفارقة، تبلغ بيرسيفوني ربيعَ عمرها وهي ضحية هيديس: تخرج إلى الوجود نتيجةَ مواقعة بين الأرض والعالَم السفلي القابع على مسافةٍ سحيقة تحتها.

قضت بيرسيفوني نصفَ العام في الأسفل؛ حيث عاشت كرهينة ألِفَت آسِرَها، وبحلول ذلك الوقت اكتسبت جانبًا مظلمًا وازدادت بأسًا. وبصفتها ملكةَ العالَم السفلي — غالبًا ما تُصوَّر متوَّجةً بإكليل من أزهار البَرْوَق، وهي أزهار ترمز إلى عالَم الموت في الوثنية — كانت تحظى بنفوذ كبير لكونها تقضي في أقدار الموتى الذين أُرسِلوا إلى بلاط هيديس.

•••

أغلبهم كان لزامًا عليهم أن يموتوا، وأن يظلوا أمواتًا، لكن البعض كان يمكن «إرجاعه من الموت». لم تكن بيرسيفوني دومًا بتلك الصرامة؛ كلُّ فانٍ كان مقدَّرًا له أن يخضع لحُكمها، لكنها سمحت هي وهيديس للبعض بالعودة إلى العالَم العلوي. كانت بيرسيفوني هي مَن تُمسِك بزمام الأمور حين حاول أورفيوس إعادةَ زوجته الميتة يوريديسي إلى الحياة.

•••

الرسالة «الكئيبة» هي أن الأمر يجب أن يسير على ذلك النحو. تشبه قصة بيرسيفوني ما يُسمَّى بالألمانية «ليرشتوك»؛ أي مسرحية تعليمية: تجعلنا ندرك وقائع الأمور وحقيقتها. نتعلَّمها أثناء معايشتنا لها: الربيع الأزلي لم يكن له أن يستمر؛ فهناك أمور تُعَد جزءًا لا يتجزَّأ من الحياة: شيء من الموت، وبيات شتوي، ونوم بعد العشاء؛ وكما قال روبرت فروست في قصيدة له: «أفضلُ سبيل للخروج من الصعاب يكون دومًا بخوض غمارها». ولذا كُنْ مُتأهبًا دائمًا. «تَمتَّع بربيعك قبل أن يرحل». أدرك ما لديك من نِعَم قبل أن تزول. لكن اعلم أنه لا مكسب حقيقي من ذلك. لا سلطان حقيقي على تلك الأزهار الجميلة. ولا تهدِر الكثير (من الوقت أو الجهد) كذلك. الشتاء بحاجة إلى أن يظل حيًّا كي يجيء الربيعُ بعده. والأهم من ذلك كله، اعلم أنك «يتقدَّم بك العمرُ الآن بينما أخبرك بذلك»؛ اعلم أن كل إنسان منا على وجه الأرض لا يحظى إلا بربيع واحد، «أعمارُنا القصيرة لا تسمح لنا بفتح سجل معاملات طويل الأمد مع الأمل»، وأن «أولئك الذين لا يستطيعون الاستفادة من هِبة الحاضر يفتقرون إلى الحكمة.»

•••

اتخذَ ثلاثةٌ من الكُتَّاب العظماء الذين شَدُّوا الرحال إلى صقلية تجهيزاتٍ واستعداداتٍ إضافية — تجهيزات مُعبِّرة — لرِحلاتهم الربيعية إلى الجزيرة ومنها.

حزمَ دي إتش لورانس في حقيبةٍ صغيرة ما أسماه «مطبخه المصغَّر»، وذلك قبل أن يرحل من مِسينة برفقة فريدا لقضاء أسبوع في سردينيا في يناير عام ١٩٢١. ساعدهما هذا المطبخ على أن يأكلا عند الحاجة، وكان لورانس يفضِّل أن يطهو طعامه على أن يأكل في مطعم، وقد ذكر مطبخه هذا ومحتوياته عدة مرَّات في كتابه «البحر وسردينيا»:

كحول مُمَيثَل، وقِدر صغيرة من الألمونيوم، ومَوقد كحولي، وملعقتان وشوكتان وسكين وصحنان من الألمونيوم وملح وسكر وشاي — ماذا أيضًا؟ القِنِّينة الحرارية، وشطائر متنوعة، وأربع تفاحات، وعلبة زبد صغيرة.

وبالمثل، وضع كولريدج قائمة بما يحتاج إليه في رحلاته إلى جبل طارق وصقلية وملطا قبل أن يغادر إنجلترا في مطلع عام ١٨٠٤.

معطف وقلنسوة أضعُهما في حقيبتي الخضراء وألبسُهما عند النوم.
مظلَّة،
أقلام رصاص للتهادي،
حساء محمول. مستردة.

كما أخذ معه نظَّارة شمسية ذات عدستَين خضراوَين كي يتمكَّن من النظر إلى شمس البحر المتوسط دون أن يبهر ضوءُها بصره.

تنقَّل جوته في إيطاليا بين عامَي ١٧٨٦ و١٧٨٨. كانت حقيبته مهمة بالنسبة إليه هو أيضًا. كان في صقلية في ربيع عام ١٧٨٧، في الفترة من مارس حتى منتصف مايو. كان مهتمًّا للغاية بالخصائص النباتية والجيولوجية للجزيرة. نصحه أحدُهم بإلقاء نظرة من بعيد على جبل إتنا، قائلًا له: «إن كنت حصيفًا، فدعِ الآخرين يخبرونك عن البقية.» امتثلَ للنصيحة ولم يصعد الحُمم البركانية (كان قد صعد بالفعل جبل فيزوف — الذي وصفه بأنه «كومة عديمة الشكل»). لكن حتى في الارتفاعات الأقل، لم تكن السياحة بالأمر اليسير. في صقلية، كان جوته يتدبَّر أمره بكيسِ نوم يستخدمه أيضًا مرتبةً متنقلة. كان أحدُهم قد أعاره «كيسًا كبيرًا من الجلد»، وفي مدينة كالتانيسيتا يوم ٢٨ أبريل اضطُر إلى أن يحشوها بالعُصافة ليصنع منها سريرًا له. تبيَّن أنه «عطية إلهية». في مدينة قطانية يوم ٢ مايو، حظي بليلةٍ مريعة أخرى: «كان مهجعُنا غير مريح لدرجةِ أني فكَّرت جديًّا أن ألجأ إلى كيس هاكيرت الجلدي مرةً أخرى».

لم ينبهر جوته بمدينة إنَّا. لكنه أُعجبَ بالسهل المحيط بها — الذي يُدعى مخزن غلال إيطاليا — والأراضي المنخفضة الخضراء: «٢٤ أبريل. أقسم أني لم أستمتع بتجلِّي الربيع في حياتي بقدرِ ما استمتعتُ به عند شروق الشمس هذا الصباح.» لمَّا بلغَ إنَّا، كانت السماءُ تمطر؛ فعزَّز المطر (مع أنه مفيد للزروع) التبايُّن بين المكان كما تخيَّله وما رآه حقيقةً:

كان استقبال إنَّا العتيقة لنا استقبالًا فاترًا للغاية — غرفة ذات أرضية من الحجر الطبشوري وستائر دون نوافذ، فكان علينا إما أن نجلس في الظلام أو نكابد المطر الخفيف الذي فررنا منه للتو. أكلنا بعضَ مما تبقَّى من مؤننا، وقضينا الليلة بائسين وأخذنا على أنفسنا عهدًا بألا ننخدع أبدًا في أسفارنا باسمٍ ورَد في الأساطير.

على بُعد عشرة كيلومترات جنوب إنَّا، لا تزال بيرجوسا تبدو كما وصفها أوفيد. إنها ليست بمكانٍ باهر. تستقر البحيرة في حوضٍ ضحل تحفُّه الغابات:

الأشجار المحيطة بها.
تتشابك أغصانُها كي تحميَها من لهيب الشمس.
وأوراقها تحتضن فسحةً ذات ظِلٍّ بارد.
دائمة الربيع، تتفتح بها وروده.

(أبيات تيد هيو في إعادة سرده لقصة «اغتصاب بروسيربينا» في كتابه «حكاياتٌ من أوفيد».) حين كنا عند البحيرة، كانت السماء قد أمطرت لتوِّها — رعد خفيف وأمطار خفيفة — وكانت الأشجار تبدو مُثقَلة بالأوراق وداكنة. عند حافة الغابة كانت توجد أزهار بَرْوَق — نَبتة الموت الأزلية: أزهار طويلة ذات لون رمادي شاحب وأوراق سقيمة خضراء ضاربة إلى البياض. وبالقرب منها، ناحية الشاطئ، كان رجلٌ عجوز يجمع الهِليَون البري، يقتلع حُزمًا منه من الأرض — لها أطراف خضراء وجذور شاحبة — ويكدِّسها في حقيبةِ حَمْل بلاستيكية. وفي صفحة الماء، وراء السهام الخضراء للبوص اليانع، كان ثَمة زوجٌ من الغطاس الأسود الرقبة، وهي طيور صُنِعَت من السخام والذهب. بدا الزوج كحاجبَين لنادٍ ليلي راقٍ يرتديان زيًّا مُوحَّدًا، وكان كلٌّ منهما يسبح نحو الآخر مباشرةً، بوضعية متغطرسة ورأس فاحم السواد وعينَين حمراوَين كالدم، وتُزيِّن وجنتَيهما حُزمتان ذهبيتان باهرتان من الشعير، مثل مساحيق تجميل صارخة.

صارت بيرجوسا اليوم مضمار سباق «أوتودرومو». تقترب البحيرة في شكلها من الشكل الدائري ويحيط بها مضمارٌ مُمهَّد متعدِّد الحارات. كانت السيارات — ذات الخلوص الأرضي المنخفض والزعانف، المزوَّدة بمحركاتٍ مُعزِّزة — تَمرقُ فيه. كانت تقطع الدورة الكاملة التي يبلغ قُطرها خمسة كيلومترات في حوالَي ثلاث دقائق. راقبنا مركباتٍ تسير بسرعةٍ غير قاصدة مكانًا بعينه. بدا كل شيء مترابطًا: هنا الحياة تُحسَب بالوقت، هنا يجري الإعداد لبدء سباق، هنا رجل يقطف الأزهار، هنا حارسا بوابة أو حاجِبان، وهنا جرَّاراتٌ من الجحيم، تحرق الوقود، تلتهم الشمس، وتستنزف كلَّ شيء.

لا يمكن عبور المضمار. كان ثَمة سور عالٍ يحول دون دخول أي شخص بخلاف السائقين والميكانيكيين إلى المضمار والبحيرة التي وراءه. يبدو ماء بيرجوسا آسنًا. إذ لا يُرى داخلًا إلى البحيرة أو مغادرها. بل يقبع مثل عَينٍ داكنة لا تطرِف. نظر الرجال على جانب المضمار، وبعض الواقفين وراء السور، ومنهم الرجل الذي يحمل حقيبةً جمعَ فيها الهِليون، إلى السيارات المتسابقة بنظراتٍ تشبه تلك التي كانوا سيرمقون بها امرأةً يومًا ما.

طَبَرمِين

٣٨ درجة شَمالًا
في رحلةٍ بالحافلة خاضها برفقة فريدا و«مطبخهما المصغَّر» إلى داخل سردينيا في يناير ١٩٢١، دوَّن دي إتش لورانس ملاحظة عن طبيعة المناظر الطبيعية الإيطالية:

يتَّسم ذلك البلدُ الأكثر قَفرًا بأنه يجمع إلى حدٍّ كبير بين أسباب التحضر البشري والقابلية للترويض. المكانُ بأكمله واعٍ … أينما يذهب المرءُ يجد أنَّ للمكان عبقرية واعية. سكنَ البشر ذلك المكان وأضفَوا عليه وعيهم وبطريقةٍ ما جعلوه واعيًا؛ إذ منحوه سِمته التعبيرية؛ ليصير كاملًا بحق. تلك السمة التعبيرية قد تكون متمثلةً في لوحات «بروسيربيني» أو «بان» أو حتى «الآلهة المحجوبة» للإتروسكانيين والسيكوليين، لكنها لا تزال نوعًا من التعبير. أضفى الإنسانُ طابعَه البشري المتحضر على الأرض في كل مناحيها: ونحن نحمل نتائج هذا التحضر البشري في نسيج وعينا المتداخل. ومن ثَم، نرى أن ذهابنا إلى إيطاليا و«تغلغلنا» في نسيجها لَهُو رحلة مدهشة للغاية لاكتشاف الذات — تأخذنا إلى أعماق التاريخ.

في خطابٍ موجَّه إلى كومبتون ماكنزي، هو الآن مفقود، تلقَّاه في ديسمبر ١٩١٩ من لورانس، ذكرَ أن ما دفعه إلى الخروج من إنجلترا هو «كآبة أشجار الدردار». لم تكن تلك هي القصة الكاملة، بل في مارس ١٩٢٠ استأجر لورانس وفريدا منزلًا لمدة عام (مبدئيًّا) في طَبَرمِين في صقلية بين مدينتَي قطانية ومِسينة. أثناء محاولة بحثه عنه، كان يمكث في فندق «بريستول» القريب، الذي حاز إعجابه. في أحد خطاباته الأولى المُرسَلة من منزلهما الجديد، تحدَّث عن: «طيور بَريَّة تشكِّل حرف V كبيرًا تحلِّق شَمالًا فوق المضيق، إنها تحنُّ أو تصبو إلى الشَّمال، إلا أنَّ قلبي يهفو إلى الجنوب.»

أحبَّ لورانس العيشَ على الأطراف، وقطعًا الابتعاد قدرَ الإمكان عن المركز: «وثبة واحدة وتصير خارج أوروبا، وذلك أمرٌ حسن.» صار واحدًا من السكان، لكنه لم يكن في حقيقة الأمر سوى سائح مطيل الإقامة، واحدًا ضمن كُثُر. ولبقية حياته، كانت فِكرته عن الديار مشوَّشة. في شرق صقلية، كان العديد من الأجانب يقْضون الشتاء بمحاذاة المضيق، سكان بلاد باردة، جاءوا من الشَّمال مثله، من بينهم جماعة وصفهم بأنهم «رقعة من الحشائش الإنجليزية». تناولهم بسخرية في كتاباته، لكن شعوره كان مماثلًا تجاه السكان المحليين: «التواصل الهشُّ العابر هو نوعي المفضَّل من التواصل: دعكَ من التوغل في معرفة الناس».

كان ظهر منزلهم، فيلا «فونتانا فاكيا» مقابلًا لجبل إتنا، ولم يصعد لورانس الجبل قط، لكنه كان يستشعر وجوده طوال مدة إقامته في صقلية. شَرِب من نبيذ إتنا، ووصف الجبل وكأنه شخص حيث قال عنه: («إنه ينفث اللَّهب ليلًا والدخان نهارًا»)، ووصف غطاءَه الثلجي لمَن يراسلهم. بكَّر الربيع في المجيء ذلك العام، فانبهر به لورانس: «إنه جميل وأخضر، أخضر ومفعم بالأزهار». وحين طلع نوَّار الخوخ بعد طلوع نوَّار اللوز، أوردَ بالتفصيل في خطاباته تعاقب مراحل حياة النبات — شقُّه للأرض وخروجه منها — مثل بطاقات بريدية عديدة مُرسَلة من الفردوس. أرادَ أن يصدِّق أنه نجا من «العالَم» المُفترض، الكلمة التي كتبها بين علامتَي اقتباس، وانضمَّ إلى العالَم الحقيقي الذي لا تحدُّه حدود؛ حيث بوسعنا أن ننعم بحياةٍ أفضل (نحن والثعابين وأشجار الفاكهة). لبعض الوقت على الأقل، قرَّب الربيع في صقلية ذلك الحلم:

تفتَّحت الأزهار الحسنة. توجد زهرة سوسن زرقاء دقيقة بطول الإصبع تتفتَّح وسط العشب وتدوم يومًا واحدًا. إنها أكثر زهرة تحمل طابعًا صباحيًّا رأيتها في حياتي. صباحُ العالَم، ذلك هو الشعور الذي تُثيره في نفسي تلك الزهرة وزهرة بخور مريم. توجد أيضًا أزهار الدَّلَبُوث والخَطْم الوردية والسحلبية، التي تشبه رجلًا عجوزًا ونحلة وعُشَّ طائر. تبدو صقلية باهرة من الداخل. لو استطعت الحصول على بعض المال والانتهاء من كتابة تلك الرواية فسأخوض في وسطها.

لم يفرغ لورانس قط من الكتابة؛ ومن ثَم لم يُتَح له استكشاف الداخل — لا إنَّا ولا بيرجوسا، ولا أي مكان آخر. كان يكتب طوال الوقت في صقلية. كتبَ روايتَي «الفتاة المفقودة» و«السيد نون» عام ١٩٢٠، وكذلك كتابه «التحليل النفسي والعقل الباطن». نُشرَت رواية «نساءٌ عاشقات»، وكانت معظم مراسلاته مرتبطة بحقوق الملكية والوكلاء والطبعات والمُحرِّرين. عوضًا عن السفر، عكفَ على كتابة كتبه، وطلى رفوف كتبه باللون «الأخضر الزاهي»، وأكل ثمار الناسبولي من حديقته، وراقب الصقليين يزرعون القمح من تحت أشجار الزيتون التي لا تظلِّله بالكامل.

اشتدَّ الحَرُّ بسرعة. في مطلع شهر مايو، كانت الأرض «جافة إلى حدٍّ مريع»، وكان الربيع قد انقضى وصار الزمن مشوَّهًا:

غريبٌ هو سبتمبر بين نباتات الأرض الصغيرة، سقوطُ آخِر زهرة خشخاش، وذبولُ آخِر زهرة هندباء برية، وتقصُّف العشب واصفراره، وجفافُ الأرض الذي يحدث في الخريف: فيما تَخضرُّ الكرمات في الربيع وتنضح بحيويته، تعلن أشجار اللوز بثمارها الناضجة عن مجيء الصيف، وتنعم أشجار الزيتون بوجودها الأزلي. ففي أي فصل نحن إذَن؟

حين اشتدَّ الحَرُّ، كان لورانس يقضي اليوم مرتديًا منامته وحافي القدمَين. تطلَّع إلى إتنا من بعيد وكتبَ قصيدة عن الحمم البركانية الباردة التي تصلَّدت والحمم المنصهرة التي شبَّهها بثعبان. كتبَ أيضًا قصيدته الرائعة «الثعبان»، التي تتناول حيوانًا حقيقيًّا، كان يشرب من قرارة ماء («قرارة مائي») ثم اختفى في «ثقب أسود». تظهر منامة لورانس في شِعره كذلك. تتناول قصائدُه عن الأزهار التي كتبَها في ذلك الوقت في جزيرة صقلية ظهور خوارق أيضًا وتُمثِّل يومياتٍ نباتية-فينولوجية لعامه: «أشجار التين العارية» و«أشجار اللوز العارية» و«نوَّار اللوز» و«الشُّقَّار البنفسجي» (وهي الأزهار التي جلبتها بيرسيفوني معها من الجحيم، «أوجار من الظلام» صغيرة على «مروج إنَّا»، تصوَّرها دي إتش لورانس لكن لم يرَها) و«نَبتة بخور مريم الصقلية» و«أزهار التَّيل والمَريمية».

كان يستقوي بكل تلك الأشياء ذات الجذور المتأصلة الممتدة. لكونه مهاجرًا دائمًا، كان حَريًّا به أن يعطي اهتمامًا أكبر للطيور أثناء تحليقها، تلك التي رآها تطير مكوِّنة حرف V حين كان يبحث عن منزل، لكنه كان ينظر إلى أسفل أكثرَ مما ينظر إلى أعلى، ويجسُّ نبض الحياة عن طريق الأزهار. الربيع بالنسبة إليه يأتي من الأرض لا من السماء. يَنبُت من تحته لا يجيء مُحلِّقًا من فوقه. كانت الأزهار هي ما يحرِّك مشاعره — وجودها أو مجيئها.

•••

كان افتقارها إلى الجذور درسًا أقسى وَقعًا في نفس لورانس، وفي الأغلب كان يرفض السماح به. إذ لم يقنع هو نفسه بالتوقُّف. لم يستطِع كَبْح جماح نفسه.

طوال مدة إقامته في صقلية، كان دومًا يضع عينَيه على وجهة أخرى. في غضون أسبوعَين من وصوله إلى طَبَرمِين، أفصحَ عن أنها ليست مستقرًّا طويلَ الأمد: «صقلية ليست ببعيدة كثيرًا.» كان دومًا ما يرى سائر الأماكن أفضلَ من المكان الذي يحُلُّ فيه، ولطالما كان ذلك هو حاله، ولطالما كان مقدَّرًا له أن يظل كذلك. كتبَ يقول: «قد تسوقني نفسي إلى أي مكان.» كان لديه خطةٌ «متحمس لها حتى النخاع»، وهي أن يتجه إلى بحار الجنوب برفقة كومبتون ماكنزي على متن سفينة (تحمل اسمًا غجريًّا — «لافينجرو»). كان لورانس مسافرًا محنَّكًا (يفتخر ﺑ «مطبخه المصغر» ذي التصميم البارع)، ويمنح أصدقاءه الذين يزورونه نصائحَ عملية مفصَّلة عن الحمَّالين ومنحهم البقشيشَ وعن أفضل القطارات القادمة من لندن وكيفية تهريب الشاي والسُّكر من إنجلترا. لكنه كان أقل خبرة في ركوب البحر، وكان يقدِّر تلك الفكرة ويقدِّسها. ما كتبَه عن روبرت لويس ستيفنسون، الذي يعدُّه هاربًا معتادَ الهروب مثله، مثيرٌ للضحك، وكاشفٌ عما في نفسه:

من الغباء الذهابُ إلى ساموا لمجرد الانغماس في الأحلام والانبهار بالسبخات والمستنقعات الاسكتلندية. لا عجبَ أنه مات. إن ذهبتُ إلى ساموا فسأفعل ذلك لأنسى، لا لأتذكَّر.

إلا أنه لم يستطِع النسيان هو نفسه، ولم يستطِع قط الإفلات تمامًا من جذوره.

ما إن تنسدُّ وجهةٌ ما أو تنغلق في وجهه، حتى تُطلَّ وجهةٌ أخرى من وراء الأفق. ستكون النرويج مناسبة («لرؤية أشجار البتولا وهي تتحرَّك وسماع هدير الماء وهو يمرُّ بين الأحجار.»). كان يعرف مزرعة في ولاية كونيتيكت («هل تبدو أمريكا وجهةً جنونية؟ حسنًا، لا يهمني ذلك …»). كان الذهاب إلى جزيرة هيرم إحدى جزر القناة برفقة كومبتون ماكنزي أحدَ الاختيارات حين وجد طريق الهروب عبر بحار الجنوب مسدودًا. كانت رحلته إلى سردينيا رحلةً استكشافية لإيجاد مُنطلَق جديد («لم تكن مكانًا لأعيشَ فيه»). ربما يذهب إلى ألمانيا برفقة فريدا. وكان شَمال إيطاليا أحد الاحتمالات المطروحة. وربما يكون السفر إلى أحد بُلدان البحر المتوسط عبر البحر ممكنًا. كان لا يعرف إسبانيا؛ ومن ثَم كانت مثيرة لاهتمامه حسب قوله: «البلد الأوروبي الوحيد الذي ما زلت منجذبًا إليه». خرج من صقلية إلى مالطا، ولوهلة أحبَّها، لكنه ما لبثَ أن كرهها للأبد: «تبدو لي باهرة جدًّا. ربما ستكون مخيِّبة للآمال.» كانت ذا طابع بريطاني طاغٍ؛ إذ كان بها «مربى الموالح، وأفخاذ الضأن، وأسماك القاروس». وكذلك كان الأمر أيضًا بالنسبة إلى مدينة البندقية: «البندقية تُمتِع النظر لكنها لا تُمتِع الشمَّ ولا تصلح للعيش فيها.»

كان حين يشعر بالحَرِّ يتُوق إلى أن يشعر بالبرد، وكان حين تمطر السماء في صقلية يودُّ أن يرحل عنها، وكذلك حين يشتدُّ الحَرُّ فيها. وفي إدراك جيد من جانبه لطبعِه حتى أثناء ترديده لنفس الكلام المجنون، كتبَ يقول: «لا أجد وجهتي: لا أستطيعُ أن أقرِّر لأي جهة أُولِّي وجهي محاولًا الفِرار.» الشيءُ الوحيد الذي بدا واثقًا منه حينها هو أن عودته إلى إنجلترا باتت مستحيلة. لم يكن ذلك في خطته، مع أن طقس البحر المتوسط الحار جعله يفتقد أزهار إنجلترا وزروعها التي تنمو في درجة حرارة مستقرة (مكافئة لمستنقعات ستيفنسون وسبخاته): «مع الأسف، لا أطيقُ التفكير في أزهار الربيع المَرجية — أزهار إنجلترا لا تُضاهيها أزهار، مهما قلت. فالسماءُ هنا لا تمطر أبدًا.»

يتَّضح من تَوْق لورانس الدائم أنه اكتشفَ أن الحركة — لا الحركة المادية فحسب بل التَّرحال الفكري والتخيُّلي أيضًا — هي أكثر ما يُضفي ثراءً على حياته. طوال حياته كان يخوض رحلة هروب (من مكانه ومن نفسه)، لكنه بذل أقصى ما في وسعه كي يجعل الهرب مفيدًا لتطوير ذاته ولإثراء حياته. إن كنت تشعر بكيفية مرور الزمن في هذا العالَم — وتُؤمِن بما تعرف — فلا شيءَ أفضل من أن تجد طريقة لمواكبة الزمن وانقضائه. فمَن ذا الذي لا يودُّ أن يكون «صباحُه خيرًا»؟ ليس بالضرورة أن تبحر إلى بحار الجنوب كي تفعل ذلك. ولست بحاجة إلى رئتَين واسعتَين تمكِّنانِك من الصعود على قمة بركان مشيًا على الأقدام. بل كلُّ ما تحتاج إليه أن تفتح عينيك على تفتُّح الحياة — وأفضل وقتٍ لذلك هو بالتأكيد أفضلُ وقت من اليوم على الأرض، صباحُ العالَم. فَتِّش عن ذلك، واستوثِق بالإيقاعات القديمة، واستقر فيما تستعد للانطلاق في طريقك، واجعل «مطبخك المصغَّر» جاهزًا دومًا، وابتهج لو استطعت.

كان بالطبع مُتغطرسًا ومُتناقضًا وشكَّاءً ومشوَّشًا؛ وفي بعض النواحي أقل تفتحًا من غيره. هكذا وُلِد دي إتش لورانس، وهكذا عاشَ طوال حياته. وكان يعرف ذلك عن نفسه. رواياته وقصصه زاخرةٌ بتلك المعرفة وبذلك الصراع الدائم، المثير للتساؤلات بطبيعة الحال، كي يعرف ويصير — أو يحاول أن يصير — شخصًا آخر. وهكذا عاش أيضًا. في الصفحة قبل الأخيرة من كتابه «البحر وسردينيا»، في نهاية فصلٍ أسماه «العودة»، يصف فيه عودته إلى صقلية، كتبَ يقول:

هَلمَّ إلى الرحيل. هَلمَّ إلى الرحيل. دعنا نذهب، لا أعرفُ إلى أين، لكن هَلمَّ بنا. ذلك التهور البالغ والشغف الذي لا يعرف ضابطًا ولا مُعلِّمًا ولا مرشدًا له سوى عفويته الصِّرفة.

في نهاية الوقت الذي قضاه في صقلية (غادر في أبريل ١٩٢١ قاصدًا ألمانيا — لفترة وجيزة)، بدا الحل الأمثل بالنسبة إليه هو الإبحار بعيدًا عن كل شيء: «أعتقد أني سأختار السفينة» — «أنا جادٌّ في ذلك ولذا لا تضحك. لطالما كانت لديَّ رغبة دفينة في أن أمتلك قاربًا.» وحين آن الأوان لذلك، بنى قاربًا بالفعل بنفسه: في خريف عام ١٩٢٩ كتبَ قصيدته «سفينة الموت»، وفي ٢ مارس عام ١٩٣٠ أبحرَ.

هليجولاند

٥٤ درجة شَمالًا

لو أن مكانًا «ابتكر» هجرة الطيور، لكان هذا المكان هو هليجولاند، الجزيرة الألمانية الموجودة على يسار الجانب الجنوبي من بحر الشَّمال. حين كنت مراقبَ طيور يافعًا، وددتُ أن أذهب إلى ذلك المكان فور أن سمعت به. تُدرَس الطيور المهاجرة هناك منذ أكثر من ١٥٠ عامًا، وحينئذٍ كان اسمُ الجزيرة مرادفًا لحركة الطيور وتنقلاتها. كما أنه أعار اسمه لطريقة صيد: «فخ هليجولاند»، وهي طريقة ابتُكرَت على الجزيرة، ولا تزال هي الطريقة المُفضَّلة في العديد من مراصد الطيور لتصريف الطيور المهاجرة الصغيرة نحو صندوق جمع الطيور.

هليجولاند مشهورة أيضًا بسقوط الطيور المهاجرة عليها. لا توجد كلمة متعلقة بالطيور لا تزال تثير حماستي أكثر من تلك الكلمة: «سقوط». عادةً ما تُضطر طيور اليابسة أثناء هجرتها إلى عبور البحر، لكن الطقس السيئ أو غير الملائم قد يحملها على التوقف المفاجئ. يحدث السقوط حين تُضطر مجموعات كبيرة من الطيور المهاجرة المجهدة أو المرتبكة إلى التوقُّف. قد يلي صمودَ الطيور اندفاعٌ عظيم. يحدث ذلك بضعَ مرَّات، في أماكنَ مثل جزيرة هليجولاند، خلال أغلب فصول الربيع والخريف. تتساقط الطيور من السماء.

إنَّ تحليق طيور اليابسة فوق البحر ليس بالأمر المواتي. ذلك حيث تسقط أعدادٌ مهولة من الطيور لا محالة في المياه المالحة. ثَمة شهود عِيان على هذا الأمر؛ إذ التقطت قوارب الصيد ديوكَ غاب تغرَق، وشُوهِد شُحرور يحاول السباحة في بحر الشَّمال بالقرب من ساحل نورفولك، وشُوهِدَت كذلك بالقرب من جزيرة هليجولاند سُمْنة مغرِّدة ودُرَّسة ثلوج وشرشور جبلي. تخيَّل مشهد سقوط إيكاروس في الماء دون أن يلحظه أحدٌ كما رسَمَه بيتر بروجل، والحدث نفسه الذي لاحظ أُودِن في قصيدته «متحف الفنون الجميلة» أن أحدًا لم يلحظه. تلك هي النهاية بالنسبة إلى تلك الطيور بالطبع. لكن لو وجدت الطيور الساقطة مكانًا تحطُّ عليه، فقد يلوح سقوط في الأفق. سقوط على اليابسة. المناطق الساحلية — محطات التوقُّف الأولى — هي مناطق سقوط. يمكن أن تكون السفن مناطق سقوط كذلك: الجوارح المهاجرة، وطيور اليؤيؤ والبومة الصمعاء التي تتبع الأسراب ربما تحطُّ على متنها وتقتات على مرعات الماء والدُّرسات الحمراء الجناحَين المختبئة على سطحها. حوادث السقوط هي حوادث تقع على الجزر في الأساس: حوادث هبوط اضطراري على حَشيَّات ارتطام يحيط بها البحر، واحات من اليابسة الصلبة وسط الأمواج المتلاطمة، جبهة ودار رعاية مؤقتة بها مخازن غذاء وتوفِّر إقامة مؤقتة.

•••

يحدث نقيضُ ذلك للطيور البحرية. إذ يدفع سوءُ الأحوال الجوية الأنواعَ البحرية إلى اليابسة، وهو آخِر مكان تودُّ أن توجد به. «تتحطَّم» طيور الأوك الصغير على اليابسة. كما عُثِر على طيور أطيش مطروحة أرضًا وواهنة في حقول بنجر في منطقة السبخات. ورأى صديقٌ لي جَلَم ماء مانكس يختبئ خلف صندوق نفايات في بلدة بيدفورد. تُجرَف طيور الكركر إلى أعماق خليج ذا ووش، كما تُدفَع أيضًا عكسَ تيار الأنهار التي تصبُّ فيه. سيعرف أوديسيوس أن رحلاته انتهت — كما أخبره تيريسياس — حين يحمل مجدافًا من سفينته ويتوغل به في اليابسة فيلتقي أناسًا لا يعرفون أيَّ شيء عن الإبحار ويحسبون مجدافه أداةً للزراعة، مروحة تذرية. في البر الداخلي يصيب الطيورَ البحرية ارتباكٌ عكسي — إذ تصير عوامل التكيُّف لخوض البحار المالحة لديها: جناحاها الكبيران الشبيهان بالمجدافَين، وخرائط المحيط المرسومة برائحته، ومهارات الغوص العميق، وأساليب القرصنة، إلى آخِره، غير ذات جدوى في الحقول المُوحِلة بأي أراضٍ داخلية.

تشهد مقاطعةُ كامبريدجشاير غير الساحلية، التي أقيم فيها حينًا، انجرافَ طيور كركر كبيرة باتجاه أعالي نهر نيني مرورًا بقرية فاول أنكور (المُسمَّاة تيمُّنًا بملاذها — رغم أنف العواصفِ نفسِها التي تقرِّر اتجاهَ تحليق تلك الطيور التي حادت عن مسارها). تعتبر حانة البرجر على شاطئ سيفرن، القريب من مقرِّي غير الدائم الثاني في بريستول، مكانًا ملائمًا للاختباء ومراقبة طيور نوء ليتش التي تجرفها العواصف وهي تحاول تجنُّب الانجراف إلى البر. يدرك المرءُ مدى قوة الرياح في المحيط الجنوبي، حين يطير نوء عملاق، وهو طائرٌ آكِل للبطاريق، ويُعرَف أيضًا باسمَي الشَّرِه والنتن، ويبدو حقًّا مثل ثعلبٍ متنكر في هيئة حَمَل وديع، في خليج فولس باي بمدينة كيب تاون مارًّا بين راكبي الأمواج في بلدة ميوزنبرج وفوق الرمال التي تهبُّ بضراوة باتجاه البر الداخلي من الشاطئ نحو إنشاءات الصرف.

•••

استقللنا قاربَ قطمران من مدينة هامبورج. كان يومًا مطيرًا في منتصف أبريل. كانت الرحلة من نهر إلبه أشبه على نحوٍ غريب برحلة نزول منحدر؛ إذ كانت جميع أمطار أوروبا تجري باتجاه البحر. سافرنا بين ألوان البيج والأشهب الداكن ولون اللَّباد التحتي، وكأنه دليلُ عيناتِ ألوان يقترحه نقَّاش كئيب لأقصى درجة: كانت السُّحب (البُنية) تُسيِّج أيَّ منظر وتَقطُر في النهر المُوحِل العريض (البُني)، الذي تباعدت ضفَّتاه (البُنيتان) وغاصتا حتى غابتا عن الأنظار (غرقتا). لم يبدُ أن قاربنا كان يسير أسرعَ من التيار. كان الدثار الشبيه بوبر الغنم الذي يكسو كلَّ شيء يستدعي احتساءَ جِعة بعد الإفطار مباشرة. الغنم نفسها الواقفة على أرصفة المواني تعير أصوافها وكأنها ممسحات للسماء المُشبَّعة بالماء. جلسَ عُقابان أبيضا الذنَب تفصلهما مسافةُ كيلومتر واحد دلالةً على التذمر، وقد ربضَا على الشاطئ خافِضَين رأسَيهما ذوَي المنقارين المُلوَّثَين بالنيكوتين، وتجمَّعت قطراتُ مطر على طرف أنفَيهما ذوَي حاسة الشم القوية.

توقَّفنا في كوكسهافن. احتشد مرتدو أردية المطر الفاقعة الألوان في رَدهتنا المُشبَّعة بالبخار. تابعنا السير بالقارب ذي المحرك، عابرين بجانب عقدة من الاضطراب الدخاني فوق الأراضي الوحلية المنبسطة، إلى الثغر الفاغِر لنهر إلبه. هنا صفع البحر هيكل السفينة صفعةً خفيفة وأضاف القليل من اللون الأخضر إلى المشروب. في البداية، جاء أطيش يتحرك بجانبنا. جاءنا صوت القبطان عبر نظام الصوت يشرح مسار عبورنا خلال السفن الراسية. قال: «إنها تنتظر الأوامر.» سيتجه بعضُها إلى البر نحو مدينة هامبورج باتجاه أعالي النهر الذي خرجنا منه لتونا، وبعضُها سيسلك قناةَ كيل للسفن إلى بحر البلطيق، وبعضُها سيتوغل أكثرَ في بحر الشَّمال، أو المحيط الألماني، متجهًا إلى اسكندنافيا أو الساحل الشرقي لبريطانيا، وبعضُها سيتجه غربًا ليعبر قناة «المانش» متجهًا إلى مسارات الشحن في المحيط الأطلنطي، ومياه البحر العالمية المشتركة. تابعنا طريقنا باتجاه الشَّمال الغربي عبر بحر وادن، وفي غضون ساعة تقريبًا لاحت هليجولاند في الأفق، كان ارتفاعُها الرأسي غير مألوف، وبدت ضئيلة في بادئ الأمر ولكنها حمراء وراسخة، ووجدنا فيها مكانًا نقصده أخيرًا.

•••

تتكوَّن هليجولاند حاليًّا من جزيرتَين. جزيرة ديون، التي لا تفصلها عن الجزيرة الرئيسية سوى قناة ضيقة، هي جزيرةٌ مستوية وشاحبة، تبدو مثل شاطئ رملي خلَّفه بحرٌ مُنحسِر، لا أحدَ يسكُنها. تبدو مثل فقمة جُرِفَت إلى شاطئٍ ذي مدٍّ منخفض وظلَّت حتى تجف. تتكوَّن الجزيرة الرئيسية من ثلاثة أجزاء: رصيف صخري قمته مثالية الاستواء ومنارة؛ ومنطقة شاطئ مرتفعة أسفل أحد جوانب الأجراف الحمراء؛ وغطاء رسوبي جنوبي أقرب إلى الاستواء؛ حيث تُدار الأعمال البحرية للسفن وحيث يوجد مرفأ خلف الخطوط المستقيمة التي تصنعها مصدَّاتُ الأمواج والأسوارُ البحرية اللتان صمَّمهما البشر. بعضُ الأجزاء يطغى عليها الطابع البشري أكثر من غيرها، ولكن في العموم يظهر تأثير الإنسان في جزيرة هليجولاند بجميع ربوعها.

وأنت تتقدَّم من الجنوب الشرقي بالقارب، ترتبك؛ إذ ترى أن الجزيرة الرئيسية بأكملها مُسوَّرة، حتى الجزء الأكثر قفرًا منها حيث الكتلة الأكبر من الصخور. اندثرت الأجرافُ الصخرية الرملية التي يبلغ ارتفاعُها ستين مترًا مراتٍ عديدة في الماضي، لكن الآن صار يحميها من البحر حاجزٌ خرساني متين. أثار ذلك في نفسي — قبل حتى أن تطأ أقدامنا الشاطئ — شعورًا بالجزع؛ إذ بدت الجزيرة أسيرة، هليجولاند بأكملها كانت مثل فكرة حبيسة.

كنا سننزل في نُزُل الشباب. راقبنا الطيور أثناء سيرنا إليه. سبقتنا مَركباتٌ كهربائية هي مزيج من عربات الجولف وعربات بيع الحليب، تقرقر أثناء سيرها في طريقها الذي لا مَعالِم له، ناقلةً صناديق البضائع الواصلة حديثًا ومَن فضَّلوا التنقل بالعربة من السائحين الذين نزلوا حديثًا من القوارب على المشي. ونحن في طريقنا، حاولنا تمييز المهاجرين عن المقيمين، بما في ذلك الطيور والبشر. مررنا بفنادقَ ومتاجرَ تحفُّ جدار المرفأ، ودُرنا حول بلدة من المنازل المتقاربة بشدةٍ متاخمة لجرف الجزيرة الرئيسية، ثم سلكنا مسارًا مُمهَّدًا مبتعدَين عن ذلك الجرف، وهو مسارٌ يمرُّ بما يبدو أنه كان شاطئًا في السابق، يكسوه العُشب والبلسان وشجيرات العليق والنباتات الشائكة.

تلك الأرض كانت بحرًا يومًا ما. أثناء تحصين الألمان لحدودهم الاستراتيجية في ثلاثينيات القرن العشرين، استجلبوا صخورًا من أماكنَ أخرى وفصَلوا الرمال عن الأمواج، وشيَّدوا فوقها المنشآت ليوسِّعوا «المجال الحيوي». الشاطئ المرتفع ما هو إلا مثال على تخبُّط دامَ قرابة قرنَين حول ماهية هليجولاند: «أرضٌ فضاء» يجب الدفاعُ عنها أحيانًا ومهاجمتُها أحيانًا أخرى، أم صخرةٌ يجب اختراقها أو تحصينها، أم شاطئٌ يجب تفجيره أو تمديده، أم جزيرةٌ يجب توسيعها أو تقسيمها — إنها نموذجٌ أولي لقلعة رملية لم تخرج تمامًا كما أراد بنَّاؤها أو وفق ما تسمح به قوانينُ الفيزياء.

على ذلك الجزء المستوي الذي صمَّمه الإنسان، والذي يقع في جهة الشَّمال والشَّمال الغربي بالجزيرة، توجد ساحة لعب للأطفال، وحديقة للترامبولين، وملعب جولف مُصغَّر، ومحطة لتوليد الطاقة بمياه البحر، وملعب كرة قدم مفروش بعُشب بلاستيكي، يليه النُّزُل على الشاطئ الصخري. رأينا من الطيور المهاجرة أربعة أبالق، وهازجة صفصاف، وشفشافة، وذَكَر أبو قلنسوة، وأربع جشنات شجر، وذُعرتَين بيضاوَين، وثلاثة صَعْوات صفراء العُرف. إنه ليس سقوطًا واضحًا، ولا حشدًا باهرًا، لكنه شيءٌ جديرٌ بالذكر. ولأننا كنا قد وطِئنا الجزيرةَ لتونا، لم نعرف إن كانت تلك الطيور هي بداية لوصولٍ جماعي، أم هي بقايا رحلاتٍ وصلت سابقًا لكنها استكملت المسير. أم إنها مجرد جزء من سيل الطيور التي تمرُّ على نحوٍ عادي وتظهر في عدة أطراف من اليابسة في أرجاء أوروبا باعتبارها جزءًا من التبادُل الذي يحدث مرتَين سنويًّا لملايين الطيور المهاجرة؟

إنَّه لمن الشائق دائمًا أن ترى طائرًا مهاجرًا حتى وإن كان شائعًا، مثل هازجة الصفصاف، «يسلك» سلوك الطيور المهاجرة ويبرهن على ذلك باقتياته من الأرض، بين الشجيرات الشائكة ببُستان وردٍ أمام مربَّع سكني مخصَّص لشقق قضاء العطلات. الطيور التي تبدو في غير محلها تُشعِل شغفَ المهتمين بالطيور. كان ثَمة صَعو، وبضعة عصافير دورية، وطيور زرزور، وزيغان زرع، وغراب جيف أيضًا. استقررنا على أنها طيور مقيمة ونظرنا إليها من هذا المنطلق. كانت أقل تشويقًا. لكن كان ثَمة طيور أخرى تجعلك تشعر أنها ربما تقطَّعَت بها السُّبُل على الجزيرة وأنَّ لها قصة مختلِفة. القراقف الزرقاء والقراقف الكبيرة على هليجولاند بدت لي كذلك — لم أستطِع أن أنظر إليها باعتبارها طيورًا مقيمة دون أن أفكِّر في ضآلة احتمال طيران قرقف أزرق فوق البحر لمسافة مائة كيلومتر. ما الذي سيدفع طائرًا، أعرفُ عنه اشتهاره بأنه طائر مقيم في البساتين الإنجليزية، أن يفعل أمرًا كهذا؟ ثم رأيتُ غرابًا مُقنَّعًا جعلني أعود ببصري إلى غراب الجيف، الذي ربما أكون قد نظرتُ إليه نظرةً عابرة للغاية. ذلك أن أحد النوعَين لا يُفترَض به أن يكون هنا.

تسترعي عبارة «لا يُفترَض به» الانتباه هنا؛ إنه سعيٌ وراء ما هو مختلف وغريب وشارد. أفضل طريقة لاستشعار مرور الربيع بسلاسة، هي البحث عن زلَّاته وعثراته؛ وإدراك انسيابه باستشعار توقُّفه؛ واستكشاف سماء ليلة أمس بطرد أولئك الذين سقطوا منها فجرًا من ملعب جولف مصغر. كان دارسو علم الطيور يُشجِّعون على القدوم إلى جزيرة هليجولاند ليَروا كيف تنجح الكثير من الطيور في هجراتها عن طريق تعلُّم أسباب فشل قلة من الطيور الأخرى. ذلك أن نجاح الطائر يعني عدم اضطراره إلى الهبوط على جزيرة هليجولاند. ومن ثَم، فإنه يمضي في طريقه إلى حيث عليه أن يذهب. أما سقوط الطائر فغالبًا ما يعني إخفاقه. بعض الطيور يداوي جراحه أو يضمدها ثم يتابع رحلته، لكن البعض الآخر يكون قد وصل حتمًا إلى نهايته المبكرة أو السابقة لأوانها، وتكون فرصه في إيجاد سبيلٍ للمتابعة أو المغادرة ضئيلة، فلا يسعه سوى أن يتكوَّم في أي دار جنازات توفرها له الجزيرة.

في نُزُل الشباب، كما في العديد من مقاهي الجزيرة وفنادقها، كان ثَمة مقاعدُ خارجية: كراسيُّ محاطة بسلال من الخوص تسمح للزائرين بالجلوس في الشمس لكن بعيدًا عن الهواء. الجلوس فيها يشبه القبوع في عشٍّ ضخم أو ارتداء معطف سميك ثقيل يُصدِر صريرًا ومصنوعًا من الأعواد. وعلى غرار الزائرين المهاجرين، وصلنا مبكرين على أن نسجل وصولنا في الفندق؛ ولذا أخذنا اثنين من تلك الكراسي وجلسنا لساعة نتطلع إلى البحر الذي عبرناه لتونا. وغفونا على الفور تقريبًا.

•••

نشأتُ وأنا معتقِد أن هليجولاند شِبه إنجليزية. كانت شِبه إنجليزية ذات يوم، لكنها في الواقع لم تَعُد كذلك منذ قرابة القرن. لكن الكتب تُرسِّخ الأماكن التي تصفها، وتوطنها في زمن كتابتها، وتحبسها فيه داخل ذهن القارئ. وكانت الكتب القديمة هي مصدر معرفتي بجزيرة هليجولاند: لا سيَّما كتاب «طيور هليجولاند» لهاينريش جاتكه (١٨٩٥، كتبه جاتكه باللغة الألمانية، وترجمه ردولف روزِنستوك)؛ يليه كتاب «دراسات في هجرة الطيور» (١٩١٢) لويليام إيجل كلارك (يا له من اسم!) الذي عرفتُ منه كذلك ماذا تكون كينتش نوك؛ ثم فصل في كتاب رونالد لوكلي «أعرفُ جزيرة» (١٩٣٨)، يسجِّل فيه زيارة خريفية قام بها عام ١٩٣٦ حين كانت هليجولاند تتأهب للحرب (تحدَّث عن مقاطع أفلام قصيرة لدخول جنود بالمِشية العسكرية إلى دار السينما في الجزيرة وكذلك سقطة قياسية لطيور ديك الغاب).٧

بروسيا هي مسقط رأس جاتكه الذي انجرف حُطام سفينته إلى جزيرة هليجولاند أثناء فراره (لكونه من الليبراليين المهزومين) من نتائج انتفاضات ١٨٤٨ في برلين. كانت لديه معرفة سابقة بالجزيرة قبل نزوله عليها؛ إذ سبق أن زارها بصفته صيادًا. ولمَّا كانت خاضعة للنفوذ البريطاني حينها، استطاع أن يلتجئ إليها. مكثَ عليها، ربما مثل قرقف أزرق، وتزوَّج من أهلها ولمدة ثمانية وعشرين عامًا لم يغادر هليجولاند. بجانب إجرائه واحدة من أُولى الدراسات المنهجية عن هجرة الطيور، عمل أيضًا أمينًا للحكومة، موظفًا مدنيًّا بالحكومة الاستعمارية، ورسام مناظر طبيعية وبحرية. ووافته المَنية عام ١٨٩٧ على جزيرة هليجولاند. حينئذٍ، كان دارسُ الهجرات قد صار خبيرًا بها.

على مدار حياته، جمع جاتكه الآلاف من الطيور التي حاولت أن تتخذ من الجزيرة «مستراحًا» لها. جاء كتابه نتاجًا لعقود من المشاهدات، وعلى حد قوله، فإنَّ: «الطبيعة نفسها هي التي وضعت القلم في يدي». دراسة الطيور في القرن العشرين تكاد تكون دومًا مرادفًا لقتل الطيور. كانت الجزيرة ملاذًا للطيور العابرة، لكن ذلك لم يُدرَك إلا بتحويلها في الوقت نفسه إلى مذبح لتلك الطيور. كان جاتكه واحدًا من العديد من حاملي البنادق على هليجولاند. ولكنه على عكس معظم الصيادين الذين كانوا يركِّزون على قيمة لحوم فرائسهم؛ كان جاتكه مهتمًّا بالندرة والتنوع.

في آخِر صفحة من كتابه المكوَّن من ٦٠٠ صفحة، توجد صورة فوتوغرافية لجاتكه مكتوب تحتها «المؤلف مرتديًا حُلَّة القنص، ١٨٩٣». وفيها يظهر جاتكه ممسكًا بنورس ميت كبير الحجم يافع (ربما يكون من نوع النورس الأسود الظهر الكبير) في يدٍ يكسوها قفاز دون أصابع، وبندقيته في اليد الأخرى. يبدو مكفهرًّا ويرتدي قبعةً سميكة من الصوف وسترةً سميكة من جلد دب ربما يكون هو مَن ربَّاه. تنسابُ لحيته الرمادية الطويلة المتشعبة مثل شلَّال متجمِّد على الفراء. وفي عينَيه نظرةٌ بعيدة كنظرة مستكشِف قطبي.

أول اسم في قائمة الطيور التي رصدها جاتكه على جزيرة هليجولاند هو «شاهين جرينلاند» (وهو جنس من السُّنقُر). قنصَه — أول واحد يعرف بوجوده على هليجولاند — في أكتوبر ١٨٤٣، ويقول إنه السبب في بدء دراساته عن الطيور. ماتت طيور عديدة أخرى. بعض الطيور أفلتت منه. وبعضها لم يكن مثيرًا للاهتمام بالقدرِ الكافي لأن يُؤخَذ للدراسة. كانت الحميراوات المهاجرة شائعة على هليجولاند، ولم يُذكَر أن جاتكه اقتنصَ أو جمعَ أيًّا منها، مع أنه فعل ذلك لا محالة. يقول جاتكه إن ذلك النوع يوجد ضِمن «حشود هائلة»، أثناء عبوره في الربيع والخريف حين «تكتظ الحقول، لا سيَّما حقول البطاطس، بالألوف المُؤلَّفة من تلك الطيور». لم يذكر ما هو أكثر من ذلك؛ كان بيانه الموجز ووصفه العابر لكثرةِ ذلك الطائر يفيدان بأن الحميراوات كانت ذات يوم شائعة جدًّا حتى إنَّ أحدًا لم يكن يلقي لها بالًا. كانت هي قوام إجمالي هجرات الطيور، وتشكِّل جزءًا من صافي كتلتها ومخلَّفاتها. تلك الأعداد لم تَعُد موجودة. رأيتُ أقل بكثير من ١٠٠٠ حميراء على مدار خمسين عامًا من بحثي عنها.

كانت الأنواع النادرة من الحميراوات تُقتنَص على الجزيرة. فقد وصل بطريقةٍ ما أحدُ طيور حميراء المغرب، وهو نوع شَمال أفريقي مقيم، إلى الجزيرة في صيف ١٨٤٢.

اقتنصها أولريتش يوكنز، وباعها لطالب حقوق يافع يُدعى يوكموس، من مدينة لونبورج، اعتاد أن يأتي إلى هنا كل عام ليعوم في البحر. كنت حينئذٍ لم أكَد أضع اللَّبِنات الأولى من مجموعتي، ولم أكن أدري قيمة هذا النموذج بالنسبة إلى جزيرة هليجولاند. بعد ذلك بذلتُ جهدًا متكررًا وحثيثًا كي أستعيده، لكن دون نتيجة. أخيرًا استسلمتُ واعتبرتُها مهمة لا طائل منها؛ إذ قيل لي إن حالة الطائر تردَّت. كان ذَكرًا جميلًا له ريشٌ رث بعض الشيء …

لم أرَ حميراوات المغرب إلا في موطنها الأصلي في المغرب. إنها طيور بديعة. أول واحد رأيته منها كان ذكرًا، يوم ٧ يناير ٢٠٠٧، في وادٍ مليء بأشجار العرعر جنوب شرق قرية التوامة. كتبتُ في دفتر ملاحظاتي:

إنها طيور بهية وواثقة، صدرُها أزهى لونًا من الأرض الحمراء تحتها، وأجزاؤها السفلية لونُها برتقالي أبهى من الحميراء الشائعة، وبرأسها نقشٌ بديع باللونَين الأسود والأبيض (تلبَس «تاجًا» أبيض، كما يقول الكتاب) وعلى جناحَيها رقعةٌ بيضاء زاهية. كما أن لها ذنَبًا مهتزًّا!

كرَّس جاتكه صفحة في كتابه عن هازجة خضراء سوداء الحَلْق. طائر واحد. أول ذِكر لهذا النوع الأمريكي كان طائرًا قُتِل على جزيرة هليجولاند في نوفمبر ١٨٥٨ «قتله صبيٌّ بأنبوب نفخ». كان الإدخال التالي في قائمة جاتكه عن الصعو الأصفر العُرْف، وهو أصغر طائر أوروبي وأحد أكثر الطيور الأوروبية المهاجرة شيوعًا. على غرار الحميراء الشائعة، لم يذكر حدوث وفَيات له. عوضًا عن ذلك، تحوَّل جاتكه إلى شاعر لاهوتي:

تخيَّل أمسية ربيعية معتدلة صافية: كانت الشمسُ قد غربت منذ مدة، وكان الرحَّالة من ذوي الريش قد ناموا وسكنت أصواتهم … فجأةً تأتيك خلال السكون، وكأنك بين اليقظة والنوم، نغمةُ الصعو الصغير [يقصد أصفر العرف]، ثم ما يلبث بعدها أن يظهر الطائر صاعدًا من الشجيرات القريبة، في سماء الليل التي لا تزال مضيئة؛ تدوي نغمة ندائه «هييت-هييت-هييت» على فترات زمنية ثابتة فيما يطير مبتعِدًا، في دوامات تصاعدية بعضَ الشيء في أرجاء الحدائق المجاورة، ثم تأتي من كل شجيرة — هنا وهناك، قريبة وبعيدة — إجابة النداء: «هييت-هييت، هييت-هييت، هييت-هييت» في نبراتٍ عالية واضحة، ومن كل حدَب وصوب يهبُّ رفقاؤه الذين أيقظهم لأجل الرحلة لأعلى، على إثر مستهلهم الأبكر — لكن ذلك الأخير يتوقَّف عن الدوران في الأرجاء بعد أن أعلنت الأصوات استيقاظ جميع النائمين، ويصعد إلى أعلى فاردًا صدره ضاربًا الهواء ضرباتٍ سريعةً قصيرة بجناحَيه، صعودًا يكاد يكون رأسيًّا؛ ثم ما تلبث الطيور جميعًا أن تتجمَّع في حشد متفرق بعضَ الشيء، وتسكن نغمات النداء حين ينضم آخرُ متلكِّئ إلى السِّرب المغادر، ويختفي الرحَّالون الصغار من مرمى البصر. فيما كنا نصغي إلى نغمات ندائها التي أخذت تخفُت رويدًا رويدًا مبتعدة، ونحاول جاهدين أن نحظى بنظرة أخيرة على الطيور المغردة الصغيرة، ثم ظهرت في موضعها أول نجمات تتلألأ بوَهن في الأثير العميق الشفَّاف في الأعلى. بعدها، ظلِلنا نحدِّق إلى سماء الليل المرصَّعة بنقاط لا تُحصى من الضوء، وتخيَّلنا أن تلك العوالِم اللامعة التي تفوق الحصر هي كلُّ ما يتحرك بيننا وبين اللانهائية، إلا أنه في الوقت نفسه تتحرك من فوقنا الآلاف، بل الملايين من الكائنات الحية نحو هدف واحد محدَّد — كائنات ضئيلة ضعيفة مثل ذلك الصَّعو، لكنها جميعًا تتحرَّك وفق نظام مُحكَم مُتقَن مثلها مثل أبعد النجمات المتلألئة.

بعد كل ذلك الإحصاء والقنص، والطيور الشاردة الاستثنائية التي جمعها، ثم ليلة الطيران الشاعرية لطيور الصعو الصفراء العُرف، لم يحصل جاتكه على إجابةٍ شافية عن ماهية الهجرة أو كيفيتها. لا بد أنه أدرك من رؤيته لطيور الصعو الصفراء العُرف على جزيرة هليجولاند أنها لا تتحرك بالضرورة «وفق نظام مُحكَم مُتقَن»، لكن لا أحد في أي مكان كان يعرف أكثر من وفيات تلك التي ضلَّت الطريق ورحيل تلك التي كُلِّلت هجراتها بالنجاح.

بعد أن نشر جاتكه كتابه بفترة وجيزة، أوردَ عالِم الطيور المجري أوتو هيرمان قائمة ببعض الآراء المتضاربة لبعض الباحثين حول أصل الهجرة. تَرِدُ فيها نظرياتُ جاتكه (نسخة من وصفه لطيور الصعو الصاعدة في السماء ونظرياته الحالمة في علم الطيور) ضمن نظرياتٍ عديدة أخرى:

ناومان: «توجد مساراتٌ محدَّدة للهجرة.»
هومير: «لا توجد مساراتٌ محدَّدة للهجرة.»
فايزمان: «الطيور تتعلَّم كيف تهاجر.»
جاتكه: «تهاجر الطيور بغريزتها.»
بالمن: «تحدِّد الطيور وجهتها بطريقة اعتيادية.»
فايزمان: «تحدِّد الطيور وجهتها بالفطرة».
جاتكه: «لا يوجد للطيور قائد.»
فايزمان: «يوجد قائد.»
والاس: «ليس للطقس تأثيرٌ جوهري.»
هومير: «للطقس تأثيرٌ جوهري.»
ناومان: «تلعب درجة الحرارة دورًا حيويًّا.»
أنجوت: «درجة الحرارة ليست عاملًا محفزًا.»
لوكانوس: «يحدُث التحليق على ارتفاع ٣٠٠٠ قدم.»
جاتكه: «يحدُث التحليق على ارتفاع ٣٥٠٠٠ قدم.»
براون: «الموطن الأصلي للطيور هو المناطق الاستوائية.»
دايشلر: «الموطن الأصلي للطيور ليس المناطق الاستوائية.»
لا تحمل الطيور حقائبَ أو جوازات سفر. غالبًا ما يكون ذلك هو أول شيء أقوله حين يسألني الناس لِمَ أُكنُّ لها كلَّ ذلك الإعجاب. يساعد ذلك في تفسير سبب اقتفائي لها. فهي تسافر حاملةً رسائل، لا حقائبَ سفر؛ هي في ذاتها الرسائل، وتعود حاملةً أخبارًا من أمكنة أخرى وأزمنة أخرى. (النفوذ الذي تحظى به الطيور في عوالمنا المُتخيَّلة له علاقة وثيقة برِحلات طيرانها وعبورها، ووجودها في غير مكان؛ هي «استعاراتٌ» بالمعني الحرفي للكلمة.)٨ فهي لا تشقُّ طريقها في العالَم بوضوحٍ جلي، دون حاجة إلى أمتعة، بقدرِ ما تكون حين تراها تسقط من السماء، بعد أن تكون قد عبرت محيطاتٍ مائية كي تحطَّ على جزيرة في رقعةٍ من الظل عند قدمَيك. جزيرة وصلت إليها بعد أن ركِبت سيارة ثم قطارًا ثم قطارًا نفقيًّا ثم طائرة ثم مترو أنفاق ثم قاربًا ثم عربة جولف. جزيرة وصلتَ إليها وأنت تُجرجِر خلفك عبئًا أو ثِقلًا لا تقدِر على التخلص منه؛ صوت قعقعة الموت المتباعدة لعجلات حقيبة سفر صغيرة على الخرسانة والأسفلت الذي يخترق سمعك ويسلبك راحتك.

عندئذٍ يفتح النُّزُل أبوابه، فتضع حقيبتك، وتزرر معطفك؛ لأن الجو خارج أقفاص الخوص أبرد مما توقَّعت، وصار المطرُ يشوبه الآن، ثم تخرج لتسلك كلَّ مسار ممكن. وتعود بعد ساعات، لكن ما تلبث أن تمرَّ عدة دقائق حتى تشعر أن عليك أن تخرج مرة أخرى. لا بد أن الأمر يحدث الآن أو يوشك أن يحدث؛ لا بد أن طيورًا جديدة ستحط؛ ثَمة بساتين لم تمعنْ فحصها ورقعة من الشجيرات تشعر أنها تأوي شيئًا لا محالة.

ومن ثَم، تخرج مجددًا.

وتستمر على هذا المنوال لأيام.

لم يكن ثَمة الكثير لتراه. كان وقتًا جيدًا من السنة، لكن ليس من تلك السنة بالتحديد. لم نصادف أيَّ سقوط. مع ذلك كنت أخرج وأقوم بجولاتي. كانت كلير تكتب رسائل البريد الإلكتروني وتحتمي بالدفء بالداخل فيما كنت أسير وحدي، أستيقظُ مبكرًا، وأقيس اتجاه الرياح وأسير في شريط ساحر بمحاذاة مصد أمواج حيث أسمح لنفسي بأن تتحمَّس لرؤية بعضٍ من طيور الأبلق والقليعي الأحمر. كنت أقضي اليوم كلَّه في الخارج، كنت أشعر أنني عليَّ فِعل ذلك. بعد حلول الظلام، أجلس في غرفتنا ذات الطراز الأسبرطي، وأقرأ على ضوء مصباح موفِّر للطاقة، عن الأيام الخوالي، عن صناعة السجاد والوفرة وحُمى الذهب.

•••

منحت بريطانيا جزيرة هليجولاند إلى ألمانيا عام ١٨٩٠. وفي المقابل حصلت هي على أرخبيل زنجبار. تلك معلومة من النوع الوارد في ألعاب أسئلة المعلومات العامة. بجانب تاريخ السياسة الجغرافية الاستعمارية، فإن حماقة عملية التبادل تلك تُعَد دليلًا على الحقائق المدهشة عن هجرات الطيور التي كشفتها لنا هليجولاند (ولا تزال تكشفها لنا) والشعور الغريب بالاصطناع أو الزيف الذي ينتابك تجاه الجزيرة البشرية الموجودة في وقتنا الحالي. هي مُتنفَّس للطيور، وللبشر، لكنها تعلِّمنا أيضًا أنه لو أردت المضي قُدمًا بحق فعليك بالتجاوز فعلًا.

بينما كنت أترقَّبُ هازجة لم أكن قد رأيتُها بوضوح عند سياجٍ مُطلٍّ على بستانٍ مستأجر، خطر لي أنه من المُحتمَل، أو حتى المُرجَّح، عندما بُدِّلت الجُزر، أن تكون بضعة طيور مفردة — ربما سُنونوات حظائر أو خرشنة شائعة — قد زارت كلًّا من زنجبار وهليجولاند. وجدتُ في ذلك شيئًا من السلوى. شيئًا يسيرًا لا كثيرًا.

على مدى ثلاثة وثمانين عامًا في القرن التاسع عشر، كانت هليجولاند تحت الحُكم البريطاني. الجزيرة (الواحدة أو في بعض الأحيان الجزيرتان) مأهولة منذ القِدم. كان الموتى يُوارون ترابها منذ عصورِ ما قبل التاريخ، وكان الأحياء يؤانسوهم في وحدتهم. وضع ملوك الدنمارك يدهم عليها عام ١٢٣١. وتراجع رادبود آخِر ملوك الفريزيون إليها بعد هزيمته على يد قبائل الفرنجة عام ٦٩٧. يتَّفق أغلب الناس على أن اسم الجزيرة يعني الأرض المقدسة، مع أن بعض علوم الاشتقاق تشير إلى أن الاسم مشتقٌّ من كلمة «هالاجلون» أو «هاليجلاند» بمعنى «أرض ذات شواطئ رملية تُغشى وتنكشف». كان الناس يعيشون على صيد أسماك الرنجة والقد والحَدُّوق، وعلى إغراق السفن على شواطئها ونقيضه، توجيه السفن إلى مناطقها الساحلية الهانزية الرملية، وعلى قنص الفقمات والطيور (الطيور البحرية التي تتكاثر والطيور المهاجرة). خسِر الدنماركيون هليجولاند لصالح بريطانيا عام ١٨٠٧ خلال الحروب النابوليونية.

يتَّفق على ذلك دليل سفر «فودرز» و«بيدكير» وموسوعة «ويكيبيديا»، عدا التحركات الرملية. حتى يومنا هذا، لا يزال بعض سكان هليجولاند من الفرنجة حتى بعد فترة طويلة من رحيل رادبود. وبلغة الفرنجة الهليجولاندية، يُسمون موطنهم «ديت لون»، وتعني «الأرض». الأرض ونقيضها البحر؛ إذ إن ما سواها بحر. إنه اسمٌ شبيه بذلك الذي منحته تلك القبائل لنفسها عبر التاريخ، وهو يُترجم إلى «البشر» أو «الناس»، ويعني بعبارةٍ أخرى أن ذلك الوصف ينطبق عليهم دون سواهم. حين تكون على جزيرة هليجولاند، فإن كلمة «الأرض» تبدو اسمًا ملائمًا؛ فهي المكان الوحيد في مجال بصرك الذي يسعك الوقوف عليه. واليابسة — أو كون الجزيرة «أرضًا» وسط ذلك الكَم المهول من الماء — هي ما جعلت المكان مهمًّا بالنسبة إلى الطيور المهاجرة.

لكن تلك الأرض لم يكن يُعوَّل عليها بصفتها أرضًا راسخة. إذ تعرَّضت هليجولاند لتغيُّرات هائلة في التاريخ الحديث. وأنا أقبع مكتئبًا في النُّزُل، شاهدتُ من سريري الذي يُعَد من المرافق العامة فيلمًا إخباريًّا قصيرًا من إنتاج شركة «باتيه» يُدعى «هليجولاند تصعد لأعلى». في أبريل عام ١٩٤٧، أحدث البريطانيون أكبر قدرٍ ممكن من الدمار في جزيرة أعدائهم السابقين، مستخدمين ٦٤٠٠ طن من المتفجرات، كما يقول صوت المُعلِّق المقتضب السريع في الفيلم الإخباري قبل أن يردف: «وهو ما صنع أضخم تفجير من صنع الإنسان منذ القنبلة النووية التي انفجرت في جزيرة بيكيني المرجانية». لم يَعُد لقاعدة هتلر في معركة الأطلنطي وجود: دُمِّرت حظائر الغواصات، ومراكز الأسلحة، والأنفاق الأرضية «في انفجار طالَ عَنان السماء» وسط «عمود دخان بلغ طوله ١٢٠٠٠ قدم». على متن سفينة تبعُد أربعة عشر كيلومترًا عن هليجولاند، ضغط الملازم البحري اللندني فرانك جريفز على الزر «عند دوي الصَّفارة الرابعة من إشارة الوقت في إذاعة بي بي سي».

سُمِّي في وقتها «الانفجار الكبير». دُمِّرت الجزيرة، لكن في الوقت نفسه أُعيد تشكيلها. هُدِمَت جميع المنازل تقريبًا. وصنع الانفجار «ميتلاند»، أرضًا وسيطة خلَّف فيها حفرة، تفصل بين «أوبرلاند» (الجزيرة القديمة التي تحفها الأجراف) و«أنترلاند» (منطقة الأرض المنخفضة المحيطة بالميناء). بعد الانفجار ظلَّت الجزيرة غير مأهولة لعدة سنوات. وأُعيدت رسميًّا إلى ألمانيا في ربيع عام ١٩٥٢. بعدئذٍ، بُنِي عليها مجسَّم لمعسكر عطلات تابع للقاعدة العسكرية/مخيم العمل بالحقبة النازية. خُبِّئَت فيها موارد مختلفة لكنها ذات صلة جاءت من خارجها، أُعيدَ تدوير الجزيرة من كونها حصن دفاع، اصطفت الغواصات في حظائره، إلى مستودع للتسالي، أو ملاذ مُعفًى من الضرائب. كانت الخمور والسجائر والعطور زهيدة الثَّمن تُشحَن إلى هليجولاند كي تُباع بخصومات هناك، ثم يُعاد تصديرها إلى البر الرئيسي.

دُمِّرت الجزيرة وأُعيدَ بناؤها من قبل. لم يطُلْ ذلك القدْرُ من العنف البشري إلا قلةً من الأماكن. في نهاية الحرب العالمية الأولى، طُمس العَتاد العسكري للقوة الخاسرة وبِناها التحتية، لكن في غضون بضعة أعوام، أعادت ألمانيا، التي أعادت تسليح نفسها، بناءها وتحصينها مرة أخرى. في الواقع، تبيَّن أن هليجولاند هي أرض وسيطة «ميتلاند»: لا هي هنا ولا هناك، لا هي قادمة ولا ذاهبة، بل تقبع مؤقتًا في مكانٍ ما بين بين. لكَمْ هو ملائم إذَن أن يكون أحدُ أسباب شهرة الجزيرة وقت السلم هو أنها احتضنت نسخة أخرى من «الانفجار الكبير». في أواخر ربيع ١٩٢٥ طلبَ الفيزيائي فيرنر هايزنبرج، الذي كادت حمى الكلأ التي أصيب بها على البر الرئيسي تدفع به إلى الجنون، اللجوءَ بصفته مهاجرًا مؤقتًا، إلى جزيرة هليجولاند التي تكاد تخلو من الشجر و(من ثَم) لا تكثر بها اللواقح. (حتى يومنا هذا، تحتفظ الجزيرة بطابَع المنتجع الصحي أو المصحة العلاجية بجانب جميع مشروباتها المُسكِرة الرخيصة.) هناك، لمَّا استطاع أن يستنشق هواءً منعشًا مملحًا، زفر هايزنبرج بدايات نظرية الكم.

ربما ساعدته الطيور المهاجرة في نهاية الربيع. ربما قرأ لجاتكه. طيور الصعو الصفراء العُرف وهوازج الصفصاف هي للهجرة كما الذرات والجزيئات دون الذرية لميكانيكا الكم — أوصاف لأقل مقاييس للطاقة. حين نظر جاتكه إلى أعلى فرأى الأسراب الصاعدة من طيور الصعو الصفراء العُرف المغادرة في الربيع، لم يستطِع أن يرى — فما بالك بأن يفهم — كيف تفعل ما تفعله، مع إدراكها بأنها تفعله، وأنها فعلته العام الماضي، وستفعله العام القادم، هكذا أكدت أيضًا ميكانيكا الكم، التي أسَّس هايزنبرج جزءًا منها تحت السماء الشَّمالية نفسها، أنه لا يمكن التنبؤ بالموضع المحدَّد للجسيم في الفراغ، بل الممكن هو التنبؤ باحتمال العثور عليه في مواضع مختلفة.

اللغزان متقاربان لدرجةٍ مدهشة: أن نلمس سحر الهجرة العادي — غرابتها المُلِحة أو الحضور غير المرئي لكنه مُستشعَر لانسيابها الحثيث — ربما نحاول أن نضع كلمة «صعو أصفر العُرف» مكان «إلكترون» التي استخدمها كارلو روفيلِّي في تفسيره لمعادلات هايزنبرج:

تخيَّل هايزنبرج أن الإلكترونات ليست موجودة «دائمًا». بل توجد فقط حين يراقبها شخصٌ أو شيء ما، أو بالأحرى حين تتفاعل مع شيء آخر. إنها تظهر في مكانٍ، باحتمال محسوب، حين تصطدم بشيءٍ آخر. «القفزات الكَميَّة» من مدارٍ لآخر هي سبيلها الوحيد لأن تكتسِب وجودًا «واقعيًّا»: فالإلكترون ما هو إلا مجموعة من القفزات من تفاعل لآخر. حين لا يؤثِّر عليه شيء، لا يكون موجودًا في مكانٍ بعينه. بل لا يوجد في أي «مكان» على الإطلاق.

السير في المسار الدائري حول الجزيرة يطلِق لخيالك العِنان ليسرح في تلك الأفكار الجامحة — سمحتُ لنفسي بذلك لأني لم أرَ أيًّا من طيور الصعو الأصفر العُرف. وأنا منتظر وُرود أخبار من مكان آخر، كنت أخرج كلَّ يوم «أطبق» مبدأ اللايقين. كنت أتفحَّص السماء وأنظر إلى العَلَم الموجود خارج النُّزُل كي أستنتج اتجاه الرياح لكني لم أعرف ماذا سأجد. حملقتُ إلى البحر؛ إذ كنت أعرف أن طيورًا — طيورًا يابسة صغيرة مسرعة — تتحرك فوقه لا محالة. لم أرَ شيئًا. حلَمتُ ذات ليلة بأني استيقظتُ لأجدَ رمالًا من الصحراء الكبرى تستقر على السقوف القماشية لعربات الجولف الموصولة بالكهرباء كي تعيد شحن بطارياتها، وأن طيورًا زائرة للصحراء الكبرى تخطو في تلك الرسوبات الرملية. أقنعتُ رئتيَّ بأن ما يدغدغهما هو لواقح الزيزفون القادمة من جميع أنحاء ألمانيا إلى شَمال موقعنا، وأنها ستجلِب معها لا محالةَ هازجةً ليمونية، زهرة زيزفون تحوَّلت إلى طائر، في شجيرات العُلَّيق الموجودة على حافة حديقة المرصد. لكن لم يأتِ شيء على الإطلاق.

٢٣ أبريل. خرجتُ منذ السادسة صباحًا. أتممتُ دورتَين كاملتَين. كان الجو باردًا جدًّا، تشوبه رياحٌ حانقة من الشَّمال. قضيتُ ساعة أتسكَّع عند الأراضي المزروعة المُسيَّجة بالشجيرات في منطقة «أوبرلاند». بين الأخاديد المحفورة بإتقان في التربة العارية كانت توجد بيوتٌ صيفية موصدة، وأشجار تين ذات عروق منتفخة، وتماثيل حدائق ساقطة على هيئة أقزام وفقمات توازن كرات خرسانية شبه بالية على أنوفها الخرسانية شبه البالية. كان حظي من الطيور قليلًا، أعدادًا يسيرة وشراذم قليلة منها: ذكر أبلق وأنثى أبلق، ودج حقول وهازجة صفصاف وشفشافتان. انتفشت الهوازج لمواجهة البرد القارس. كانت توجد أزهار نرجس بري وبعض الأزهار على السياج الشجري، لكن كل ما ينمو بدا فقيرًا «عفا عليه الزمن». الغطاء الشجري الأخصب كان موجودًا في المقبرة المحيطة بالكنيسة. لكن كانت هناك لافتة مكتوب عليها ممنوع دخول مراقبي الطيور. ماذا عن أولئك الذين يَنعَون «أرض الطيور»؟ جاتكه مدفون هناك أيضًا. وقفتُ مترددًا، ثم تابعتُ سيري نحو الجنوب: أحصيتُ حسونَ شوك واحدًا وحسونًا ناريًّا واحدًا، وحسونًا أوراسيًّا وستة حساسين تفاحية وكروان ماء حزينًا مثيرًا للشفقة على مرج منخفض في الحفرة الموجودة في المنطقة الوسطى «ميتلاند»، ثم عشر شفشافات أخرى وهازجتي صفصفاف، ودرستَين حمراوَي الجناحَين، وذعرة بيضاء، ثم ذعرة رقطاء، والتي كانت حسب معرفتي أكثر تشويقًا — بعض الشيء — إذ إن الذعرة البيضاء هي فصيلة بريطانية مقيمة في الأغلب؛ ولذا استطعتُ أن أرسمَ لها ماضيًا أعرفه، مستمدًّا من ماضيَّ الذي أعرفه، في الديار على الجانب الآخر من ذلك البحر المريع …

قابلتُ مراقب طيور آخر. قارنَّا ملاحظاتنا. قال لي ونحن نفترق: «استمر في رؤيةِ لا شيء!» أضفت أنا علامةَ التعجب؛ إذ قالها في الواقع دونها. استمر اليوم على هذا المنوال — رتيبًا. كان ثَمة حافز صغير: ذَكرُ دج مطوَّق في ملعبِ جولف «بيت بات» المصغر يجثم على مجسمٍ خرساني متهالك لقلعة رينلاند.

على الحائط البحري أو مصدات الأمواج الموجودة في منطقة «أنترلاند» كان يقف ثاني أفضل طائر أراه ذلك اليوم، ذَكرُ قليعي أحمر، يصطاد الذباب فوق الأعشاب البحرية المُهسهسة على الشاطئ. آخِر قليعي أحمر رأيته كان في تشاد، يقتات في وسط سهل عشبي شاسع. ارتأيتُ أن ذلك هو القليعي نفسه، ورحتُ أرسم في ذهني خريطة بها خطٌّ يربط بين زاكوما وهليجولاند، ولوهلة ارتفعت معنوياتي.

٢٤ أبريل. في اليوم التالي شهدت جولاتي الجليد والمطر الممزوج بالثلج والبَرَد والشمس. استهللتُها بقنبرة غاباتٍ مبتلة ومطروحة على أرض ملعب كرة قدم، لكن لم يعقبها الكثير: ذكرا أبو قلنسوة، وأربع شفشافات، وباشق وذَكرُ دج مطوق على المروج المحيطة بحمَّام السباحة (أظن أنه الطائر نفسه الذي رأيتُه في ملعب الجولف المصغَّر أمس). بدا مصد الأمواج مكانًا أفضل، ربما بسبب الذباب الملتف حول الطحالب البحرية التي تكسوه: رأيتُ عنده ثلاثين ذعرة بيضاء، وهازجتي صفصاف خاطفتَين للذباب، وجشنة شجر، وذكرَي أبو قلنسوة، وذكر دج مطوق، ومجددًا القليعي الأحمر، وذكرين وأنثى من الحميراء السوداء. لم يكن الخريف قد جاء بعد، لكن على الأقل كانت بعض الطيور قد حطَّت أثناء الليل.

بقيتُ في ساحة لعب الأطفال محاولًا أن أبدو مسالمًا، أحصي الطيور المُحجَّلة — شحارير وصائد محَار ونورسًا فضيًّا وذعرة بيضاء — كانت أعدادها كبيرة، بدا تقريبًا أن كل طائر مقيم في هليجولاند قد أُمسكَ به ووُسم بحلقات التحجيل للمرة الأولى في حياتي، كرهتُ فكرة تحجيل الطيور.

لم تَعُد هليجولاند تعني ما كانت تعنيه في السابق. جُرِّدَت من مضمونها: إذ فُسِّرَت الهجرات من أماكنَ أخرى عديدة، وانخفضت أعداد المدخنين، وقلَّ احتياجُهم إلى تخفيضات الأسعار في الجزيرة، ولو أن ألمانيًّا أراد قضاءَ عطلةٍ وقتَ وصول السُّنونوات لأمكنه أن يتَّجه إلى إسبانيا بعد عيد الميلاد المجيد مباشرة، لم يَعُد موسم الزخم الربيعي كسابق عهده، وقلَّت كثافة السقوط، وانخفضت أعداد الطيور المهاجرة. ما تزال المزالق التي تُصرِّف القمامة ومياه الأمطار وفي بعض الأحيان الطيور التي فقدت اتزانها من المنطقة المرتفعة «أوبرلاند» إلى البحر موجودة على هليجولاند (أثار ذلك حَيرة لوكلي وكتب عنه يقول إن مذاق المياه يشبه لحم الصيد؛ لأن العديد من الطيور التائهة سقطت في المزالق بغيرِ قصد وانتهى بها الأمر إلى خِزانات مياه الأمطار وغرقت)، لكن لمَّا لم يَعُد للبحر وجودٌ فِعلي عند سفح منطقة «أوبرلاند»، لم تَعُد تُستخدم الآن — راقبتُ بستانيًّا يركل بقايا الأشجار في بستانه من شفا الجرف عند طرف قطعة أرضه لتسقط على أرض النازيين الجديدة في المنطقة الشمالية الشرقية «نوردوستلاند». بين منطقة الأراضي المرتفعة «أوبرلاند» والأراضي المنخفضة «أنترلاند» ١٨٠ درجة سُلَّم، لكن يوجد أيضًا الآن مِصعد كهربائي ينزل إلى الجانب الخارجي من الجرف.

٢٥ أبريل. تقف سمنتا حقول بجوار الترامبولين. ورأيتُ ذَكر الدج المطوق مجددًا في ملعب الجولف المصغَّر. تمنَّيتُ لو رحل. كانت قيمته تتضاءل كل مرة أراه فيها. لم أحبَّ في نفسي الجانب الذي شعر بذلك، لكنه كان أمرًا واقعًا. كان الجو دافئًا والهواء ساكنًا في ملاذ الجدار البحري، وكان هناك عشرون ذعرة بيضاء تتسابق لاصطياد الذباب، وذَكر الدج المطوق (مجددًا) يتفقَّد تلك الجلبة، وهازجتا صفصاف رشيقتا الحركة، والقليعي الأحمر، وثلاث حميراوات سوداوات. كان الناس هنا يُومِئ بعضهم لبعض تحيةً كما يفعلون في غرفة الإفطار في النُّزُل.

سقطت امرأة عجوز في فوَّهة «ميتلاند». كان وجهها داميًا. عربة الإسعاف الموجودة على الجزيرة مركونة بالجوار في العيادة. تظهر وتومض أنوارها لمسافة عشرة أمتار ثم تتوقَّف، لم تحتَج حتى إلى أن تنقل إلى غيار التروس الثاني. يُهرَع المُسعِفون إلى المرأة. أراقبهم من حافة الفوهة. كان مشهدًا كتلك المشاهد التي كان أطفالي يمثلونها في سنوات لعبهم بدمى «بلايموبيل». كانت المرأة تبكي. كنت أسمع نحيبها. اعوجَّت نظارتها وانثنت أثناء سقوطها. وكان كلبها ملتاعًا وينبَح على طاقم سيارة الإسعاف.

درتُ دورةً أخرى حول الجزيرة في المساء. ثَمة مستعمرة جديدة بعض الشيء من طيور الأطيش (بلغ عددُها ٧٠٠ زوج عام ٢٠١٦) على هليجولاند (طيور الأطيش هي الوحيدة التي تتكاثر في ألمانيا)، وفي السنوات الأخيرة قضى قطرس أسود الحاجبَين جاء بالخطأ إلى نصف الكرة الشمالي، وقتًا أعلى الجرف محسنًا استغلال أقاربه — كمشرد يحاول أن ينخرط، ربما أملًا في الحصول على أوراق هُوية، أو حق إقامة، أو وليف. جرَّب ألبرت القطرس الموجود على جزيرة هيرمانيس في جزر شيتلاند لسنوات عدة أن يفعل ذلك مع طيور الأطيش التي تعيش هناك في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين لكنه لم يُوفَّق. كنت آملُ رؤية قطرس هليجولاند وخرجتُ أبحث عنه كلَّ يوم، لكن الحظ لم يحالفني أنا أيضًا. يوم مغادرتنا، عاود طائر القطرس الظهور على الجرف، بعد جولة في بحر الشَّمال.

كانت بعض طيور الأطيش تحف العشب على قمة الجرف. لم أشهد ذلك من قبل. طيور عابرة يحمل بعضها شرائط من الطحالب البحرية في منقاره، تحلق في الهواء فوق الجرف الذي تسكنه، وحين دَنت من المرج على قمته، جدَّفت بأقدامها وهبطت عليه. على الفور بدت خرقاء وثقيلة جدًّا على سيقانها. تدلَّت أجنحتُها تحت أجسادها. كانت متحمسة لوجود العشب وكانت تنقره بشغف، مسقطة في بعض الأحيان غنيمتها من الطحالب البحرية في خضم ذلك، وأحيانًا أخرى كانت تنجح في تحريكها إلى آخِر منقارها. حاولتُ أن أرى ماذا تفعل بالعشب: لكن لم يبدُ أنه موجود في أيٍّ من الأعشاش؛ ولم يأكل أيٌّ من الطيور التي رأيتُها منه.

يصف هيرودوت السكوثيِّين البدوَ بأنهم خيَّالون من السهوب الآسيوية، لكن طقوسهم الجنائزية يتخللها شيءٌ من العشوائية. في قبورهم ذات «الجثوات» (المكان الذي سيتوقفون فيه لمدة أطول من أي مكان سواه)، كانوا يكوِّمون جثامين الملوك، وخَدَمهم الذين ضحَّوا بهم، وخيولَهم المذبوحة. بدت طيور الأطيش مثلهم. بدت غير مقيدة أثناء تَرحالها. لكن في ديارها — مع أن تلك ليست هي الكلمة المناسبة — تتداعى، وتصنع أكوامًا من الغائط تعيش عليها، تكون سببًا في موتها في بعض الأحيان. المستعمرة بمثابة فوضى قذرة. ربما لا تحمل طيور الأطيش حقائبَ لكنها مُولَعة بالفوضى. كلُّ شيء يفعله الأطيش على اليابسة يقع في المساحة الضيقة التي اتخذها عُشًّا له. يومًا يصنع كومة من الغائط كي يضعَ عليها بيضه، واليوم التالي يكون أمامه بحر الشَّمال بأكمله يقتات منه. أظهرت دراسةُ تتبُّع أُجريت عام ٢٠١٦ على طيور الأطيش بهليجولاند أن هذا النوع يصيد السمك في الأغلب شَمال وشَمال غرب الجزيرة، وفي طريقه إلى هناك يدور من حول مزارع طواحين الهواء. لكن كل خائض محنَّك في المحيط هو فوضويٌّ محنَّك في دياره. لا يسهم جمع تلك الطيور للحِبال والشِّباك البلاستيكية المتناثرة والمنجرفة لاستخدامها في بناء الأعشاش في تحسين نظافة بيوتها الصحية (تضمَّنت نسبة ٩٠ بالمائة من الأعشاش بلاستيكًا ظاهرًا عام ٢٠١٦). هذا بجانب أنها تعيش في الغالب بجوار رفات نوعها. عام ١٩٩١، مات أول فرخ أطيش فقست بيضته على هليجولاند بعد أن عَلِق في نُفايات بلاستيكية كانت موجودة في عُشه. رأيتُ عدةَ أعشاشٍ علِقت فيها طيورُ أطيش ميتة. زَيَّن طائرُ مور ميت عُشًّا آخرَ مثل حلية تذكارية. حُنِّط أطيشان داخل أكوام حلزونية من الغائط. وحوى أحد الأعشاش في وسطه هيكلًا عظميًّا لأطيش، صُنعت عظام جناحه المبسوطة وعاءً لهيكل ثانٍ، فيما تدلَّى هيكل ثالث من قطعة حبل أزرق تصل بين صفَّين من الأعشاش.

•••

يوم ١٨ سبتمبر ١٧٩٨ وصلَ كولريدج على متن قارب إلى مدينة كوكسهافن. كان قد أبحر من مدينة يارموث وعَبَر بحر الشَّمال في يومَين. كان حينها قد أتمَّ كتابة قصيدة «البحَّار العجوز»، لكن تلك كانت المرة الأولى التي يخوض فيها في عرض البحر حتى تغيب اليابسة عن مرمى البصر. يبدو أنه لم ينم تقريبًا، وكان يقضي معظم وقته متجولًا على سطح السفينة مرتديًا بِذْلته المنيعة من كل شيء، «معطفي العظيم»، ذو الياقة الكبيرة جدًّا حتى إنه يمكن استخدامها قلنسوة. كان البحر هائجًا. لكنه أعجبه. عانى ويليام ووردزورث وأخته دوروثي اللذان كانا يسافران برفقته إلى ألمانيا الأمَرَّين؛ إذ «بدا وجههما مُمتقِعًا كالضفادع» كمعظم الركَّاب الآخرين، وكانت دوروثي «تتقيَّأ وتئنُّ وتبكي طوال الوقت!» لكن الرحلة لم ترهق كولريدج، الذي بدا مجبولًا على عبور البحر. راقبَ الأمواج وصادقَ راكبًا دنماركيًّا؛ إذ كانا يحتسيان الخمر معًا ويرقصان «على أنغامٍ شعبية اسكتلندية ذات أسماء ملائمة». في الرابعة فجرًا، في اليوم الثاني، رأى في الظلام طائرًا يسبح في البحر على مسافةٍ بعيدة: «بطة برية منفردة». كتب يقول: «يصعب تخيُّل كم بدت مشوقة وسط تلك الصحراء المائية الدائرية العابثة.»

حظي بقسطٍ من النوم حينها، لكنه لم يدُم طويلًا:

استيقظت على صيحةٍ تقول: «أرض! أرض!» كانت هناك جزيرة صخرية على يسارنا تُدعى هايليجلاند، مشهورة بين العديد من المسافرين من يارموث إلى هامبورج، الذين اضطرهم الطقس العاصف إلى قضاء عدة أسابيع مملة في أسرها …

لم يُضطر كولريدج وزمرته إلى النزول بها، وواصلوا إلى البر الرئيسي ومنه إلى ألمانيا (حيث سيَمرُّ باكتشافات ومغامرات عدة، منها خيبةُ أمله حين يجد أن الشعراء الذين سيقابلهم — والذين تصوَّرهم في ذهنه أجزاءً لا تتجزأ من الطبيعة — يضعون شَعرًا مستعارًا). البطة التي أبصرها بالقرب من هليجولاند ربما تكون تجسيدًا لكولريدج نفسه. إذ كان من المشوق رؤيته وهو في عُرْض البحر. لكنها كانت بلا ريب بطةً حقيقية. وكان من المشوق رؤيتها هي أيضًا في عُرْض البحر.

•••

غالبًا ما يخطر على بالي جبلُ طارق وأنا أتجوَّل سيرًا على الأقدام في أنحاء هليجولاند. حين أفكر في أن كولريدج مرَّ بهليجولاند أتذكَّر أنه رأى جبل طارق من المضيق عام ١٨٠٤ ونزل على الصخرة؛ إلا أنها لم تحُز إعجابه كثيرًا. في الفيلم الإخباري القصير الذي أنتجته شركة «باتيه»، يصف المُعلِّق الصوتي الجزيرة بأنها «جبل طارق بحر الشَّمال»، والعلاقة بينهما جَلية: إنها صخرة أخرى على حافة قارة ومُطِلة على البحر؛ مكانٌ آخر محاصَر، وجهة جدباء بالنسبة إلى البشر («وأكرِّر أن لا وجود لكلمة (هناك) عليها») وبؤرة للطيور التي تراها جذَّابة وبديعة، ومنسوجة في حيوات الآلاف منها على مدار آلاف السنين. تربط مَجازةٌ بين جبل طارق وإسبانيا برباطٍ غير وثيق، لكن من قمة الصخرة، تسافر عيناك دومًا إلى أفريقيا على الجانب الآخر من المضيق الضيق وإلى الجبال المُظللة التي تأتي منها الطيور المهاجرة في الربيع متجهةً صوبك. هليجولاند محاطةٌ بسورٍ خرساني، لكن تلك الأسوار الحصينة لا تحُد طيور الجزيرة؛ فهي لا تصنع حاجزًا جويًّا. وأنت عليها، يتجه بصرُك دومًا إلى البحر المحيط بها من كل جانب، وإلى واقعية ذلك، وإلى السماء الراسخة التي تمتد فوق كل شيء؛ إذ لا تبصر أيَّ أرض أخرى، وتأتي الطيور من فوقك، وتحُط دون أي ممتلكات أو أي من صور التملك، تحط على الأرض — إن سار كلُّ شيء على ما يرام — كي تعيد التزوُّد بالطاقة، لا لتُطيل المكوث؛ فالبقاء ليس في نيَّتها قط. كان استلقائي على ظهري على الأرض فوق قمة صخرة جبل طارق، ومراقبة أسراب الحِدآن السوداء تعبر المضيق وتمر من فوق رأسي واحدًا تلو الآخر في طريقها إلى الربيع الأوروبي، طريقةً للشعور بأن العالَم يدور. أما الجلوس على دِكة على قمة الجرف في هليجولاند، فكان طريقة للشعور بأن العالَم عالِق. رأيتُ على مسافة بعيدة عن الجزيرة سربًا صغيرًا من ستة طيور من أسرة الطِّيطَوىات تتجه نحوها. حين اقتربت، انخفضت جميعُها في السماء؛ إذ قوَّسَت أجنحتَها وهبطت في الهواء مئات الأمتار. ظننتُ أنها وصلت إلى وجهتها وأنها ستحُط، لكن بعد أول تحليق على ارتفاع منخفض في الهواء، أعادت تشكيل صفوفها وارتفعت مرة أخرى؛ أبصرت المكان لكنها لم تكن بحاجة إليه، وزادت من سرعتها، مُرفرفةً أجنحتها بقوة أكبر، وتابعت الطيران متجاوزةً الجزيرة إلى ما وراءها، فوق البحر.

بدت الجزيرة صغيرة جدًّا حين رحلنا عنها: نزفت الأجراف الحمراء من ورائنا، وبدت الكتلة الهلامية الفوضوية المُحصَّنة من الأرض المُسترَدة كعوامة بالية، يهرب منها الهواء فيما تتوارى في الأفق. ثم عُدنا لعُرض البحر، الذي تحكمه الرياح؛ وفيما كنت أتأمل في ذهني لآخر مرة روعةَ صعوٍ أصفر العُرف في عالَم كهذا، فتح سائحٌ يقف بجواري غلافَ حلوى التُّوفي وترك ورقة الغلاف الجميلة ذات اللونَين الذهبي والأخضر تنساب من بين أصابعه ليحملها الهواء إلى سطح السفينة ثم يُهرع بها، إلى أعلى ثم إلى أسفل نحو المياه الداكنة.

هوامش

(١) في جميع أرجاء أوروبا، سمِعَ عدة شعراء مختلفين ذلك. تحدَّثتُ ذات مرة مع آدم زاجاييفسكي عن طيور الشُّحرور، متذكرًا مدينة لافيف مسقط رأسه من مدينة هيوستن البعيدة بولاية تكساس؛ حيث كتبَ عن «التهويدات الحزينة العذبة لتلك الطيور». كذلك تدور القصيدة قبل الأخيرة من الترجمة الإنجليزية لأشعار برتولت بريخت التي تقع في ثلاثة مجلدات حول الشُّحرور/الحساب بعد الموت: يستيقظ بريخت في سريرٍ بأحد المستشفيات ويسمعُ صوتَ شُحرور فيهدأ رَوعُه، وكأنما حلَّلته أغرودتُه من خطاياه أو غفرتها له، فشعر أنه أقرب إلى كونه «عدمًا» وصار قادرًا على «الاستمتاع بأغرودة كل شُحرور بعدي أيضًا.»
(٢) هوازج القصب الكبيرة لديها أيضًا منطقتان للتشتية. مجموعات غرب أوروبا تقضي شتاءها في أفريقيا، أما المجموعات الشرقية فتتجه إلى جنوب شرق آسيا؛ وهو ما يشير إلى أن النوع ربما كان له ملاذان في العصر الجليدي الأخير، على غِرار هوازج الصفصاف السويدية، منهما انتشرت الطيور منفصلة شَمالًا في أرجاء أوراسيا حين اختفى الجليد.
نشأ العديدُ من هجرات الحيوانات استجابةً لتغيُّراتٍ مناخية. فقد بدأت نشأة سمك السلمون على أنه سمكٌ يعيش في المياه العذبة قبل أن يدفعه تجمُّد الكتل الأرضية في العصر الجليدي إلى الاتجاه صوب البحر. عاشَ في مياه البحر، لكنه ظلَّ محتفظًا برابطٍ متوارث يربطه بالمياه العذبة؛ ولذا عندما ذابَ الجليد، أعادَ استيطان الأنهار باعتباره سَمكًا مهاجرًا.
(٣) كتبَ هيني عام ١٩٨٣ في قصيدة «خطاب مفتوح» يقول: «جواز سفري أخضر». كان يعني أنه أيرلندي الجنسية، لكن ربما عنى أيضًا ما هو أبعد من ذلك.
(٤) وقعَ في نفسي تأثيرٌ شبيه — محفِّز للمشاعر بالقدرِ نفسه — حين رأيتُ للمرة الأولى المُعزِّين وغيرهم من الزوار عند النصب التذكاري لشهداء حرب فيتنام في واشنطن العاصمة، يختفون كما لو أن الأرض ابتلعتهم، في منحدرٍ حُفِر لوضع الألواح التي تحمل الأسماء، وهناك كان باستطاعتهم أن يرحلوا بعيدًا — وهم شبه واعين — برفقة الأموات، المدوَّنة أسماؤهم على الحجارة التي تكوِّن الجدار المحيط بالمنحدر المحفور. إنه يضع الأحياء والأموات على قدم المساواة: أولئك الذين لا يزالون على ظهر الأرض عليهم أن يُدفَنوا أحياءً مؤقتًا كي يقضوا وقتًا مع مَن وُوروا الثرى. ثَمة ما يقال أيضًا هنا (في عرض الحديث عن الحُفر الانهدامية) بشأن الطريقة التي تطير بها السُّنونوات وغيرها من الطيور المغرِّدة من عائلتها في بعض الأحيان على ارتفاعٍ منخفض للغاية فوق الماء لدرجةٍ تجعلنا نستطيع تخيُّلها تنسلُّ إلى أسفل سطحه؛ حيث يسعها أن تنام هروبًا من الموت الأصغر الذي يحدث كلَّ شتاء كما كان كثيرون يعتقدون (من بينهم جيلبرت وايت، الذي لم يتخلَّ قطَّ عن تلك الفكرة أبدًا).
(٥) حدث أيضًا أن أول رقصة لي مع فتاة في أول نادٍ ليلي حقيقي ارتَدْتُه في مراهقتي كانت على أنغام أغنية «دُونْت فِير ذا ريبر» (لا تخشَ حاصِد الأرواح) لفرقة بلو أويستر كالت التي يغنون فيها قائلين: «لا تخشى الفصولُ حاصِدَ الأرواح.»
(٦) القرنفل المقصود هو على الأغلب القرنفل الشائع؛ ويصفه ريتشارد مابي في «موسوعة النبات البريطانية» بأنه «السلف الأول» لجميع أنواع القرنفل، وعلى الأرجح أدخله النورمانديون إلى بريطانيا من جنوب أوروبا: «من أماكن نموه التقليدية أسوارُ دورات مياه الرجال في قلعة روتشستر، بمقاطعة كِنت، وأطلال دير بيولي في مقاطعة هامبشير.»
(٧) في كتابي «السماء الممتدة»، كتبتُ عن زيارة لوكلي لهليجولاند ودراساته عن الحميراء — اضطراب هجراتها الذي لوحِظ على الجزيرة حين حُبِست في أقفاص وعُرِضَت محاكاة للربيع أو الخريف بواسطة مصابيح تحاكي ضوء النهار. لم أكن قد زرتُ الجزيرة بعدُ حينها.
كتبَ جيرارد مانلي هوبكنز ملحمةً أخرى عن الهجرة وعن مخاضة كينتش نوك الموجودة وراء جزيرة هليجولاند، في قصيدته الطويلة «حُطام ألمانيا»، التي تحكي عن غرق خمس راهبات فرنسيسكانيات — الذي اعتبره استشهادًا — في ديسمبر ١٨٧٥ أثناء هروبهن من الاضطهاد المناهِض للكاثوليكية في بروسيا.
(٨) رأيتُ شاحناتِ نقل أثاث في اليونان كُتِب على جانبَيها كلمة «ميتافور»، وهي تعني «نقلًا». في اليونانية القديمة، كانت كلمة «ميتافيرو» تعني «أن أحمل شيئًا من مكان إلى آخر.» ولذا فالطيور المهاجرة هي مَن تجاوز نفسها بنفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤