أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية

يقول كلود فاريرا، أحد مؤرخي فرنسا وأدبائها: إن هزيمة العرب في بواتيه، قد أخَّرتِ المدينة الغربية ثمانية قرون.

ويستطيع كلود فاريرا أيضًا أن يقول: إن فتح العرب لإسبانيا، والتقاء أوروبا بالحضارة الإسلامية في الأندلس هو الذي غَيَّرَ مجرى التاريخ الأوروبي، وهو الذي بعث أوروبا ووضع أقدامها على الطريق العريض، الذي ذهب بها إلى حضارتها العلمية الحديثة.

لقد كانت المعاهد العلمية الإسلامية في الأندلس، هي المنارات التي ترسل الهدى والنور إلى أرجاء أوروبا، وهي المناهل العذبة التي هرع إليها رجال الطليعة الأوروبية، ليتزودوا من معارفها ويقتبسوا من نورها، ثم يعودون إلى بلادهم مبشرين ومنذرين وداعين إلى العلم والفكر الإسلامي. يقول «جونس» المؤرخ المعاصر لفولتير: لقد كانت تعاليم ابن رشد هي الراية التي يتقاتل حولها الأحرار من رجال الفكر الأوروبي، وكانت كتب الرازي وابن سينا هي القمم العالية في معاهد الطب ومدارس العلم في إيطاليا وفرنسا.

بل أعظم من هذا في الدلالة وأعجب: أن النهضة الدينية نفسها في أوروبا، تدين لمسلمي الأندلس عامة، ومتصوفة الأندلس خاصة، بالبعث والحياة.

لقد كانت المعارف الدينية في أوروبا طلاسم وأحجية وأسرارًا، تظللها أردية الرهبان المقدسة، وتحتكرها طوائفهم أصحاب القسوة العالمية، معارف مظللة لا تقبل جدلًا ولا حوارًا، ولا تطيق علمًا، ولا ترضى منطقًا، بل تُسَخِّر كل ما ترى لأهوائها ونزواتها، متعالية مترفعة لا تعلل ولا ترضى أن يسألها إنسان عَمَّا تفعل.

وكان رجالها يبيعون الجنة، ويهبون الفردوس الأعلى، لكل مَنْ يدفع مالًا، أو يرضي شهوة، أو يعين على مآرب من مآرب السياسة والهوى.

ثم نظرت أوروبا بعين الإجلال والدهشة إلى المعارف الدينية الإسلامية في الأندلس، وهي ثروة مباحة لكل قاصد، ومنهل يتدفق لكل راغب، وساحة للآراء، ومنتدى للمناطقة، ومجالًا لكل صوَّال وقوَّال؛ فلا أسرار ولا أقنعة، ولا لاهوت مخبوء تحت أردية الكهان والرهبان، محاط بالأسرار والظلمات، بل معارف وعلوم تساهم في أحداث الحياة، وتشرح مواقف العقول ومعضلات الفكر، وتلين لكل مجتهد، وتفتح صدرها لكل متفنن مبتكر، وتهب نورها بالقسط لكل مؤمن.

نظرت أوروبا إلى تلك الحرية الهائلة، التي يتمتع بها العرب في النظر إلى الدين الإسلامي، وإلى تلك القوة الهائلة المتفجرة من ينابيع الهدي المحمدي؛ فأقبلتْ عليه تسترشد وتتزود، ثم تعيد نظرها في لاهوتها المسيحي؛ محاولة أن تنفخ فيه الحياة وأن تلقحه بالمنعشات، وأن تمسه بسحر الحرية، وأن تنقله من أبراجه إلى الأفق العام؛ ليكون آية للناس كافة، لا حماية للقسس والرهبان فحسب.

يقول الأستاذ العقاد في كتابه «أثر العرب في الحضارة الأوروبية»: «إن الفلسفة الصوفية الإسلامية هي الطريق التي ظهر منها ما ظهر من آثار التفكير الجديد في العالم المسيحي، وفي العقائد الأوروبية على الإجمال، ونظرة واحدة إلى أرقام السنين التي ازدهر فيها اللاهوت المسيحي، ونجحت فيها دعوة الإصلاح الديني، ترينا أن ذلك لم يحدث قبل احتكاك أوروبا بالحضارة الإسلامية في الأندلس.»

ويشير العلامة «نيكولسون» في مجموعة تراث الإسلام إلى المشابهات بين أقوال الصوفية المسلمين، وأقوال الصوفية الأوروبيين من الأقدمين مثل: إكهارت الألماني، والمحدَثين مثل: إدوارد كاربنتر الإنجليزي، ثم يقول: «إن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل الاحتكاك بينهم وبين المسلمين، فإن دروس العرب في جامعات الأندلس حضرها رجال الدين والدنيا في سائر أنحاء أوروبا …»

تلك شهادة كاتب أوروبي معاصر، صريحة في أن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل الاحتكاك بينهم وبين المسلمين، وصريحة أيضًا في أن دروس العرب في جامعات الأندلس قد حضرها رجال الدين والدنيا في سائر أنحاء أوروبا، ثم انقلبوا إلى شعوبهم مبشرين وداعين إلى العلم الجديد المشرق في سموات الأندلس.

ثم يواصل «نيكولسون» بحثه في أثر الأندلس في البعث الأوروبي فيقول: «إن ابن عربي عبقري الإسلام في الأندلس، بدراساته الجريئة في الإلهيات، ومشاهداته الكبرى في عالم الروح، قد عَبَّدَ السبل أمام اللاهوت المسيحي للنهوض والتحلل من القيود.» ثم يقول: «وأثر ابن عربي في النهضة الأوروبية لم يقتصر على هذا، بل له آثاره في بعث الأدب الأوروبي أيضًا، فإذا قابلنا بين ما كتبه دانتي مثلًا حينما نظم الكوميديا الإلهية وبين ما كتبه ابن عربي، نرى أن دانتي قد تتلمذ على ابن عربي تلمذة واضحة في النهج والأسلوب والطريقة، بل وفي الصور والأمثال والاصطلاحات والأساليب الفنية.»

وليس «نيكولسون» وحده هو الذي يقول هذا، بل نرى أيضًا المستشرق الكبير «آسين بلاسيوس الإسباني» يشهد بأن نزعات دانتي الصوفية في كتبه، وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من ابن عربي بغير تصرف كبير، ثم يقول بعد ذلك: «إن ابن عربي هو الأستاذ الحقيقي للنهضة الصوفية الدينية في أوروبا.» ولنستمع إليه إذ يحدثنا قائلًا: «ومن المعلوم: أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين وهو «جوهان إكهارت الألماني» قد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي، ودرس في جامعة باريس، هي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم، وإكهارت يقول كما يقول ابن عربي بأن الله هو الوجود الحق، لا موجود على الحقيقة سواه، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي سعادتها الكبرى في الاتصال بالله عن طريق الرياضة والمعرفة، والتسبيح والتحميد، وأن صلة الروح بالله، ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام.

ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة في مذهب «سبينوزا»، الذي نشأ في هولندا، وأصله من يهود البرتغال، الذين أُكرهوا على الدين المسيحي، فقد كان كلامه عن الذات والصفات، وتجلي الخالق في مخلوقاته، وتلقي الخلق نور المعرفة الصحيحة بالبصيرة والإلهام، نسخة من فلسفة ابن عربي.

والفيلسوف المتصوف الإسباني «رايمو ندلول» قد اقتبس معارفه عن أسماء الله — تعالى — وأثرها في الكون، من كتاب ابن عربي: «أسماء الله الحسنى». وكان رايموند يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي، فانتحل الكثير من تراثه، وراح يزود المكتبة الأوروبية بالروائع التي تدل معانيها في وضوح وجلاء على صحة أبوة محيي الدين لها؛ لاسيما وهذا اللون من العلوم لم تعرفه من قبل الديانة المسيحية.»

ولسنا هنا نتصيد الدلالات على أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية الحديثة بشقيها الديني والأدبي، فكتب التاريخ الأوروبي عامة، وكتب رجال الاستشراق خاصة، تشهد بأن ابن عربي الفيلسوف الصوفي — كما يسمونه — كان له أكبر الأثر في عقول النساك ورجال الإصلاح الديني والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، بل إن مذهبه العالمي في المحبة الذي يمثله قوله:

أَدِينُ بدِين الحب أَنَّى توجَّهتْ
ركائبُه فالحب ديني وإيماني

قد اتخذه فقهاء المسيحية، بل ورجال الإصلاح فيها لهم شعارًا ودثارًا.

ولقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن أثر ابن عربي في الإصلاح الديني في اللاهوت المسيحي، لا يقل عن أثر مارتن لوثر نفسه، أو على الأقل هو الذي مهد له الطريق، وأنار الجادة بهتافه الحار للحرية الفكرية، والحرية العلمية في تناول المعرفة، وبدعوته إلى الاجتهاد، وفتح بابه للناس كافة، وعدم تقديس الآراء السابقة، بل وعدم التقيد بقيودها؛ ما دامت قد صدرت عن عقول بشرية، لا من حقائق إلهية.

كما كان له أكبر الأثر في الأدباء الربانيين، من أمثال دانتي وغيره، حتى ليقول المستشرق «آسين» الإسباني: «إن أوصاف الجنة والنار، والعروج إلى السماء، والأقباس الروحية، والنشوة القلبية في الأدب الأوروبي الحديث، كلها تستمد أصولها الأولى من ابن عربي وفلسفته الكبرى، التي نشرت أجنحتها الفضية قرونًا على الأفق الغربي.»

ذلك بعض ما يُقال في أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية، وذلك بعض ما يقوله أئمة القلم في أوروبا عن محيي الدين، وعن فلسفته الكبرى التي نشرت أجنحتها الفضية قرونًا على الأفق الغربي.

الأفق الغربي، الذي يأتي من ضفافه أحد المعجبين ببروقه اليوم، من المتعالين من رجالنا، فينظر إلى محيي الدين ويبتسم، ويقول: مَنْ محيي الدين؟

فيعيد من جديد قصة الناموسة التي تنفخ على الجبال …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤