يوليو

سوافام برايُر

٥٢ درجة شَمالًا

١ يوليو. يومٌ رتيب، طقسُه حارٌّ رطب، هنا يبدأ العام في الإبحار بمحاذاة الشاطئ لمدة شهر أو أكثر وكأنه قاربٌ خارت فيه قوة الدفع. وقتٌ عصيب. «ها هو ذا الخريفُ قد جاء.» بتلك العبارة يفتتح دي إتش لورانس قصيدته «سفينة الموت».

نهارًا: رحتُ في الحديقة أقلِّم الذابل من الورود، وجمعتُ ثمار يونيو الساقطة من التفاح الصلب كالحصى، وراودتني فكرةُ صنع سلسلة من أزهار البليس. كانت الأشجار تئزُّ بالفراخ. وقفَ طائرُ أبو قلنسوة وقفةً أخيرة بين شواهد القبور في ساحة الكنيسة: كان قوام أغرودته الذي يشبه عصير الفاكهة أحيانًا قد ثخن وتحوَّل إلى مربى. وعلى الرصيف القريب من الباب الأمامي لمنزلنا كان يوجد علجوم مُسوًّى بالأرض، دُعِس حتى تصفَّى جسدُه من السوائل وصار يشبه الجِلدَ المدبوغ، كنعل حذاء؛ وبالقرب منه توجد دَزِّينة من البزاقات المسحوقة الحياة التي شكَّلت معًا شريطًا له هيئةُ قشر سمك الأيل. الحياةُ بأكملها كانت تسير نحو الموتِ بتؤدة شديدة، مثل مِشية علجوم أو نجمٍ هاوٍ. صادَ يعسوبٌ ناموسةً وأكَلها وهو واقفٌ على شجيرة عليق. وفي أجنحته ذات الفتحات كانت ذكرى حياته التي بدأها تحت الماء تترقرق. بدا جسده الحالي الذي يشبه العصا الجافة مثل أحفورة. وبدت جميع الحشرات الأخرى وكأنها مصنوعة من التراب. أصابني الذبابُ الحوَّام والنيرياتُ بالحَكَّة. لمدة ساعة في منتصف النهار، استلقيتُ على ظهري في الحديقة تحت سماء مُنهَكة، عجوز ملطَّخة، تُدندن بالقرب مني حمامةٌ مطوِّقة وكأنها طائرة صغيرة، وفوقها في السماء المُختَّنة في حركة غيمة قصيرة الأمد، تكثَّفت من الهواء زخارفُ لَبَنية، ثم ما لبث أن تلاشى ذلك الازدهار بسرعة وإبهام.

صادفتُ جيفاتٍ أثناء رحلة ذهابي بالسيارة إلى وادي ديفيلز دايك وأثناء عودتي منه. في مصرف ماء تحت المَجثم في قرية بورويل، كان ثَمة طيور يافعة ميتة هجرت عُشَّها إلى الأغصان — فراخ غِدفان — صدمتها سيارات. تكوَّمت في التراب، مثل مظلَّات مكسورة، على بُعد بضعة أمتار فقط من الأشجار التي بها عُشُّها بعد محاولتها الأولى على الأرجح للطيران. على الطريق الرئيسي كانت توجد بومة هامة ساقطة، طائرٌ مثالي أُسقطَ من السماء: كانت مثل يخنة بُنية وبيضاء من السجائر المطفأة ومخاريط المُثلَّجات. وفي منعطف سلكتُه عائدًا إلى المنزل، رأيتُ مأساةً عائلية: جثث ثلاثة شحارير، ذَكَر بالغ وفرخَين قصيرَي الذنَب بُنيَّين، مثل فردتَي حذاء رُكِلا إلى جانب رَدهة.

تنتشر على ظهر يدي بُقع ميلانين تشبه بُقع الحَزَاز على حجارة. لاحظتُ العلامات الداكنة اليوم، وأنا مُمسِك بعجلة القيادة محاولًا تفادي الجثث، ثم لاحظتُها مجددًا بينما كنت أسجِّل حصيلة الموتى وأنا جالسٌ في السيارة خارج منزلنا. أنضجتني بُقع الزمن تلك لأجل رحلتي الخريفية. يدعوها الفرنسيون «أزهار المقابر». زاد عددها ذلك العام على سابقه. أنا أعُدُّها.

ليلًا: أبهرت أنوارُ الشارع أربعَ عثثٍ من نوع صقر الفيل أمام منزلنا؛ بدت مسلوبة العقل وهي تزحف على الطريق، مثل خِفاف تركية على الأسفلت، قماش مطرَّز باللون الزهري الناعم، والأخضر اليانع، والمشمشي الأغبر. أجفلتُ حين مرَّت سيارة. «بهذه السرعة تتبدَّد الأشياءُ الجميلة الساطعة.»

لا أتذكَّر متى أدركتُ ذلك للمرة الأولى، لكني أعرفُ منذ وقت طويل أن حروفَ اسمي الأول Tim، محبوسة في أحرف كلمة time التي تعني الزمن. أنا أحيا فيه. كثيرًا ما ألاحظ ذلك: كيف أن اسمي متداخل مع الزمن، منسوج فيه، أو يعشِّش فيه أو يزدهر. هكذا يميِّز «زمني» حقيقة أن اسمي — أي كِياني كله — متضمَّن داخله. زمني هو اسمي.

منذ زمن طويل، اكتشفتُ أيضًا أن اسم عائلتي ذا المقطع الواحد له تأثير كتأثير الزمن. هو يطمح لأن يصير حرف جَر. إن وضعتَه بادئةً لكلمةٍ ما، فعلى الأغلب سيُلغي تأثيرها أو يعكسها أو ينفي معناها.

إذا كان الزمنُ هو النار التي نحترق فيها كما قال ديلمور شوارتز، فربما كان اسمي شعلتَها أو مِشعلَها. على لوحات المفاتيح والشاشات، كلما كتبت Tim يُعرَض عليَّ تصحيحها إلى Time. وعلى حاسوبي المحمول، الذي تعلَّم أن يتنبأ بالكلمات التي يُرجَّح أنها المطلوبة، تُزهِر كلمة Tim لتصير Tim Dee حتى إن كانت الكلمة التي أنشُدها هي time.
إحدى الكلمات التي يمكن صياغتها من اسمي ذي الأحرُف الستة هي Edit Me؛ أي «حرِّرني.»

٢ يوليو. سوافام برايُر: نزهة بالدراجة وحشرات التربس تزيِّن رموشي. ثَمة لافتة على جانب الطريق مكتوب عليها: «لعبة بينجو مع اللحم وجزر خيول.»

يوتني

٦٠ درجة شَمالًا

طوال خمسة أيام من شهر يوليو، جلستُ على شاطئ خليج هاردنجرفيورد غرب النرويج. كنت قد قصدتُ الشَّمال كي أحتفل بعيد ميلاد يحدوني بعضُ الأمل في أن أنعم بالربيع لمدة أطول قليلًا. كان اللون الرمادي هو الغالب. ومع أنَّ الخليج كان مُشبَّعًا بعبق اليود وكان مَدٌّ من نوعٍ ما يمتدُّ ليطال كرسيَّ الشاطئ الذي جررتُه إلى شرفة كوخنا الخشبي ثم ينحسر عنه، فإن الربيع كان قد بدأ ينسحب بالفعل. وأنا جالسٌ هناك، يقدِّم لي ابناي الناشئان النبيذ والفول السوداني (كان عيد ميلاد لوسيان الثالث والعشرون قد اقترب)، راقبتُ الماءَ المتلكئ وسمعتُ اللعثمة الهادئة التي لفظَ بها العامُ الذي أدار ظهره وهو يهمُّ بالرحيل.

كان البرقوق والكرز يُباعان في الأكشاك المؤقتة الصغيرة بمحاذاة الشارع عند حافة الخليج. وحين كنا هناك، كان البرقوق يُحصَد من بساتين الفاكهة التي تنمو على المنحدرات الشديدة الانحدار حتى ارتفاع مائة متر أو نحوها، بين الماء المالح وشريط من أشجار شوح يبدو عليها العبوس. كان مكتوبًا على لافتات بخط اليد بالنرويجية: «برقوق» أو «كرز» أو «فاكهة وخضراوات». كنا قد اجتزنا خط العرض ٦٠ درجة إلى الشَّمال قليلًا، وهو يُعَد العتبة الأسطورية لخطوط العرض ذات الظروف القاسية الشديدة، لكن هنا فُعِّل فصلٌ مؤقَّت بين مستوى سطح البحر وقمة الجبل، فأنبتت فاكهة ذات لحم طري من شريط محيطي ضيق قابل للزراعة. اشترينا صناديقَ من البرقوق الشحمي الممتلئ، الذي أُعجِبنا بالطبقة السطحية الزرقاء المشوبة بالرمادي التي تكسو ثماره البنفسجية؛ ذلك الصقيع الصيفي الذي يشبه القشرة البديعة التي تتكوَّن على فروة رأس رضيع. تلك الطبقة تكون شمعية، وتحبس الرطوبة عن مغادرة الثمرة، وتمنع الماء من الوصول إليها. لكن حين تركتُ صحنًا من البرقوق بالخارج في المطر الخفيف — كانت السماء تمطر على نحوٍ متواصل تقريبًا — ذابت تلك الطبقة الشاحبة المُحبَّبة وهجرت الثمار بلا رجعة.

كانت عملية مراقبة الطيور تسير ببطء. لم يكن ثَمة الكثير لنراه. لمحتُ الذنَب الأحمر الضارب إلى البُني لطائر حميراء متسلِّل، وطارت أُنثى خطَّاف ذباب رقطاء من شجرة بتولا لأخرى، مثل شظية لحاء. كان حضور الطائرَين — اللذين كانا صامتَين ومفتقِرَين إلى الحيوية — يكاد يكون غير محسوس. كلُّ شيء تقريبًا كان يعكس ذلك الهدوء الذي ينمُّ عن انطفاء الشغف، وكأنما خلَد المكانُ كله إلى النوم.

جلستُ وراقبتُ الوقت يمضي. تيار الخليج البطيء. هَبَّة ريح تعبره، مُواكبةً سرعة عبَّارة سيارات. ودَزِّينة من خنازير البحر التي وصلت مع مدٍّ غير ملحوظ، تشق زعانفُها القصيرة صفحة الماء التي تشبه مِنشَفة الصحون، قبل أن تغوص لعمقٍ أكبرَ مُخلِّفةً دوائر مُحكَمة من الماء المشدوه، هادئة ومؤطَّرة مثل أوراق نبات زنبق الماء على بِركة شاطئية. وهنا نرى جارَينا الأكثر نشاطًا — اللذين كانا في عطلة — يخرجان في قارب تجديف كي يصيدا سمك القُد لكنهما يعودان خاوِيا الوفاض. وحين رحلت الغيمة التي كانت تمطر مطرًا خفيفًا، على الجانب المقابل من الماء، وراء الزوجَين اللذين يصطادان السمك والعبَّارة وخنازير البحر والمطر، تجلَّى منظرُ الشلَّال المرتفع الذي يصبُّ ماؤه من فوق جرف والنهاية التي يضعُها لكل شيء.

أقول نهاية؛ لأني رأيتُ الماءَ ينشقُّ وهو يصبُّ فيه. عندما ازداد المنحدر ميلًا واستحالت قمَّة الجبل إلى جانبه، ترك التيار المندفع مجراه وضفته الصخريَّين في صورة فيض متدفِّق متصل ودون انقطاع، لكن حينئذٍ، في لحظة، ودونما مُعِيق سوى الجاذبية، فقدَ مادته المائية — كان كلُّ ما هو صلب يتلاشى في الهواء — ولمسافة ٣٠٠ متر كان ما يظهر للعيان هو الزمن نفسه متجسدًا.

تأملتُ سقوطه المنهمر عبر منظاري المكبِّر، أحاول استشرابه. كان السائل الساقط يعبر خلال قطرات أو حبَّات من الضوء لا حصر لها. كان متحركًا أبدًا لكنه كان كله مُجزَّعًا وبطيئًا كالحُلم. تناثر الزمن أثناء تدفُّقه. كان يتجسَّد في صورة عباءات وأوشحة؛ تحوَّل التيار المجدول إلى عدة شبكات أو علاماتِ تآكُل في ريش طائر من السديم المنزلِق على نفسه، بعض التحولات كانت أسرع من غيرها، وبعضها أبطأ. انتشرت حُجبٌ من البخار الرمادي أفقيًّا من الشلال الرأسي، أبتِ الجاذبيةُ أن تقلِّص أيَّ شيء منها، وتباطأت سرعتُها أكثر أثناء سقوطها، وانسابت آثارها الأشبه بدخان منبعثةً من الجرف. ظلَّ الشلال يصبُّ أو يفعل ما يفعله أيًّا كان، وطوال الساعات التي راقبتُه فيها كان منظر الشلال يتبدَّل من لحظة لأخرى.

في الشتاء تتجمَّد الشلالات هنا. وإذا بي فجأةً أتأمَّل الراحة التي سيبعث عليها ذلك التجمُّد. عرفتُ آنذاك أن العام قد انقضى بالنسبة إليَّ.

نحَّيتُ منظاري المُكبِّر ليوم، وقصدتُ واجهةَ جبل جليدي يذوب الجليد عنها. كانت متسِخة وحزينة إلى حدٍّ مهول، كانت أكثر شيء يبدو فائضًا عن الحدِّ — ومُستغنًى عنه — رأيتُه على وجه الأرض. كانت تلك هي أزمة المناخ تُخاطبنا جميعًا، لكنه كان أيضًا يوليو يخاطبني أنا مباشرةً، معلنًا عن نفسه باعتباره نهاية خط سير ومحطة في رحلة الزمن.

•••

حين عُدتُ إلى كرسي لقاءَ الخليج، صرفتني بضعةُ طيور عن الشلالات. كانت الفراخ التي نبت ريشُها تحلِّق. مرَّت من أمامنا جماعاتٌ من القراقف الزرقاء والقراقف الكبيرة اليافعة. كانت عائلاتٌ من النوارس الشائعة تمشِّط الشاطئ، تنبح الطيور البالغة منها أحدها في الآخر مثل كلاب صغيرة في رسوم كرتونية، كانت صغارها ذات اللون البُني الشاحب والعيون الكحيلة، تتَّبعُها متملِّقة، مترددة في الالتحاق بعالَم البالغين. سارت أربع ذعرات بيضاء على صفحة الماء، مجتازةً البِركة عابرةً فوق ورقة زنبق ماء تلو الأخرى، راكضةً خلف الذباب؛ كان بإمكاني أن أسمع خشْفَ قدمَيها الخافت.

حلَّقت سُنونوات على ارتفاعٍ خفيض عند حافة الماء بالقرب من كوخنا. كانت راحلة. بإمكانك أن تسمع ذلك في صمتها. لم تنطِق بشيء؛ كانت أجنحتُها تُصدِر أصواتَ صرير خافتة للغاية. كان الصمتُ متجمِّعًا حولها، ومع ذلك حملت في عزمها الشديد (يقول روبرت لويل عن إليزابيث بيشوب إنها تجعل «العادي مثاليًّا»؛ يفعل السُّنونو الشيءَ نفسه) شبحَ الطيور نفسِها التي كانت تغرِّد يومًا. أُسكتَت جميعُ زقزقاتها — التي هي صخب الربيع الماضي، وصخب الربيع الآتي — لكنها لا تزال كامنة في الصمت الثقيل الذي يخيِّم بعد الظهيرة. ولأننا نعرف أصواتها — عرفتُها ذلك العام وطوال الخمسين عامًا الماضية — نسمع غيابَها أكثر في تجديف يوليو الخافت وهو يهمُّ مغادرًا. لطالما اعتقدتُ أن غيابَ صوتها بالتحديد هو صوت الخريف.

التفَّت عائلة من هوازج الصفصاف حول بِركة زنبق ماء، كان أفرادها سريعي الحركة يَقتاتون بسرعة لكنهم يتحركون محاطين بغيمة من الهدوء؛ لا يصدر عنهم سوى صوت إطباق مناقيرهم بين الحين والآخر. كان التغريد الآن موجودًا داخل أذهانهم فقط. كانوا قد استكفى أحدهم من سماع الآخر، والآن لم يَعُد ثَمة شيء آخر يقال.

أيقظني خاطف ذباب أبقع بصوت إطباق منقاره وهو يصيد ذبابة، على مسافة متر من كرسيَّ. سمعتُ خلال حياتي أصواتَ مناقيرها أكثرَ مما سمعتُ أغرودتها الحادَّة الخافتة التي تضيع عادةً وسط اهتزاز الأوراق والنسغ الأخضر لأشجار نهاية الربيع. إنها طيور رمادية غبراء تشبه الفئران. في فصول الصيف خلال سنوات مراهقتي (حينما كان لا يزال الصيفُ موجودًا في حياتي) عشَّش زوجٌ منها في السور المكسور للحديقة الخلفية لمنزلي في بريستول، وكنت أسمعُهما عبر النافذة يطبِقان منقارَيهما وأنا مستلقٍ في سريري حين يكون كلُّ شيء صامتًا. وفي مايو، كنت قد سمعتُ أحدَها يغرِّد في غابة هورنر في متنزه إكسمور، أو بالأحرى رأيتُ منقاره يتحرَّك وأقنعتُ نفسي بأنه يضيف أغرودةً ما خافتةً إلى سيل أصوات الغابة التي تتحدَّث بكامل طاقتها. وفيما عداه، لم أسمع سوى أصوات إطباق منقاره: الطائر الذي سمعتُه في هاردنجر، وذلك الذي كان في الكنيسة المقابلة لمنزلي في منطقة السبخات في شهر يونيو، والصوت نفسه سمعتُه من طائرٍ مهاجر مُشتٍّ في شهر ديسمبر الماضي في جبال سيدربرج ذات الطقس الشديد الجفاف في جنوب أفريقيا، وهو يصول ويجول ملتقطًا الذبابَ من بعض الأشجار المحروقة بمحاذاة ضفة نهر. يعود ذلك النوعُ من الطيور كي يتكاثر حيث فقسَ بيضه ويُظهِر ولاءً أيضًا لمناطقِ تشتيَتِه، مناغِمًا رحلات طيرانه المتأرجحة في أفريقيا مع مثيلاتها في إنجلترا والنرويج، حتى إن رؤية مَجثم له في إحدى القارتَين يستحضرُ في الذهن مَجثمًا آخر في القارَّة الأخرى. تحرَّكَت أيضًا تلك الطقطقة الخافتة، في حدود سَمْعي الهادئ، وفي حدود مسامع العالَم الساكنة، من جنوب أفريقيا إلى اسكندنافيا؛ يُضفي إيقاعُها المصغَّر المبتور، مثل طقطقةِ إصبعَين خافتة، على الأرض خلفه إحساسَ — وصوتَ ومظهرَ — الاتساعِ بالنسبة إليَّ، وتضاهيه في روعته المذهلة الرحلةُ التي يقطعها الطائر بين طقطقة وأخرى. صحيحٌ أنه هائل ومُذهِل، لكنه حقيقيٌّ بكل تفاصيله كذلك: محلي وواقعي وشامل.

في مكانٍ ما بين أقصى نقطة في أوروبا وأدنى نقطة في أفريقيا، يُطقطق خاطفُ ذباب أبقعُ مُطبِقًا بمنقاره على ذبابة في كل دقيقة من اليوم. فكِّر في تلك الطقطقات على أنها مثل الحرارة (حين تتقادم أيُّ موجات صوتية وتتحرك مبتعِدةً عن مصدرها، فإنها تتحوَّل إلى حرارة)، تُدفئ العالَم بين مصيفِ ذلك الطائر ومشتاه، بين رحلاته الربيعية والخريفية. تأمَّل نُبْستها. طقطقة خاطفة، بسرعة كتابتي الكلمة. لمحة سريعة. وها هي ذي لمحةٌ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤